الكبريت الأحمر - 8 | في معرفة الحال
الدرس الثامن للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الكبريت الأحمر و الأكسير الأكبر في معرفة أسرار السلوك إلى ملك الملوك ، للإمام الحبيب عبد الله بن أبي بكر العيدروس . ضمن دروس الدورة الصيفية الأولى بمعهد الرحمة بالأردن.
مساء الأحد 21 صفر 1446 هـ
نص الدرس المكتوب :
بسم الله الرحمن الرحيم
من كتاب الكبريت الأحمر والإكسير الأكبر وبسندكم المتصل إلى صاحب الكتاب الحبيب عبد الله بن أبي بكر العيدروس رضي الله تعالى عنه وعنكم ونفعنا بعلومه وعلومكم وعلوم سائر الصالحين في الدارين آمين إلى أن قال:
فصلٌ
فِي مَعْرِفَةِ الحَال
الحالّ -بتشديد اللام-: ما نزل على القلب؛ من طَرَبِ، أو قبض، أو بَسْطِ، أو شَوْقِ، أو ذَوْقٍ، أو غيرها.
قال العارفون: "الحال كالبرق"، يعنى: لا يبقى الحال، بل يزول عن قريب، فإن بقي مع الرجل.. فهو حديث نفس، وليس بحال.
- فمن الأحوال: القبض والبسط.
وهما يشبهان الخوف والرجاءَ، لكنَّ الخوف والرجاء مكاسب،
أعني: من المقامات، والقبض والبسط مواهب، إلا أنَّ الخوف والرجاء للعوام والخواص، والقبض والبسط للخواص خاصة؛ لأن القبض والبسط من الأحوال، وهي: مواهب، وليست بمكاسب، وأيضا القبضُ والبسطُ يكونان في الزمان الحاضر.
وحقيقةُ القبضِ: ورود شيء في قلبه من الله تعالى، فيه إشارة إلى تقصير، واستحقاق تأديب على التقصير.
والبسطِ: ورود شي في قلبه من الله تعالى؛ فيه إشارة إلى لطف، وترحيب، وتكريم.
وقد يكون القبض والبسط، ولا يدري صاحبهما سببهما.
وطريق صاحب القبض الذي لا يدري سببه التسليم؛ حتى يمضي ذلك الوقت.
- ومن الأحوال: الهيبة والأنس.
فالهيبة: تشبه القبض، إلا انها أشد من القبض؛ يكون الوارد من الله على القلب أشدَّ تهديدا، وعتابا.
والأنس يشبه البسط، إلا أنه أقوى من البسط؛ يكون الوارد من الله أكثر ترحيبا، ولطفا.
الحمد لله، يحدثنا الشيخ -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- عن الشؤون التي تَردُ على القلوب، وما يكون من الأحوال الشريفة التي تنتاب قلب المؤمن المتنبّه المتوجّه إلى الله -تبارك وتعالى-، ينبغي أن يتبيّن معانيها، ويقوم بحق الأدب فيها، وما يُرضي به مُورِدُها عليه ومنزِلها به وهو الله تعالى.
فصل: فِي مَعْرِفَةِ الحَالّ
الحالّ -بتشديد اللام- الذي يحلّ على القلب، قال-: "ما نزل على القلب؛ من طَرَبِ، أو قبض، أو بَسْطِ، أو شَوْقِ، أو ذَوْقٍ.." -أو حزن، أو فرح، أو وِجْهة، أو معرفة، أو انجلاء لمعنى، أو حضور مع الحق، أو غَيْبَة عن السوى إلى غير ذلك من الواردات على القلب".
وهذه الأحوال الشريفة تبدأ كالبرق الخاطف، تمرّ على القلب مروراً يتذوقها صاحبها ويطلبها، ويتطلّبها بواسطة ما يكسب من المقامات، ويتشوّق إليها حتى ترسخ أكثر؛ فترسخ أكثر؛ فترسخ أكثر؛ وأما ما ينازل بعض القلوب دفعة واحدة ويستمر، فهذا أكثره راجع إلى حديث النفس، يُحدّث نفسه بمعنى ليس بموجود فيه، ويظن أنه موجود ويرى أنه مستمر عنده؛ إنما الحال الصحيح الوارد في بداية الأمر يكون كالبرق، وسيأتي معنا في ما يعبّرون به باللّوامع والطّوالع والبوارق، البوارق: فبدايته مثل البرق، ثم يكون من الطوالع، ثم يكون من اللوامع.
يقول: "يعنى: لا يبقى الحال، بل يزول عن قريب".
فيتذوقه ويعرف قدره ويتشوق إليه؛ حتى يَرِدْ إليه مرةً أخرى وثالثة وهكذا، إلى أن يرسخ.
قال: "فإن بقي مع الرجل.. فهو حديث نفس، وليس بحال".
وحديث النفس: هو التخيّل تغنمه أو تستغله النفس والشيطان للإنسان، ويقول: هذا المقام الثاني، وهذا الحال الفلاني للصالحين، وليس معه من حقيقته شيء إلا التخيّل، فبذلك يغنم هذا، وأنك أنت من أهل كذا وفي مقام كذا، إلى غير ذلك مما يوردونه عليه، وأهل السير الصحيح تغلبهم العبودية للرّحمن -جلّ جلاله-؛ فلا يحصل لهم الاهتزاز ولا الركون إلى الواردات والأحوال، ولا ما يترّقَون فيه من مقام؛ طووا مقامات بلا إقامة، كلّ ما جاءه شيء يطلب الذي فوقه، ويرى نقصه، وما يركن ويقعد إلا ناقص وضعيف فهم وإدراك، وضعيف سير إلى الحق -تبارك وتعالى-.
- فمن الأحوال: القبض والبسط.
قال: "فمن الأحوال: -ما يعبرون عنه ب- القبض والبسط. وهما يشبهان الخوف والرجاءَ، لكنَّ الخوف والرجاء -من المقامات- مكاسب".
التي تكتسب بتأمل ما ورد عن الله ورسوله في ثواب الطائعين والمقبلين، وعظيم الإحسان من حضرة المنّان - جلّ جلاله-، وعفوه ومجاوزته، ومطالعة ما ورد من أليم عقابه وعذابه، وأخذه وانتقامه، فبهذا يُكتسب الخوف والرجاء، لكن القبض والبسط ما يقدر يكتسبه؛ لأنه حال موهوب يطرأ عليه، حتى هذا قال أنه يطرأ عليه، ما يدري ما سببه؛ يعني:ما يدري ما سببه؛ وقد تنطوي الطريق في السير إلى الله في القبض ما لا تنطوي في البسط، وهو القابض الباسط من أسمائه -سبحانه وتعالى-، فهو المرجو وهو المخُوف، وهو القابض الباسط -جلّ جلاله وتعالى في علاه-.
قال: " والقبض والبسط مواهب، إلا أنَّ الخوف والرجاء -يشترك فيه- للعوام والخواص".
وإن كان خوف الخواص أقوى من خوف العوام، ورجاء الخواص أقوى من رجاء العوام، ولكن كلهم يشتركون في اسم الرجاء وفي اسم الخوف، أما القبض والبسط لا، هذا للموهوبين.
"والقبض والبسط للخواص خاصة".
يقول: نقل عن ابن عجيبة في التعليق: "أن القبض والبسط يتعاقبان على السالك تعاقب الليل والنهار؛ فالعوام إذا غلب عليهم الخوف انقبضوا، وإذا غلب عليهم الرجاء انبسطوا، والخواص إذا تجلّى لهم بوصف الجمال انبسطوا، وإذا تجلّى لهم بوصف الجلال انقبضوا، وخواص الخواص استوى عندهم الجلال والجمال، فلا تُغيرّهم واردات الأحوال لأنهم بالله ولله ومع الله وفي الله، لا لشيءٍ سواه، لا إله إلا الله".
