(536)
(228)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب صلاة الكسوف، باب ما جاء في صلاة الكسوف.
فجر الإثنين 22 ربيع الثاني 1442هـ.
باب مَا جَاءَ فِي صَلاَةِ الْكُسُوفِ
512- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِر، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، أَنَّهَا قَالَتْ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ حِينَ خَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ يُصَلُّون، وَإِذَا هِيَ قَائِمَةٌ تُصَلِّي، فَقُلْتُ: مَا لِلنَّاسِ؟ فَأَشَارَتْ بِيَدِهَا نَحْوَ السَّمَاءِ وَقَالَتْ: سُبْحَانَ الله، فَقُلْتُ: آيَةٌ؟ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَنْ نَعَمْ، قَالَتْ: فَقُمْتُ حَتَّى تَجَلاَّنِي الْغَشْيُ، وَجَعَلْتُ أَصُبُّ فَوْقَ رَأْسِي الْمَاءَ، فَحَمِدَ اللهرَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "مَا مِنْ شَيْءٍ كُنْتُ لَمْ أَرَهُ إِلاَّ قَدْ رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِى هَذَا، حَتَّى الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ مِثْلَ، أَوْ قَرِيبًا، مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ -لاَ أَدْرِي أَيَّتَهُمَا قَالَتْ أَسْمَاءُ- يُؤْتَى أَحَدُكُمْ فَيُقَالُ لَهُ: مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُل، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ، أَوِ الْمُوقِنُ -لاَ أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ- فَيَقُولُ: هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله، جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، فَأَجَبْنَا وَآمَنَّا وَاتَّبَعْنَا، فَيُقَالُ لَهُ: نَمْ صَالِحًا، قَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُؤْمِنًا، وَأَمَّا الْمُنَافِقُ، أَوِ الْمُرْتَابُ -لاَ أَدْرِي أَيَّتَهُمَا قَالَتْ أَسْمَاءُ- فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئاً فَقُلْتُهُ".
الحمدُ لله مُكْرِمنا بأحكام دينه، وبيانها على لسان عبده وصفوته وأمينه، سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه في كُلِّ لمحةٍ ونفسٍ، وعلى آله وأصحابه ومَنْ والاهم في الله واتبعهم واقتدى بهُداهم مُستنيرًا ببلاغ رسول الله وتبينه، وعلى آباءه وإخوانه مِنَ الأنبياء والمُرسلين الذين أذِن الله لكُلٍّ مِنهم بتفضيله وتعيينه، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، والملائكة المُقرّبين وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنَّه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.
ويعطف الإمام مالك -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- على مَا جَاءَ فِي صَلاَةِ الْكُسُوفِ مُشيرًا بهذا التبويب إلى ما يتعلق بالنِّساء، وهل يُصلين الْكُسُوفِ أم لا؟ وهل يحضُرن مع الإمام أم لا؟ وتقدَّم الكلام في أحاديث عن صَلاَةِ الْكُسُوفِ؛ وأنَّها ركعتان تُصلَّيان بالكيفية التي تختلف عند الأئمة الثلاثة عن غيرها بقيامين وركوعين في كُلّ رَكعة.
وهكذا يتكلم الآن في هذا الحديث عن صلاة المرأة للْكُسُوفِ والخُسُوفِ.
وهكذا قامت الشَّريعة في عظمتها وبسطها الخير للنَّاس على كفِّ الشُّرور والمفاسد، وكُلّ ما يُخاف مِنه ميلٌ إلى السوء؛ فبذلك جاء الكلام عن حُضور النِّساء لصلاة الكُسُوف، والتفريق بين الشَّابة والعجوز، والتفريق في مذهب الشَّافعية في مَنْ لها هيئةٌ بارعةٌ، ومَنْ لا يكون ذلك؛ فلا يُخاف مِنْ ذلك فِتنَة.
