شرح الموطأ -106- كتاب القِبلة: باب ما جاء في القِبلة

شرح الموطأ -106- كتاب القِبلة، باب ما جاء في القِبلة، من حديث عبدالله بن عمر: (بينما الناسُ بِقُباء في صَلاةِ الصُّبح..)
للاستماع إلى الدرس

شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب القبلة، باب ما جاء في القبلة.

فجر السبت 27 ربيع الثاني 1442هـ.

 باب مَا جَاءَ فِي الْقِبْلَةِ

526 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: بَيْنَمَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ، إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ الله ﷺ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ، فَاسْتَقْبَلُوهَا. وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ، فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ.

527 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ الله ﷺ بَعْدَ أَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، سِتَّةَ عَشَرَ شَهْراً، نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ قَبْلَ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ.
528 - حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ، إِذَا تُوُجِّهَ قِبَلَ الْبَيْتِ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمدُ لله على بيِّنِ شريعتهِ، وحُسنِ إفصاحها بلسانِ خيرِ بريتهِ، سيدنا مُحمّد صلى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آلهِ وصحابته، وعلى أتباعهِ من أهلِ ولائهِ ومحبته، وعلى آبائهِ وإخوانهِ من أنبياء الله المُرسلين خِيرة الحقِ مِن خَلقهِ وصَفوته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقربين، وعبادِ الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحمُ الراحمين بمحضِ فضلهِ و مِنّته.

يذكر الإمام مَالِك -عليه رضوان الله- الأحاديث المتعلقة بالقِبلة، وتقدَّم معنا شيءٌ مِنْ تلك الأحاديث، ويتحدث في هذا الباب عن تحويلِ القِبْلةِ مِنْ بَيتِ المَقْدس إلى الكعبةِ المُشرفة، وذلكَ في شهرِ رجبٍ من السنةِ الثانيةِ مِنْ الهجرة، بعد أن هاجر ﷺ بستةِ عشر شهرًا. 

فحَدَّثَ: "عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: بَيْنَمَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ" أي: في مسجد قباء، يصلون "فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ"، وجاءَ في رواية: في صَلاةِ العَصرِ، وذلك لِأقوامٍ قريب من المدينة، حوالي المدينة، لكن أهل قباء بلغهم في اليوم الثَّاني، فى صلاة الصَّبْح، فمَن كانَ في المدينة و قريب منها وصلهم الخبر العَصْر؛ وقتَ العَصْر، وهؤلاء وصَلهم الخبر في صباحِ اليوم الثاني. "إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ" وهذا الآتي الذي جاءهم هو سيدنا عَبَّاد بنْ بِشْر الأَنصاريّ، فأخبَرهم: "إِنَّ رَسُولَ الله ﷺ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ" وهو قولهُ تعالى: (قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا  فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ  وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ..) [البقرة:144]، أُنزل عليهِ "وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ، فَاسْتَقْبَلُوهَا" و فى رواية: "فَاسْتَقْبِلُوهَا"، "وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ" بعكسِ اتجاه الْكَعْبَةِ، "فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ". وهذا الحديثُ جاء في الصَّحيحينِ وغيرِهما عنه ﷺ.

 فيُقال أنَّ أول صلاةٍ صلَّاها ﷺ إلى الْكَعْبَةِ: صَلاةُ الظُّهر، وبلَغَ بقية مساجد المدينة وما حواليها في صلاة العَصْر، وبلَغَ مَن وراءهم بعدَ ذلك في صلاة الصُّبْحِ، مثل أهل قبَاء، بلغَهم الخبر في اليوم الثاني. وأخذَ أهلُ العِلم مِن هذا أنه يُقبَلُ خبرُ الواحد، فإنَّ الصَّحابةَ استداروا بخبر عَبَّاد بنْ بِشْر، و بلغ ذلك النَّبي ﷺ فلم يُنكِر عليهم في شيء، وذلك أنهم كانوا بتعليم النَّبي ﷺ يتحَرّونَ الصِّدقَ حتى لا يتِهموا بالكذب إلا منافقًا، ولا يرون أنَّ المؤمن يكذب أصلًا. ولمَّا بلَّغَهم هذا الخبر، وقال إنَّ ﷺ أُنزل عليه القرآن، و أُمرَ أن يستقبل الكعبة، وأنَّهم صلّوا معه إلى الكعبة، في نفس الصَّلاة استداروا، فيشَكُل عليكَ كيف يصير الإمام إذًا؟ هل خطا خطوات حتى يرجع الى الشَّق الثاني؟ أو استناب غيره من أهل الصَّف الأخير ليتقدّم؟

والذى يظهر أنَّه تقدمَ لامتثالِ الأمرِ، وأستقبلَ الكعبةَ ليكون المأمومونَ أيضًا خلفه.

  • على قول الجمهور: أنهُ لابد أن يكون المأموم خلفَ الإمام.
  • ولا يضرُ تقدّم المأموم على الإمام إلى جهة القِبلة في مذهب الإمام مَالِك -عليه رضوان الله- إذا كانَ يعلمُ انتقالاتهِ في الصَّلاة فيكفي ولو كان أمامه.

ومما وردَ أنه ﷺ صلَّى بأصحابهِ في مسجدِ بَني سَلَمة ركعتين من الظُّهر فتحوّلَ في الصلاة و استقبلَ الميزابَ، و تبادل الِّرجال والنِّساء صفوفهم فسُميَّ المسجد مَسجدْ القِبْلتَين. ولكن هذا ذكروا أنَّ فيه تحريف في الحديث، فإنَّ قِصة بَني سَلَمة لم يكن فيها النَّبي ﷺ إمام، وليس هو الذي تَحول، وأنَّ الوحيّ نزلَ عليه في غيرِ وقت الصَّلاة، وصلَّى بالنَّاس من أولِ الصَّلاة إلى الكَعبةِ المُشرفة، وإنَّما هذا أيضًا بلوغ خبرٍِ إلى بَني سَلمة في مسجِدهم المعروف الآن بمَسْجد القِبْلتين، وهم يُصلون في صلاةِ العَصر فتحولوا؛ صلوا ركعتين إلى بيت المقدس، والرَّكعتين الأخيرة إلى الكعبةِ المُشرفة، فسُميَّ مَسجد القِبْلتَين.

وجاءَ في رواية النَّسائي عن أبي سعيدْ بِنْ المُعلى قال: كنا نَغدو إلى المَسجدِ فمررنا يومًا ورسول الله ﷺ  قاعد على المِنبر فقلت حدثَ أمر، فجلستُ، فقرأ رسول الله ﷺ: (قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ…). وذلكَ أنَّهُ كانَ يترقّبُ نزولَ خبرٍ من الله، وقع في قلبهِ أنَّ الله يحوّله، وكان ذلكَ يرغبُ فيهِ ﷺ ولم يتجاسر على الطلب مِنَ الحقِ مِنْ هيبتهِ للحقِ، وعبوديتهِ له، فصارَ يتمَنى أن يحولَ الله تعالى القِبْلةَ إلى الكعبة.