نقل عن السهروردي يقول: "اعلم أن القبض والبسط لهما موسمٌ معلوم، ووقت محتوم، لا يكونان قبله، ولا يكونان بعده، موسمهما في أوائل حال المحبة الخاصة، لا في نهايتها، ولا قبل حال المحبة الخاصة أيضًا؛ فمن هو في سفلى المحبة العامة الثابتة بحكم الإيمان لا يكون له قبض ولا بسط، -عنده خوف ورَجاء- وإنما يكون له خوف ورَجاء، وقد يجد شبه حال القبض، شبه حال البسط، فيظن ذلك قبضا وبسطا، وليس هو ذلك، إنما هو همٌ يعتريه" وينازله فيفسّره بأن: هذا قبض هذا بسط، وليس مما ينازل أهل الله في شيء؛ فإذا ابتدأ في تحصیل حال المحبة الخاصة، تُنازله أحوال القبض والبسط لا المحبة العامة، ما دام في المحبة العامة، أو في سبل المحبة العامة الثابتة بحكم الإيمان، هذا ليس من أهل القبض والبسط، هذا منها الخوف والرجاء، فإذا قويت المحبة ورسخت في القلب، فابتدأ في معاني المحبة الخاصة ينازله القبض والبسط، لا إله إلا الله.
قال: "لأن القبض والبسط من الأحوال، وهي: مواهب، وليست بمكاسب، وأيضا القبضُ والبسطُ يكونان في الزمان الحاضر".
" ما هم عليه من الحال في الزمان الحاضر؛ إن كان الرجل في السرور فوقته السرور، وإن كان في الحزن فوقته الحزن" كما تقدّم معنا؛ لا إله إلا الله.
فمن أشرف على التحقق بالمحبة الخالصة، ينتابه ويتعاقب عليه القبض والبسط، وعليه الأدب في الحالين، فإذا انبسط عليه أن لا يجاوز الحد، ولا يعربد ويتيه، وإذا جاءه القبض فعليه كذلك أن يستسلم، ويخضع، وينقاد، ولا يُضعِف رجاءه وما عنده، وينتظر مِنَنْ الله -سبحانه وتعالى- وتجلّيه بالجمال.
قال: "وحقيقةُ القبضِ: ورود شيء في قلبه من الله تعالى، فيه إشارة إلى تقصير، واستحقاق تأديب على التقصير"
فهو يحمل معنى العتاب، وعند ورود معنى العتاب هذا يحصل القبض عند صاحبه.
"والبسطِ: ورود شي في قلبه من الله تعالى".
فالقلب صار مَجْلى ومحل تجلّي خاص لما سبق من تطهيره وتنقيته، وتزيينه بالحضور، الحضور المستمر الدائم مع الله تعالى، فيصير محل تجلّي لله -تبارك وتعالى-؛ فَيَرِد عليه واردات، منها ما يكون فيه الإشارة إلى التقصير، وما حصل منه مما لا يليق به وبحاله مع الله تعالى، وأنه يستحق بذلك تأديباً على التقصير، فينقبض متذللاً خاضعاً خاشعاً مُسْتسلماً.
قال: "والبسطِ: ورود شي في قلبه من الله تعالى؛ فيه إشارة إلى لطف" -وقبول، ورضا، عَبر عنه ب- "ترحيب، وتكريم" -بعجائب واسع الجود ولطائف الامتنان-".
فإذا ورد هذا على القلب انبسط صاحبه.
قال: "وقد يكون القبض والبسط، ولا يدري صاحبهما سببهما" -فعليه أن يستسلم- "وطريق صاحب القبض الذي لا يدري سببه التسليم؛ حتى يمضي ذلك الوقت" -الذي فيه قبضه، فينكشف عنه ما كان فيه-.
فهذه من الأحوال التي تُنازل الخواص: القبض والبسط؛ -
- وإن حمل القبض معنى الخوف، فهو أيضًا أقوى وأعظم.
- وإن حمل البسط معنى الرجاء، ولكنه أقوى وأعلى، لا إله إلا الله.
- ومن الأحوال: الهيبة والأنس.
ثم ذكر "من الأحوال" -التي يتحدث عنها- "الهيبة والأنس"، لا إله إلا الله، وقد أخبرنا فيما مضى أن مقام الصبر يحصل به الأنس، وأن مقام الزهد يحصل به الهيبة.
قال: "فالهيبة: تشبه القبض، إلا أنها أشد من القبض؛ يكون الوارد من الله على القلب أشدَّ تهديدا، وعتابا. والأنس يشبه البسط".
(وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ) [الزمر:65-66]، وارد من الله تعالى على قلوب أصفى أصفيائه من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
قال: "والأنس يشبه البسط، إلا أنه أقوى من البسط".
فالخواصّ يَرِد عليهم القبض والبسط، ويَرِد عليهم فوق القبض هيبة، ويَرِد عليهم فوق البسط أُنس.
أنست أنس الأنس *** في مهرجان القدس
لا إله إلا الله.
قال: "إلا أنه أقوى من البسط؛ يكون الوارد من الله أكثر ترحيبا، ولطفا".
قال سيدنا علي زين العابدين في دعائه: اللهم آنس وحشتنا بطاعتك، يا مؤنِس الفرد الحيران في مهامه القفار.
وكان في مَشْيه سيدنا أبي الحسن الشاذلي -عليه رحمة الله-، فدخل ليلة إلى برية وأدركه المبيت، قام بات فيها، فيها سباع ووحوش كثير، قام يصلي وجاءت السباع حواليه تنظر صلاته، تقترب منه وهو في غاية الأنس، حتى أكمل صلاته ودعاءه، وجاء الفجر وانصرفت عنه، وقام إلى صلاته يبحث مع من يصلي معه؛ في الليلة الثانية قام في الليل وإذا بحشرة، وحسّ بوحشة، البارح سباع ووحوش وهو في أُنس، وهذا حشرة بسيطة!، فعجِب، فلما عجِب نُودي: دخلتَ البارحة البرية به، فآنسك، وقمتَ اليوم بنفسك، فاستوحشتَ، أدنى شيء وحشك، لا إله إلا الله عجائب!
فيحصل هذا الأنس، ويطيب لأهله، ويكون فيه عجائب من التّقريب والترحيب، (رحبوا بي وقدموني إمام) قال الحبيب أحمد المحضار في بعض تجلياته، وهكذا.
ومظهر ذلك كان ﷺ كلما طرق جبريل له السماء، ناداه، من يقول: جبريل، من معك؟ يقول: "محمد". يقول: قد أُرسل إليه؟ -يعني الليلة التي أُرسل إلينا فيها هذا الليلة-، يقول له: نعم، "مرحباً به فنعم المجيء جاء". يقولون له: " مرحباً به فنعم المجيء جاء"؛ وما من رسول مرّ عليه إلا بشّره بما عرفه من حقه عند الله، وعظيم منزلته؛ قال: قابله أهلها بالتكريم والترحيب والتأهيل، من الشرف الذي اختصّ الله به شرف رسوله ومعراجه إلى حضرة الله -البر الوصول-، وظهور آيات الله الباهرة في ذاك المعراج، وتشرُّف السماوات ومن فوقهنّ بإشراق نور ذلك السّراج، فقد عرج النبي ﷺ ومعه الأمين جبريل إلى حضرة الملك الجليل مع الترحيب والتهليل؛ فما من سماء ولجها إلا وبادرها أهله بالتكريم والترحيب والتأهيل، وكل رسول مرّ عليه بشّره بما عرفه من قدره عند الله، وشريف منزلته لديه، وهكذا حتى جاوز السبع الطباق، فوصل إلى حضرة الإطلاق؛ الآن ماعَاد الترحيب على مستوى ملائكة، والأنبياء، ولا عاد شيء، فتجاوز الكونين، وانفصل عن العالمين، فوصل إلى قاب قوسين، نـازلته من الحضرة الإلهية غوامر النفحات القربية.