يذكر الحديث عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي الله عنهما-، "قَالَتْ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ"؛ أيّ: وهي في بيتها، "حِينَ خَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ"؛ يعني: في المسجد، وكانت حُجرتها قريبة مِنَ المسجد والطريق مُلاصقة للمسجد يخرج منها ﷺ ويدخل. تقول: "فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ يُصَلُّون"؛ أيّ: للكُسُوف، "وَإِذَا هِيَ قَائِمَةٌ تُصَلِّي" أيضًا للكسوف.
فأين وجه استدلال الإمام مالك؟
أنَّها كانت في البيت، ولم تخرج إلى المسجد، وإلا فالحديث يدُّل على أنَّها صلَّت مع النَّبي ﷺ ومع الصَّحابة. صلَّت بصلاتهم في صلاة الكُسُوف. تقول أسماء: "فَقُلْتُ: مَا لِلنَّاسِ؟" وعَائِشَةَ تُصلي فكلَّمتها وهي تُصلي؛ "فَأَشَارَتْ بِيَدِهَا نَحْوَ السَّمَاءِ"؛ تعني: انكسفت الشَّمس بالإشارة. وفيه أنَّ الإشارة مِنْ غير حركات مُتوالية لا تُبطِل الصَّلاة. "وَقَالَتْ: سُبْحَانَ الله"؛ يعني: أشارت بيدها "وَقَالَتْ: سُبْحَانَ الله"، والتَّسبيح هو الشأن للمُصلِّي في صلاته، إنْ نابه شيء. وجعل بعضهم فيمَن نابه شيء إذا كلَّمه أحد وهو يُصلَّي، فيُسبح إعلامًا له أنَّه في الصَّلاة، وها هُنا جاءت الرِّواية على ذلك.
○ إنْ كان رجُل فليٌسبِّح.
○ وإنْ كان إمرأة فبالتصفيق.
"فَقُلْتُ: مَا لِلنَّاسِ؟ فَأَشَارَتْ بِيَدِهَا نَحْوَ السَّمَاءِ، وَقَالَتْ: سُبْحَانَ الله، فَقُلْتُ: آيَةٌ؟" أيّ: حدثت آية؛ علامة لقُرب السَّاعة؛ وعلامة لأمرٍ عظيم، أو علامة للتذكير بقُدرة الله وعظمته. "فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا"؛ تعني نَعَمْ؛ أيّ نَعَمْ. وفي لفظٍ "أَنْ نَعَمْ". تفسير لإشارتها برأسها أنَّها عنت أنَّ هذه آية. "قَالَتْ: فَقُمْتُ"؛ يعني: قُمت في الصَّلاة؛ صلَّيت معها وراء النَّبي ﷺ "حَتَّى تَجَلاَّنِي"؛ يعني: حتى تغطُاني "الْغَشْيُ"، وهو مُقدمة الإغماء. ويُقال: الغَشْيُ، والغَشِّيُّ، والغَشِيُ؛ -بكسر الشين وإسكانها- تعني مُقدمة ومبادئ الإغماء دون الإغماء؛ لأنَّ الإغماء ينقُض الوضوء؛ يُبطِل الصَّلاة. ولكن أحسّت مِن طول القيام بأثر إغماء ينزل بها، "فَقُمْتُ حَتَّى تَجَلاَّنِي الْغَشْيُ"؛ يعني: مِنْ طول القيام ووجود الحَرّ فخافت على نفسها مِنَ الإغماء. قالت: "وَجَعَلْتُ أَصُبُّ فَوْقَ رَأْسِي الْمَاءَ"؛ يعني أرادت بالْغَشْيُ الحال القريبة مِنه بعد ما تزال مُدركة ومُحِسة، فصبَّت الماء.
