(536)
(228)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب صلاة الكسوف، تتمة باب العمل في صلاة كسوف الشمس.
فجر الأحد 21 ربيع الثاني 1442هـ.
تتمة باب الْعَمَلِ فِي صَلاَةِ الْكُسُوفِ
510 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَصَلَّى رَسُولُ الله ﷺ وَالنَّاسُ مَعَهُ، فَقَامَ قِيَاماً طَوِيلاً، نَحْواً مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، قَالَ: ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعاً طَوِيلاً، ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَاماً طَوِيلاً، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعاً طَوِيلاً، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ قَامَ قِيَاماً طَوِيلاً، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعاً طَوِيلاً، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَاماً طَوِيلاً، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعاً طَوِيلاً، وَهُو دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لاَ يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئاً فِي مَقَامِكَ هَذَا، ثُمَّ رَأَيْنَاكَ تَكَعْكَعْتَ، فَقَالَ: "إنِّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا، وَلَوْ أَخَذْتُهُ لأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا، وَرَأَيْتُ النَّارَ، فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ مَنْظَراً قَطُّ أَفْظَعَ، وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ". قَالُوا: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "لِكُفْرِهِنَّ". قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: "ويَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئاً قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ ".
511 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَن، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّ يَهُودِيَّةً جَاءَتْ تَسْأَلُهَا فَقَالَتْ: أَعَاذَكِ الله مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: أَيُعَذَّبُ النَّاسُ فِي قُبُورِهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ ، عَائِذاً بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ الله ﷺ ذَاتَ غَدَاةٍ مَرْكَباً، فَخَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَرَجَعَ ضُحًى، فَمَرَّ بَيْنَ ظَهْرَانَي الْحُجَرِ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، وَقَامَ النَّاسُ وَرَاءَهُ، فَقَامَ قِيَاماً طَوِيلاً، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعاً طَوِيلاً، ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَاماً طَوِيلاً, وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعاً طَوِيلاً، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ فَسَجَدَ، ثُمَّ قَامَ قِيَاماً طَوِيلاً، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعاً طَوِيلاً، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَاماً طَوِيلاً، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعاً طَوِيلاً، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَعَوَّذُوا مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ.
الحمد لله مُكرمنا بالشريعة وبيان أحكامها، على لسان عبده محمد الذي جمع فيه الحُسن جميعه، صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه في كل لمحةٍ ونفسٍ وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأخيار أهل المراتب الرفيعة، وعلى من تبِعهم بإحسان مخلصًا لوجه ربّه، ثابت القدم في الاقتداء سريعه، وعلى آبائه وإخوانه من أنبياء الله والمرسلين وآلهم والتابعين، وعلى ملائكة الله المقرّبين، وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعدُ،
يواصل الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- ذكر الأحاديث المتعلقة بصلاة الكسوف، وتقدّم معنا ذكر بعض المسائل المتعلقة بصلاة الخسوف والكسوف في الحديث الأول الذي أورده. وكان ممّا ذكرنا الخطبة بعدها وأن ذلك عند الشّافعية. وذكرنا الحنفية وليس ذلك هو المعتمد في كلامهم، و إن نقل عنهم بعض العلماء أنّه تُسنّ الخُطبة.
والذي في فروع الأئمة -عليهم رضوان الله- أنّ الشّافعية هم الذين قالوا بسُنيّةِ الخُطبة، كخُطبة العيد وخُطبة الاستسقاء. وأنّ معتمد الأئمة الثلاثة أنّهم لم يروا خُطبة مخصوصة للكسوف. وقد ثَبَت كما سمعتم في الصحيحين وغيرهما صلاته ﷺ للكسوف، واخُتلف في الخسوف هل صلى خُسوف القمر أم لا؟ وجاء في روايةٍ أنّه صلى ﷺ خسوف القمر كما صلّى بعض الصحابة بها، وقال: صلّيت لكم كما صلّى بنا رسول الله ﷺ. بل وفي الحديث أنّ هذا الصحابي خطبهم بعدها وذكر اقتدائه بالنبي ﷺ.
