(536)
(228)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب صلاة الكسوف، باب العمل في صلاة كسوف الشمس.
فجر السبت 20 ربيع الثاني 1442هـ.
باب الْعَمَلِ فِي صَلاَةِ الْكُسُوفِ.
509 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النِّبِىِّ ﷺ، أَنَّهَا قَالَتْ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالنَّاسِ، فَقَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ قَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ فَسَجَدَ، ثُمَّ فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لاَ يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللَّهَ وَكَبِّرُوا وَتَصَدَّقُوا" ثُمَّ قَالَ: "يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرَ مِنَ اللَّهِ عزَّ وجَلَّ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ، لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيراً".
الحمد لله مُكرمنا بشريعته الغرّاء العظيمة، وأحكام دينه القويمة، وصلى الله وسلم وبارك وكرّم على عبد الله ورسوله سيدنا محمد سيد أهل الطريقة المستقيمة، اللهم صلِّ وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار في دربه ووالاه من أجلك فسَعِدَ بِحُبّه، وعلى آبائه وإخوانه من أنبيائك ورسلك الدالّين عليك، وآلهم وصحبهم وتابعيهم وملائكتك المقرّبين، وعبادك الصالحين الممنوحين المنزلة لديك، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين.
وبعدُ،
ابتدأ الشيخ -عليه رحمة الله- بذكر أحاديث الخسوف والكسوف، وقال: "كِتَابُ صَلاةِ الكُسُوْفِ: بَابُ الْعَمَلِ فِي صَلاَةِ الْكُسُوفِ".
وجاءتنا الأحاديث في صلاته ﷺ الكسوف والخسوف، أي: للشمس وللقمر، واختلفوا هل تعدَّدَ ذلك أو كان مرّة؟
وكذلك تعدَّدَ خسوف القمر في حياته ﷺ، فصلى بالناس -صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه- فصارت صلاة الكسوف والخسوف سُنّةً مؤكدة.
فهذا حكم صلاة الكسوف أو الخسوف: سُنةٌ مؤكدة عند جماهير أهل العلم، وفي قولٍ عند الحنفية بوجوبها، والأصحّ عندهم كما قال بقية الأئمة الثلاثة هي سُنّةٌ مؤكدة.
وذلك أنّ الله يُحدِثُ الآيات، ويُنَبِّهُ البريّات، ويؤكد لهم تصرّفه في الكائنات، وأن الأمر بيده في الغيب والشهادات، لا إله إلا هو، جامع الخلائق ليوم الميقات. وفيها تذكير الناس بيوم القيامة، يوم تكسف الشمس ويخسف القمر، قال تعالى: (إِذَا ٱلشَّمۡسُ كُوِّرَتۡ * وَإِذَا ٱلنُّجُومُ ٱنكَدَرَتۡ) [التكوير:1-2]. وقال تعالى: (فَإِذَا بَرِقَ ٱلۡبَصَرُ * وَخَسَفَ ٱلۡقَمَرُ) [القيامة:7-8]، فيحصل التذكّر لذلك اليوم الأخطر. وفيه أيضًا العار والعيب على من عَبَدهما، وهما محلّان للتغيّر وللتأثّر، وذلك يناقض صفات الألوهية والربوبية، ففيه إبطال معتقدهم الفاسد في عبادة شمسٍ أو قمر. وقيل في قوله تعالى: (لَا تَسۡجُدُوا۟ لِلشَّمۡسِ وَلَا لِلۡقَمَرِ وَٱسۡجُدُوا۟ لِلَّهِ ٱلَّذِی خَلَقَهُنَّ…) [فصلت:37]؛ أن المراد به: إذا خسف الشمسُ أو القمر فاسجدوا لله الذي خلقهنّ بصلاة الخسوف، لا تسجدوا للشمس ولا للقمر، واسجدوا لله الذي خلقهن، وأصل المعنى فيه واسعٌ غير مقيّد.
هكذا جاءنا حكم صلاة الخسوف والكسوف، فعندنا ما ذكرنا في صلاة كسوف الشمس من تأكيدها عند جميع الفقهاء.
وقال ﷺ في ذلك، وقد كسفت الشمس في يوم وفاة سيدنا إبراهيم ابن رسول الله ﷺ، ولمّا كان معتقد الجاهلية أنّ الشمس والقمر إنما ينخسفان لحدوث شيءٍ في الأرض، ومنه موتُ عظيمٍ وما إلى ذلك؛ أبطل النبي هذا الاعتقاد، كما كان يتسرّب إليهم، أو يحلّ فيهم اعتقادهم أنه إذا حصل خسوفٌ أو كسوفٌ فإن شيئًا من أحوال الناس يتغيّر على ظاهر الأرض؛ فأبطل ﷺ إناطة شيء من هذا في الاعتقاد بكسوفٍ أو خسوف، وقال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تبارك وتعالى، لا ينكسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة". وهي آياتُ تذكرةٍ بأنه مُسَيِّر الكونِ والوجود -جلّ جلاله- لا يستطيع غيرُه أن يُحدِث خسوفًا ولا كسوفًا، ولا يستطيع غيره أن يمنع خسوفًا أو كسوفًا، بل هو المتصرّف في كونه وخلقه بما شاء، لا إله إلا هو العليّ القدير جلّ جلاله وتعالى في علاه. وجاء عن ابن عباس أنه صلى بأهل البصرة في خسوف القمر ركعتين وقال: "إنما صليت لأني رأيت رسول الله ﷺ يصلي".
فأورد لنا حديث عائشة أنها قالت: "خَسَفَتِ الشَّمْسُ"، وفيه استعمال خسوف في الشمس، وعلمنا أن ذلك هو الأصح عند أهل اللغة، أنه يُستعمل كلٌّ من الخسوف والكسوف لكلٍّ من الشمس أو القمر، فيُقال: كسفت الشمس وكسف القمر، ويُقال: خسفت الشمس وخسف القمر. كَسف بفتح الكاف، ومثله خَسف. كما قال: (فَإِذَا بَرِقَ ٱلۡبَصَرُ * وَخَسَفَ ٱلۡقَمَرُ) [القيامة:7-8].
أورد حديث عائشة -رضي الله تعالى عنها- أنها قالت: "خَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي عَهْدِه ﷺ، فَصَلَّى بِالَّنَاسِ". ففيه استحباب هذه الصلاة، وتأكّدها بصلاة النبي ﷺ لها، "فَقَاْمَ فَأَطَاْلَ" يعني: أطال القيام.
قالت: "فَأَطَاْلَ القِيَاْمَ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَاْلَ الرُّكُوْعَ"،
قالت: "ثُمَّ قَاْمَ" أي: رجع إلى القيام "فَأَطَاْلَ القِيَاْمَ"، فقرأ قيامًا ثانيًا في نفس الركعة، وفي هذا اختلاف صلاة الخسوف والكسوف عن بقية الصلوات، وهو كذلك عند جمهور أهل العلم.
"فَأَطَاْلَ القِيَامَ" وهذا القيام الثاني، قال الشافعية: فيُسنّ أن يقرأ فيه سورة آل عمران، أو مقدارها، وهو دون القيام الأول، فآلُ عمران أقصر من سورة البقرة. "ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَاْلَ رُكُوْعَهَا دُوْنَ الرُّكُوْعِ الْأوَّلِ"، ومن هنا قالوا: يُسنّ أن يسبح في هذا الركوع الثاني مقدار ثمانين آية. فهو دون المائة، في الأول: يسبح مقدار مائة آية، والثاني: ثمانين، فهو ركوعٌ دون الركوع الأول. "ثُمَّ رَفَعَ فَسَجَدَ"، ولم تذكر هنا السيدة عائشة إطالةً للسجود.
ثم قالوا: في قولها: "ثُمَّ فَعَلَ بِالرَّكْعَةِ الآخِرَةِ مِثْلَ ذَلِكَ"، قالوا: إنه يقوم إلى القيام الثالث وهو في الركعة الثانية، فيقرأ بمقدار سورة النساء، ثم يركع فيسبح بمقدار سبعين آية، فالذي حدّدوه فيه كله بمقدار مائة آية، ثمانين آية، سبعين آية في الركوع الثالث. ثم يقوم فيصلي فيقرأ الفاتحة وسورة المائدة، ثم يركع فيسبح مقدار خمسين آية، ثم يرفع فيقرأ ربنا لك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا، ويسجد فيسبًح بمقدار سبعين آية، ثم يجلس، ثم يسجد فيسبًح بمقدار خمسين آية، ثم يرفع ويسلم. فهذه أطول الكيفيات في صلاة الكسوف والخسوف، والتي ربما إذا عملها الإمام يُسلِّم منها فلا يجد المأمومين، إلا فيما ندر!
وهكذا، صلى بها بعض الأئمة في صلاة خسوف، وكان خلفه عدد كثير من المصلين المأمومين، ولم يزل يصلي حتى انتهى، فسلّم فإذا بواحد! قال: هاه! أين الناس؟ كانوا عدد كثير… قال له الرجل: أين الناس! انت إيش تصلح من صلاة هذه! أنا إنما موكّل أقفل المسجد وأطفي السُرُج وإلا لذهبت مثلهم ولا أحد بيبقى معك!! وهكذا… وقد صلى بها شيخنا الحبيب محمد الهدار في الرباط في البيضاء، ولكن ثبت أكثرُ الناسِ معه. فهذه الطريقة الطولى الأفضل.
والطريقة الثانية: أن تصلى بركوعين وسجودين من غير تطويل، وهل من ثالثة؟
"ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ" رجع ضوئها كما هو "فَخَطَبَ النَّاسَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ" ففيه سنّ الجماعة، وسنّ الخطبة بعدها، "ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ: لاَ يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ"، وفيه استعماله ﷺ لفظ الخسوف للاثنين "فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللَّهَ وَكَبِّرُوا وَتَصَدَّقُوا" ثُمَّ قَالَ: "يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَاللهِ مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرَ مِنَ اللَّهِ عزَّ وجَلَّ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ" فإنّ لله غيرة يغضب للفواحش، قال: "يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ، لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيراً". صلوات ربي وسلامه عليه، فهو أعلم الخلق بالخالق وعظمته وآياته وصفاته وأسمائه وأفعاله، جلّ جلاله.
فعلمنا قولهم عن صلاة الكسوف والخسوف، وأن صلاة كسوف الشمس آكد من صلاة خسوف القمر. ولا يزال يقرأ الفاتحة في كل قيام، وقيل: في القيام الأول، وفي الثاني يقتصر على سورة.
وهكذا سمعنا إطالة الركوع باتفاق، والخلافَ في إطالة السجود،
قال: الخطبة لصلاة الكسوف كالخطبة لصلاة الاستسقاء والعيدين والجمعة.
رزقنا الله كمال الإيمان واليقين، والتقوى والاستقامة، وأعاذنا من موجبات الندامة في الدنيا والبرزخ والآخرة، بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
20 ربيع الثاني 1442