قالت: "فَحَمِدَ اللَّهَ رَسُولُ الله"؛ يعني: سَمِعَته يخطب -عليه الصَّلاة والسَّلام- وابتدأ كلامه وخُطْبَته بالحمد لله والثناء عليه، كما هي عادته ﷺ يُثني على الله ويحمده في أول كُلّ عمل وفي أول كُلّ خُطْبه، وحفظت مِنْ خُطْبته هذا الذي ذكرت لنا "فَحَمِدَ اللَّهَ رَسُولُ الله ﷺ وَأَثْنَى عَلَيْهِ"، بما هو تعالى أهله؛ مجّده وعظمه. "ثُمَّ قَالَ: مَا مِنْ شَيْءٍ كُنْتُ لَمْ أَرَهُ"؛ أيّ: قبل هذا "إِلاَّ قَدْ رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِى هَذَا"؛ أيّ: وهو قائمٌ يُصلي صلاة الخُسوف ﷺ. "فِي مَقَامِى هَذَا". وفيه أنَّ الله أراه وأطلعه على شؤونٍ عظيمة في المُلك والملكوت لم يُطْلِع عليها غيره. واللفظ الذي ورد في الحديث وهو في الصَّحيحين أيضًا وفي غيرهما: "مَا مِنْ شَيْءٍ"، لم أكن أُريته مِنْ قبل "إِلاَّ قَدْ رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي هَذَا" فجاء بلفظ عامٍ شامل مُستوعب مُشيرًا لكثرة ما أراه الحقُّ -جلَّ جلاله-، وأشهده إياه وأطلعه عليه وعاينه ببصيرته وبصره ﷺ. قال: "حَتَّى الْجَنَّةُ وَالنَّارُ"، فرأى ما فيهما وما يجري فيهما، وعُرِضَت عليه -كما تقدّم معنا- وهو في الصَّلاة فتكعكع حتى كاد يلصق بالصف، ولمَّا عُرِضَت الجنَّة؛ تقدم حتى كاد يلصق بالجدار ﷺ. "حَتَّى الْجَنَّةِ وَالنَّارِ" أو "حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ" أو "حَتَّى الْجَنَّةُ وَالنَّارُ". تأتي الأوجه الثلاثة فيها:
○ حتى الجنّةُ والنّارُ؛ مرئيةٌ.
○ حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ؛ وحتى رأيت الجنّةَ والنّارَ.
○ وحتى الجنّةِ والنّارِ، تكون غاية وحرف جر. حتى الجنّةِ والنّارِ.
قال: "حَتَّى الْجَنَّةُ وَالنَّارُ"؛ أيّ: عُرِضَت عليَّ ورأيتهما ﷺ. فجاء فيما رأى ﷺ الجنّة والنّار، وأنّه أُوحى إليه أنَّ النَّاس يُفتنون في قُبورهم ويُسألون.
○ ورأى في الجنَّة عُنقودًا، هَمَّ أنْ يأخذه كما تقدم معنا.
○ ورأى في النَّار أكثر أهلها النِّساء.
○ ورأى فيها امرأة تَخدِشُها هِرة، ربطتها حتى ماتت جوعًا وعطشًا.
وللكائنات ربّ، ولا تقول هذا ضعيف ولا أحد يُدافع عنه، فإنَّ ربَّ الكُلّ سيقضي بين عباده، وسيُعطي كُلًا حقه ولو خردلة، ولو مثقال ذرة. (إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍۢ ۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَٰعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:40] وهذه استهانت بالهِرّة وحبَستها حتى ماتت، ورآها ﷺ في النَّار تخدشها الهرة التي حبستها تعذيبًا لها -والعياذ بالله تبارك وتعالى-. اللَّهم أجرنا مِنَ النَّار.
○ ورأى عَمْرو بن مالك يَجُر أمعاءه في النَّار، وكان هو أول مَنْ غيَّر دين إبراهيم -عليه السَّلام-، ودعا النَّاس لعبادة الأصنام واستجلب الأصنام للناس وغيَّر دينهم -والعياذ بالله تعالى- فرآه يجُرُ أمعائه في النَّار -والعياذ بالله تبارك تعالى-؛ لِمَا كان مِنْ عناده ومخالفته لما بقي عندهم مِنْ دين الخليل إبراهيم -عليه السَّلام- مِنْ عبادة الله وحده، ودعوته النَّاس لعبادة الأصنام وعبادة غير الله جلَّ جلاله. وهذا عَمْرو بن مالك بن لُحي أول مَنْ سيَّب السوائب.
