الكبريت الأحمر - 16 | في الحقيقة و أهلها و طريقتها

للاستماع إلى الدرس

الدرس السادس عشر للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الكبريت الأحمر و الأكسير الأكبر في معرفة أسرار السلوك إلى ملك الملوك ، للإمام الحبيب عبد الله بن أبي بكر العيدروس . ضمن دروس الدورة الصيفية الأولى بمعهد الرحمة بالأردن.

فجر الخميس 25 صفر 1446 هـ

 

نص الدرس المكتوب :

بسم الله الرحمن الرحيم

وبسندكم المتصل إلى الحبيب عبد الله بن أبي بكر العيدروس من كتابه "الكبريت الأحمر والإكسير الأكبر" رضي الله تعالى عنه، وعنكم ونفعنا بعلومه، وعلومكم، وعلوم سائر الصالحين في الدارين آمين:

فصلٌ

في الحَقِيقَةِ وأهلِها وَطَرِيقَتِهَا 

أهل الحقيقة.. هم العلماء بالله، أهل المعارف المتعلقة بالله، وأسمائه، وصفاته.

وعلوم المعارف.. أشرف العلوم.

"والحقيقة عندهم هي: مشاهدة أسرار الربوبية.

ولها طريقة.. هي عزائم الشريعة؛ فمن سلك تلك الطريقة.. وصل إلى الحقيقة؛ فالحقيقة.. نهاية عزائم الشريعة، ونهاية الشريعة غيرُ مخالفة لعزائم الشريعة.

وقد ضرب العلماءُ العارفون بالله للشريعة والحقيقة أربعة أمثلة في القصيدة المسماة: "عذبة المعاني الرقيقة في التغزل في الشريعة والحقيقة". 

وبيان كون الشريعة هي الأصل؛ كالبحر، والمعدن واللبن، والشجر، والحقيقة مستخرجة منها؛ كالدُّرِّ، والتِّبر، والزُّبد، والثَّمر". 

 

الحمد لله، باعث خاتم الأنبياء بالهدى ودين الحق، وبأنواره يدخل في دوائر القُرب من له التوفيق سَبَق، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خَلَق ورَزَق، وأعطى ومنع، وقدّم وأخّر، فوحده للعبادة استحق، ونشهد أن سيدنا ونبيّنا وقرّة أعيننا ونور قلوبنا مُحمّدًا عبده ورسوله، هو أكرم من خلق، وأعظم من تقرّب إلى الله -تبارك وتعالى- وبيّن الطريق إليه -جلّ جلاله- وبحقائق العبودة تحقّق. اللهم صلّ وسلم وبارك وكرّم على عبدك الأسبق الأصدق سيدنا مُحمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن على منهجه سار إليك ولأمره امتثل، وبمحبتك ومحبته تحقق، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين سادات من صَدَّقَ وَصَدَقْ، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المُقرّبين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

يُكرّر سيدنا الإمام العيدروس -عليه رضوان الله تعالى- المعاني للشريعة والطريقة والحقيقة، ليترسّخَ في ذهن المريد والسائر والمتوجّه إلى الله -تبارك وتعالى- حقائق معانيها، وقويم ومَشِيدْ مبانيها، وليكون على بصيرة؛ ليدخل فيها ويكون من أهليها. 

فقال: "فصل في الحقيقة وأهلها وطريقتها"، أي: الطريق الموصل إليها، "أهل الحقيقة.. هم العلماء بالله، أهل المعارف المتعلقة بالله، وأسمائه، وصفاته. وعلوم المعارف.. أشرف العلوم"، فهؤلاء علماء بالله، وما صاروا علماء بالله إلا بعد أن علموا أحكام الله، وفقهوا في دين الله، وأخذوا بشريعة الله، ولمّا علموا أحكام الله وآياته وشريعته الغرّاء، انفتح لهم باب العلم بالله ومعرفته الخاصة، فهم العلماء بالله، أهل المعارف المُتعلقة بالله من أسمائه وصفاته وآياته وأفعاله. 

وقد علمتم أنهم يتعاملون مع الكائنات التي هي فعلُ الله، تعامل العبد مع السيّد الذي فعل، فيدركون في كل مفعولٍ أثر الفاعل وعظمة الفاعل الذي أبرز وأوجد وأنشأ وخَلَق، سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ۚ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ) [فاطر:3].

قال: "فأهل" هذه "المعارف المُتعلقة بالله وأسمائه وصفاته" أشرف خلق الله تعالى ملائكةً، وأنبياء، ومرسلين، وصدّيقين. "علوم المعارف أشرف العلوم"؛ لأنها مُتعلقة بالحي القيوم -جلّ جلاله- وأي شيء أعظم من المعرفة بالله سبحانه وتعالى؟ أيظنّ من عرف شيئًا من شؤون خلقه وصنعته أن يكون كمن عرفه جلّ جلاله؟! بل الذين يقِفون عند ظواهر هذه الحياة الدنيا، ومن ظواهرها هذه الاختراعات والاكتشافات كما يسمّونها، والأجهزة المُحدَثات المصنوعات، كله من ظاهر الحياة الدنيا، ومن عَلِم كل هذا من أوله إلى آخره، ولكنه جهل الآخرة، فهو في ميزان الإله ليس بعالم، كما قال جلّ جلاله: (وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الروم:6-7].