ولهذا يقول سيدنا الحداد:
له آية المعراج وهي عظيمة ﷺ.
قال ربي: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ * فَكَانَ قَابَ قَوۡسَیۡنِ أَوۡ أَدۡنَىٰ * فَأَوۡحَىٰۤ إِلَىٰ عَبۡدِهِۦ مَاۤ أَوۡحَىٰ )؛ أبهمه على الخلق؟! لا ما أوحى؟ ايش أوحيت؟ قال: الذي أوحينا إليه، (فَأَوۡحَىٰۤ إِلَىٰ عَبۡدِهِۦ مَاۤ أَوۡحَىٰ )، فهو لأفكار العالمين مُبهم، (فَأَوۡحَىٰۤ إِلَىٰ عَبۡدِهِۦ مَاۤ أَوۡحَىٰ * مَا كَذَبَ ٱلۡفُؤَادُ مَا رَأَىٰۤ) فنعم الفؤاد، ونعم ما يرى، (أَفَتُمَـٰرُونَهُۥ عَلَىٰ مَا یَرَىٰ) [النجم: 8-11]. يارب صلّ عليه! وحنِّن روحه علينا.
وقال -رضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:
- ومن الأحوال التواجد والوجد.
"فالتواجد: إظهار الوجد على نفسه، وطلب حصول الوجد في نفسه، كما قال رسول الله ﷺ: "ابْكُوا، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا"
والوجد: ما يرد على قلبك من طرب من غير تكلف.
والوجد: من ثمرة الأوراد.
ومن كانت أوراده في الطاعات أكثر يكون وجده أكثر.
- ومن الأحوال الوجود.
والوجود عبارة عن ثبوت سلطان الحقيقة في قلب الرجل، وهذا لا يكون إلا بعد زوال الصفات البشرية من الغفلة والشهوة وحبّ شيء سوى الله تعالى يناقض الحقيقة، وبمقدار الوجود يحصل الخمود.
وصاحب الوجود له صحوٌ، ومحوٌ؛ فحال صحوه بقاؤه بالحق، وحال محوه فناؤه في الحق؛ هاتان الحالتان أبدا متعاقبتان عليه، فإذا غلب عليه الصحوُ.. يصول، ويجول، وبه يقول.
قال ﷺ فيما أخبر عن الحق -سبحانه وتعالى-: «فَبِيْ يَسْمَعُ، وَبِي يُبْصِرُ"
- ومن الأحوال: الجمعُ، والتفرقة، وجمع الجمع، والفرقُ الثاني.
* أما الجمع فهو: ما يكون من قِبل الله تعالى؛ من إظهار فهم، ومعنى في القلب، وابتداء لطف، وتوفيق.
* والفرقُ: ما يكون من قِبَل العبدِ؛ من أداء العبودية، والسؤال.
ولابد للعبد من الفرق، والجمع؛ فإن من لا تفرقة له.. لا عبودية له، ومن لا جَمْعَ له.. لا معرفة له.
وقوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) [الفاتحة:5] .. إشارة إلى الفرق، وقوله (وَايَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة: 5].. إشارةً إلى الجمع.
وإذا خاطب العبد الحقَّ بلسان نجواه؛ إما سائلاً، أو داعيًا، أو شاكرا ، أو متضرعًا.. قام في محلّ التفرقة، وإذا أصغى بسرِّه إلى ما يناجيه به ربُّه، ويجيبه فيما يخاطبه؛ بأمر أو نهي فهو في مقام الجمع.
وأما جمع الجمع فهو: الاستهلاك بالكلية، يعني: يغيب عمَّا سوى الله تعالى.
*ومقام جمع الجمع أن يرى العبادة لله تعالى، والجمع شهود الأغيار بالله؛ فإنه يَرَى العبادة بتوفيق الله.
وأما الفرق الثاني فهو: أن يُرَدَّ الرجلُ من حالِ المحوِ إلى حالِ الصحو في وقت أداء الفريضة؛ ليؤدي الفريضة، وهذا لطف الله تعالی.
لا إله إلا الله
- ومن الأحوال التواجد والوجد.
قال: "التواجد والوجد والوجود" ثلاثة.
فأولها التواجد: إظهار الوجد على نفسه، وطلب حصول الوجد".
فما يظهره وما يسعى به لتحصيل الوجد كما يفعل بعضهم من طلب الحضور، وبعضهم قد يتكلّف ذلك ليتوصل إليه بشيء من الحركة وغيرها مما يختار بعض الأئمة، وكثير من الأئمة أهل الطرق والتصوف يختارون السكون وعدم الحركة والثبات، حتى يأتي الوجد من نفسه بذاته بلا تكلّف؛ وبعضهم يختار شيء من الحركة إما بالرأس؛ وإما بالكتفين والجوانب يمينًا أو شمالًا، أو أمامًا أو خلفًا، أو قيامًا أو قعودًا وما إلى ذلك تطلّبا للوجد، فهذا تواجد وليس بوجد.
"كما قال رسول الله ﷺ: "ابْكُوا، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا".
اطلبوا البكاء بالمحاولة والتأمل بما يثير البكاء، هذا تباكي وليس ببكاء.
الثاني:
قال: "والوجد: ما يرد على قلبك من طرب من غير تكلف".
فيمتلئ به باطنك أُنْسًا؛ واستشعار فضل، وشعُور بمزيد، وإقرار واعتراف بمِنَنْ وأنّها أوسع من إحاطتك، وأوسع من كسبك، وأنها لا يساوي جِدُّك واجتهادك وكسبك فيها ذرة منها.
"والوجد: من ثمرة الأوراد".
كما يقال: الوارد ثمرة الوِرد، من لا وِرد له لا وارد له، فالأوراد كالأجسام، والواردات منها: الوجد، كالروح، وكما أنه ما ينزل روح من السماء إلى الأرض حتى يتكون جسد، فيتكون جسد في بطن الأم فتنزل الروح، فكذلك إذا قامت الطاعات والعبادات والأوراد، وواظب عليها -قام الجسد فيجيء الوارد-، فالواردات من حيث الأوراد، فمن لا وِرد له فلا وارد له.
قال: "ومن كانت أوراده في الطاعات أكثر يكون وجده أكثر".
لأنها نتائج عن الطاعة والعبادة، يؤانسهم ربهم "آنس وحشتنا بطاعتك"، في إشارة إلى أن أنسهم كله ووجدهم بما يُتفضل به عليهم، لأن الذات القدسية الربانية لا مناسبة بينها وبين شيء من الكائنات قط، وإنما يحصل أُنس الخلائق بما يواصلهم به الخالق -جل جلاله وتعالى في علاه-.
قال: "والوجد: من ثمرة الأوراد. ومن كانت أوراده في الطاعات أكثر يكون وجده أكثر".
وهكذا تتسع المواجيد عند أهل الله -سبحانه وتعالى-، فيجدون في كل ارتقاء من الوجد ما لم يكن قبل ذلك، وهكذا.
وفوق ذلك الوجود؛ عندنا تواجد ووجد ووجود.
الثالث:
الوجود: ذوقك لأصلك المعدوم، أصلك عدم، وغلبة سلطان الموجود الحق بذاته -جل جلاله- واجب الوجود، وهو الله، فيَثبت سلطان الحقيقة في قلب الرجل، فلا يحس بوجوده، ولا بوجود كل موجود بغير ذاته، وهو كل ما سوى الله؛ كل ما سوى الله موجود لكن ما هو بذاته، ما شيء غير الله موجود بذاته إلا بإيجاد الله تعالى؛ حينئذٍ إذا ذاق هذا فشهده كان حاله الوجود، فكأنه يطالع الوجود الذاتي للرّحمن عند غيب وهمية الوجود للسّواء؛ وما كان موجودًا بإيجاد، وقابلاً للإبادة والإزالة والإعدام، لا وجود له في الحقيقة؛ فإذا غلب سلطان الحقيقة صار حاله الوجود، أي: مستغرقًا بمطالعة الوجود الذاتي، وجود واجب الوجود، وهو الله المعبود ولا معبود إلا هو، والمقصود ولا مقصود لمن صدق في عبوديته إلا هو، والموجود ولا موجود بذاته إلا هو؛ فحينئذٍ يتهيأ لمراتب الشهود، فلا يكون له مشهود إلا هو، هذا صاحب الوجود.
قال: "وهذا لا يكون إلا بعد زوال الصفات البشرية من الغفلة والشهوة وحبّ أي شيء سوى الله تعالى".
إذا زالت الغفلات، وسلطان الشهوات، وثبت حب الله تعالى، "وحبّ أي شيء سوى الله تعالى" ينـاقض الحقيقة.
قال: "وبمقدار الوجود يحصل الخمود".
أي: تلاشي شأن هذا العبد واضمحلاله حتى لا يشهد له ولا لغيره من الكائنات مع الله تعالى وجود، إذا أشرق نور الحق تعالى اضمحلَّت الكائنات.
قال سيدنا الشيخ أبو بكر بن سالم: اضمحلَّت الكائنات إذا ذُكر المُكوّن. إذا ذُكر المُكوّن -جل جلاله وتعالى في علاه، الله الله الله الله.
وهذا يُقرَّب لأفهام الناس بأنهم في العالم الخلقي، إذا غلب على أفكارهم واهتماماتهم وتوجّههم شيء ينسون ما سواه؛ تجده إذا تعلّق قلبه بحال ابن من أبنائه، وطوَّل لعبه وما يدري به فين، بيَّت طول الليل ما يذكر إلا الولد هذا، ولا يعرف إلا الولد؛ وإذا سِلي لحاله، تقول له: من كلّمك؟ من دخل عندك؟ من اتصل بك؟ ما يدري، مأخوذ فكره بالولد أين الولد؟ كيف الولد؟؛ وكذلك من أُخِذ فكره حتى بلعب بعضهم، وخلاص يصير مع اللعب هذا حتى وهو يأكل وهو يشرب فكره في اللعب، أحيانًا حتى تكلمه ما يدري إيش قلت، هاه أيه قلت؟ كان مأخوذ يفكر في اللعب؛ فإذا هذا في الكائنات المخلوقة القصيرة، كيف لو انفتح لك باب للتعلّق بالمكوّن الواجب الوجود، الموجود في ذاته، عاد يبقى في مكان لسواه؟! جل جلاله لا إله إلا الله.
فيقول: "هذا الوجود".
قال: "وصاحب الوجود له صحوٌ، ومحوٌ؛ - وهو يتقلب بينهما- فحال صحوه بقاؤه بالحق، محوه فناؤه في الحق؛ فهاتان الحالتان أبدًا متعاقبتان عليه، فإذا غلب عليه الصحوُ.. يصول، ويجول، وبه يقول".
إذا غلب عليه المحو ولا حد هو، يقولون له أنت مَن؟ يقول من أنا؟ من أنا؟ يقولوا له أنت فلان؟ يقول؟ فلان مَ، هو ذا فلان؟ ايش هو ذا فلان؟ فلان ايش هو هذا؟ فلان؟ إيه من فلان ولا فلان؟ ليه فلان!
مأخوذ بالحق.. فلان أي فلان؟ من فلان؟ أنتَ فلان! أنا فلان؟ من فلان؟ من هو ذا فلان؟!يعني: هذا فلان لا له وجود بذاته ولا استقلال بشأنه.. خلاص إيش تبغى منه؟ خلاص ما عاد هو موجود! ما عاد تفكر فيه! هذا كمَن يستهين بشيء حقير عنده وتجيبه تشغله به! وتقول ايش معك أنت؟! ايش هو ذا؟ اسكت ساكت، خلاص ما له وجود هذا! هو موجود.. نعم، لكن بشهوده: لا اسكت، عادك بتهددنا به؟ أصلا خرج من بالي وخرج من عقلي.. ما له قدر عندي! وهذا ما عاد بقي له في الشهود إلا واجب الوجود، حتى ينكر نفسه هو نفسه، من أنا؟ إيش أنا؟ لا أنا ولا غيري.. إيش هو؟ ما هو إلا هو، وبه يرى وجود الكائنات؛ إذا أراد اللهإابقاءه.
قال: "...فحال صحوه بقاؤه بالحق، محوه فناؤه في الحق؛ فهاتان الحالتان أبدا متعاقبتان عليه، فإذا غلب عليه الصحوُ.. يصول، ويجول، وبه يقول.
قال ﷺ فيما أخبر عن الحق -سبحانه وتعالى-: "فَبِيْ يَسْمَعُ، وَبِي يُبْصِرُ"".
يعني: إذا انتهى في المحبة إلى هذا المقام، وأحبه الإله ذو الجلال والإكرام؛ يصير لا سمع له إلا به، أي: بعنايته الخاصّة ورعايته ونورانية وجوده "فَبِيْ يَسْمَعُ، وَبِي يُبْصِرُ"، وبي ينطق، وبي يمشي، وبي يبطش، وفي اللفظ الآخر في رواية البخاري: "كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ"، فمن كان بالله تعالى يسمع.. تجي تقول له كيف سمعت ذا وكيف سمعت ذاك؟ إذا هو بالله يسمع بيسمع أي شيء، وإذا بالله يُبصِر كذلك، وإذا بالله "بي يمشي"، "ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها" وتجي تقول له كيف تنتقل من مكان لمكان بسهولة هكذا؟ قده يمشي بالله -تبارك وتعالى- لا إله إلا الله!
قال سيدنا آصف بن برخيا لسيدنا سليمان: (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ)، والعفريت قال: (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ ۖ)، يعني: أنت في مجلسك هذا تجلس إلى الظهر، قبل ما تقوم وتجي وقت الظهر، أنا بجيب العرش من مأرب في اليمن إلى فلسطين (قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ۚ )، قال: لا إله إلا أنت يا ذا الجلال والإكرام ائتِ به!، وإذا بالعرش قُدَّامه! (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي)، وأجراه الله كرامة على يد واحد من أتباعه، وهو النبي سليمان لكن أجراه على يد هذا، ولي من أولياء أمّة النبيّ سليمان، اسمه آصف بن برخيا (عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ)، فوقع على العرش عنده وقال: (قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) [النمل:39-40]؛ "بي يسمعُ، وبي يُبصرُ".
قال: "ومن الأحوال: الجمعُ، والتفرقة، وجمع الجمع، والفرقُ الثاني".
"أما الجمع فهو: ما يكون من قِبل الله تعالى؛ من إظهار فهم، ومعنى في القلب، وابتداء لطف، وتوفيق" -يأخذ كلية الإنسان، كلية المُتجلَّى عليه هذا-.
"والفرقُ: ما يكون من قِبَل العبدِ؛ من أداء العبودية،-والطلب- والسؤال".-والإحسان في الأعمال، والقيام بها؛ تَفْرِقَة-.
"ولابد للعبد من الفرق، والجمع؛ فإن من لا تفرقة له.. لا عبودية له، ومن لا جَمْعَ له.. لا معرفة له".
فلا تَصِحَّ العبودية إلا بـ: وجود التفرقة، وإقامة العبادة، وإحسانها على ما شَرَعَ الحق تعالى وأحب؛ "إنَّ اللهَ يحِبُّ إذا عمِلَ أحدُكم عملًا أنْ يُتقِنَه"، (وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[البقرة:195]. فهذا في التفرقة.
"فإن من لا تفرقة له.. لا عبودية له".
وإذا كان له تفرقة وعبودية؛ فإن لم يحصل له الجَمْع؛ فلم يُدرِك مِن المعرفة الخاصّة شيء.
ولهذا يقول: " ومن لا جَمْعَ له.. لا معرفة له."
و"من لا تفرقة له.. لا عبودية له،".
مَن لا له عبودية ما لهُ قُرب، ولا لهُ ولاية، ولا لهُ مكانة عند الله تعالى؛ حتى يتحقّق بالعبودية.
ومن له عبودية يكون له التفرقة؛ أيّ: تقَرُّب، وإحسان، وإتقان للأعمال والعبادة؛ ليُرضِي الربّ تعالى.
- (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ )[طه:84]، هذه تفرقة.
- (فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ)[الأعراف:143]. هذا جَمْع، هذا ما عاد هو تَفْرِقَة ذا الحين، خلاص جمْع راح.
قال: "من لا تفرقة له.. لا عبودية له، ومن لا جَمْعَ له.. لا معرفة له".
فإذا له معرفة بالله خاصّة؛ يحصل له الجَمْع، وهو أن يُؤخَذ عن نفسه وعن ما سواه. يقول سيدنا الحداد:
لِلَهِ بارِقَةٌ لِلقَلبِ قَد لَمَعَتْ *** مِن عالَمِ الأَمرِ لا مِنْ عالَمِ الصُّوَرِ
أَنْسَتْكَ إِيَّاكَ وَالأَكوانَ أَجمَعَها *** وَأَوقَفَتْكَ عَلى المَطلوبِ والوَطَرِ
سمعت.. هكذا يقول سيدنا الحداد
(أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ)[الأعراف:54]. عالم الصور والأشكال والأجسام.. هذا خَلْق، وما خرج عن إدراك الحواسّ الخمس والتصوّر والتشكُّل..أمر، (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي )[الإسراء:85].
لِلَهِ بارِقَةٌ لِلقَلبِ قَد لَمَعَتْ *** مِن عالَمِ الأَمرِ لا مِنْ عالَمِ الصُّوَرِ
أَنْسَتْكَ إِيَّاكَ وَالأَكوانَ أَجمَعَها *** وَأَوقَفَتْكَ عَلى المَطلوبِ والوَطَرِ
هَذا الحَديثُ ومَا يَخفى عَلى فَطِنٍ *** أنِّي أَرَدْتُ بِهِ التَّنْبيهَ فَاعْتبَرِ
وأخذ يخاطب روح الإنسان.. روحه الذي وُهِب لكلّ واحد مِنَّا، الله وهبه هذه الرّوح الكريمة، يقول:
يا أَيُّها الجَوْهَرُ المحصورُ في صَدَفٍ *** …
(في صدَفٍ): في الجسم، كان روحك ما هو محصور في الجسم؛ كان ماشاء الله مُطلق في العالم الأعلى في السماء، عن يمينه آدم وعن يساره في السماء، ويشوف الملائكة، ويشاهد الجنة والنار، كان قبل مجيئه إلى الأرض، بعدين أُخرِج من السماء وحُبِس في الصَّدَف -القفص- أي: الجسد حَقَّك الذي كُوِّن في بطن أمك دخل فيه.
قال:
يا أَيُّها الجَوْهَرُ المحصورُ في صَدَفٍ *** مُخْلَولَقٍ غَرَضِ التَّغييرِ والكَدَرِ
مُثَبَّطٍ في حَضيضِ الحَظِّ هِمَّتُهُ *** في لِذَّةِ البَطنِ والمَنكوحِ والنَّظَرِ
تَقودُهُ شَهَواتٌ فيهِ جامِحَةٌ *** حتّى تَزُجَّ بِهِ في لُجَّةِ الخَطَرِ
يا أَيُّها الروحُ هَلْ تَرضى مُجاوَرَةً *** على الدَّوامِ لِهَذا المُظلِمِ الكَدِرِ
فَأَينَ كُنتَ وَلا جِسمٌ تُساكِنُهُ *** ………
وين كنت؟ أيُّها الروح قبل ما تُحبَس في الجسم هذا.. وين كنت؟
فَأَينَ كُنتَ وَلا جِسمٌ تُساكِنُهُ *** أَلَسْتَ في حضَرَاتِ القُدْسِ فَادَّكِرِ
تَأوي مَعَ المَلَأِ الأَعلى وَتَكرَعُ مِن *** حِياضِ أُنسٍ كَما تَجْنِي مِنَ الثَمَرِ
تأْتِي إلَيْكَ نَسيمُ القُرْبِ مُهْدِيَةً *** عَرْفَ الجَمالِ كَعَرْفِ المَنْدَلِ العَطِرِ
حتّى جُعِلْتَ بِأَمرِ اللهِ في قَفَصٍ *** لِيَبْتَليكَ …
(خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ ) [الملك:2].
…… *** لِيَبْتَليكَ فَكُن مِن خَيرِ مُختَبَرِ
فحَينَ أَبْصَرْتَ هذا الجِسْمَ قَد بَرَزَتْ *** بِهِ العَجائِبُ مِن بادٍ ومُسْتَتِرِ
أَنسَتْكَ بَهْجَتُهُ ما كُنتَ تَشهَدُهُ *** مِن قُدْسِ رَبِّكَ فَاعرِفْ ضَيْعَةَ العُمُرِ
رَضيتَ بِالفِكْرِ عَن كَشفٍ وَأَيْنَكَ مِنْ *** جَلِيَّةِ الحَقِّ إِن أَخلَدْتَ لِلْفِكَرِ
لا تَقْنَعَنَّ بِدُونِ العَيْنِ مَنزِلَةً *** فَالخَبُّ مَن يَكتَفي بِالظِلِّ وَالأَثَرِ
وَعُدْ هُدِيتَ فَقَدْ نُودِيتَ مُطَّرِحًا *** هذا الوُجُودَ وَما فيهِ مِنَ الغِيَرِ
وَاسْلُكْ سَبِيلاً إِلى الرَّحْمَنِ قَيِّمَةً *** بِها أَتَاكَ إمَامُ البَدْوِ وَالحَضَرِ
مَشْرُوحَةً في كِتابِ اللهِ واضِحَةً *** فَسِرْ عَلَيْهَا وَكُن بِالصِّدقِ مُتَّزِرِ
وَبِالرِّياضَةِ مِن صَمْتٍ وَمَخْمَصَةٍ *** مَعَ التَّخلِّي عَنِ الأَضْدَادِ وَالسَّهَر
هذولا كان أربعة في الرياضة عند أهل الأرواح:
- مِن صَمْتٍ: قلة الكلام.
- وَمَخْمَصَةٍ: قلة الطعام.
- مَعَ التَّخلِّي عَنِ الأَضْدَادِ: اعتزال الأنام.
- وَالسَّهَرِ: قِلَّة المنام.
وَبِالرِّياضَةِ مِن صَمْتٍ وَمَخْمَصَةٍ *** مَعَ التَّخلِّي عَنِ الأَضْدَادِ وَالسَّهَر
وكذلك جمعها في بيت ثالث الإمام الحداد وقال في العينية:
والنفسَ رُِضْهَا باعتزالٍ دائمٍ *** والصَّمْتِ مَعْ سَهَرِ الدُّجَى وَتَجَوُّعِ
هي الأربعة نفسها.
وفي التائية يقول:
وكُنْ في طعَامٍ والمنَامِ وَخِلْطَةٍ *** ونُطْقٍ على حَدِّ اقْتِصَارٍ وَقِلَّةِ
أربعة هي ذه نفسها.
وقالوا:
بيت الولاية قَسَّمَت أركانه *** سادتنا فيه من الأبدال
مابين صَمْتٍ واعتزالٍ دائمٍ *** والجوع والسَّهْرِ النَّزِيه العالي
هذه الأربعة أركان الرياضة؛ رياضة الروح..
يقول:
وَبِالرِّياضَةِ مِن صَمْتٍ وَمَخْمَصَةٍ *** مَعَ التَّخلِّي عَنِ الأَضْدَادِ وَالسَّهَرِ
وَدُمْ على الذِّكْرِ لا تَسْأَمْهُ مُعتَقِداً *** أَنَّ التَوَجُّهَ رُوحُ القَصْدِ في السَّفَرِ
واعلَمْ.. واعلَمْ.. واعلَمْ..
واعْلَمْ بِأنَّكَ لا تُفْضِي إلى غَرَضٍ *** بدُونِ أن تَقتَفِي في الْوِرْدِ والصَّدَرِ
خَيْرَ النبيين … -والله ما انفتح اللهُ بابًا إلا بمتابعة سيد الأحباب-
خَيْرَ النبيينَ هَادِينَا ومُرْشِدَنَا *** بِمَا أَتَانَا مِنَ الآيَاتِ والسُّوَرِ
صَلَّى عَلَيْهِ إِلهي كُلَّمَا سَجَعَتْ *** حَمَامَةٌ فَوْقَ مَيَّاسٍ مِنَ الشَّجَرِ
يقول: "وقوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)[الفاتحة:5] .. إشارة إلى الفرق".
إقامة العبودية وإقامة العبادة بالإحسان؛ في التوجه إلى الرحمن.
"وقوله (وَإِیَّاكَ نَسْتَعِینُ) [الفاتحة:5].. إشارةً إلى الجَمْع".
(وَإِیَّاكَ نَسْتَعِینُ) [الفاتحة:5]؛ ما عاد بنفسنا نحن نصَلِّح شيء؛ من عندك أنت تُعِيننا، ونعبدك بك، كما نعبدك لك نعبدك بك، وهكذا ثم يرتقي إلى نعبدك فيك.
(وَإِیَّاكَ نَسْتَعِینُ) [الفاتحة:5].. إشارةً إلى الجَمْع".
قال: "وإذا خاطب العبد الحقَّ بلسان نجواه؛ إما سائلاً، أو داعيًا، أو شاكرا، أو متضرعًا.. قام في محلّ التفرقة".
هذا محل التَّفرِقَة (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء:90]، فينالهم الجمع بعد هذه التفرقة.
قال: "وإذا أصغى بسرِّه إلى ما يناجيه به ربُّه، ويجيبه فيما يخاطبه؛ بأمر أو نهي.. فهو في مقام الجمع".
إذا قام في الخطاب بلسان النجوى؛ سائل، داعي، شاكر، متضرع.. محل التفرقة، لكن "إذا أصغى بسِرُّه -إلى خطاب الحق- إلى ما يناجيه به ربُّه، ويجيبه فيما يخاطبه؛ بأمر أو نهي.. فهو في مقام الجمع" على الله تعالى.
وعلى منصِّ الجَمْعِ قِفْ مُتخَلِِّيًا *** عن كُلِّ فانٍ للتَّفَرُّقِ نافِ
قال: "وأما جمع الجمع.."-يعني: هذا الجمع شأن عظيم تغيب به عن الكائنات، قال عاد باقي- "جمع الجمع فهو: الاستهلاك بالكلية، يعني: يغيب عمَّا سوى الله تعالى -غَيْبَة-" قال:
………… *** وَذَلِــكَ أَنْ أَصِــيـرَ إِلَـى الْـحَـبِـيـبِ
وَأَشْـــهَــدَهُ مُــشَــاهَــدَةً وَأَفْــنَــى *** عَـنِ الْـكَـوْنِ الْـبَـعِـيـدِ مَـعَ الْـقَـرِيبِ
جمع الجمع.
قال: "ومقام جمع الجمع أن يرى العبادة لله تعالى -يعني: من الله تعالى- والجمع شهود الأغيار بالله؛ فإنه يَرَى العبادة بتوفيق الله".
هذا صاحب الجمع؛ لكن صاحب جمع الجمع يقول: هو مَن أنا هو حتى..؟! أنا أعبد؟ أنا أصْلِي عدم أوجدني، وأرسل لي رسل، وأنزل كتاب، وبيَّن لي العبادة، وخلقها لي، ومَكَّنِّي منها، ودخَّلني فيها، وأجراها علي! أنا فين أنا؟ ما لي وجود! ولهذا يتحقق المتوجهون إلى الله تعالى من الخواص بقول: أُصَلِّي لله؛ ولكن مَن أَرْفَع منهم من المتوسطين هو: يصلّي لله بالله، ما هو بنفسه؛ هذاك الأول فيه عنده شرك نفسه: أُصلّي (أنا) أُصلي لله؛ هذا الذي فوقه ما عاد شي (أنا)لا: أُصلّي لله بالله، ما هو بنفسي؛ وبعدين فوقه: الله خلقنا، وخلق الصلاة، ووفَّقنا لها، وأجراها علي، ونسبها إلي! وأيش الذي حصل؟ يقول: صلَّى الله لي، يعني: خلقني، وخلق الصلاة، ووفّقني لها، وأقامها في، وأجراها علي، ونسبها إلي ؛ فإيش أنا صِلْحَت؟!
لا إله إلا الله!
(هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّ)[آل عمران:163]؛ قال الله لحبيبه في أنَّ صفاته ما شيء منها قائم بنفسه ﷺ: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّه)[النحل:127]؛ وإذا (صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّه) صار من الله تعالى.
لا إله إلا الله!
قال: "وأما الفرق الثاني -هو من الجمع لكنه يُعَبَّر عنه بالفرق قال:- فهو: أن يُرَدَّ الرجلُ من حالِ المحوِ إلى حالِ الصحو في وقت أداء الفريضة؛ ليؤدي الفريضة، وهذا لطف الله تعالی".
هذا الفرق الثاني: يكون قيامه بالعبادات والطاعات؛ لكن على مشهد فاق ما كان قبل الجمع؛ فهو رجع إلى التفرقة لكنه بالفرْق الثاني، ما هو التفرقة الأولى هذه؛ الفرق الثاني لكن ماهو مثل الأول يقيم العبادات؛ هذا في مراتب: صلَّى الله لي، وصام الله لي، وحجَّ الله لي، يعني: خلق لي الصوم، وخلق لي رمَضان، ومكّنني منه، وأقدرني عليه، ووفقني له، ونسَبه إلي، وخلق البيت (أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ)[آل عمران:96]، وهداني إليه، وعرّفني عليه بواسطة نبيه، ويسَّر لي الوصول، ووصّلنا لعنده، وقدَّرْنَا على الطواف به.. سبحانه! هو عمل هكذا؛لا إله إلا الله! وهو يطوف وذا يطوف؛ ولكن فرق بين ذا وذا!
ولهذا قالت بعض العارفَات حصَّلت واحد طاف، قالت له: على ماذا طُفتَ؟ قال: على هذه البِنْيَة؛ قالت: أجسام تطوف على أجسام! جسم طاف على الجسم! ما هو هذا الطواف حقك هذا! إذا قد لك روح بتعرف سِرّ الكعبة وسِرّ الـ…، جعلها الله تعالى محط للشوق! ولما ألصق ﷺ صدره بالملتزم، ورفع رأسه ورفع يديه، ووضعهما على البيت ورفعها، ووضع الصدر، وبكى، ثم التفت ووجد سيدنا عمر قال له: "يا عمر ها هنا تسكب العَبَرات"!.
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وقال -رضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:
- ومن الأحوال: الفناء، والبقاء.
"فالفناء أن تفنى الخصال المذمومةُ عن الرَّجل، والبقاء أن تبقى وتثبت الخصال المحمودة في الرّجل.
والسالكون يتفاوتون في الفناء والبقاء؛ فبعضهم فَنِيَ عن شهوته بفناء ما يشتهيه من الدنيا؛ فإذا فنيت شهوته.. بقيت نيَّته، وإخلاصه في عبوديته.
ومن فَنِيَ عن الأخلاق الذميمة؛ كالحسد، والبغض، والكبر، وغير ذلك.. بقي بالفتوة والصدق؛ فالخصال المحمودة، والمذمومة ضدان ؛ إذا فنا الرجل عن أحدهما بقي بالآخر.
- ومن الأحوال: الغيبة والحضور.
فالغيبة أن تغيب عن أحوال الدنيا، والحضور أن تحضر بأحوال الآخرة.
وربما يحضر الرجل بمكاشفةٍ، ومناجاةٍ مع الله؛ فيغيب عن الإحساس؛ حتى لو أدخلَ يدَه في النار.. لم يحسَّ الألمَ".
قال: "ومن الأحوال: الفناء، والبقاء -والفناء مجلاه ومظهره-: أن تفنى الخصال المذمومةُ عن الرَّجل -كبر، رياء، عُجب، غرور، حسد، حقد.. وما إلى ذلك. والبقاء مجلاه-: أن تبقى وتثبت الخصال المحمودة في الرّجل".
قال: "والسالكون يتفاوتون في الفناء والبقاء؛ فبعضهم فني عن شهوته بفناء ما يشتهيه من الدنيا؛ فإذا فنيت شهوته.. بقيت نيَّته، وإخلاصه في عبوديته".
"ومن فني عن الأخلاق الذميمة؛ كالحسد، والبغض، والكبر، وغير ذلك.. بقي بالفتوة والصدق -والإنابة، والخشية، والحضور وما إلى ذلك-؛ فالخصال المحمودة، والمذمومة ضدان.. -ما يجتمعان- ..إذا فنا الرجل عن أحدهما بقي بالآخر".
حتى يَصِحَّ له عمّا يقال: بأنَّ الفناءَ في الله -تبارك وتعالى-، والبقاء بالله -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-.
ولكن هذه طريقته: أنه ما يحصل الفناء في الله: لمن بَقِيَ فيه خصلة مذمومة؛ حتى يفنى عن الخصال المذمومة كلها، يمكن أن يفنى في الله بعد ذلك؛ وما الفناء في الشيوخ إلا مقدمة الفناءِ في رسول الله، ولا الفناء في رسولِ اللهِ -الذي مجلاه-:
- (حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء:65].
- (مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه) [النساء:80].
- (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّه) [الفتح:10].
- (النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ۖ) [الأحزاب:6].
هذا يعلَّمنا الفناءَ في رسولِه؛ لأنه مقدمة الفناء فيه تعالى؛ فإذا تمَّ الفناء في رسولِه جاء؛ قال: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ ۚ).
قال الحبيب عبدالرحمن بلفقيه: (وَمَا رَمَيْتَ) طريقةً، (إِذْ رَمَيْتَ) شريعةً، (وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ) حقيقةً"؛ (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ)، ﷺ حمل الحصباء ورماها في وجوه القوم، دخلت في عين كلِّ واحدٍ من المشركين، ووقعتِ الهزيمة عليهم في لحظة، يقول له: (وَمَا رَمَیۡتَ) حكم الطريقة، (إِذْ رَمَيْتَ) شريعة، (وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ) حقيقة؛ أنت وشريعتك وطريقتك كلها منه وخلقه، هو الذي رمى -جلَّ جلاله- (وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ) [الأنفال:17].
الله الله الله.
وحصلَ للصحابةِ أحوالٌ أحيانا وصلت إلى الحسِّ من تفانيهم فيه؛ بعضهم في حالة استغراقه وفنائه فيه يمشي ما عاد شاهدوا له ظِل وهو يمشي في الشمسِ، ما عاد وجدوا له ظِلاً! لأن نوره يُغطي ظِلَّه، قال: فكرت أمشي معه ما أريد رجلي تقع على ظِلِّه؛ كيف صار؟ تأمّلته ما وجدت له ظِل! هو النور وهو الشمس وهو كل شي،الظِّلال ماشي له! الظِّلال لغيره ﷺ.
قالوا لسيدتنا رُبَيّع بنت معوّذ: صفي لنا رسول الله؟ قالت: "إذا رأيته قلت الشمس طالعة!" صلى الله وسلم وبارك عليه.
ويقول بعضهم يروي عن سيدنا أبي بكرٍ أنه قال: "فَشَرِبَ ﷺ.." يعني: من اللبنِ، في شدَّةِ السير في الطريق والجوع، لمَّا جاء إلى اللبن لمّا شرب النبي أحَسَّ سيدنا أبي بكر بالرِّيِّ، قال في الرواية: "فَشَرِبَ حتى رويتُ"! في الرواية، "حتى رويتُ!" النبي شَرِب وأبو بكر يقول: "حتى رويتُ"!، وفي رواية: "حتى رضيتُ"! النبي يشرب وذا يحسّ! ولمَّا شرب النبي أبوبكر كأنه شرب ذا الحين! -رضي الله عنه- فهُم أهل الفناء في الله تعالى؛ لرسوخ قدمهم في الفناء في رسول الله ﷺ؛ نِعمَ الشيخ شيخهم، ونِعمَ المربي مربيهم، ونِعمَ الباب بابهم، والمُوصِل لهم ﷺ.
قال: "فالغيبة أن تغيب عن أحوال الدنيا، والحضور أن تحضر بأحوال الآخرة، وربما يحضر الرجل بمكاشفةٍ، ومناجاةٍ مع الله؛ فيغيب عن الإحساس؛ حتى لو أدخلَ يدَه في النار.. لم يحسَّ الألمَ".
بهذا الحال، وكان عليه الإمام عبد الهادي السُّودي -عليه رحمة الله- يأمر بطبخ القهوةِ وماشي حطب، ويقول تعال تعال حطّه هنا، ويحط رجله في الموقد، ويقول هيا أوقدوا ! يُوقدوه يوقدوه لمَّا تنجح القهوة خلاص يرجّع الرجل، خلاص ما بها شي؛ لا إله إلا الله ما عاد يحس بالنار من فنائه!
وهو يقول:
لغير جمالكم نظري حرامُ *** وغير كلامكم عندي كِلامُ
وعمر النسر منكم بعض يومٍ *** وساعة غيركم عام فعامُ
لغير جمالكم نظري حرامُ…
حرام قال! حرام! حرام ما يجوز.. ايش ذا الإنسان ذا؟ "..
وغير كلامكم عندي كِلامُ*** … جراح..
وعمر النسر منكم بعض يومٍ** …عمر النّسر يعمّر إلى ألف سنة، قال معكم حتى ألف سنة مثل بعض يوم
وساعة غيركم.. ساعة وحدة مع غيركم ..
عام فَعام… عام صعب شديد!
وصبري عنكُم شيء محال *** وما لي قاتل إلا الفطامُ
أودّ بأن أكون لكم جليسًا *** وتُنصَبُ لي بِربعكم خِيَامُ
إذا عاينتكم زالت همومي *** وإن غبتم دنا مني الحِمامُ
فداووا بالوصال مريض هجرٍ *** يهيم بكم إذا سجع الحمامُ
قد تجليت علينا من أول وقلت:
(أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ)[الأعراف:172] وحبيناك من هناك من أوَّل..