○ وكذلك جاء أنَّه ﷺ رأى جهنّم يَحطُم بعضُها بعضًا.
○ ورأى فيها الذي يسرق الحاج بمحجنه. إذا فطِن له، قال له: تعلّق بالمحجن مِنْ غير قصد وإلا غُفل عنه، سرقه وذهب، وضربه مثال للذي يتحيل على السَّرقات فرآهم ﷺ في النَّار.
○ وأخبر أنَّه لا تقوم السّاعة حتى يخرج ثلاثون كذّابون، آخرهم الأعور الدَّجال. وأنّه متى يخرج فسوف يزعم أنَّه الله، فمَن آمن به -الدّجال- وصدَّقه واتبعه؛ لم ينفعه عملٌ صالح مِنْ عملٍ سلف. ومَنْ كفر به وكذّبه؛ لم يُعاقب بشيء مِنْ عمله وغُفِر له؛ بتكذيبه للدّجال وقت الفتنة الكبيرة جميع ما جرى مِنَ الذُّنوب السَّالفة. ومَنْ اتبعه؛ يُحبط جميع عمله الصالح -والعياذ بالله- ويتعرض للنّار. اللَّهم أجرنا مِنْ فتنة المسيح الدجال وأهلينا وأولادنا وذرارينا برحمتك يا أرحم الرَّاحمين. ويَمُر على الأراضي كُلّها إلا مكّة والمدينة وبيت المقدس.
○ ورأى صاحب السُّبْتيَتين أخا بني الدعدع يدفع بعضهم بعضًا ذات شُعبتين في النَّار والعياذ بالله تبارك وتعالى. وجاء أنَّهما سائبتان بدَنتان أهداهما النَّبي ﷺ للبيت، فأخذهما رجل مِن المُشركين، ذهب بهما وسمّاهُما سائبتين.
يقول -عليه الصَّلاة والسَّلام-: "وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ"؛ أيّ: تُختَبرون أو تُمتَحنون "فِي الْقُبُورِ"، فيقع لنا اختبار في الْقُبُورِ، فينا الذي يُثبَّت وفينا الذي يزيغ -والعياذ بالله تعالى- ويهلك. (يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلْآخِرَةِ ۖ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّٰلِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ) [إبراهيم:27]. وهكذا فكُلُّ ميت في الغالب، يُقبر في قبره ويُفتن في قبره، وفي أيّ موضع استقر فيه ولو في بطن السِّباع يُسأل لأنَّ السؤال لروحه. وجاء في رواية أنَّ المؤمن يُفتن سبعًا والمُنافق أربعين صباحًا. قال: "مِثْلَ، أَوْ قَرِيباً" احتياط الرّاوي للفظة. هل قال: "مِثْلَ، أَوْ قَرِيباً، مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ"؛ يعني أنَّها فتنة شديدة كبيرة، تُشبه أكبر الفتن في الأرض؛ وهي فتنة المسيح الدّجال، أكبر فتنة إلى أنْ تقوم السَّاعة؛ فتنة المسيح الدّجال. أجارنا الله مِنها وأهلينا وأولادنا وأحبابنا وذرارينا، آمين. فتنة يدخل فيها النَّار الملايين مِنَ النَّاس -والعياذ بالله تبارك وتعالى- فتنة اختبار وابتلاء وامتحان بجوع، ويكون بيد الدّجال الخبز والطعام فيُغري للإيمان به الجائعين ليؤمنوا به ويكفروا بالله تعالى، ويتبعونه وهو مكتوب بين عينيه كافر، والعجيب أنَّ الله -تبارك وتعالى- يُمكِّن مِنْ معرفة هذه الحروف الكُل -القارئ وغير القارئ- كالنّاس في القيامة، كُلّهم يقرأون، في القيامة لا يوجد أحد أُمّي، مَن تعلم ومَن لم يتعلم- الكُلّ يقرأ يوم القيامة، والكُل يعرف معاني الصحيفة (ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) [إسراء:14]. خلاص تُنْزع الأُمية والكُلّ يقرأ. قال: "مِثْلَ، أَوْ قَرِيباً، مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ".
ويشهد له حديث: "نضَّرَ الله امرَءًا سمعَ مقالتي فأدّاها كما سمعها". ولم يقل كما وعاها؛ لأنَّ وعيه محصور، والمقالة قد تحمل معاني غير الذي وعى. "... فرُبَّ مبلَّغٍ أوعى لَهُ من سامِعٍ". رُبما انكشف لمَنْ بعده مِنْ معناها ما لم ينكشف له. فهو المأمون على أداء البلاغ والرسالة ﷺ، ورزقنا حُسنَ مُتابعته. قال: "مِثْلَ، أَوْ قَرِيباً، مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ -لاَ أَدْرِي أَيَّتَهُمَا قَالَتْ أَسْمَاءُ-" ففيه شكٌّ مِنَ الرَّاوي. فلمّا ذكر ﷺ فتنة القبر؛ -جاء في الرواية عند النَّسائي- ضجَّ المُسلمون ضجًا. قالت: حالت بيني وبين أنْ أفهم آخر كلام رسول الله ﷺ؛ فلهذا شكّت هل قال قَرِيباً، أو قال مِثْلَ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ. فلما سكن الضجيج، قُلت لرجل قَرِيبٌ مني: بارك الله فيك، ماذا قال رسول الله ﷺ؟ قال: قد أُوحِيَ إليّ أنّه تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ قَرِيباً مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ.
وجاء في رواية عند الإمام البُخاري، أنَّ السَّيِّدة أسماء سَمِعَت لغطًا مِنْ نسوة مِنَ الأنصار، فذهبت تُسْكِتْهُن، ثُمَّ سألت عائشة: ماذا قال ﷺ؟ فذكرت لها.
"يُؤْتَى أَحَدُكُمْ"؛ يعني: يأتيَه الملكين في قبرهِ ويتشكَلان بحسب عمل الإنسان.
○ كما جاء في رواية التِّرمذي وابن حِبْان: "..ملكان أسودان أزرقان، يُقال لأحدهما المُنْكر والآخر النَكير".
○ وجاء هكذا في رواية التِّرمذي وفي رواية ابن حِبْان: يُقال لهُما مُنْكر ونَكير.
○ جاء في رواية الطّبراني: "أعينهما مثل قدور النّحاس، وأنيابَهما مثل صياصي البقر، وأصواتهما مثل الرَّعد".
ولمّا نُبِّه بعضهم برؤية رآها: فرأى أنَّه قُبِر ورأى الملكين، فكان يقول: أقبلا بصورة عظيمة لا يقدر أحد يقول أنّه سيثبت لهم إلا مَنْ يُثبته الله، ولا يقدر أحد بقوته ولا بعقله ولا بعلمه أنْ يثبت لهذا المنظر، هذا الذي رأى. فياربّ، ثبتنا على الحقّ والهُدى. ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدُّنيا وفي الآخرة.
○ جاء في رواية عبد الرزاق: "..يَحفِران بأنيابهما ويطآن في أشعارهما..".
فقال بعض أهل العِلم: إنَّ أعدادًا كبيرة مِنَ الملائكة مُخصّصين بسؤال الميت بعد الموت، وكُلٌّ مِنهم يُقال له مُنْكر ونَكير. وقيل: أحدهما مُنْكر والآخر نَكير. وقيل: بل كُلّ مِنهما مُنْكر ونَكير؛ هو نفسه يقال له مُنْكر ونَكير.
قال تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:18]. رقيبٌ عتيدٌ؛ ملكان يكتُبان الحسنات والسّيئات، يُقال لأحدهما رَقِيبٌ والآخر عَتِيدٌ. وقيل: كُل واحد منهم يُقال له: رَقِيبٌ وعَتِيدٌ. رَقِيبٌ؛ بمعنى مُراقب، وعَتِيدٌ؛ حاضر. وهؤلاء مُنْكر ونَكير؛ كُل منهما مُستنكِر؛ مُستفظَع. يُروى في بعض الأخبار: أنَّ مَنْ مات وهو يطلب العِلم ليُحي به الإسلام؛ فإنَّ الله يُرسل إليه ملكين آخرين اسمهما مُبشِّرٌ وبَشير على صورةٍ حسنةٍ هينةٍ طيبةٍ تدعو إلى الطُّمأنينة والسَّكينة والثّبات، غير مُنْكر ونَكير.
"فَيُقَالُ لَهُ"؛ يعني للميت بعد موته في قبره إذا قُبِر، "مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُل"؛ يعني: مُحمَّد ﷺ. فيُسأل النَّاس عن سيِّدنا رسول الله ﷺ في قبورهم، ماذا يقولون عنه؟ وماذا يعتقدون فيه؟ وماذا يشهدونه عليه الصَّلاة والسَّلام؟ وأيُّ شيء حاله عندهم في اعتقادهم؟ وفيما تنطوي عليه بواطنهم؟ لمكانته عند الله، إذا سأل الملائكة الميت عن ربه، سألوه عن النَّبي مُحمَّد. "مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُل" آمنا به وصدقناه، هو رسول الله وحبيبه وصفوته وعبده الأمين، خاتم النَّبيين وسيِّد المُرسلين صلوات ربي وسلامه عليه. وهكذا جاء في الصَّحيحين: "ما كُنت تقول في هذا الرَّجُل"، أيّ شيء كُنت تتكلم عن مُحمَّد ﷺ؟ قال ﷺ: "فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ، أَوِ" قال "الْمُوقِنُ"؛ الذي مات على الإيمان والتّصديق بسيِّد الأكوان. "قَالَتْ أَسْمَاءُ:- فَيَقُولُ: هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، فَأَجَبْنَا وَآمَنَّا وَاتَّبَعْنَا". وإنَّما يُجيب بهذا الجواب، مَنْ كانت علاقة قلبه في حياته بمُحمَّد؛ علاقة إكرام وتعظيم وإجلال ومحبة وتصديق وإيقان، فيجيب بهذا الجواب. ومَنْ لم يكُن كذلك في حياته، كيف يقدر يُجيب؟ يقول الْمُؤْمِنُ، وِالْمُوقِنُ في القبر إذا سأله الملك: "هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله، جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، فَأَجَبْنَا وَآمَنَّا وَاتَّبَعْنَا، فَيُقَالُ لَهُ: نَمْ صَالِحاً"؛ يعني: اهنأ واطمأن واسكُن، نم صالحًا؛ منتفعًا بأعمالك وأحوالك والصَّلاح الذي كُنت عليه في الدُّنيا والعلاقة الطّيبة بمُحمَّد ﷺ. "نَمْ". "قَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ"؛ أيّ: شأنك وحالك، "إِنْ كُنْتَ لَمُؤْمِناً". وهذا حال بعض الأموات، أنْ يكون في القبر كالنائم. فقيل في معنى قوله "نَمْ"؛ أيّ:
○ عُدْ لحالتك التي كُنت عليها قبل الموت. وسمّوه نومًا، لِمَا يصحبه مِنَ السَّكينة والخير والرَّاحة.
○ ولكن جاء في الحديث أيضًا: "نَمْ نومة العروس". فيكون في أحلى نومة نامها حتى يُبعث.
○ وفي سُنن التّرمذي يُقال: "نَمْ؛ فينام نومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحبّ أهله إليه حتى يبعثه الله مِنْ مضجعه ذلك".
ففيه إمَّا بيان أحوال الخِطاب للمؤمن الواحد وتنوعه مِنَ الملائكة أو تعدده للناس بحسب مراتبهم. وفيهم مَنْ لا يعود إلى النَّومة، فيكون روحه في حواصل طير خُضرٍ تسرح في الجنَّة، وفيهم وفيهم في شأن حياة البرزخ التي حدَّثنا عنها مَنْ لا ينطق عن الهوى.
يا رب اجعل قبورنا روضة مِنْ رياض الجنَّة.