 ففي ميزان الله العالم من علم الحق والحقيقة، واستحقّ بالعلم أن تُرفع له الدرجات، وأن يَخلُد في الجنات في خير نعيم وأشرف تكريم، هذا هو العالم.. ومن لا يصل إلى ذلك كيف يكون عالم؟ عالم ايش؟ فمهما علم من هذه الكائنات والموجودات وأصنافها وما فيها، ولم يعلم الخالق لها وأحكامها، ولم يعلم الدار الآخرة ومآله الأكبر ومستقبله الأعظم، فليس بعالم في ميزان الله، (وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الروم:6-7]؛ فحينئذٍ لا يعلمون.

 وإنما العلماء بالله وأهل المعارف هم أشرف الخلائق، "والحقيقة عندهم هي مشاهدة أسرار الربوبية"، التي يحجُبُ السرائر والسر عن مشاهدتها حُجُب الغفلات والإعراض والمخالفات لأمر الله تبارك وتعالى، حُجُب الجهل والمعاصي والذنوب والمكروهات والغفلة والانصراف عن الله تبارك وتعالى، والتعلّق بمن سواه، فهذه الحُجُب تحجُب السِرّ عن شهود أسرار الربوبية، والحقيقة عندهم أن يشاهد أسرار الربوبية مُتحققًا بالعبودية، فتتلاشى عبوديته في عظمة الربوبية. 

قال: "ولها طريقة هي عزائمُ الشريعة"؛ 

  • عزائم الشريعة: القيام بأحكام الله تبارك وتعالى على وجه الإحسان والإتقان والإتمام والمحبة والرغبة والحضور، فهذه عزائم الشريعة.
  • أن لا يكون في عمله بالشريعة مُتراخيًا ولا مُتكاسلاً ولا مُستثقلاً، ولكن يأخذ بعزائم الشريعة صادق الإقبال، وصافي البال، مُوقنًا أنها الخير كله، مُحسنًا مُتقنًا لها، مُؤدّيًا لوجوه إحسانها، فهذا آخذٌ بعزائم الشريعة.

 فهذه هي الطريقة إلى الوصول إلى الحقيقة، "فمن سلك تلك الطريقة وصل إلى الحقيقة، فالحقيقة" عندهم نهاية عزائم الشريعة"، وبعد الأخذ بعزائم الشريعة وهي هذه الطريقة يوصل إلى تلك الحقيقة. "ونهاية الشريعة غيرُ مخالفة لعزائم الشريعة" أبدًا.. ونهاية الشريعة التي هي الحقيقة قال عنه فالحقيقة نهاية عزائم الشريعة فنهايتها: "غير مُخالفة لعزائم الشريعة" أبدًا، فليس في طريق أهل الله تبارك وتعالى مُخالفةٌ لشريعة الله، وما بعث به حبيبه ومصطفاه مُحمدًا ﷺ.

إذًا؛ فوجب أن:

  • تُدرِك عظمة الشريعة المطهرة
  • وأن تُحسن التفقّه في دين الله تعالى
  • وتعمل به وبمقتضاه على واجب الإحسان والإتقان

فتكون علمت الشريعة، وسلكت الطريقة، فتتهيأ بذلك لهذه الحقيقة، وهكذا تعرف أن مسلك القوم:

وما في طريق القوم بدءًا ولا انتهاء ***  مُخالفةً للشرع فاسمع وأنصتِ 

لا في البداية ولا في النهاية، مُخالفةً للشرع.

وخلِّ مقالات الذين تخبّطوا *** ولا تكُ إلا مع كتابٍ وسُنّةِ

فثَمّ الهدى والنور والأمن من ردى *** ومن بدعة تُخشى وزيغٍ وفتنة

ومتبعو حكم الكتاب وسُنّةٍ *** هم المفلحون الفائزون بجنّة

عليهم من الرحمن رضوانه الذي *** هو النعمة العظمى وأكبر مِنّة

ومن حادَ عن علم الكتاب وسُنةٍ *** ………………………..

بأي وجهٍ من الوجوه فمنهم المارقون، ومنهم الذين يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة، ومنهم المفتونون المغرورون، من يدعون علم الكتاب أو علم السُنة، أو يستهينون بالسنة ويدعون علم الكتاب وهم في حيدٍ وبُعدٍ عن حقيقة الكتاب والسُنة، ليس لهم من فهم الكتاب إلا ما وسوست به نفوسهم أو أوحاه إليهم بعض شياطين الإنس والجن -والعياذ بالله تبارك وتعالى- ليس لهم سندٌ في فهم الخطاب والكتاب والسنة الغراء، فهؤلاء حادوا عن العلم. 

ومن حادَ عن علم الكتاب وسُنةٍ *** ………………………..

ومنهم أرباب ادّعاء الحقيقة أيضًا، وادّعاء التصوف، وأدّعياء الوصول إلى الله -تبارك وتعالى- ممن يخرجوا عن درب الرسول ﷺ، والاقتداء به.