وهذا الحديث الذي أخرجه: "عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَصَلَّى رَسُولُ الله ﷺ وَالنَّاسُ مَعَهُ،" ففيه اثباتُ الجماعة،
أمّا في صلاة كسوف الشمس فيستحب فيها الجماعة، ومن أهل العلم من اشترط الجماعة فيهما. والجمهور على أنّه لا تُشترط الجماعة، بل يجوز أن تُصلى الكسوف والخسوف فرادى. ولكن سنّية الجماعة في الكسوف متفقٌ عليه، وفي الخسوف مختلفٌ فيه. حتى نقل العيني عن أبي حنيفة: أنّه لم يكره ولم ينهَ عن صلاة الجماعة في الخسوف، ولكن قال: أنّ الأفضل أو قال: إنّ الجماعة في الخسوف ليس بسُنة وهو جائز. فالمعنى أنّه جائز. إذًا، فسُنّية الجماعة في الكسوف متفقٌ عليه، أمّا الخُسوف فعلمنا مذهب مالك وأبي حنيفة أنّه تُصلّى فرادى خسوف القمر.
"قَالَ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَصَلَّى رَسُولُ الله ﷺ وَالنَّاسُ مَعَهُ، فَقَامَ قِيَاماً طَوِيلاً، نَحْواً مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ" وفي قوله "نحوًا من سورة البقرة" دليل الذين قالوا بسُنّية الإسرار في صلاة كسوف الشمس؛ لأنه لو سمعه لقال قرأ كذا وكذا وما احتاج الى التقدير فقوله "فَقَامَ قِيَاماً طَوِيلاً، نَحْواً مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ"، دليل على أنّه لم يسمعه ماذا قرأ فقدّرها بسورة البقرة. في هذا وفي لفظ جاء أيضًا في الحديث: إني صليت بجانبه فلم أسمع منه حرفًا.
وقد سمعنا أنّ الخسوف للقمر لا تُسنّ فيه الجماعة عند الحنفية والمالكية، فلهذا أيضًا المشهور في قوله أنّه يُسر في صلاة الكسوف. فكذلك ما أومأ إليه حديث ابن عباس وما أومأ إليه قول عائشة في بعض الروايات، قال: فحزرت قراءته فرأيت أنّه قرأ بسورة البقرة، فمعنى أنّها لم تسمع القراءة، ولم يكن ﷺ جهر في صلاة الكسوف.
ولكن كما سمعت أنّ الأئمة الثلاثة أكثرهم قالوا بالإسرار في كُسوف الشمس، فلا يَجهرْ بالقراءة عند أبي حنيفة ويَجهر عند صاحبيه. فعلمنا بذلك أنّ الجمهور قالوا بالإسرار يُسِر في الشّمس ويَجهرُ في القمر. وقال بعض الشافعية كابن المنذر: أنّه يُسن الجهرُ فيها. وعلمنا ما جاء في الحديث أيضًا من روايتين، من رواية جهره ﷺ، ومن رواية إسراره عليه الصلاة والسلام في صلاة الكسوف التي صلاها باتفاق.
والذين أرادوا أن يقولوا أنّ ابن عباس كان صغيرًا فكان لم يسمع، ردّوا عليهم بقول ابن عباس: قمت إلى جنب النبي… الرواية التي أشرنا إليها قمت إلى جنب النبي أو إلى جانبه ﷺ فما سمعت منه حرفًا. كذلك ما جاء عن سيدنا سَمرة بن جُندب -رضي الله عنه-: "صلى بنا النبي ﷺ في كسوف لا نسمع له صوتًا"، رواه الترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه. فهذا دليل الشافعية في الإسرار في صلاة الكسوف، وعليه أيضًا كثيرٌ من الأئمة كما سمعت لما يدلّ عليه حسب روايته.
وبعد ذلك قال: "ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعاً طَوِيلاً، ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَاماً طَوِيلاً، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعاً طَوِيلاً، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ قَامَ.." فلم يذكر التطويل في السجود، وقد ذكرنا اختلاف الأئمة في ذلك. فقيل: أنّه لا يُطَوّل السجود كما يُطَوّل الركوع والقيام، ولكن المعتمد عند الشافعية، وهو وجهان عند الشافعية أيضاً في السجود في الكسوف والخسوف هل يُطَول السجود كما يطول الركوع أم لا؟
و استدلّ بحديث الإمام مسلم أنّه ذكر فيه طول السجود له ﷺ، فبذلك رجّح الإمام النووي هذا الوجه، وهو سُنيّة تطويل السجدات، كما يُطول الركوعات في صلاة الخسوف والكسوف.