قال: "وَأَمَّا الْمُنَافِقُ، أَوِ الْمُرْتَابُ". الْمُنَافِقُ: المُكذِّب بقلبه. والْمُرْتَابُ: الشاكّ. فالمُنافق مُقابل المؤمن. المُرتاب مقابل الموقن. "يَقُولُ: لاَ أَدْرِي سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئاً فَقُلْتُهُ". وهكذا يقول الْمُنَافِقُ لأنَّه سَمِع المؤمنين يقولون كما قال ﷺ ولكنَّ ما عنده اعتقاد. كان يقول في الدُّنيا: لا إله إلا الله مُحمَّد رسول الله ولكن تَقيَّة، ولأجل يُدفع عنه ولأجل يُصيب شيء مِنَ الدُّنيا. فقد خصّص بعضهم معنى قوله: "لاَ أَدْرِي سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئاً فَقُلْتُهُ" أنَّه للمُنافق، وأمَّا الكافر يقول: لاَ أَدْرِي. لاَ أَدْرِي فقط مِنْ دون أنْ يقول سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شيء عنه. وعمّمه بعضهم فقال يُراد بالنَّاس هُنا الكُفّار. فيقول هذا الكافر وهذا المُنافق كما قال هؤلاء النَّاس المُكذبين والعياذ بالله تبارك وتعالى. ففي ذلك إثبات عذاب القبر، فتظاهرت عليه الدلائل. ومِنَ القُرآن استدلوا بقوله تعالى: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا …) [غافر:46] وهذا ما يكون إلا في البرزخ، ويوم القيامة (... أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ). فتُعرَض عليهم النَّار في كُلّ صباح وكُلّ عشي مِنْ يوم هلكوا وغرقوا مع فرعون في البحر، إلى العَشي البارحة عُرضت وفي الصَّباح تُعرض عليهم النَّار -والعياذ بالله تبارك وتعالى-. وأهل الإيمان تُعرض عليهم الجنَّة في كُلّ صباحٍ وعشية.
وهذا الذي يتحدث عنه ﷺ مِنْ أمور الغيب؛ الأمور المعنوية التي لا تعلُّق لها بجنس المادة والتُراب والأرض، وإنْ ذكَر القبر، وإنَّ له لعلاقة بالمعاني التي تُحيط بصاحبه -هذا القبر- وإلا فإنَّ الامتداد والاتساع ما يتعلق بجنس الأرض وماديتها وترابها؛ ولكنَّه بالنسبة لروحه وبالنسبة لذاته المعنوية الباطنة، يحصُل الاتساع وتحصل الرؤية، ويحصل المُشاهدة إلى الجنَّة والنَّار والعرض عليها. أمَّا الهيئة التُرابية للأرض، ما يتغير مِنها شيء؛ تبقى كما هي. فتكون مُشاهداتٌ كما يكون في الغُرفة الواحدة، كُلٌ يُشاهد شاشة. وهذا يُشاهد شاشة خيرية، وهذا يُشاهد شاشة شرّية، وهذا يُشاهد كذا، وهذا كذا، كُلهم في غُرفة واحدة وفي مكان واحد، وهذا يُشاهد أماكن واسعة، وهذا يُشاهد أماكن ضيقة، وهذا يُشاهد خير، وهذا يُشاهد شر. وكذلك في القُبور، والشَّاشات شغالة في البرزخ والقيامة أشدّ مِنْ شُغل هذه الشَّاشات الخفيفة التي ابتُكرت في عالم الدُّنيا.
فالله يثبتنا بالقول الثابت ويجعل قُبورنا رياضًا مِنْ رياض الجنَّة، ويجعل لنا مِنْ عذابه وقاية وجُنَّة، ويجعل قبور آبائنا وأُمهاتنا وأجدادنا رياضًا مِنْ رياض الجنَّة، ويجعل قبور أولادنا وذرارينا رياضًا مِنْ رياض الجنَّة، ويشمل بذلك أهلينا وأصحابنا وأقربائنا وتلاميذنا وذوي الحُقوق علينا، ويرحمنا والمُسلمين برحمته الواسعة. بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ
22 ربيع الثاني 1442