ومن حادَ عن علم الكتاب وسُنةٍ *** فبشّره في الدنيا بخزيٍ وذِلّة

وبشّره في العقبى بسكنى جهنم *** وحرمان جنّات الخلود ورؤية

 سمعت؟.. ولكن أرباب الشريعة هم الذين يصلون إلى الحقيقة من تولّع قلوبهم بالمحبة لمّا أجابوا النداء، وقاموا بحقّ الاقتداء والاهتداء فسَرَت إلى قلوبهم سريانات المحبة الخالصة للذي خَلَق -جلّ جلاله- ففيهم وبهم تنازلهم هذه الأحوال، يقول قائلهم:

ألا ما لقلبي كُلّما ذُكِرَ الحِمَى *** وأهلُ الحِمى من خيرِ عُربٍ وجيرةِ
يهيجُ بهِ وجدٌ وشوقٌ ولوعةٌ  ***  شجونٌ لها تجري على الخدِّ دمعتي

وما لِفؤادي قد تَوَطَّنَه الأسى *** أُحِسُّ بهِ من حَرِّهِ لفحَ جمرةِ
تَعَوَّدَ تذكارُ الخِيامِ وأهلِها *** إلى أنْ غدا من شوقِهِ كالمُفتَّتِ

ولله روحٌ خالطَ الحبُّ كُلّها *** ومازجها حتى صَبَت للصَّبابةِ
وخَامَرَهَا خمرُ الغرامِ  فأصبَحَت *** وأمسَت على حُبِّ الحبيبِ مُقيمةِ

يظُنُّ بها من ليس يدري بشأنها *** بأنّ بها سُكرَ الخُمُورِ الأثيمةِ

لها أبدًا شوقٌ إلى خير معهدٍ *** به خيرُ عهدٍ في العصورِ القديمةِ

وما هو العهد في العصور القديمة؟ ساعة أن جمعنا الله واجتمعت أرواحنا كُلُنا ومعنا أرواح النبيين، وأرواح الصديقين، وأرواح المُقربين، وأرواح بني آدم كلهم، من أول ولد وُلد لآدم إلى أن تقوم الساعة، جميع أرواح بني آدم اجتمعنا في (نعمان الأراك)، وادٍ بِجنب عرفة، قريب من عرفة على طريق الطائف، في هذا الوادي اجتمعنا واجتمعت هذه الأرواح، وكان جودُ الفتّاحِ أن كشف عنّا الحجاب، وأسمعنا الخطاب، ونادانا: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ)، فيما قال جل جلاله: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْْ)، وفي قراءةٍ: (ذُرِّيَّاتِهِمْ)، (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ) [الأعراف:172].

قال: 

لها أبدًا شوقٌ إلى خيرِ معهدٍ *** به خيرُ عهدٍ في العُصُورِ القديمةِ

 يُذكِّرُها العهدَ القديمَ سماعُها *** لِتَرجيعِ تالٍّ للِمَثَانِي الكريمةِ

ورنَّةُ أذكارٍ وصوتُ مُسبِّحٍ *** ……………………….

 كله يُذكرها بهذا العهد بينها وبين الله، (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰبَنِيۤ ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ* وَأَنِ ٱعْبُدُونِي) [يس:60-61]، (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰۛ) [الأعراف:172]، يُذكِّرُها هذه الأشياء كلها.

ورنَّةُ أذكارٍ وصوتُ مُسبِّحٍ *** ونغمةُ حادٍّ للمطايا المُجِدَّةِ

وتغريدُ وُرقٍ فوق أغصانِ دَوحةٍ ***  وتلحينُ شادٍ بالأغاني الرقيقةِ 

 كل هذا يُذكِّرها بالعهد، وكل هذا يغمُسها في بحر التعظيم لِهذا العهد، وعزمة القيام بمُقتضى هذا العهد، عهد (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ).

قال:

وكلُّ نسيمٍ هبَّ أو بارقٌ شَرَى *** وأشيَا أرى في سَترِها حِفظَ حُرمةِ

كله يُذكر بهذا العهد.. 

 حِذَارَ غبيٍّ أو حَسُودٍ مُوَلَّعٍ *** بإنكارِ أسرارِ العلومِ الدقيقةِ

 فقد ستروا أهلُ الطريقِ وأخمَلوا*** أُمُورًا من التَّحقيقِ حتى تَغَطَّتِ 

 لِئلَّا  يراها المُنكِرونَ  فيخسروا *** بإنكارِها لا عن دليلٍ وحُجَّةِ

كما أنكروا قومٌ على بعضِ من مضى *** من العارفين أهلِ الهُدى والبصيرةِ

 ويسمعُها قومٌ ولَيسُوا من أهلِها *** فيرتبِكوا فيها بجهلٍ وغِرَّةِ

 كما ضلَّ أقوامٌ بها وتخبَّطوا *** ومالوا عنِ الدِّينِ القَوِيمِ وشِرعَةِ

 وإنّ الذي أبدى من القومِ ما سبيــــــــــــلُهُ السّترُ مغلوبٌ بِحالٍ قويةٍ

من العارفين وصالحين هذه الأمة.

 يُفارِقُهُ التَّمييزُ عند وُرودِها *** عليهِ وإن أخطا فليسَ بِمُعنَتِ

 لأنه خرج عن التمييز، فخرج عن التكليف.

 وكم من قريبٍ بَعَّدَتهُ عِبارةٌ *** عن الفهمِ فاستمسِك بِحبلِ الشَّريعةِ

 وسَلِّم لِأهلِ الله في كلِّ مُشكِلٍ *** لديكَ، لديهِم واضحٌ بالأدلَّةِ 

ثم نادى الحبيب أحمد بن زين، والحبيب أحمد بن عمر الهندوان يقول:

خليليَّ هل من مُسعِدٍ منكُما علىَ *** سُلُوكِ سبيلٍ دارِسٍ وخفيَّةِ

 تأَخَّرَ عَنْها الأكثرونَ وأعرضوا  *** لِما علِموا في قَطْعِها مِنْ مشقةِ

رياضةُ نفسٍ واعْتِزالُ عوائدٍ *** وقمعُ حُظوظٍ  للنُّفُوسِ مُمِيتَةِ

وتركِ الأماني والمُراداتِ كُلِّها *** وكلِّ اختيارٍ والتدابيرُ جُملةِ

وكنسُ ضميرِ القلبِ كي يبقَ فارغًا *** من الحُبِّ للدُنيا الغَرُورِ الدَّنِيَةِ

وتطهيرُهُ سبعًا عن الميلِ لِلسِّوى *** بماءِ الفَنَا باللهِ عنهُ وغيبةِ

وتطهيرُهُ سبعًا؛ تطهير ضمير القلب.

وجمعٍ على المولى العظيمِ بِتَرْكِ ما *** عنِ الذِّكرِ يُلْهي والتزامِ العبادةِ

يقول للخليلين:

فإن تُسعداني بالوفاقِ فإنّ لي *** بهِ بعضَ أُنسٍ وارتياحٍ وقوَّةِ

وإلا فأمرُ الله عنْدِي مُعظّمٌ *** وعِندَي بحمدِ الله يا رُبَّ بُغيَةِ

وكم طُرفَةٌ كم تُحفةٍ كم عطيَّةٍ*** بهِ دُونَهَا بَسطِي ورَوحِي وراحتي

ما الذي حصل لسرِّكَ يا عبد الله الحداد في هذا الإسعاد والإمداد من ربِّ العباد؟ قال:

 

 أُطالعُ أمرَ القبضتينِ ……. *** ………………..

وما القبضتين؟ لما خلقنا، وخلق هذه الأرواح، قبض منّا قبضة، فقال: "هؤلاء إلى الجنة ولا أُبالي"، وقبض قبضة أخرى، وقال: "وهذه إلى النار ولا أُبالي"، قال سيدنا: 

 أُطالعُ أمرَ القبضتينِ ……. *** ………………..

فلا تقل إني أعمى وأُعميتُ من أنا في أربع سنين، وأنت تُطالع الصحف هذه أو المجلات أو الجرائد، أو الكُتب، فعندي روحٌ تُطالع، وعندي سِرٌّ يقرأ..

 أُطالعُ أمرَ القبضتينِ فقبضةُ الـ*** ـيمينِ وأُخرى لليمينِ الأخيرةِ

 فسبقُ سَعاداتٍ وسبقُ شقاوةً *** بمحضِ اختيارٍ دُونَ سعيٍ وحيلةِ

 وأعمالُهُم تجري على وِفقِ سابقٍ*** لهم عندهُ والختمُ كالأوليَّةِ

أعمالهم في الدنيا.

يا الله بِحسن السابقة، يا الله بِحسن الخاتمة، يا الله بِحسن السابقة، يا الله بِحسن الخاتمة، يا الله بِحسن السابقة، يا الله بِحسن الخاتمة.

وماذا تُطالع يا أيها الصّدّيق المُقرب؟، قال:

ومسحَ يدِ الرّحمـٰنِ ظهرَ صَفيِّهِ *** فأخرَجَهُم كالذّرِ يومَ الشهادةِ

اجتمعوا هناك. كان يقول سيدنا أبو الحسن الشاذلي: أُذكر من كان على يميني، ومن كان على شمالي وقت أخذ العهد والميثاق.. وسأله بعض أصحابه، قال: من كان على يمينك؟، قال: ياقوت من الحبشة، واحد حبشي،  فجاء في آخر حياة سيدي أبو الحسن الشاذلي، وكمّل الأخذ عن تلميذه سيدي أبي العباس المرسي، وقُبر عنده في الإسكندرية، يسّمونه: ياقوت العرش، جاء من الحبشة، قال: كان هذا جنبي في أهل اليمين في يوم أخذ العهد، سيدنا الحداد قال:

ومسحَ يدِ الرّحمـٰنِ ظهرَ صَفيِّهِ *** فأخرَجَهُم كالذّرِ يومَ الشهادةِ

فأشهدهُم والكُلُّ منهم مُوَحِّدٌ *** ……………………

حتى الملاحدة الموجودين عندنا، والزنادقة، والكُفار كانوا في ذاك العهد مُوحدين، لكنهم خانوا العهود، قال: 

فأشهدهُم والكُلُّ منهم مُوَحِّدٌ *** هُناكَ وبعدَ الأمرِ نافٍ ومُثبِتِ

وسِرًّا خفيًا …………. *** …………………….. 

إيش عادك تُطالع؟

 قال: 

وسِرًّا خفيًا حارَ فيهِ أُولُو النُّهى*** على صورةٍ لا الصُّورةِ الآدميَّةِ 

فنزِّه إلـٰه العالمينَ وقَدِّسَن *** عن الصورةِ الحِسِّيَّةِ البشريَّةِ

 وغُصْ في بحارِ السِّرِّ إن كُنتَ عارفًا *** بِساحاتِها الدُّرِّيَّة الجوهريَّة 

وكُن في أحاديثِ الصفاتِ وآيِهَا*** ………………………

آيات الصفات وأحاديث الصفات، كُلُّ آيةٍ، وكُلُّ حديثٍ ظاهره يدلُّ على المُشابهة، أو أن للحق شيءٌ مما للخلق أو يُشابهه، فهذه لها معاني صحيحة بعيدة عن مُشابهة الخلق.

فيقول: 

وكُن في أحاديثِ الصفاتِ وآيِهَا *** على مذهَبِ الأسلافِ حيثُ السلامةُ

 وهو الإيقان بأن ما أراده الله حق، واليقين بأن ما أراده بعيد عن الجسمية وتوابعها.

واشهد لِلُطفِ الفضلِ في كونِ آدمٍ *** من الطِّينِ مخلوقَ اليدينِ النَّزيهةِ

 خلقه بيده وسوّاه -سبحانه وتعالى- ونفخ فيه من روحه. 

فَسَوَّاهُ والنَّفخُ الكريمُ مُعَقَّبٌ *** بهِ ثُمَّ بعدَ النَّفخِ أمرٌ بِسجدةِ

 أمر الملائكة أن يسجدوا لهذا الذي نفخ فيه من روحه؛ آدم، لأنه أبو مُحمدٍ ﷺ 

 قال: 

وإبليس لم يسجد فأسخَط ربهُ *** وحلّت به من مقتهِ شرُّ لعنةِ

 لِذلك احتال الصفيّ وزوجهُ *** بِحيلتهِ في حين كانا بِجنةِ

وقال كُلا من شجرة النهي مُطمِعًا *** له ولها في الخُلد والمَلَكيةِ

(إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) [الأعراف:20]

 فلمّا ألمّا بِالخطيّةِ أهبِطا *** من الجنة العليا إلى دار وحُشةِ

وحل بهم كربٌ عظيمٌ وحسرةٌ *** وحزنٌ مُقيمٌ في انقطاعٍ وغُربةِ

 إلى أن تلقّى آدمٌ من إلهه *** من الكلمات الموجبات لِتوبة

 فتابَ عليه واجتباه وخصّهُ *** وأكرمه فضلاً بأمر الخلافةِ

فقام بالخلافة عن الله في هذه الأرض، فأول خليفة للحق في عالم الأجسام والحسِّ على ظهر هذه الأرض بالخلافة الخاصة: سيدنا آدم، (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة:30]، وهكذا جاء بعده شيث بن آدم، وجاء إدريس، وجاء نوح... 

قال: 

وأسرار أمر الله نوحًا وقد دعا *** على قومه أن يغرقوا بالسفينةِ

 ليركبها والمؤمنون وأهله*** وزوجان من كُلِّ الوُجودٍ لِحكمةِ

وإيش عادك تطالع بسرّك؟ قال: 

ولله في آل الخليلِ سرائرٌ *** تجلُ عن الإحصاءِ عداً لِكثرةِ

 رأى كوكباً في أول الأمرِ*** فانتهى به الحال تدريجًا لإفرادِ وجهةِ 

وكسّر إبراهيمُ أصنام قومهِ *** وأبقى كبيرًا كي يروح بِخزيةِ

 إذا ما أُحيلُ في السؤال عليه لم *** يَرُدْ وأن من جماد وميّتِ

 وقامت عليهم حُجةٌ أي حُجَّةٍ *** فكادوا له كيدًا بِنارٍ عظيمةِ

 له أوقدوها ثم ألقوه فانثنت *** عليه بأمرِ الله في مثل روضةِ

 وما لعدوّ الله نمرود يدّعي *** ربوبيةً فاسألهُ دفع البعوضةِ

 دخلت بعوضة في أنفه وأذنه وما قدر يخرجها، وقعد يصيحِ صياحًا، وأنت تقول أنا احيي واميت! ما لك لهذه الدعوة؟ فاسأله دفع البعوضة! 

وفي قصة الأطيار ………. *** …………………….

 

قال الخليل: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ) [البقرة:260]. 

وفي قصة الأطيار وهي عجيبةٌ *** وكم من أمورٍ في الوجود عجيبة

كأسرار موسى حين ألقته أمهُ *** رضيعًا بأمر الله في وسط لُجّةِ

 وسط البحر

 فجاءت بهِ الأقدار حتى أتت بهِ ***عدوًا هو المَخشيُّ في أصلِ قصةِ

فربّاه حتى كان ما كان وانتهى *** نهايته فأعجبْ لأسرار قدرةِ

 وحين رأى نارًا فأمكث أهله *** وجاء إليها للهدى أو لجذوةِ

 فنودي من الوادي أَنا اللَّه فاستمع *** لما أنا مُوحٍ وانطلق بِرسالةِ 

وكلمّه سبحانه بعد هذه ***على طور سيناء مرةً بعد مرةٍ

 وكم فالعصا واليد من سِرِّ قَدَرِةٍ ***وتكذيب فِرعونٌ وإيمان سَحَرةِ 

وعيسى من الآيات في أصل كونه *** بدون أبٍ عن نفخةٍ قُدسيةِ

 وقد كان يُحيي الميت عن إذن ربهِ *** ويُبريء بإذن الله من كُلِّ علةِ

ويخلقُ من طينٍ كهيئة طائرٍ*** فيَحيا بِنفسٍ منه من سِرِّ نَفْخةِ

 وإن له في آخر الوقت مَهبطًا*** إلى الأرض بين الأمة الأحمدية

سوف ينزل ويأتي..

 وعن آل إسرائيل حدّث ففيهم *** أعاجيب، نصّ السنة النبويةِ

 وحدّث عن بني إسرائيل ولا حرج. وأين انتهت عندك المُطالعة يا حداد القلوب؟

 قال: 

وقد جمع الأسرار والأمر كله *** مُحمدٌ المبعوث للخلق رحمةِ

 كُلُّ الذي ذكرناه هذا في من مضى وفي الأنبياء وفي أخبارهم، وحصلناه مجموع هنا  

به ختم الله النبوة و ابتدا ***فلله من ختمٍ به وبدايةِ

وإن رسول الله من غير ريبةٍ *** إمامٌ على الإطلاق في كُلِّ حضرةٍ 

وجيهٌ لدى الرحمن في كُلِّ موطنٍ*** وصدرُ صُدور العارفين الأئمةِ

 أتاه أمين الله بالوحي في حراء*** وكان به في حال نُسكٍ وخلوةِ

 فقال له: (اقْرَأْ)، قال: لست فغطّه  ***  وأرسله حتى الثلاث فَتمّتِ

 وفي طيِّ هذا ربُّ سِرٍّ مُحجبٍ *** له يهتدي أهل القلوب المُنيرةِ

وكان به الإسراء من خير مسجدٍ *** إلى المسجد الأقصى إلى أوجِ ذُروةِ

 من المُستوى والقاب قوسين قُربه *** من الله أو أدنى وخُصَّ برؤيةِ 

وأوحى الذي أوحى إليه إلهُه *** علومًا وأسرارًا وكم من لطيفةِ

 وشاهد جَنَاتٍ ونارًا وبُرزخًا *** وأحوال املاكً وأهل النبوةِ

 وصلى وصلوا خلفه فإذًا هو*** المُقدمُ وهو الرأس لأهل الرئاسةِ

صلوا الأنبياء كلهم.

حبيبٌ خليلٌ عظّم الله قدرهُ *** جميلٌ جليلٌ ذو بهاءٍ وهيبةِ

له الدعوة العُظمى له الرتب العُلا *** له المِلة الغراء وخيرُ محجَّةِ

 له الخَلْقُ والخُلُقُ العظيم كلاهما *** له الحُكم والسيف الملي بِسطوةِ

وقد قرن المحمود اسم مُحمد *** مع اسمه في الذكرِ فاعزز بِرفعةِ

 وآية حب الله منا…. ***.................................. 

علامة أننا نحب الله

 وآية حُبِّ الله منا اتباعه *** به وَعَدَ الغفران بعد المحبةِ 

(يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ) [آل عمران:31]

ومن يطع الهادي أطاع إلههُ *** ومن يعصهِ يعصِ الإله ويُمقَتِ

ومن بايع المختار بايع ربّه *** يد الله من فوق الأيادي الوفِيَّةِ

وشأنكم هذا، وعجائب ما تصلون إليه من هذا الفضل، فإن محطاته ومحله ومن حَمَتُه، قال السند قبلنا، وأهل هذه الحَضْرة، ومن هم؟ قالوا:

 وآل رسول الله بيتٌ مُطهرٌ *** محبتهم مفروضةٌ كالمودةِ 

هم الحاملون السِرّ بعد نبيّهم *** وورّاثه، أكرم بها من وراثة

وأصحابه الغرِّ الكِرام … *** ………………..

 هؤلاء سادتنا وقادتنا وأوائلنا 

وأصحابه الغرِّ الكِرام أئمةٌ *** مهاجرهم والقائمون بِنُصرةِ 

نجوم الهدى أهل الفضائل والندى *** لقد أحسنوا في حمل كُلِّ أمانةِ

 ومتّبعوهم في سلوك سبيلهم ***..............

والله يجعلنا منهم، قال: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم) [التوبة:100].

ومتّبعوهم في سلوكِ سبيلهم*** إلى الله عن حُسن اكتفاءٍ وأسوةِ

أولئك قومٌ قد هدى الله فاقتدِه *** بهم واستقِم والزَم ولا تتلفتِ

 ولا تعدُ عنهم إنهم مطلع الهدى*** وهم بلّغوا عِلْم الكتاب وسُنةِ

 فذو القدح فيهم هادمٌ أصلَ دينِهِ *** ومقتحمٌ في لُجِّ زيغٍ وبدعةِ

 فما بعد هَدْي المصطفى وصِحابه *** هدىً، ليس بعد الحق غير الضلالةِ

اللهم أعذنا من الضلالة.

ولهذا قال: نهاية الشريعة والحقيقة "غير مخالفة لعزائم الشريعة"، ونهاية الحقيقة ليست مخالفة لعزائم الشريعة، "وقد ضرب العلماء العارفون بالله للشريعة والحقيقة أربعة أمثلة في القصيدة المسمّاة: عذبة المعاني الرقيقة في التغزل في الشريعة والحقيقة" وما هي؟

قال: "وبيان كون الشريعة الأصل كالبحر"، مثل كالبحر والدرّ، فالشريعة كالبحر والدرّ في أعماقه، ولا وصول إلى الدرّ من غير البحر، إذا جاء واحد قال: إيش عليّ من البحر.. أنا سأمسك الدرّ فقط، تمسك الدرّ من أين؟ لابد تعرف البحر وتغوص فيه، وتعرف الغوص فيه؟ لا فقط تعرِف البحر، لكن تعرف السباحة وتعرف الغوص فيه، وبعدين تصل للدرّ.

يقول: "والمعدن واللبن"، فالمعدن في مكانه من الأرض، ولا وصول إلى ذلك المعدن إلا بحفر تلك الأرض. واللبن والزبْد من أين تجيبه؟ فإذا من دون أن تُستخرج من المعدن الذهب من أين تجيء بالذهب؟ لابد تجيء للمعدن وتستخرجه منه. قال: كذلك الزبد فقط ما عليك من اللبن وتجيء لك بزبدة من أين؟ لعبة هي؟.. الزبدة محل اللبن، فلا حقيقة بلا شريعة! وبالشريعة تصل للحقيقة. قال: "والشجر ... والثمر" كذلك، قال: فالشريعة "كالبحر والمعدن واللبن والشجر، والحقيقة مُستخرجة منها كالدرّ والتبرِ والزبد والثمر".

فصلٌ

 في كفر مُعْتَقِدِ الحُلُول والإتحاد 

"قال خطيب الدنيا والآخرة ابن نباتة في معنى التنزيه في بعض خطبه: "مالیءُ الأشياء من غير حلول، ومطّلع عليها من غير أُفول".

هذا تعجب جملة من المشايخ الأجلاء المتقدمين.

وكلُّ من اعتقد الحلول، أو الاتحاد.. كفر." 

وهكذا يقول، فإذا ذكرنا لك هذه الحقائق وشأن أهل الله تبارك وتعالى، ومن تجوهروا بجوهر الذكر حتى صار الذاكر مذكورًا والمذكور ذاكرًا، فإياك أن تعتقد شيئًا من معاني الحلول والاتحاد، هذا الباطل الذي ينتحله بعض من ينسب نفسه إلى الخير وإلى الحقيقة وإلى التصوف وكما يقول بعض الزنادقة والملحدين.

قال: "خطيب الدنيا والآخرة ابن نباتة" عليه رحمة الله تعالى، وهو أحد علماء مصر الأكارم، كتب الخطب لكل شهر من الأشهر القمرية خمس خطب، ويخطب في كل جمعة من خطبة الشهر بخطبةٍ منها، وانتشرت خطبه في كثير من أصقاع الأرض، في شرق الأرض وغربها، في اليمن، وفي الشام، وفي مصر، وفي المغرب، وفي غيرها من الأماكن على مدى قرون كان يخطبون بخطبته، وباقي إلى الآن في جامع تريم يخطبون بهذه الخطب، يسمونه خطيب الدنيا والآخرة -عليه رحمة الله تعالى- لأنه المبيّن عوار الدنيا والمبيّن شرف الآخرة، "في معنى التنزيه في بعض خطبه قال: مالئ الأشياء -سبحانه وتعالى- من غير حلول، ومطّلع عليها من غير أفول" جلّ جلاله.

قال: "هذا يُعجب جملة من المشايخ الأجلاء المتقدمين"، وبيّن فيه أنه تعالى مالئ الأشياء من حيث علمه وإحاطته وقدرته وتصويره وسلطانه وقهره وتقديمه وتأخيره وما إلى ذلك، ولكن من غير أن يحلّ في شيء ولا يحلّ فيه شيء، ومطلع عليها  أتمّ الإطلاع، حاضر معها من غير أفول، يقول الله جلّ جلاله: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَـٰكِن لَّا تُبْصِرُونَ) [الواقعة:85].

"وكلّ من اعتقد الحلول أو الاتحاد"؛ اتحاد الخَلق بالخالق، أو أن الخَالق يحلّ في شيء في أرض أو في سماء أو في جسد، أو في روح، أو في غير ذلك فقد "كفر" -العِياذ بالله تعالى- فلا يتحد بشيء، ولا يحلّ في شيء، بل هو الواحد الأحد الفرد الصمد، كان الله ولم يكن شيء غيره، وهو الآن على ما عليه كان.

فصل

فِي تَنْزِيْهِ البَارِي عَنْ إِدْرَاكِ العُقُولِ

"جلَّ الجنابُ المُقدَّسُ عن دَرِك العقول، وعزَّ جلال المُنَزَّه عن رأي الحلول، جناح العقل مقصوص عن كُنه الوصول، لقد عميت هنالك أبصرةُ الفحول، ولا يُدْرَكُ -تعالى- بإدراك الحصول.

وصلى الله على أحمد الرسول، وعزَّ سُرادِقُ الكبرياء عن الحضور بالوصول، وكَبُر عنقاء الوصال عن الاصطياد بالحصول." 

يكرّر علينا الشيخ -عليه رحمة الله تعالى- شؤون التنزيه وعجائب هذه المعاني، لِيعلَق في قلوبنا منها قبس، و لنتعلق منها بحبل. يقول: "في تنزيه الباري عن إدراك العقول"؛ فعقول الملائكة والإنس والجنّ قاصرة عن أن تُحيط بعظمة الإله الباري، إنما تُدرك من عظمته لمن سبقت لهم منه السعادة، ما قُدِّرَ له. (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) [يوسف:76].

وبعضهم أعظم من بعض وأفضل من بعض، (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۘ مِّنْهُم) [البقرة:253]، (بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) [الأنبياء:26-28]، هذا وصف الملائكة -صلوات الله عليهم- فعقولهم وعقولنا أجمعين أقل من أن تُحيط بوصفٍ من أوصاف الله أو اسمٍ من أسمائه  فضلًا عن ذاته العلية، وإنما تُدرك وتعلم وتعرف من معاني الأسماء والصفات والعظمة والفعل والذات العلية ما سبق لها في الأزل، وهُيّئت له من عطايا الله عزّ وجلّ من دون أن تُحيط بشيء.

"جلَّ الجنابُ المُقدَّسُ عن دَرِك العقول"، فالعقول قاصرة، ومخلوقة، وحادثة، وأنّى للمخلوق أن يحيط بالخالق، وأنى للحادث أن يحتوي القديم! وعزَّ جلال المُنَزَّه عن رأي الحلول. جناح العقل مقصوص عن كُنه الوصول"؛ عن حقيقة الوصول، قال: لقد عميت هنالك أبصرةُ الفحول، ولا يُدْرَكُ -تعالى- بإدراك الحصول."، فهم إذا تجلى لهم وكشف السّتار، وأبعد الحاجب والحاجز والقاطع، ازدادوا معرفةً بعجزهم، وتحيّروا في عظيم جلاله وكبريائه، وازدادوا حيرةً في حبه وفي قربه، وفي معرفته، وفي كنه الوصول إليه، وازدادوا في ذلك حَيرةً، ونادوا:

وليس لعين الكشفِ يا صاح مُنتهى *** سوى حَيرةٍ في حَيرةٍ ضمن حيرة

لقد عميت هنالك أبصرةُ الفحول، ولا يُدْرَكُ -تعالى- بإدراك الحصول. وصلّى الله على أحمد الرسول"، سيّد العارفين، سيّد العارفين به، والسبب في معرفته سواه لإلهه سبحانه وتعالى، "وعزّ سرادق الكبرياء"، كبرياء الرحمن، جلّ جلاله، "عن الحضور بالوصول"، فليس الوصول بجسمانيةٍ ولا مكانٍ ولا بقعةٍ، وواصلٍ إلى الحق -تبارك وتعالى- في أي بقعة من بقع الأرض، لا وصول مسافة، ولا ارتقاء في شيء من المسافات والعلويات، ولا في السماوات، بل واصل إلى الرحمن بما تنظّف وتَنقّى، وبما تَشرّف من تجلّي الحق سبحانه وتعالى، الذي له انتقى.

قال: "وكَبُر عنقاء الوصال"، من قِبل الرحمن "عن الاصطياد بالحصول"، فإنما هي مواهب وعطايا، ومهما اجتهد المجتهد، وروّض نفسه، وزيّن باطنه بالحضور مع الله، فما هي إلا إقامة عبودية، أما حقائق الوصول والقرب والمحبة، والرضا، والمعرفة الخاصة فهي منح، وهي مواهب، وهي تفضّل، وهي مِنّة، وهي ابتداء، وهي إحسان، وهي نعمة منه وحده، جلّ جلاله وتعالى في علاه.

فجلّت عن الاصطياد بالحصول، ولكنه جودٌ مَبذول من حضرة الرحمن لأهل السوابق، من خيار الخلائق، من كلّ مقرّبٍ صادق. ألحقنا الله بهم، وسار بنا في دربهم، وسقانا من شربهم، اللهم آمين، اللهم آمين، اللهم آمين.

ويكونُ ختم كتابنا هذا في الظهر إنْ شاء الله، وعسى أن نُحوي شيء ممّا في الكتاب، ونشارك أهل الوَهبِ من الوهاب، والرّاقين إلى حضرة الاقتراب، من المتصلين بعالي الجناب. اللهم لا تحرمنا خير ما عندك لشَرِ ما عندنا، يا كريم، يا وهّاب، يا وهّاب، شرّفنا بكشف الحجاب، عن سمير حضرة قاب في مقام الاقتراب، يا أكرم الأكرمين.

اللهم صلّ وسلم على سيدنا محمد خلاصة الجوهر الإنساني، ومستودع سر العلم الفرقاني، وفاتح باب الاتصال الروحاني بالمقام العياني، حياة روح الوجود الخَلقي، وسر معنى الشهود الحقِّ، مجمع الكمالات الإنسانية، وساقي كؤوس الاتصالات العرفانية، في مدارج القرب الذاتي من الحضرة العلية، مظهر شؤون علم ما كان وما يكون، وسر نون والقلم وما يسطرون، سمير المعالي الكلية، وبشير الدواعي القلبية، بناطق الحكمة الاختصاصية، في رفرف القدس الأقدس، في مجال القُرب الأنفس، صلاةً صلاة يقف على نتائجها من سهّلت له العناية الأزلية الصعود على معارجها، صلاةً لا غاية تنتهي إليها، ولا حدّ يضبطها، ولا حصر يجمع عليها، تفتح للمصلي باب المواصلة بالمقام المحمّدي، في مجلى الظهور الأحدي، تفتح للمصلي باب المواصلة بالمقام المحمّدي، في مجلى الظهور الأحدي، تفتح للمصلي باب المواصلة بالمقام المحمدي، في مجلى الظهور الأحدي.

 وتنحصر له بها المشاهد في مشهد، وتجتمع له بها المحامد في محمَد، ويقوى بها على التلقي روحه وقلبه، ويظهر بها عليه من سر الحبيب في توجهاته ودّه وحبّه. 

يا وهاب يا وهاب، أدخلنا عليك من هذا الباب، وشرّفنا بكشف الحجاب، عن سمير حضرة قاب في مقام الاقتراب. يا وهاب يا وهاب، أدخلنا عليك من هذا الباب، وشرّفنا بكشف الحجاب، عن سمير حضرة قاب في مقام الاقتراب. يا وهاب يا وهاب، أدخلنا عليك من هذا الباب، وشرّفنا بكشف الحجاب، عن سمير حضرة قاب في مقام الاقتراب. يا كريم، يا وهّاب، يا وهّاب، يا رب الأرباب، يا مسبب الأسباب، بسر أسرار الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد عالي الجناب.

تاريخ النشر الهجري

13 صفَر 1447

تاريخ النشر الميلادي

07 أغسطس 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام