(536)
(228)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب القرآن، باب الأمرُ بالوضوء لمن مسَّ القرآن، وباب الرخصة في قراءة القرآن على غير وضوء.
فجر الإثنين 29 ربيع الثاني 1442هـ.
باب الأَمْرِ بِالْوُضُوءِ لِمَنْ مَسَّ الْقُرْآنَ
536- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ أبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، أَنَّ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ الله ﷺ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: "أَنْ لاَ يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلاَّ طَاهِرٌ".
537- قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ يَحْمِلُ أَحَدٌ الْمُصْحَفَ بِعِلاَقَتِهِ، وَلاَ عَلَى وِسَادَةٍ، إِلاَّ وَهُوَ طَاهِرٌ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَحُمِلَ فِي خَبِيئَتِهِ، وَلَمْ يُكْرَهْ ذَلِكَ، لأَنْ يَكُونَ فِي يَدَي الَّذِي يَحْمِلُهُ شَيْءٌ يُدَنِّسُ بِهِ الْمُصْحَفَ، وَلَكِنْ إِنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ لِمَنْ يَحْمِلُهُ، وَهُوَ غَيْرُ طَاهِرٍ إِكْرَامًا لِلْقُرْآنِ، وَتَعْظِيمًا لَهُ.
538- قَالَ مَالِكٌ : أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي هَذِهِ الآيَةِ: (لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ) [الواقعة:79] إِنَّمَا هِيَ بِمَنْزِلَةِ هَذِهِ الآيَةِ الَّتِي فِي: (عَبَسَ وَتَوَلَّى) قَوْلُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِى سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ) [عبس:11-16]
باب الرُّخْصَةِ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ
539- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ أبِي تَمِيمَةَ السَّخْتِيَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ فِي قَوْمٍ وَهُمْ يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ، فَذَهَبَ لِحَاجَتِهِ، ثُمَّ رَجَعَ وَهُوَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَلَسْتَ عَلَى وُضُوءٍ؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَنْ أَفْتَاكَ بِهَذَا، أَمُسَيْلِمَةُ؟!
الحمدُ لله مُكْرِمنا بشريعته وهُداه، ومُبيّن لنا أحكامه وتفصيله على لسان حبيبه ومُصطفاه، صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله الطَّاهرين وأصحابه الأئمة الهُداة، وعلى مَنْ تبعهم بإحسان واقتدى بهديهم في ظاهر الأمر وخفاه، وعلى آبائه وإخوانه مِنْ رُسُل الله وأنبياه، وعلى آلهم وصحبهم ومَن والاهم، والملائكة المُقربين، وجميع عباد الله الصَّالحين أولياء الله، وعلينا معهم وفيهم إنَّه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.
وبَعدُ،
فابتدأ الإمام مالك -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- في ذِكر الأحاديث المُتعلقة بالْقُرْآنِ العظيم، مُعجزة نبينا مُحمَّد ﷺ، ومنهاج ربِّنا الذي أنزله إلينا على لسان رسوله ليكون هدىً وبينات، وليكون شفاءً ورحمة، وليكون قُربةً ووصْلة، وليكون مُناجاةً ومُحادثة، وليكون رسائل مِنْه يُرسلها إلى عباده، يتمسّك بتدبُّرها والعمل بما فيها أهل محبّته ووداده -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه- وأهل الْقُرْآن هُمْ أهل الله وخاصته، و"اقرؤوا الْقُرْآن فإنَّه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه". وقد سمّاه ووصفه ربُّنا -سبحانه وتعالى- في الْقُرْآن بأكثر مِنْ خمسين اسمًا ووصفًا: مِنْ أنَّه هُدى، ومِنْ أنَّه رحمة، ومِنْ أنَّه شِفاء، ومِنْ أنَّه عليّ، ومِنْ أنَّه حكيم، ومِنْ أنَّه فُرقان، ومِن .. ومِن .. إلى أكثر مِن خمسين وصفًا مجّدَ بها كتابه العظيم، ووحيه الذي خصَّ به حبيبه الرّؤوف الرَّحيم ﷺ.