قال: "ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعاً طَوِيلاً، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ قَامَ قِيَاماً طَوِيلاً، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعاً طَوِيلاً، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ.." أي: رفع رأسه من الركوع الثّالث "فَقَامَ" هذا القيام الرابع "فَقَامَ قِيَاماً طَوِيلاً، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ"؛ يعني: القيام الثالث الذي قبله، كل واحد دون الذي قبله، دون الذي قبله.
قال: "ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعاً طَوِيلاً" هذا الركوع الرابع "وَهُو دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ" أي: الثّالث الذي تقدم، "ثُمَّ سَجَدَ" أي: سجدتين "ثُمَّ انْصَرَفَ" خرج من الصلاة "وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ"؛
ويقول أنّه ﷺ خرج "وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ الله، لاَ يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ" خلافًا لما كان يعتقده الجاهلية "فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَاذْكُرُوا الله"، فيستحب كَثرةُ الذكر عند تغيّر الأحوال. ووجود التذكير بالآيات، فهذه سُنّة مطّردة؛ الإكثار من ذكر الله عند أي تغيّرٍ، وأي شدةٍ، وأي حدثٍ يحدث، فينبغي الإكثار من ذكر الله، "فَاذْكُرُوا الله" تعالى.
"قَالُوا: يَا رَسُولَ الله رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ" كيف تناولت؟ يعني: مددت يدك كالذي يأخذ شيء، وهذا كان في أثناء قيامه في صلاة الكسوف. "تَنَاوَلْتَ شَيْئاً فِي مَقَامِكَ هَذَا"، قاله اُبيّ بن كعب: شيء صنعته في الصلاة لم تكنْ تصنعه. وجاء في بعض الروايات أنّ ذلك كان مرةً وهو يُصلي الظهر، ولا مانع من تعدّد مشاهداته ﷺ في الكسوف و في الظهر، اختاروا أن يكون ذلك عدة مرات.
"قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئاً فِي مَقَامِكَ هَذَا، ثُمَّ رَأَيْنَاكَ تَكَعْكَعْتَ"؛ معنى تكعكعت: تأخرت ورجعت على وراء. "قَالَ: إنِّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ"، ويؤيد وقوعها في الكسوف أنّه قال في خطبة الكسوف كما جاء يقول: إنّي اُريت في مقامي هذا كل شيءٍ لم أكن رأيته، فإني اُريته في مقامي هذا، حتى الجنّة والنّار. ففيه دليل على أنّ ذلك وقع في صلاة الكسوف، وعُرضت له الجنّة والنّار كما جاء في البخاري: يقولﷺ: "عُرضت عليّ الجنّة والنّار آنفًا في عرض هذا الحائط".
"قَالَ: إنِّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ" صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. فكُشِفت له وجُلّيت بقُدرةِ الحيّ القيّوم القدير جلّ جلاله وتعالى في علاه. وهو الذي يقدر أن يُريَ مَن شاءَ.. ما شاء -جلّ جلاله وتعالى في علاه- بلا أن تحدّه في قدرته عاداتٌ عوّد عليها شيئًا من الرائيات، من المبصرات بقدرته، فإنّ ذلك كله منه وبترتيبه وتكوينه، فيُري من شاء ما شاء في أيّ شيءٍ شاء -جلّ جلاله- وفي أي مكانٍ شاء، وفي أيّ وقت شاء، فهو السميع البصير.
ولم يُرِِ الحق تعالى من كائناته من عجائب الآيات ما أرى عبده محمدًا! وهو الذي قال عنه: (..لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا..) [الإسراء:1]، وهو الذي قال عنه: (لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ ءَايَٰتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰٓ) [النجم:18]، وهو الذي قال عنه: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ) [النجم:11]، والذي قال عنه: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى) [النجم:13-17]. فأراه الله من الآيات ما لم يُرِه أحدٌ من أهل الأرض ولا من أهل السموات، صلوات ربي وسلامه عليه.
"فَقَالَ: "إنِّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا" يعني: وضع يده عليه، هذا معنى تناولت، يقول: "وَلَوْ أَخَذْتُهُ"؛ أي: لو اُذِنَ لي في قطفه وإخراجه إلى عالم الدنيا وعالم الحسّ لبقيَ بصفته من طعام الجنة، "لأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا" لا ينتهي أبدًا! ولكنه ﷺ لأدبه لم يفعلْ ذلك، ولم يأتِه أٌمرٌ بذلك، فوضع يده على العنقود فقط من العنب ثمّ لم يُخرجه ولم يأخذه. يقول: "وَلَوْ أَخَذْتُهُ لأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا"، ففيه أن الإراءة كانت ليس على نظير ما فتح الحقّ ووسّع من آفاق الإراءة الحسّية اليوم عند الناس، فيرون في الشاشات وصاروا يَرون في الخِرق وفي الجدران ينصبون حقهم الكمبيوتر ويوجهونه ويشاهدون صور وحركات وأشياء لكنها خيالية غير واقعية! أمّا رُؤياه ﷺ لا ليست هكذا؛ ولكن يرى واقعًا، ويرى حقيقة، حتى يقدر أن يقطف العنب ويضع يده على العنب، وليس ذلك في الشاشات حقنا التي توصلوا اليها أهل عالم الحس، ولا يقدر يخرّج شيء ولا يعمل شيء، إنما يرى مثال فقط مثال لشيء.أمّا هو ﷺ فيرى حقيقة الأمر. يقول: فوضعت يدي على العنقود؛ "فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا، وَلَوْ أَخَذْتُهُ لأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا".
"وَرَأَيْتُ النَّارَ"؛ يعني: في الركعة الثانية التي رأيتموني تكعكعت فيها؛ تأخّرت، فإنه كما جاء وصفه في الروايات أنّه تقدم في الركعة الأولى حتى كاد يلتصق بالجدار، ثمّ تأخر في الركعة الثانية حتى كاد يلصق بالصف الذي ورائه، ثمّ عاد الى مكانه وأكمل الصلاة. فذكر أنّه في المرة الأولى عُرضت له الجنة ورآها ووضع يده على العنقود. وأنّه في الثانية قال: "وَرَأَيْتُ النَّارَ" عُرضت عليه النار، اللهمّ أجرنا من النار. فتأخر عن مصلاه حتى أنّ النّاس يركب بعضهم بعضًا في رواية! "فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ مَنْظَراً قَطُّ"، وسمعت ما جاء في خطبته في بعض الروايات: "ما من شيء لم أكن اُريته الاّ رأيته في مقامي هذا". "فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ مَنْظَراً قَطُّ أَفْظَعَ" في رؤية النار، "وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ" اللهمّ أجِرنا من النار. وذلك لكثرة العدد الذي يخلقه الله- سبحانه وتعالى- من النساء، فيكنّ هنّ الأكثر في النار، وهنّ الأكثر في الجنة كذلك؛ لأنّ أدنى أهل الجنة منزلةً من له زوجتان من الدنيا من نساء الدنيا، فمن الأكثر رجال أو نساء؟
إذا أقل واحد معه ثنتين، وغيره معه أكثر من نساء الدنيا، فصار أكثر عددها الرجال أو عدد النساء؟ عدد النساء أيضًا أكثر، لكنّ الكثرة الكاثرة من الرجال والنساء في النار -و العياذ بالله تبارك وتعالى- في كل ألفٍ تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النّار وواحدٌ إلى الجنة، فالكثرة الكاثرة في النّار. اللهمّ أجرنا من النار. والمتعرّضات كذلك بالأخلاق الذي ذكرها، وهي إذا كانت أيضًا في رجلٍ فهو كذلك متعرض للنار، لكن كثير منهن متعرّضات للنار لكثرتهنّ، لكونهنّ أكثر من الرجال في العدد في الدنيا وخصوصًا آخر الزمان، يكثرن حتى يكُن لخمسين امرأة القيّم الواحد.
و جاء في رواية سيدنا جابر: "إن أُؤتمنّ أفشيّن"؛ يعني: هؤلاء النّساء اللاتي يدخلّن النّار؛ "إن اؤتمنّ أفشين، وإن يُسألن بخلن، وإن يُسألن ألحفن، وإن اُعطين لم يشكرن"، يعني: من اتصف بهذه الصفات المذمومة منهن تتعرض للنّار. وقال في خطبة العيد: "فإني رأيتكُنّ أكثر أهل النار". وقال: يكفرن، قلنا: يكفرّن بالله؟ قال: يكفرن العشير. إنكنّ أكثر حطب جهنم، تقول أسماء بنت يزيد: فناديته ﷺ وكنت عليه جريئة: لمَ يا رسول الله؟ لانّكنّ تُكثرن اللّعن وتكفرن العشير.
في هذا الحديث حديث الكسوف، "قَالُوا: لِمَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: "لِكُفْرِهِنَّ". قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: وَيَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ"، أي الزوج. وفيه التحذير من كفران الزوجة لمعروف زوجها قلّ أو كثُر. كما أن ذلك عارٌ ووصمٌ على كل أحد من الرجال والنّساء أن يكفر إحسان المحسن إليك كائن من كان، فينبغي أن يذكر إحسان المحسن و أن يكافئه كما كان صلى الله عليه وعلى اله وصحبه وسلم يكافئ على المعروف.
"ويَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ" يعني :ما تكفر ذات العشير ولكن تكفر إحسانه، "لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ" أي: سنة كاملة وأنت في الإحسان إليها "ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا" قليلاً لا يوافق غرضها، "قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ" وحق السّنه كلها وين راح؟! يروح لمّا ترى شيء لم يعجبها. وفي هذا تحذير من هذا الخلق سواءً للنساء أو للرجال أن ينسون المعروف أو الجميل أو أن يستفزهم وقوع ما لم يوافق غرضهم على إنكار أشياء كثيرة. إذا رأوا من أحدٍ عيب نسوا محاسنه كلها وكأنه لا إحسان له، هذا لا يليق ولا يصح من عاقل ومن مؤمن! وإن كان هذا يكثُر في النّساء، ولكن يقع في الرجال وفي النّساء وكله ممقوت عند الله.
وهكذا جاء الحديث الثاني: "عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَن، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّ يَهُودِيَّةً جَاءَتْ تَسْأَلُهَا فَقَالَتْ: أَعَاذَكِ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ" فسمعت دعاء اليهودية هذا "فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ الله ﷺ" لمّا جاء إليها "أَيُعَذَّبُ النَّاسُ فِي قُبُورِهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: عَائِذاً بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ" حالة كونه متعوذاً بالله سبحانه وتعالى من عذاب القبر، وسأل العافية فأخبرها أنّ النّاس يُعذبون في قبورهم، بل علّمنا الإستعاذة من عذاب القبر. وجاء أن اليهودية قالت لها: وقاكِ الله عذاب القبر، فقالت له: يا رسول الله هل للقبر عذاب؟ فقال: أيّها النّاس استعيذوا بالله من عذاب القبر فإن عذاب القبر حقّ.
"ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ الله ﷺ ذَاتَ غَدَاةٍ مَرْكَباً، فَخَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَرَجَعَ ضُحًى، فَمَرَّ بَيْنَ ظَهْرَانَي الْحُجَرِ" حوالي مسجده ﷺ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، وَقَامَ النَّاسُ وَرَاءَهُ، فَقَامَ قِيَاماً طَوِيلاً، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعاً طَوِيلاً، ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَاماً طَوِيلاً, وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعاً طَوِيلاً، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ فَسَجَدَ، ثُمَّ قَامَ قِيَاماً طَوِيلاً، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعاً طَوِيلاً، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَاماً طَوِيلاً، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعاً طَوِيلاً، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَقَالَ مَا شَاءَ الله أَنْ يَقُولَ" يعني: بعد الصلاة "ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَعَوَّذُوا مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ." اللّهم أعِذنا من عذاب القبر. الّلهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال.
ثمّ أنّه مع تعدّد الركوع في الركعة، فلا يعتبر لفرضية الصلاة ولا لإدراك المأموم الركعة إلاّ الركعة الأولى، أمّا الركوع الثّاني فلا يُدرك به الركعة، وكذلك إذا ركع ركوعًا ثالثًا كما تقدم عندنا عند الحنابلة، وكذلك ما هو في وجهٍ عند الشّافعية، والمعتمد أن لا يزيد على ركوعين في كل صلاة، والله أعلم.
ثبّتنا الله في ديوان أهل الصدق معه، والإنابة إليه، والخشية منه، والتوفيق لمرضاته، وأعاذنا من كل سوء، ورزقنا الإعتبار والادّكار وكثرة ذكره، وتولّع القلب بالصدق معه، والإقبال الكُلّي عليه جل جلاله، وأن يقبلنا في كل ذلك، ويمدّ لنا من عناياته ورعاياته ما نستقيم به خير استقامة على ما يحبّه منا ويرضى به عنّا في مقاصدنا وفي نيّاتنا وأقوالنا وأفعالنا، وحركاتنا وسكناتنا، حتى تحيط بنا أسوار عنايته من كل جانب، وتندفع عنا جميع المصائب وموجباتها، وننال منه فائضات جُوده الواسعات الأطايب، ونجني في الدارين ثمراتها على خير الوجوه في لطفٍ وعافيةٍ وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
21 ربيع الثاني 1442