حديث غرامه فيكم قديم *** وملبسه من الحب السّقامُ
فداووا بالوصال مريض هجر *** يهيم بكم إذا سجع الحمام
بكم صعب الأمور يعود سهلاً *** فبالإحسانِ جودوا يا كرامُ
وليس سواكُم للجود أهلاً *** فكيف نزيلُ سوحكمُ يضامُ
كان يطرب بها الحبيب عمر بن عبدالرحمن العطاس ويقول: أرجو لمن حَفِظ هذه الأبيات يدخله الله الجنّة. يعني: جنة المعرفة في الدنيا، والجنة بعدين هناك في الآخرة.
لغير جمالكم نظري حرام…
ماعاد يُشاهِد إلا جماله، في كُلِّ حالُه ما يُشَاهِد إلا جماله، فيَا خير مشاهد معه!
قال: "حتى لو أدخلَ يدَه في النار.. لم يحسَّ الألمَ".
وقال -رضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:
- ومن الأحوال: السُّكْرُ ، والصَّحْوُ.
"فالسكر يشبه الغيبةَ، والصحو الرجوعُ من السُّكر إلىٍ الإحساس.
* والغيبة تكون للمبتدئ في السلوك، والمنتهين، والسُّكر لا يكون إلا لأصحاب المواجيد، وهو أن يَرِدَ من الله واردٌ في قلبه فَيُسْكِرُه، فإن كوشف بنعت الحال.. حصل السُّكر، وطَرِبَ الروح، وهام القلب.
- ومن الأحوال: الذوقُ ، والشُّربُ.
ويعبرون بذلك عمَّا يجدونه من ثمرات التجلي، ونتائجِ الكشوفات.
وأول ذلك الذوقُ ، ثم الشرب، ثم الرِّيُّ.
فصفاء معاملاتهم.. يوجب لهم ذوق المعاني، ووفاء منازلاتهم.. يوجب لهم الشُّرْب، ودوام مواصلاتهم.. يوجب لهم الرِّيَّ".
فصاحب الذوق مُتَسَاكِرٌ، يعني أنه أول السكر، وصاحب الشُّربِ سكران، وصاحبُ الرَّيِّ صاحٍ.
ومثاله: العطشان فمن به قليل عطش.. فهو صاحب ذوق ومن به عطش كثير.. فهو صاحب شرب.
وإذا رُوِيَ وأخذ حظَّه من الشراب.. زال حرصه، وقلقه الذي به من العطش.. فهو صاحب ريٍّ، وصاحب صحوٍ".
هكذا يقول -عليه رحمة الله-:
"ومن الأحوال -ما يُعبّرون عنه-: السُّكْرُ ، والصَّحْوُ.
فالسكر يشبه الغيبةَ - ولكنه أرفع-، والصحو الرجوعُ من السُّكر إلىٍ الإحساس".
"والغيبة تكون للمبتدئ في السلوك، والمنتهين، والسُّكر لا يكون إلا -للمنتهين- لأصحاب المواجيد، وهو أن يَرِدَ من الله واردٌ في قلبه فَيُسْكِرُه".
وسمعنا قول سيدنا أبوبكر العدني بن عبدالله العيدروس -عليه رحمة الله-:
يا ذا الذي ناداني *** وقت السُّحَيْر أشجاني
نِدَاه لي أسقاني *** من قرقفاه الهاني
سَكِرتُ به وأفناني *** عن كُلِّ ضِدٍّ ثاني
من قاصي أو داني *** في العالم الجسماني
قال: " يَرِدَ من الله واردٌ في قلبه فَيُسْكِرُه -أي: يُغيِّبه عن كل ما سواه- فإن كوشف بنعت الحال.. حصل السُّكر، وطَرِبَ الروح، وهام القلب".
الله أكبر! ونِعمَ الهُيَام..
فأصبوا ثم أصبوا ثم أصبوا *** ولا كالَصبَوَاتِ العُذُرِيَّة
وليست للغَوَانِي والأَغَانِي *** ولا للشهواتِ الدنيوية
ولا للفانياتِ بأيِّ معنى *** ولكن للأمورِ العلوية
حقائق من رقائق قد تَسَامَت *** بِأَوْجِ الحَضَراتِ القُدُسِيَّة
فَوَا شَوْقَ الفؤادِ لخَيْرِ عَيْشٍ *** مع الأحبابِ في الغُرَفِ العَلِيَّة
عسى الرَّبُّ الكريمُ بمحضِ فَضْلٍ *** يُبَلِّغُنا أقاصي الأمنية
عسى الرَّبُّ الكريمُ بمحضِ فَضْلٍ *** يُبَلِّغُنا أقاصي الأمنية
عسى الرَّبُّ الكريمُ بمحضِ فَضْلٍ *** يُبَلِّغُنا أقاصي الأمنية
قال: "ومن الأحوال: الذوقُ ، والشُّربُ".
"ويعبرون بذلك عمَّا يجدونه من ثمرات التجلي، ونتائجِ الكشوفات. -يعبِّرون به بالذوق والشرب والري- وأول ذلك الذوقُ".
قال صاحب الذوق مُتَسَاكِر، يعني أول سكر عاده،
وبعدين الشرب، قال صاحب الشرب سكران،
وبعدين الرَّيِّ. قال صاحب الرَّيِّ صاحي.
قال: "فصفاء معاملاتهم.. يوجب لهم ذوق المعاني".
واجعل علم مقتدانا بحكم الذوق *** في فهم سر معنى المعية
"صفاء معاملاتهم يوجب لهم ذوق المعاني"؛ بحكم الذوق في فهم سر معنى المعية.
"ووفاء منازلاتهم.. يوجب لهم الشُّرْب، ودوام مواصلاتهم.. يوجب لهم الرِّيَّ.
فصاحب الذوق مُتَسَاكِرٌ، يعني أنه أول السكر، وصاحب الشُّربِ سكران، وصاحبُ الرَّيِّ صاحٍ.
ومثاله: العطشان فمن به قليل عطش.. فهو صاحب ذوق -ومن بالغ به العطش- ومن به عطش كثير.. فهو صاحب شرب"
العطشان هذا، هذا صاحب شرب إذا عنده عطش كثير.
ديروا علي كاسكم ** ظمآن يا أحباب بشرب ** هيا اسرعوا في عَجَل
قال: "وإذا رُوِيَ وأخذ حظَّه من الشراب.. زال حرصه، وقلقه الذي به من العطش.. فهو صاحب ريٍّ، وصاحب صحوٍ".
فهذا من جملة ما ينازلهم من الأحوال..
ونقرأها عنهم، ونتشَوَّف إلى أن يُطهرنا الله ويُهيئنا لشيء منها، ولا يحرمنا خير ما عنده، ولا يجعل حظَّنا الهذيان ولقلقة اللسان، ولا مجرد المرور عليها؛
لا تحرمنا خير ما عندك لشر ما عندنا يا رحمن، واصلح لنا كل شأن، وارفعنا أعلى مكان، بوجاهة المصطفى سيد الأكوان، من أنزلتَ عليه القرآن، بأسرار القرآن؛ اجعل لنا جميلَ انكِشَافٍ واجْتِلَاءٍ لمعاني قربك، وحبك، ومعرفتك، ورضوانك؛ بكل حرف من حروف القرآن الكريم، وكل كلمة من كلماته، وكل آية من آياته، وكل سورة من سوره، وألِّف بيننا وبين الكلمة منه وبين الحرف منه والكلمة والآية والسورة؛ ائتلافًا لا يفارقنا طرفة عين، يظهر سِرُّه في القلوب والعقول والأرواح.
يا مجيب الداعي، ويا مغيث المستغيث، افتح علينا بالقرآن المبين فتحًا مبينًا، وتولَّنا بالحبيب الأمين حيثما كنا، وأينما كُنَّا، ظاهرًا وباطنًا، برحمتك يا أرحم الراحمين..
بسرِّ الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد ﷺ
09 صفَر 1447