وصار الْقُرْآن عَلمًا على هذا المُنزل على سيِّد الأكوان، وإنْ كان في اللُغة عامًّا مِن مصدر: قرأ يقرأُ قُرآنًا، وكُلّ ما يُقرأ فهو قُرآن، ولكنّه اختُصّ في الاستعمال بالوحي المُنزل على سيِّد الأكوان، المُعجِز الذي يُتقرّب ويُتعبّد بتلاوته، هذا النَّوع المخصوص سُميّ قُرآنًا، وهو مُعجزة نبيِّنا -عليه الصَّلاة والسَّلام- الباقية إلى يوم الدِّين بأنواعٍ مِنَ الإعجاز. و(… لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) [الإسراء:88]. فالحمد لله الذي أكرمنا بهذا القُرآن ورزقنا تعظيمه، ورزقنا العمل بما فيه، ورزقنا الاطّلاع على أسراره ومعانيه إنَّه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.
"كتاب القُرآن"، وذِكر الحديث الذي يتعلق بمسِّ القُرآن، "باب الأَمْرِ بِالْوُضُوءِ لِمَنْ مَسَّ الْقُرْآنَ". وذكر حديث "أبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، أَنَّ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ الله ﷺ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ" وهذا عبد الله بن أبِي بَكْرِ بنِ حَزمٍ، أبي بكر بن مُحمَّد بن عَمْرو بْنِ حَزْمٍ، فهو حفيد سيِّدنا عَمْرو بنِ حَزمٍ، وهُنا مُرسل عند الإمام مالك، وبعد ذلك جاء في عددٍ من الرِّوايات مُتصل السَّند. "أَنَّ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ الله ﷺ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: أَنْ لاَ يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلاَّ طَاهِرٌ". وفيه:
وجاء في الكتاب: بسمِ الله الرحمنِ الرحيمِ، مِن مُحمَّدٍ النَّبيِّ إلى شُرَحبيلَ بنِ عبدِ كُلالٍ، والحارثِ بنِ عبدِ كُلالٍ، ونُعيمِ بنِ عبدِ كُلالٍ، -قيل: ذي رُعَينٍ، ومعافرَ، وهمدانَ- وأمَّا بعدُ، هذا بيانٌ مِنَ الله ورسوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ...) [المائدة:1]. عهدٌ مِنْ مُحمَّد النَّبي رسول الله ﷺ إلى عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ حين بعثه إلى اليمن:
إلى آخر الكتاب الذي كتبه ﷺ، معنى كَتَبَهُ: أملاه؛ فلم يكُن يكتب بيده الشَّريفة، (وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِۦ مِن كِتَٰبٍۢ وَلَا تَخُطُّهُۥ بِيَمِينِكَۖ إِذًا لَّٱرْتَابَ ٱلْمُبْطِلُونَ) [العنكبوت:48]. فأملاه. فيُقال: كتبه؛ لأنَّه سبب كتابته، وكُتِبَ بإملائه عليه الصَّلاة والسَّلام. والأحاديث في رواية هذا الكتاب جاء عند أبي داوود، والنَّسائي، وابن حِبان، والدَّارمي وغير واحدٍ مِنَ الرُّواة لهذا الحديث الشَّريف.
قال: "لاَ يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلاَّ طَاهِرٌ". وفيه إطلاق القُرآن على هذا المكتوب في الأوراق والألواح، وهكذا يكون مَسَّه، وإلا كيف يَمَسّ القُرآن؟ فأطلق القُرآن على هذا. فللقُرآن إطلاقاتٌ؛ فيُطلق في الأصل:
فكان ينزل به جبريل عليه ﷺ مُنجّمًا، في خلال ثلاثة وعشرين عامًا حتى كَمُل القُرآن الكريم، فكان آخر آية نزلت قبل وفاته ﷺ بتسع ليال، وهي مِنْ سورة البقرة. فأمرهم أنْ يُثبِتوها في موضعها مِن سورة البقرة بين آية الرِّبا وآية المُداينة، فأثبتوها هُناك، فكان آخر ما نزل قبل الوفاة بتسع ليالٍ، وهي قوله تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281]. وكَمُلَ بذلك القُرآن الكريم. فالحمد لله الذي مَنَّ علينا بالقُرآن، ويسّره بلسان حبيبه سيِّد الأكوان. قوّى الله رابطتنا بالقُرآن إيمانًا وتصديقًا وتعظيمًا ومحبةً وتلاوةً وحِفظًا وفهمًا للمعاني وعملًا بما فيه، وربطه بقلوبنا وأجزائنا وكُلّياتنا ومزجه بلحومنا ودمائنا، وجعلنا عنده مِنْ أهل القُرآن إنَّه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.
"لاَ يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلاَّ طَاهِرٌ"؛ أيّ: مُتطهر عن الحدث الأكبر والأصغر. "لاَ يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلاَّ طَاهِرٌ"، وعلى ذلك جماهير أهل العِلم مِنَ الأئمة المُجتهدين رضي الله عنهم. كما قال الإمام مالك: "وَلاَ يَحْمِلُ أَحَدٌ الْمُصْحَفَ بِعِلاَقَتِهِ."
وذلك جائز عند الحنفية. ولا يجوز عند المالكية والشَّافعية، ولهذا قال الإمام مالك: "وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ"؛ يعني الحمل بالعلَاقَة، لجاز حمله فِي أَخبيته. وفي نسخة عندكم: "خَبِيئَتِهِ"؛ يعني: ما يُخبأ فيه ويُضم فيه؛ فذلك لا يجوز. وقال: "وَلَمْ يُكْرَهْ"؛ ولم يأتِ النَّهي عنْ مَسِّ المُصحف مِنْ أجل أنْ "يَكُونَ فِي يَدَي الَّذِي يَحْمِلُهُ شَيْءٌ يُدَنِّسُ بِهِ الْمُصْحَفَ"، لا، ليس المُراد ذلك. "وَلَكِنْ إِنَّمَا كُرِهَ" إرادة تحريمٍ لمَنْ يحمل؛ يعني المُصحف، "وَهُوَ غَيْرُ طَاهِرٍ إِكْرَاماً لِلْقُرْآنِ، وَتَعْظِيماً لَهُ"؛ لا فرق بين أن يكون في يده دنس أو ليس في يده دنس، فليس المقصود أنْ يوسخ، فتوسيخ المُصحف مِنَ المُتطهّر وغير المُتطهر حرام في أيّ وقت، ولكن أيضًا لا يحمله إلا بطهارة عن الحدثين، تعظيمًا للقُرآن. لا لأجل أنْ يوسّخه ولا يُدنسه بشيء؛ ولكن لتَعظيمه وإجلاله. لا يحمله إلا مُتطهر.
فهكذا كما جاء في (المُدونة) للإمام مالك يقول: لا يحمل المُصحف غير الطاهر الذي ليس على وضوء؛ ما يحمله لا على وسادة ولا بعَلَاقة، ولا بأس أنْ يحمله في التَّابوت، وكذلك الغُرارة؛ فحمله وسط شنطة وصندوق فيه أمتعة غير القُرآن جائز ذلك عند المالكية وكذلك عند الشَّافعية. ومِنْ باب أولى غيرهم كما سمعت جوازه؛ جواز حمله بالعلَاقة وعلى الوسادة عند الحنفية، ورواية عند الإمام أحمد بن حنبل كذلك.
وهكذا نقل ابن قُدامة عن الإمام مالك، قال: أحسن ما سمعت أنَّه لا يحمل المُصحف بعَلَاقته ولا في غلافه إلا وهو طاهر، ليس ذلك لأنَّه يُدنسه ولكنْ تعظيمًا للقُرآن.
فعلى كل حال، فهِمْنا اجتهاد العُلماء في هذا.
وقال يحيى، "قَالَ مَالِكٌ: أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي هَذِهِ"؛ يعني تفسير هذه الآية التي في سورة الواقعة: "(لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ) [الواقعة:79]" أنَّها "بِمَنْزِلَةِ هَذِهِ الآيَةِ الَّتِي فِي: (عَبَسَ وَتَوَلَّى) قَوْلُ الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: (كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِى سَفَرَةٍ …) [عبس:11-16]"؛ جمع سافر؛ ككتب، جمع كاتب، والمُراد هُنا: الملائكة؛ يعني: الكتبَة ينسخون مِنَ اللّوح المحفوظ (…كِرَامٍ بَرَرَةٍ). فكأنَّه مال إلى قول: (لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ) أنَّه في اللَّوح المحفوظ لا ينقل مِنْه ولا يتناول مِنْه إلا الملائكة المُطهرون -عليهم صلوات الله تعالى-. ويقول: إنَّ هذا أحسن ما سَمِعَ في هذه الآية.
وذهب جماعة إلى أنَّ معنى الآية النَّهي للمُكلفين مِنْ بني آدم عن مسّ القُرآن على غير طهارة، (لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ). مُستدلين بهذا الكتاب الذي كتبه ﷺ إلى أهل اليمن. "أَنْ لاَ يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلاَّ طَاهِرٌ". فقالوا: وإنْ كان لفظه لفظ الخبر، فهو بمعنى النَّهي كما جاء ذلك في عددٍ مِنَ النّصوص. ولماذا جاء سيِّدنا مالك بالآية وهو يرى أنَّ معناها اللَّوح المحفوظ والقُرآن وأنَّه لا يمسّه إلا الملائكة؟ فلماذا أوردها في باب لا يمسّ القُرآن إلا طاهر؟
أدخل هو في أول الباب ما يصحّ به الاحتجاج على الأمر بالوضوء لمَن مسّ القُرآن، وهو الحديث الذي ذكره عن عَمْرِو بنِ حَزْم. وأدخل في آخر الباب ما يحتجّ به النَّاس وليس بحُجّة عنده، فأتى به وبيّن ضعف الاحتجاج به؛ ليعلم أنَّ قيام اجتهاده في تحريم المسّ ليس على الآية، وأنَّه اجتهد وكان مذهبه تحريم المسّ لغير المُتوضئ للقُرآن بالحديث الشَّريف، فبيَّن ذلك. وحتى لا يحتج عليه مُحتجٌ بأنَّ الآية لها معنى كمثل الذي ذكره هو. يقول: إنَّما احتججت بالحديث والسُّنة المُطهرة. وهذا وجه مِن وجه إدخاله، واحتمل بعضهم أنْ يكون الإمام مالك أدخله على وجه الاحتجاج في وجوب الوضوء لمسّ المُصحف، ولأنَّ الحقّ تعالى وصف القُرآن بأنَّه كريم وأنَّه (فِی كِتَـٰبࣲ مَّكۡنُونࣲ * لَّا یَمَسُّهُۥۤ إِلَّا ٱلۡمُطَهَّرُونَ) [الواقعة:78-79]. فهذا تعظيم وإجلال للقُرآن الكريم، يقتضي أيضًا لعالم البشر والإنس والمُكلفين مِنَ الإنس والجنّ أنْ لا يمسّوا ما كُتب مِن هذا القُرآن في أوراقٍ إلا وهم مُتطهرون.
وهكذا ذكر الإمام الرازي في التّفسير أنَّ حمل القَولين في الآية:
1- القول الأول: حمل اللفظ على حقيقة الخبر؛ فيكون المُراد: القُرآن الذي عند الله تعالى والملائكة (لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ)؛ هُم الملائكة.
2- والقول الثاني: على أنَّه محمولٌ على النَّهي وإنْ كان في صورة الخبر. ويقول هذا أولى.
يقول الإمام فخر الرازي: لمَّا رُوي عن النَّبي ﷺ في أخبار مُتظاهرة، أنَّه كتب "لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: أَنْ لاَ يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلاَّ طَاهِرٌ". قال: فوجب أنْ يكون نهيُّ ذلك بالآية، ففيها احتمال له. وهو الوجه الثاني الذي قُلنا بسببه أورد الإمام مالك هذه الآية؛ ففيها وإنْ كانت عنده معناها القُرآن الذي هو في اللّوح المحفوظ في السَّماء، والمُطهرون هُم الملائكة، لكنَّها تثبت وتؤيد تعظيم هذا الكتاب العظيم، فهي تؤكد على النَّاس في الأرض أنْ لا يمسّه إلا الطّاهرين، فإنَّه شريف المنزلة، عظيمٌ عند الله.
أمَّا قراءة القُرآن مِنْ دون مسّ المُصحف وحملُه؛ فيجوز لغير الجُنُب ولغير الحائض، وإنْ كان مُحدثًا حدثًا أصغر. ولكن مِنْ آداب التِّلاوة: الوضوء. وجاءنا الحديث عن سيِّدنا علي بن أبي طالب أنَّ مَنْ قرأ القُرآن وهو قائم في الصَّلاة، كتب الله له بكُل حرف مئة حسنة، ومَنْ قرأه وهو قاعد؛ يعني: في صلاة النَّفل، كتب الله له بكُل حرف خمسين حسنة، ومَنْ قرأه وهو في غير الصَّلاة على طهارة، كتب الله له بكُل حرف خمسًا وعشرين حسنة، ومَنْ قرأه خارج الصَّلاة على غير طهارة، كتب الله له بكُل حرف عشر حسنات. "لا أقول (ألم) حرف ولكن ألفٌ حرف، لامٌ حرف، ميمٌ حرف". ومثل هذا الكلام لا يُقال بالرأي فهو في حُكم المرفوع. ففرَّق بين مَنْ يقرأ القُرآن على طهارة وعلى غير طهارة؛ الذي يقرأه على غير طهارة ينقُص أجره، والذي يقرأه مُتطهر؛ يتضاعف مِنْ عشر حسنات على كُلّ حرف إلى خمس وعشرين حسنة على كُلّ حرف. فرق كبير! مِن أين يجيء بخمسة عشر حسنة على كُل حرف؟ فرق بين ذا وذاك. وإذا قرأ مُجرد عشرة أحرف يطلع الفرق مئة وخمسين حسنة في العشر الأحرف فقط. بمجرد (بسم الله الرَّحمن الرَّحيم) تسعة عشر حرف. كم الفرق بينها؟ مئة وتسعين؟ مئتين وتسعين؟ مئتين وثمانين حسنة في: بسم الله الرحمن الرحيم بغير وضوء وبِوضوء. بغير الوضوء لو عليها مئة وتسعين حسنة، هذا مئتين وتسعين حسنة، ومئتين وثمانين، الفرق كبير! كم الفرق؟ كم مئة وشيء مِنَ الحسنات في البسملة وحدها. وإذا قرأ الفاتحة كم الفرق بين المُتوضىء وغير المُتوضىء؟ وهكذا يتبيّن للذين يحسبون حساب الدُّنيا، يقولون لك: القليل في الكثير؛ كثير، حتى لو كان قليل. ليس بقليل ولكن لو مقداره في الكثير بعد ذلك يكون مبلغ كبير. تعتقده قليل واحد في المئة؛ لكنه عندك مليار. وكم يكون؟ يطلع كثير بسبب الكثير. وكذلك المُضاعفة للحسنات، فيكون فرق كبير بالحسنة بينها وبين الآخر. فكيف إذا كان في الحرف الواحد خمسة عشر حسنة؟ فرق بين ذا وذاك، هذا عشر وهذا خمسة وعشرين، فرق كبير! في الحرفين والثلاثة والأربعة بعد ذلك، والسُّورة كاملة، كم يصبح الفرق؟ يكون آلاف الحسنات. الله يرزُقنا كسب الحسنات.
فإذًا، الحدث الأصغر لا يمنع القراءة، وهذا مُجمعٌ عليه بين أهل العِلم. ولكن يُقال فيه أنَّه يُحكى عن بعض السَّلف أنَّ الخلاف فيه. ولكنَّ الجُمهور: أنَّه يجوز لغير المتوضىء أنْ يقرأ القُرآن، ويذكر الله، ويُصلي على النَّبي ﷺ، ويفعل أنواع الطاعات إلا الصَّلاة، والطَّواف في البَيْت، ومسَّ المُصحف وحملُه لا بُدّ له مِنْ طهارة؛ ما عدى ذلك مِنَ الطَّاعات فمسموح له أنْ يقوم به، وإنْ كان مُحدثًا حتى لا ينقطع عن الله مُتطهرًا ولا مُحدِثًا. يكون دائم الصِّلة بربه.
في حديث أبي جهيم في ردِّ السَّلام بعد التَّيمم، وفي حديث سيِّدنا عليّ، أنَّ رَّسول الله ﷺ قال: "لا يحجِبه عن قراءة القُرآن شيء إلا الجَنَابة". فالجُمهور إلى أنَّ هذا الحديث هو ناسخ لمَنْ أصرَّ مَنْ أوجب الوضوء لذكر الله، يبني اجتهاده على حديث منسوخ أنَّه لمَّا سُلِّم عليه ﷺ، تيمم، ثُمّ ردّ السَّلام. وقال: إنَّ السَّلام اسم مِنْ أسماء الله. فكأنه أحبَّ أنْ لا يذكر الله تعالى إلا وهو مُتطهر، فتيمّم بدل الوضوء، ولكن ذلك على وجه الاستحباب. ويُبيّنه حديث سيِّدنا عليّ، وأنَّه "لا يحجِبه عن قراءة القُرآن شيء إلا الجَنَابة". ومِنَ المعلوم أنَّه كثيرًا ما يتوضأ أو يتيمّم بدل الوضوء عند الخُروج مِنَ الخلاء، وكذلك عند النَّوم مِنْ أول اللَّيل إلى غير ذلك ممّا جاء. وفيه أيضًا أنَّه يقرأ العشر الآيات في الغالب قبل أنْ يتوضأ ﷺ عندما يقوم مِنَ اللَّيل إلا أنَّ نومه ما ينقض وضوءه ﷺ، فكان يقرأ إذا استيقظ مِنَ اللَّيل: "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النُّشور". ويقرأ: (إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ …) [آل عمران:190] غالبًا يقرأها قبل أنْ يتوضأ ﷺ في أول قيامه مِنَ النَّوم، الآيات المذكورة في آخر سورة آل عمران.
وذكر: "عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ فِي قَوْمٍ وَهُمْ يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ"؛ يعني مُجتمعين على مُدارسة القُرآن. فلمَّا سُلِّم مالك عن قُراء مِصْرَ الذين يجتمعون النَّاس إليهم، فكان الرَّجُل مِنْهم يقرأ في النَّفر يفتح عليهم، قال: إنَّه حسنٌ، لا بأس به. وقال في رواية عنه: يقرأ ذا، ويقرأ ذا. وقال الله تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا …) [الأعراف:204]. وكذلك القوم يجتمعون في مسجد أو غيره، يقرأ لهم الرَّجُل حسنُ الصوت. قال مالك: قراءة القُرآن مشروعة على وجه العبادة، والانفراد بذلك أولى. يقول كُلّ واحد يقرأ. وإنَّما قال ذلك لِمَا ذكر في كلامه أنَّما يقصد بهذا صرف وجوه النَّاس والأكل به؛ يعني تقترن به أشياء، أمَّا إذا خلا عن ذلك فلا إشكال فيه. بل لأن الإمام مالك رأى أنَّ فيه نوع مِنَ السؤال عليه، بعض النَّاس يسأل بالقُرآن، يقرأ مِن أجل يعطونه النَّاس، ينتحي ناحية في المسجد وغيره ويصلي ويقرأ مِن أجل أنْ يتصدقون عليه، هذا كرهه الإمام مالك لهذه الطوارئ تطرأ عليه. أمَّا القُرآن نفسه، فما أعظمه! وبكل حرفٍ عشر حسنات أو خمس وعشرين حسنة.
يقول: "فَذَهَبَ"؛ يعني سيِّدنا عُمَرُ "لِحَاجَتِهِ، ثُمَّ رَجَعَ وَهُوَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ"، يقولون أنَّ هذا الرَّجُل أبو مريم الحنفي، إياس بن صُبيح، مِنْ قوم مُسَيْلِمَة، "يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَلَسْتَ عَلَى وُضُوءٍ؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَنْ أَفْتَاكَ بِهَذَا، أَمُسَيْلِمَةُ؟!" لأنَّه مِنْ جماعة مُسَيْلِمَةُ، اسمه إياس بن صُبيح، كان مِنْ أصحاب مُسَيْلِمَة الكذَّاب ولكن أسلم. وُلِّي بعد ذلك قضاء البصرة، وكان مِنْ أهل فتح رامهرمز، ولكن استنكر عليه سيِّدنا عُمَرُ إنكاره على قراءة القُرآن مِنْ غير وضوء. قال: "مَنْ أَفْتَاكَ بِهَذَا، أَمُسَيْلِمَةُ؟!" بتجيء لنا بحُكم مِنْ هناك؟! يعني تركهم ﷺ على إباحة ذلك، مِنْ أين تجيء بهذا الحكم لماذا تقول هذا الكلام!؟ "مَنْ أَفْتَاكَ بِهَذَا، أَمُسَيْلِمَةُ؟!" هذا الكذَّاب الذي اشتهر باسم الكذَّاب، لمَّا تطاول على ربُّ الأرباب وعلى سيِّد الأحباب ﷺ. وكتب إليه مِنْ مُسَيْلِمَة النَّبي -يقول لنفسه- إلى مُحمَّد النَّبي، أمَّا بعد: فإنَّ الأرض بيننا وبين بني هاشم، ولكن بني هاشم قوم يعتدون، وقُريش قوم يعتدون. فكتب إليه النَّبي ﷺ: بسم الله الرَّحمن الرَّحيم مِنْ مُحمَّد رسول الله إلى مُسَيْلِمَة الكذَّاب… فانطبق عليه الاسم واشتهر، ولم يشتهر في التاريخ على ممر القُرون إلا بمُسَيْلِمَة الكذَّاب، مُسَيْلِمَةُ الكذَّاب، مُسَيْلِمَة الكذَّاب. أمَّا بعد، ( …إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف:128]. ولم يزل يدعوه إلى الله ولم يترك دعوته بالمشافهة وبالمُكاتبة؛ أدّى الأمانة على وجهها.
وهو أحد الكذَّابين الذين رآهما ﷺ سِوارين. رأى سِوارين في يديه كرِهَهُما، فطارا، فأوّلهما بالكذَّابين مُسَيْلِمَة الكذَّاب في نجد، والأسود العنسي في صنعاء. وهذا مُسَيْلِمَة كان رئيس بني حنيفة، لقَبُه مُسَيْلِمَة فاشتهر به. كان قبيح الخِلقة، دميم الصّورة، وكان قبيح الخُلق، مُتجرئ على الخالق وعلى خير الخلائق ﷺ. وجاء مرة إلى عند النَّبي في المدينة وقال له: ستجعل لي الأمر بعدك سأؤمن بك! تظُن الدِّين لعب أو مسخرة أو مُلك!! حمل عود مِنَ الأرض وقال ﷺ: لو سألتني مثل هذا ما أعطيتك، تؤمن بالله وبرسوله، واليوم الآخر، والمُلك لله ليس لي ولا لك. فهذا مفهوم الدِّين، أمَّا خلط الدِّين بالمُلك هذا مصيبة! اكتب لي كتاب أنَّ الأمر لي مِنْ بعدك، وأنا سأتبعُك!! هي مُساومة أو إيش؟ رب يُرسل لك رسول تؤمن به، تقول تُعطيني كذا وكذا…! أهي لعبة؟ العب أنت واللّعابين، لا على الحقّ ولا على رُسُله صلوات الله وسلامه عليهم.
رزقنا الله الإيمان واليقين والتَّقوى والإخلاص، وربطنا بالقُرآن أقوى الرَّبط، وجعلنا مِنَ المُنضبطين في حُسن تلاوته والعمل به خير الضبط، وأعاذنا مِنَ الآفات والعاهات، وتولّانا في الظواهر والخفيات، ورقّانا عليِّ المقامات في عافية. بِسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
29 ربيع الثاني 1442