وقدْ مضى معنا أنَّه أيامَ كانَ بمكة، كانَ يستقبل الكعبةَ وبَيتَ المَقدِس؛ وذلكَ بصلاتهِ بينَ الرُّكنين، بينَ رُكنَ الحَجر الأسود، والرُكن اليَماني الآخر، ففي تلكَ يستقبل المَسْجدَ الأقْصى، و يكونُ مستقبلًا للكعبةِ والمَسْجدَ الأقْصى. فلما ذهبَ الى المدينة كانت عن شِمال الكعبة من جهة الشَّام، فصارَ جهة بَيّتِ المَقدِس إلى الأمام، والكعبةُ تكونُ خلف، وعلى ذلكَ بنى مسجده ﷺ، بمعنى أنهُ كانَ يُصلِّي إلى جهةِ بَيّتِ المَقدِس، ثمَّ حوَّلَ القِبلةَ إلى الكعبةِ المُشرفة. وفيهِ أنَّ عامة حُجَرِهِ كانت إلى جهة الجنوب من المَسْجدَ، فكانَ إذا خرجَ من حُجرةِ السَّيدة عَائشة إلى جهة بَيّتِ المَقدِس، يحتاجُ أن يمشي إلى أمام، إلى جهةِ الشِّمال حتى يصلَ إلى مكان الإِمامة، فلمّا تحولت إلى الكَعبة فكانَ يخرج مباشرة إلى محل الإِمامة، من بيّتِ السَّيدة عَائشة، فكان أقرب. العجيبُ كونه اختار الحُجَر في هذه الجهة قبل أن تُحوَّلَ إلى الكَعبة، ثم تحولت إلى الكَعبة، فكان الموقع أنسبْ، ولو بنىَ الحُجرة سابقًا هناك تكون عند محل أهل الصُّفة، ويحتاج إلى أن يمشي إلى أمام المَسْجد في كل مرة ويرجع، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

(قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ…) وقد اسْتقرَ في قلبه أنَّ الله سيُحوِّلُ القِبْلةَ، وبقيَّ يترقب الخبرَ مِنْ الله، فيرفعُ وجهه نحو السَّماء فأنزل الله، وفيها غاية في المُلاطفة بينه وبين الرَّحمن، يقول: (قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ..) يا عبدنا وَصفوتنا، تريدُ تحويل القِبْلةَ؟ (..فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا..) وتلفُّتـكَ هذا نحو تشريعنا وإكرامنا لك، نُكرِمك به، ونحنُ نرى رؤية الخاصة في رحمتنا بِكَ، وعطفنا عليك، نرى تقلب وجهكَ في السَّماء. (قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ..). فتحول واستقبلَ الميزاب، والمكان الذي يُصلِّي فيه في المدينةِ المُنوَّرة كانَ لو مُدَ منه خيط مستوي لوصلَ تحت الميزاب في وسط الكَعبة المُشرفة. ولذلك يقولونَ قِبْلَة أهل المَدينة على الميزاب، الذي يَصبُ فيهِ الماء من سطح الكَعبة ويَنزلِ إلى الحِجر.

والعجيب كانَ أيام كان يُصلِّي بمكة، الخط لو مشى مستقيمًا سيَصِل إلى مسجدهِ، إلى بقعة مسجِده وسيتَّصِل ببَيّتِ المَقدِس، امتداده على طول، لأنه جُعلت المساجد الثلاثة هكذا، هذا وسط هذا، والخط المستقيم يوصِل من بَيتِ المَقدِس إلى المَسْجد النَّبوي الى الكعبةِ المُشرفة.

(قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا..) "قلت لصاحبي: تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله ﷺ … ثم نزل رسول الله ﷺ، فصلّى للناس الظهر يومئذ". أي: إلى الكَعبة المُشرفة، فهي أولُ صلاةٍ صلَّاها عليهِ الصلاة والسلام إلى الكَعبة، صلاة الظُّهر. وقولهُ: "قَبْلَ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ" يدلُ على أنَّ التَّحويل وقعَ في رجب، وقيل أنَّه في شعبان،  وهنا لا يكونُ شهران قبل بدر، شهر واحد، فيترَّجحُ القول بأنَّ تحويل القِبْلَة كانَ في شهر رجب. ولهذا قال الحافظ في الفتح: هو الصَّحيح وبهِ جزمَ الجمهور: أنَّ تحويل القِبْلَةَ كان في شهر رجب، من السنةِ الثَّانية، نحو نصف شهر رجب، وكان بينه وبين بدْر شهران ويومان.

قال: "فَاسْتَقْبَلُوهَا" أو "فاستقبِلوها" فاستداروا إلى الكَعبة، هؤلاء أهل قباء. وبعضهم يقول معنى "فَاسْتَقْبَلُوهَا" يقصد النَّبي وأصحابه. وفي رواية: "فَاسْتَقْبِلُوهَا" أنتم، ولكن أكثر الروايات "فاسْتَقْبَلُوهَا". فاستداروا لما سمّعوه يقولُ ذلك، وهم في صلاتهم امتثالًا لأمر الله ورسولهِ ﷺ. وهكذا وفيهِ:

  •  أنهم لم يُعيدوا الصَّلاة من أولها.
  •  وهكذا جاءَ فيمن اجْتهدَ الى القِبْلَة وصلَّى، ثم بدا له اجتهادٌ آخر، فإنه لا يعيدُ الصَّلاة عند الجمهور كذلك. 
  • حتى قال الشَّافعية: لو أنَّ اجتهاده تغيَّرَ في الصَّلاة، تَحوّل إلى الصَّلاة، فلو صلَّى باجتهاد إلى الجهات الأربعة صَحَّت صلاتهُ باجتهاد؛ ما لم يعلم بطلان ذلك، فلو علِمَ بطلان ذلك وجبت الإعادة عند الإمام الشَّافعي.
  •  واختلفَ الأئمة في وجوب الإعادة على من صلَّى باجتهادٍ إلى غير القِبْلَة، و تبيَّن له أنه صلَّى إلى غيرِ القِبْلَة، فمنهم من أوجَبَ الإعادة. 
  • وكذلك يقول الشَّافعية: إذا تبيَّن الخطأ وجبت عليه الإعادة.
  •  ومنهم من خصّصَ الإعادة بالوقت؛ 
    • وقال إن كان الوقت باقيًا يُعيد.
    •  وإن كانَ قد خرجَ الوقت فلا إعادة عليه.

 

وروى: "عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ الله ﷺ بَعْدَ أَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، سِتَّةَ عَشَرَ شَهْراً". ففي ربيع الأول يكمُل الثاني عشر، والثالث عشر: ربيع الثاني، والرابع عشر: جُمادى الأولى، والخامس عشر: جُمادى الثانية، والسادس عشر: رجب. وهذا قوله صلَّى "سِتَّةَ عَشَرَ شَهْراً". وجاء في روايةٍ بِشك؛ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا وسَبْعةَ عَشَرَ عشرًا، وعلى هذا قالَ من قالَ بأنهُ كانَ في شهر شعبان. وجمعَ بعضهم بينَ الروايات أنَّ الذى قال سِتَّةَ عَشَرَ لفَّقَ من شهريّ القدوم والتَّحويل شهرًا، بقية شهر ربيع الأول ونصف من رجب، فكان شهر، فصارت سِتَّةَ عَشَرَ. وألغى الأيام الزائدة. ومن جزم قال سَبْعةَ عَشَرَ عدَّهُما عدًا، أنَّ ربيع شهر، و رجبْ شهر، فصارت سبعة عشر شهر، ولم يلفَّقَ بين بقيةِ ربيع و أول رجب، والتَّحويل وقعَ في نصفِ رجبْ على الصَّحيح الذي جزم به الجمهور. قالوا: ومن شكَ، تردّدَ أنَّ القدوم في ربيع الأول بلا ِخلاف، وقال سِتَّةَ عَشَر أو سَبْعةَ عَشَرَ.

"نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ"، صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلم. فجمعَ الله له بينَ القِبلتين، "ثُمَّ حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ قَبْلَ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ." فمِن نصف رجبْ إلى نصف شعبان شهر، ومِن نصف شعبان إلى نصف رمضان الشَّهر الثاني، وكانت غزوة بدر في السَّابع عشر من شهر رمضان.

وذكرَ عنْ "عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- قَالَ: مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ" ويدلُ له حديث ما تقدم معنا: "لا تَسْتَقْبلوا القِبلةَ ولا تَستَدبروها لِبولٍ وَغَائط ولكن شَرِّقوا أو غَرِّبوا" فجعلَ الجهةَ قِبْلَة. 

واختلفَ الأئمة هل يجب اسْتقبال عين القِبْلَةٌ أم يكفي جهتها؟ وهل شَطر المَسْجد جهته أو عينه؟ 

  • وقال الشَّافعية: من تمكّن من رؤية الكَعبة يجب عليه أن يُصلي بعِلم، وأن يستقبلَ عينها.
  •  وإن كان ماَلَ من مَالَ منهم إلى وجوب استقبال عينْ القِبْلَةٌ، وفي هذا شيءٌ مِنْ الحرجْ.

 مع قولهم أَنّ الاجتهادَ في التَّيامن و التَّياسر لا يضر، إذا ثبتت قِبْلَةٌ المسلمين في بلد إلى جهة، فلا يَضر الاجتهادَ في التَّيامن والتَّياسر إلا في الأماكن التي ثبت صلاة النَّبي فيها، وجبَ أن يُصلِّى فيها كما هي، ولا يجوز أن يجتهد يمنى و لا يسرى. وما لم يكن كذلك فيجوز الاجتهاد فيكون هناكَ تيامن و تياسر، ففي الأمر سَعة.

وقالوا أنَّ هذا الحديث الذي وَرَد لأهلِ المدينة قول سيدنا عُمر: "مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ، إِذَا تُوُجِّهَ قِبَلَ الْبَيْتِ" بحيث يجعل المَغرِبْ إلى يمينهِ، والمَشرِق الى يساره. لهذا قال: "إِذَا تُوُجِّهَ قِبَلَ الْبَيْتِ" هذا بالنسبةِ إلى أهل المدينة المُشرّفة، ومنْ كانَ مِثلُهم، ممّن قِبَلَتَهُ بين المَشرِق والمَغرِبْ، إمَّا يستقبِل الجَنوب أو يستقبِل الشَّمال.

وأمَّا من كانَ في مكة، سواءً كانَ في المشرق أو المَغرِبْ، فقِبَلَتَهُم مستديرونَ بالكعبة من كل جهة.

  • فمن كان داخل المَسْجد فقبلتهُ عين الكَعبة، الكَعبة نفسها.
  • ومن كان خارج المَسْجد فالمَسْجد له قِبْلَةٌ (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ..) المَسْجد له قِبْلَة.

  وقال الحنَابِلة: في قولهِ "مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ" قالوا في كل البلدان أنَّ الاعتبار بالجهة، إلا بمكة عند البيت، فإنه إن زال عنها شيئًا ولو قَلّ وهو يستقبِلها، فقد ترك القِبْلَةٌ.

  • يقول ابِنْ قُدامة في المغني: الواجب على سائر من بَعُد مِنْ مكة طلب جهة الكَعبة، دون إصابة العين.
  • قال أحمد: "مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ" فإن انحرف عن القِبْلَةٌ قليلًا لم يُعِد؛ لكِن يتحرّى الوسط.
  • وهكذا يقول أبو حَنِيفة، وقول عند الشَّافعي أيضًا: أنَّ العِبرة بالجهة لا بعين القِبْلَةٌ.
  • والقول الثاني للشافعية واعتمدوه: أنَّهُ يجب إصابة العين لِمَن تمَكنَّ من ذلك.

(..وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ..)؛ جهته، فأخذوا منها إصابة عينِه؛ ولكن الذينَ أخذوا بـ "مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ" عرفوا أنَّ كلَّ الجهة -ولو تيامن أو تياسر- كافية لاستقبال الكَعبة. وهكذا بابُ مَا جَاءَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ ﷺ.

بلّغنا الله إياهُ في عافية، وجعلنا مِنَ المُصّلين فيهِ الصَّلاة المقبولة، ووهَبَنا بمواهبهِ الجزيلة ما يربطنا بهِ بعبادهِ الصَّالحين، وحزبهِ المُفلحين، أهل التَّمكين في لطفٍ وعافية بِسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.

تاريخ النشر الهجري

27 ربيع الثاني 1442

تاريخ النشر الميلادي

12 ديسمبر 2020

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام