(535)
(339)
(364)
الدرس الرابع عشر للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الكبريت الأحمر و الأكسير الأكبر في معرفة أسرار السلوك إلى ملك الملوك ، للإمام الحبيب عبد الله بن أبي بكر العيدروس . ضمن دروس الدورة الصيفية الأولى بمعهد الرحمة بالأردن.
ظهر الأربعاء 24 صفر 1446 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
وبسندكم المتصل إلى الحبيب عبد الله بن أبي بكر العيدروس من كتابه الكبريت الأحمر والإكسير الأكبر رضي الله تعالى عنه وعنكم ونفعنا بعلومه وعلومكم وعلوم سائر الصالحين في الدارين آمين:
فصل
فِي حَلّ المُشْكِل عَنْ عِلْمٍ حَقِيْقَةِ التَّوْحِيدِ
التوحيد المبني على التفريد بعد أداء حق التجريد، هو أن يفردك الحق عنك بفردانيته، عند استيلاء سلطان الذكر، المذكور أوَّلًا في أول الكتاب، وهو له كالشرح، وهو مقام الذكر ذكر: "لله، الله"، أو "لا إله إلا الله"، كما قال الله تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكَرَكُمْ) [البقرة:152]، وقال: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الجمعة:10].
وقال رسول الله ﷺ: "أَلَا أُنبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرِ لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَأَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ، وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟" قَالُوا: "وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ الله؟ قال: "ذِكْرُ الله".
واعلم أن الذكر عدة السائرين بالمقامات القلبية إلى الله تعالى، وعمدة الطائرين بالمقامات الروحانية، المعبّر عنها بلطائف الأحوال والأنفاس، إلى الوصول إلى الله عز وجل، ولا يصل أحدٌ إلى الله إلا بذكر الله؛ لأنه منه بدأ، وإليه يعود، بقوله تعالى (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّلِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر:10]، وإن الذكر يوصل الذاكر إلى المذكور، بل يجعل الذاكر مذكورًا بقوله تعالى (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة:152].
والذكر على ثلاثة أقسام: ذكر بالأقوال، وذكر بالأعمال، وذكر بالأحوال.
فَاذْكُرُونِي بالأقوال، بلفظ الاستغفار عن العصيان، أذكركم بالرحمة والغفران، بيانه قوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) [آل عمران:135].
فَاذْكُرُونِي بأعمال الأركان من خلوص الإيمان (أَذْكَرَكُمْ) بحياة الجنان، ودخول الجنان، بيانه قوله: ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل:97].
(فَاذْكُرُونِي) كثيرًا بالأشباح والأرواح، أذكركم بالنجاح والفلاح، بيانه قوله تعالى: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الجمعة:10]
(فَاذْكُرُونِي) بالأحوال وهي: الشوق، والمحبة، (أَذْكُرْكُمُ) بالقبول والقربة، بيانه قوله: "مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا،تَقَرَّبْتُ إِلَيْه ِذِرَاعًا".
(فَاذْكُرُونِي) بالتضرّع والابتهال، (أَذْكُرْكُمْ) بالتفَضَّل والاستقبال، بيانه قوله: "وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي، تَلَقَّيْتُهُ هَرْوَلَةٌ".
(فَاذْكُرُونِي) بالتعظيم، (أَذْكُرْكُمْ) بالتكريم.
(فَاذْكُرُونِي) ذكرًا فانيًا، (أَذْكُرْكُمْ) ذكرًا باقيًا.
(فَاذْكُرُونِي) بصفاء السر، (أَذْكُرْكُمْ) بخالص البِر.
(فَاذْكُرُونِي) بترك الجفاء، (أَذْكُرْكُمْ) بحفظ الوفاء.
(فَاذْكُرُونِي) بترك الخطأ، (أَذْكُرْكُمْ) بأنواع العطاء.
(فَاذْكُرُونِي) من حيث أنتم، (أَذْكُرْكُمْ) من حيث أنا.
(فَاذْكُرُونِي) ببذل الوجود والفناء، (أَذْكُرْكُمْ) بنيل الشهود والبقاء.
وهذا حقيقة قوله تعالى: "وإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وهذا هو الذكر الحقيقي، الذي يجعل الذاكر مذكورًا، والمذكور ذاكرًا، بل يكون الذاكرُ، والذِّكْرُ، والمذكور واحدًا، كما قال الله تعالى: (لِمَن الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر:16].
وقال قائلهم:
رَقَّ الزُّجَاجُ، وَرَقَّتِ الخَمْرُ *** فَتَشَابَهَا فَتَشَاكَلَ الأمْرُ
فَكَأَنَّمَا خَمْرٌ وَلَا قَدَحٌ *** وَكَأَنَّمَا قَدَحٌ وَلَا خَمْر
وتجد مثل هذا في حال الفَراش مع الشمع؛ فإن الشمع يقول للفراش: "اذكرني في نفسك.. أذكرك في نفسي"؛ فذكر الفراش للشمع في نفسه أن يبذل نفسه لشعلة الشمع؛ فذكره شعلةَ الشمع في نفسه بالحَرْق عليها، ويذكره الشمعُ باشتعال نَفْس الفراش في نَفْسِهِ؛ فلا يبقى التمييز بين الشمع والفراش، فإن طلبت الفراش وجدت الشمع، وإن طلبت الشمع وجدت الفراش، كما قيل:
أَنَا مَنْ أَهْـوَي وَمَنْ أَهْـوَي أَنَـا *** نَحْنُ رُوحَانِ حَلَلْنَا بَدَنَا
فَمَتَى أَبْصَرْتَنَا أَبْصَرْتَهُ *** وَمَتَى أَبْصَرْتَهُ أَبْصَرْتَنَا
ولبعضهم أيضًا شعرا:
وَمَا كُنْتُ مِمَّنْ يُظْهرُ السِّرَّ إِنَّمَا *** عَرُوسٌ هَوَاهَا فِي ضَمِيرِي تَجَلَّتِ
فَشَاهَدْتُهَا فَاسْتَغْرَقَتْنِي فِكْرَةٌ *** فَغِبْتُ بِهَا عَنْ كُلِّ كُلِّي وَجُمْلَتِي
وهذا من بركة معنى معنوي (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكُ إِلَّا وَجْهَهُ)[القصص:88]، (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانِ) [الرحمن:26]، (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران:185]، سبحان الباقي بعد فناء خلقه.
والصوفية ماتوا قبل أن يموتوا، وأفنوا نفوسهم وَغِيرِهِم قبل أن يُفْنَوا (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْر) [الأعراف:54].
الحمدلله الذي يذكر من ذكره، ويشكر من شكره، ولا يُخيّب من رجاه، ولا يرد من دعاه، نعم الإله الله، نشهد أنّه الله الذي لا إله إلّا هو، وحده لا شريك له -تعالى في علاه-، أكرمنا سبحانه وتعالى بالإذن بذكره، ووعدنا عليه من عظيم بِرّه ما لا نستطيع أن نقوم له بحق شكره، بأن يذكرنا هو بنفسه في جلاله وعظمته وكبريائه ووليته وقدسيته، واعتلائه وارتفاعه ورحمانيته ورحيميته، لا إله إلّا هو، أرسل إلينا سيّد الذاكرين والمذكورين، حبيبه المصطفى الأمين سيّدنا محمّدًا بالهدى والحقّ والتبيين، فجعلنا به خير أمّة أُخرجت للعالمين. اللهم صلِ وسلّم على عبدك المختار، سيّدنا محمّد ابن عبدالله، الرحمة المهداة، والنعمة المُسداة، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وعلى آبائه وإخوانه من رُسُلك وأنبيائك أئمة الهداة إليك، والدعاة إلى سبيلك، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقرّبين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
يذكر الشيخ -عليه رحمة الله تعالى- لنا في هذا الفصل عظمة الذكر، ومعنى الذكر، وحقائق الذكر، وما يُفضي إليه الذكر، وما يوصل إليه الذكر، ومراتب الذاكرين، ومنازل الذاكرين، ومواهب الذاكرين، وما يحصّله الذاكرون من فيض فضل الله المبين، وجوده الواسع الذي لا حدّ له ولا تخصيص في كل حال وفي كل حين.
فيذكر: "فصلُ فِي حَلّ المُشْكِل عَنْ عِلْمٍ حَقِيْقَةِ التَّوْحِيدِ، المبنيّ على التفريد بعد أداء حقّ التجريد"، فأداء حقّ التجريد للعبد: أن يتجرّد -كما مرّ معنا- عن هواه، وعن شهواته، وعن غفلاته، وعن التفاتات قلبه إلى سوى المولى -جلّ جلاله-، فيتجرّد عن شرور طبعه، ويتجرّد عن كل ركونٍ إلى غير مولاه -جلّ جلاله-، إذا قام بحقّ هذا التجريد؛ قام بحقّ التفريد للحميد المجيد -جلّ جلاله-، وشهد فردانيته ووحدانيته واستقلاله، فيُفردَه الحقّ تعالى؛ يُفرد هذا العبد الموفّق عن نفسه، يُفرده عن ذاته، يُفرده عن شخصه، يُفردُه عن عينه بفردانيّته -سبحانه وتعالى-، باستيلاء سُلطان الذكر لهذا المُبدع الخالق المُنشئ الموجد الواحد، (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ) [فاطر:3]، (قُلِ اللَّهُ ۖ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) [الأنعام:91].
قال: "المذكور أوّلاً في أوّل الكتاب، وهو له كالشرح، وهو مقام الذكر: ذِكْرُ اللَّهِ، اللَّهُ، أو لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ. كما قال الله تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة:152]، وقال تعالى: (وَٱذۡكُرُوا۟ ٱللَّهَ كَثِیرا لَّعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ) [الجمعة:10]"، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) [الأحزاب:41-42]، (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا * رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا) [المزمل:8-9]، جلّ جلاله وتعالى قال: (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب:35].
يقول: وقال رسول الله ﷺ فيما صحّ في حديثه: "ألا أنبّئكم بخير أعمالكم"، ألا أنبِئكم وأُخبركم، وأنا الصادق الخبر المؤتمن من قِبل العليّ الأكبر، لأوصِلكم إلى حضرته العظيمة، وعطائه الأوفر: "ألا أنبّئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وإلهكم سبحانه وتعالى، وأرفعها في درجاتكم"؛ "وأرفعها في درجاتكم"؛ في درجات القُرب، في درجات المعرفة، في درجات المحبّة، في درجات الرضوان. "أرفعها في درجاتكم" في درجات الجنان، في درجات طُهر الجنان، في درجات الارتقاء في الدنيا والبرزخ وفي درجات القيامة.
"أرفعها في درجاتكم" وخير لكم من حيث مكانتها عند إلهكم، وما توصِلكم إليه من النتيجة الكبيرة التي تحصل من إعطاء الذهب والوَرِق -أي الفضّة- "وَخَيْرِ لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ"؛ أي: بذلكم وسماحكم بأعزّ ما يكون على النفوس من حيث طبعها، ومن حيث تكوينها، من الذهب والفضّة، فتنفقونها، ويكون لكم بذلك درجات ومنازل كبيرة، ولكن هذا أنبئكم به أعظم من إعطاء الذهب والورق، فيما يحصل لكم بواسطته من القرب والمحبة والعطاء الربّانيّ، بل وخير لكم من ذروة السنام، وهو الجهاد في سبيل الله، "وخير لكم من "أن تلقوا عدوّكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم" فتَقتِلون وتُقتَلون، خيرٌ لكم من ذلك كلّه، "قالوا: وما ذاك؟ يا رسول الله،" أعظم من هذا كلّه؟، "وما ذاك؟ يا رسول الله، قال: ذكر الله"، هكذا جاء في سنّة الترمذيّ وابن ماجة وغيرهما، هذا الحديث العظيم الذي رفع فيه ﷺ راية الذكر، وشأن الذكر.
وهو أيضًا متصل بمعنى الحديث الآخر الذي نكرّر سماعه، وهو أنّه "سُئل نبينا عن أيّ المُصلّين أعظم أجراً؟، فقال: أكثرهم لله ذكرًا، فأيّ المُتصدّقين أعظم أجرًا؟، قال: أكثرهم لله ذكرًا، فأيّ الصائمين أعظم أجرًا؟، قال: أكثرهم لله ذكرًا، فأيّ المُجاهدين أعظم أجرًا؟، قال: أكثرهم لله ذكرًا، فقال سيدنا أبو بكر: ذهب الذاكرون لله بخير الدنيا والآخرة، قال ﷺ: أجل، ذهب الذاكرون بخير الدنيا والآخرة. اللهم اجعلنا من الذاكرين الشاكرين، اللهمّ أعِنّا على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك.
قال: وأعلم أنّ هذا الذكر لله هو تعلّق باطن العبد بربّه، واستشعاره واستحضار عظمته، واطّلاعه وقدسيّته، ومعاني أسمائه وصفاته، ودوام ذلك في باله، هذا "الذكر عدّة السائرين بالمقامات القلبية إلى الله"، فما ساروا إليه إلّا بذِكره، ولا قربوا إليه إلّا بشكره، وشكره من ذِكره -جلّ جلاله وتعالى في علاه-، فعمارة وزينة الباطن لكلّ منّا باستحضاره عظمة هذا الإله، ومعاني أسمائه وصفاته، واستشعار إحاطته به وقدرته عليه، واطّلاعه على سريرته، وما يُضمِرُه وما يُخفيه، وهو أعلم بما نخفيه منّا، وأعلم بسرائرنا منّا، بل أعلم بظواهرنا أيضًا منّا جلّ جلاله وتعالى في علاه. فيعلم من ظواهرنا ما لا نعلم نحن، ويعلم من سرائرنا ما لا نعلم نحن، جلّ جلاله وتعالى في علاه، (وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الطلاق:12].
عمارة باطنك أن يستشعر هذه المعاني ويدوم ذلك الاستشعار، وأن يستحضر هذه الحقائق ويستمر ذاك الاستحضار، فهذا هو "الذكر الذي هو عدة السائرين بالمقامات القلبية إلى الله" تبارك وتعالى، وإذا ارتفعوا إلى الطيران فعُمدتهم في طيران أرواحهم إلى المراتب العُلا، هذا الذكر؛ "عمدة الطائرين بالمقامات الروحانية المعبر عنها بلطائف الأحوال والأنفاس إلى الوصول إلى الله تعالى".
قال: "ولا يصل أحد إلى الله إلّا بذكر الله، لأنه منه بدأ وإليه يعود"، فلابدّ من تولعه بذِكره، واستغراق الذكر له جميع أجزائه وكليّاته، حتى لا يبقى فيه معنى إلّا ذاكر للحقّ -سبحانه وتعالى- ومتوجّه إليه، وحينئذٍ يُقّابّلُ بذكر الرحمن له، وذُكر الرحمن -سبحانه وتعالى- من حيث هو، وما ذِكر العبد إلّا من حيث هو العبد، وأين ذِكر العبد من ذِكر الربّ؟ فنذكره بما استطعنا، ويذكرنا بما لا تبلغه أطماعنا، لا إله إلّا هو جلّ جلاله.
قال: "ولا يصل أحد إلى الله إلّا بذكر الله، لأنه منه بدأ وإليه يعود"، وقد مرّ معنا أنّ (لا إله إلّا الله) هي المفتاح للمتوجّهين إلى الله، وعليها يقوم المبتدئون وإليها يرجع المُنتهون، (لا إله إلّا الله) تعالى في علاه، (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ۚ) [فاطر:10].
"وإنّ الذكر يوصل الذاكر إلى المذكور"، جلّ جلاله وتعالى في علاه، وعند الوصول فهناك عجائب من المواهب، من حضرة الواهب، لا يحصرها حساب حاسب، "بل يجعل الذاكر مذكور"، فيغمره ذكر الله تبارك وتعالى له، فيصير مذكورًا عند الله -جلّ جلاله وتعالى في علاه- كما قال في صريح خطابه وبيّن كتابه (فَٱذۡكُرُونِیۤ أَذۡكُرۡكُمۡ)، فإذا ذكرتكم فأنتم مذكورون إذًا، ولكن مذكورون من قِبل من؟ وعند من؟ فماذا يساوي ذكركم؟ ماذا يساوي ذكركم عند ذكره هو؟ فصرت مذكورًا بالحقيقة.. فما معنى أن نعدّك ذاكرًا بعد أن يتولاك هو بذكره؟ إيش من ذكر عندك؟ إيش معنى ذكرك كلّه؟ إيش معنى غاية ما تصل إليه من شريف الذكر بالنسبة لذكره؟ فيَضمحل ذكرك في ذكره، فيكون هو الذاكر وهو المذكور جلّ جلاله وتعالى في علاه.
قال: "والذكر على ثلاثة أقسام: ذكر بالأقوال، ذكر بالأعمال، وذكر بالأحوال."، فاذكر ربّك بأعمالك، كيف تذكر ربّك بأعمالك؟
هذا ذكرك لله بالأفعال. فكُن ذاكرًا لله بفعلك، ذاكرًا لله بحركاتك وسكناتك، لا تأكل إلّا على السنّة، ولا تأكل إلّا الحلال، هذا ذكر لله بالفعل، وتأكل باليُمنى، وتُسمّي الله في أوّل الأكل، وتنوي بالأكل التقوّي على طاعته -جلّ جلاله- ولا تُلقي عينك في أوجه الحاضرين الآكلين، ولا تأكل إلّا ممّا يليَك، وتعمل ببقيّة السنن، فإذا أنت ذاكرٌ لله تعالى بالفعل، وكذلك تلبس، وكذلك تقوم وتقعد وتمشي في متابعةٍ لحبيب الله ﷺ، هذا ذكر الله بالأفعال.
تستغفر من جميع الذنوب والمعاصي، فلفظ الاستغفار ذكْرٌ أيضاً بالقول، الذكر بالأقوال قبل الأعمال، الذكر بالأقوال بالاستغفار، الذكر بالاستغفار، ومعناه التهليل، والتسبيح، والتحميد،.. استغفار عن العصيان، يقول: "فاذكروني بالأقوال بلفظ الاستغفار عن العصيان، والتوبة إلى الرحمن، أذكركم بالرحمة والغفران، قال بيانه قوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ)"، ذكروه فاستغفروا، فهذا الاستغفار ذكرٌ بالقول "(فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران:135]" هذا الذكر بالأقوال.
والذكر بالأعمال، والأفعال، "فاذكروني بأعمال الأركان من خلوص الإيمان"، فلا تكون لكم حركة ولا سكون إلّا في مرضاتي، وفي متابعة خير برياتي، "أذكركم بحياة الجَنان ودخول الجِنان"، أذكركم بحياة الجَنان في الدنيا، ودخول الجِنان في الأخرى، إذا ذكرتموني بأعمال الأركان من خلوص الإيمان، فصرتم تقتدون بحبيبي، وتبتغون رضاي، ولا تقرّون أنفسكم على فعلٍ ولا على عملٍ إلّا ما كان ضمن شريعتي مقبولاً لديّ، ومقرّبًا إليّ، أذكركم بحياة الجَنان ودخول الجِنان، "بيانه قوله تعالى (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) [النحل:97]" فهذا ذكر بالعمل، قال: النتيجة حياة الجَنان، "(فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)[النحل:97]" فيحيا جنانه فتطيب حياته في كلّ شأنه في سرّه وإعلانه، ويصير بعد عموم: "إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له"، في خصوص تولّي هذا الرحمن في كلّ شأنٍ، في السرّ والإعلان، فيحيا حياةً طيبةً مليئة بالاطمئنان، ومليئة بالسرور بهذا الرحمن، ومليئة بالسكون والطمأنينة، بعجائب من نزول السكينة.
فهو يذوق من اللذائذ في دار الدنيا ما لا يمكن ذوقه بملك الدنيا، وما لا يمكن ذوقه بجميع ما فيها من مطعومات، ومشروبات، وملبوسات، ومنكوحات، ومركوبات، ومسكونات، لو اجتمعت له كلّها لا يمكن أن يذوق هذه اللذة، ولكن يذوقها، فما أطيب حياته! (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ ) وهو في هذه الحياة يتلقّى، وهو في هذه الحياة يتنقّى، وهو في هذه الحياة يترقّى، فما أطيب حياته! وهو في هذه الحياة يزداد، وهو في هذه الحياة يتوالى عليه الإسعاد، وهو في هذه الحياة يستمر له الإمداد، فما أطيب حياته! وهو في هذه الحياة يحضر، وهو في هذه الحياة ينوّر، وهو في هذه الحياة يُنظَر، فما أطيب حياته! وهو في هذه الحياة يزداد قُرب، وهو في هذه الحياة يحلو له الشُرب، فما أطيب حياته!
(فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)، ودخول الجنان (وَلَنَجۡزِیَنَّهُمۡ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ مَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ) [النحل:97]، فكان جزاء الذكر بالأعمال والأركان من خلوص الإيمان حياة الجنان، ودخول الجنان، مُشارٌ إليها بقوله: (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
"فاذكروني كثيرًا بالأشباح والأرواح، أذكركم بالنجاح والفلاح"، فأكتُب لكم نجاحًا، وفلاحًا ومِنَنًا، وأرباحًا، واستقامةً، وصلاحًا، وخيراتٍ مناحًا.
يقول: "فاذكروني كثيرًا بالأشباح والأرواح"، بهذه الأجسام، وبأرواحكم، "أذكركم بالنجاح والفلاح، يقول: (وَٱذۡكُرُوا۟ ٱللَّهَ كَثِیرࣰا لَّعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ)" فينال الفلاح وهو الفوز في الدارين من أكثر ذكر الله.
(فَاذْكُرُونِي) بالأحوال من الشوق، والمحبة؛ (أَذْكُرْكُمُ) بالقبول والقربة. "مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْه ِذِرَاعًا"، (فَاذْكُرُونِي) بالأحوال، من معاني الشوق والمحبة، والطلب، والرغبة، والهيام، والتولّه، والإقبال بالكلية، (أَذْكُرْكُمُ) بالقبول، والتقريب، والعطاء، والتحبيب، والمَنّ الرحيب.
(فَاذْكُرُونِي) بالتضرع والابتهال، في عبودية تقوم فيها براهين افتِقارِكُم واضطرارِكُم إليّ،
فدعائي وابتهالي *** شاهدٌ لي بافتقاري
فلهذا السرّ أدعو *** في يساري، وعَسَاري
(فَاذْكُرُونِي) بالتضرع والابتهال، (أَذْكُرْكُمْ) بالتفَضَّل والاستقبال، بيانه قوله تعالى: "وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي، تَلَقَّيْتُهُ هَرْوَلَةٌ".
"(فَاذْكُرُونِي) بالتعظيم"، والإجلال الكبير، "(أَذْكُرْكُمْ) بالتكريم" والعطاء الوفير.
"(فَاذْكُرُونِي) ذكرًا فانيًا"، لأنكم فانون وذكركم فانيّ، ولكن أنا إذا ذكرتكم فذكري باقٍ، وسرّ الذكرِ باقٍ، وفائدة ذكري باقٍ لكم، "(فَاذْكُرُونِي) ذكرًا فانيًا، (أَذْكُرْكُمْ) ذكرًا باقيًا."
"(فَاذْكُرُونِي) بصفاء السر، (أَذْكُرْكُمْ) بخالص البر."، "(فَاذْكُرُونِي) بصفاء السر"، من غير شائبةٍ للغير، "(أَذْكُرْكُمْ) بخالص البر"، العطاء الواسع الكبير العظيم الصِرف المحض. "(أَذْكُرْكُمْ) بخالص البر" (هَٰذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [ص:39]
"(فَاذْكُرُونِي) بترك الجفاء"، بترك الغفلات، وترك الالتفات للغير، "(أَذْكُرْكُمْ) بحفظ الوفاء" (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) [البقرة:40].
"(فَاذْكُرُونِي) من حيث أنتم"؛ في خلقيتكم، وفي ضعفكم، وفي نقصكم، وفي حصركم، وفي فنائكم، وفي صِغركم، وفي ذلّتكم، "(أَذْكُرْكُمْ) من حيث أنا" في ربوبيّتي، وأُلوهيّتي، وكمالي، وأحديّتي، وواحديّتي، وعظمتي، وجلالي، لا إله إلّا الله.
"(فَاذْكُرُونِي) من حيث أنتم، (أَذْكُرْكُمْ) من حيث أنا."، ذكركم فانيّ، وذكري باقٍ، ذكركم محدود، وذكري لا حدّ له، ذكركم محصور، وذكري لا حصر له، ذكركم مجرّد ألفاظ، وذكري عطاءٌ يُفاض، فما أعظم الفرق بين ذكركم وذكري! ولكن أذِنت لكم، ورضيت منكم بذلك الذكر، على قدركم، وعلى ما تستطيعون.
قال: (أَذْكُرْكُمْ) من حيث أنا، (فَاذْكُرُونِي) ببذل الوجود والفناء، بذل الوجود: أن تشهدوا أنّ وجودكم مستعار قائمٌ بي، مُستمدٌّ من إيجادي ووجودي، فالوجود لي ليس لكم، فتفنون فيه، فإذا عملتم ذلك وذكرتموني ببذل الوجود والفناء، أذكركم بنيل الشهود والبقاء، وأُعطيكم كرامة الشهود، ونعمة مشاهدتي في الوجود، وأُكرمكم بالبقاء بالعطاء الباقي، وإبقاء أرواحكم في نعمة التلاقي وسَقيكم بيد أشرف ساقي، (فَاذْكُرُونِي) ببذل الوجود والفناء (أَذْكُرْكُمْ) بنيل الشهود والبقاء.
وهذا حقيقة قوله تعالى: "وإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي"؛ فحينئذٍ يتحوّل هذا الذاكر إلى مذكور، ويتولّاه العليّ الشكور، "وهذا هو الذكر الحقيقي، الذي يجعل الذاكر مذكورًا، والمذكور ذاكرا، بل يكون الذاكرُ، والذِّكْرُ، والمذكور واحدًا، كما قال الله تعالى ( لِمَن الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر:16]".
وبذلك قال قائلهم في اجتلاء هذه المعاني:
رَقَّ الزُّجَاجُ، وَرَقَّتِ الخَمْرُ *** فَتَشَابَهَا فَتَشَاكَلَ الأمْرُ
فَكَأَنَّمَا خَمْرٌ وَلَا قَدَحٌ *** وَكَأَنَّمَا قَدَحٌ وَلَا خَمْر
من هذا الصفاء الذي في الشراب، والذي في الزجاجة، فما تدري أهي الزجاجة شرابٌ أو هو شرابٌ زجاجة! فاختلطا..
وهكذا قال: "وتجد مثل هذا في حال الفَراش مع الشمع؛ فإن الشمع يقول للفراش: اذكرني في نفسك.. أذكرك في نفسي"؛ كيف؟ قال: "فذكر الفراش للشمع في نفسه أن يبذل نفسه لشعلة الشمع"؛ فحينئذٍ "فذكره شعلةَ الشمع في نفسه بالحَرْق عليها، ويذكره الشمعُ باشتعال نَفْس الفراش في نَفْسِهِ؛ فلا يبقى التمييز بين الشمع والفراش"، هذه المادة التي تكون منها الشمع واختلط فصارت كواحدة، "فإن طلبت الفراش وجدت الشمع، وإن طلبت الشمع وجدت الفراش".
أَنَا مَنْ أَهْـوَي وَمَنْ أَهْـوَي أَنَـا *** نَحْنُ رُوحَانِ حَلَلْنَا بَدَنَا
فَمَتَى أَبْصَرْتَنَا أَبْصَرْتَهُ *** وَمَتَى أَبْصَرْتَهُ أَبْصَرْتَنَا
وفي هذا المعنى يقول صلى الله وسلم عليه وعلى آله: "حسينٌ منّي وأنا من حسين، أحبّ الله من أحبّ حسينًا"، فإذا جئت تطلب الله، تجده في حُبّه، في حُبّك للنبي ﷺ وللحسين، فإذا جئت تطلب الحسين، وجدته من رسول الله ﷺ، إذا جئت تطلب رسول الله، وجدته قد ملأ بالرعاية والعناية والرأفة الحسين، فهو من حسين، "حسينٌ منّي وأنا من حسين"، إذا جئت تطلب الله، وجدته عند رسول الله ﷺ، الذي دعا: "أحبّ الله من أحبّ حسينًا"، فمهما طلبتَ رسول الله بصدقٍ وجدتَ الله، ومهما طلبتَ الحسين بصدقٍ وجدتَ الله، ومهما طلبتَ الله بصدقٍ اهتديتَ إلى حبّ رسول الله والحسين ضرورةً؛ لأنهم عند الله تبارك وتعالى.
فهؤلاء الثلاثة المذكورون في الحديث: الله تعالى، وأنا -رسول الله ﷺ- ، والحسين، فقوّم الامتزاج بينهم:
"حسينٌ مني، وأنا من حسين، أحبّ الله من أحبّ حسينًا". لا إله إلا الله..
أَنَا مَنْ أَهْـوَي وَمَنْ أَهْـوَي أَنَـا *** نَحْنُ رُوحَانِ حَلَلْنَا بَدَنَا
وكذلك يقول عن ابنته الزهراء: فاطمةُ بَضعةٌ مني، يقبِضني ما يقبِضُها، و يبْسطُني ما يبسطُها، يرضيني ما يرضيها، يسوءني ما يسوءها، عليها رضوان الله وسلامه الأكبر مع أبيها الأطهر صلى الله وسلم عليه وعلى آله.
وهكذا حتى ترتقي إلى معاني: (مَّن یُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدۡ أَطَاعَ ٱللَّهَ) [النساء:80]، (إِنَّ ٱلَّذِینَ یُبَایِعُونَكَ إِنَّمَا یُبَایِعُونَ ٱللَّهَ یَدُ ٱللَّهِ فَوۡقَ أَیۡدِیهِمۡ) [الفتح:10]، فتتصل بالجناب لتحظى بالاقتراب.
وَمَا كُنْتُ مِمَّنْ يُظْهرُ السِّرَّ إِنَّمَا *** عَرُوسٌ هَوَاهَا فِي ضَمِيرِي تَجَلَّتِ
فَشَاهَدْتُهَا فَاسْتَغْرَقَتْنِي فِكْرَةٌ *** فَغِبْتُ بِهَا عَنْ كُلِّ كُلِّي وَجُمْلَتِي
يقول:
أباحت دمي إذ باح قلبي بحبّها *** وحلّ لها في حُكمها ما استحلّتِ
أباحت حِمى لم يَرعه الناس قبلها *** وحلّت تَلاعًا لم تكن قبل حُلت
وَمَا كُنْتُ مِمَّنْ يُظْهرُ السِّرَّ إِنَّمَا *** عَرُوسٌ هَوَاهَا فِي ضَمِيرِي تَجَلَّتِ
فألقت على سِرّي أشعة نورها *** فلاحَ لجَلاَسي خفايا طويةِ
فَشَاهَدْتُهَا فَاسْتَغْرَقَتْنِي فِكْرَةٌ *** فَغِبْتُ بِهَا عَنْ كُلِّ كُلِّي وَجُمْلَتِي
وحلّت محل الكُلّ مني بكُلّها *** فإيّاي إيّاها إذا ما تَبَدّتِ
ونمّت على سِرّي فكانت هي التي *** عليها بمها بين البرية نمّت
إذا سألتَ: "من أنت؟" قلتُ: أنا *** الذي بقائي إذا فنيَت فيك هويتي
أنا الحق في عشقي كما أن سيدي *** هو الحق في حُسنٍ بغير معيةِ
فإن كنت في سُكري شطحتُ فإنني *** حكمتُ بتمزيق الفؤاد المفتت
ولا غرو إن أصليت نار تُحرّقي *** فنار الهوى للعاشقين أُعدّت
ومن عجبٍ أن الذين أحبهم *** وقد أَعقلوا أيدي الهوى بأعنّةِ
سقوني، وقالوا: لا تغنِ ولو سقوا *** جبال حنين ما سقوني لغنّتِ!
تمنّت سُلِيمة أن أموت صبابةً *** وأهون شيءٍ عندنا ما تمنّت
فهكذا شأن أرباب الهوى من الذين فُنوا عن السِوى، قالوا: "هذا من بركة معنى معنوي (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكُ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص:88]"، فمن حيث قصده هؤلاء الصادقون المخلصون، بقيَ ذلك، وما عدا ذلك فوجهه، وما عدا ذلك، فقد فني وتلاشى في شهودهم، وهلك.
ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطل *** ………………………….
"و(كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانِ) [الرحمن:26]، (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران:185]، سبحان الباقي بعد فناء خلقه".
قال: و إن هؤلاء "الصوفية" قد "ماتوا"، أي: ماتت نفوسهم، وماتت إرادة غير الله فيهم، ماتت غلبة شهواتهم عليهم، مات ميلهم إلى سواه، ماتوا فماتوا، فبذلك ماتت نفوسهم قبل أن يموتوا.
ومن مات هذا الموت، لم يكن الموت في حقّه إلا مجرد انتقال من حالٍ إلى حالٍ أحلى، ومن حالٍ إلى حالٍ أطيب، ومن عالم ضيّق إلى عالم واسع، ومن عالم صغير إلى عالم كبير، فقط؛ ولأنه قد مات فعلًا، قد ماتت نفسه بحياة قلبه، فبقي بربّه.
"ماتوا قبل أن يموتوا، وأفنوا نفوسهم وَغِيرِهِم قبل أن يُفْنَوا" وغيرهم كذلك، فلم يبقَ شهودٌ لهم إلا الحق، (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْر) [الأعراف:54].
………………… *** ………. وقل لنفسك موتي
فإذا انتهيتَ إلى الذي عرّفته *** شاهدتَ من عرشٍ إلى بهموت
ورأيت سراً لم يُجِزْ إفشاءه *** أهلُ الهدى والكشفِ والتثبيتِ
هكذا يفعل الذكر بالذاكرين، بل هكذا يتفضل عليهم المذكور رب العالمين.
فلا تبخل على نفسك بتزيين باطنك بذكر هذا الإله، فإنه سبب النجاة، والفوز برضاه ولقاءه وعطائه الذي لا يُبلغ منتهاه (هَٰذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [ص:39].
اللهم أعنّا على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك، اللهمّ إنا نسألك حُبك، حُبك وحب من يحبك، وحب عملٍ يُقرّبنا إلى حُبك، اللهم اجعل حُبك أحب إلينا من أنفسنا وأهلينا وأموالنا، ومن الماء البارد على الظمأ. يا حيّ يا قيوم، يا منان يا كريم، ابسط لنا بساط ذكرك، وحققنّا بحقائق ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك.
وهكذا قال سيدنا المصطفى ﷺ لسيدنا معاذ بن جبل: "يا معاذ إني أحبك، فلا تدعَنَّ أن تقول في دُبر كل صلاة، اللهم أعنّي على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك "، فهنيئًا لمعاذ بمحبة زين الوجود.. وانظر من سر محبته؛ أبدى له هذا الدعاء ليدعو الله به بعونٍ على الذكر، لأن الذكر -كما سمعتَ بعض أخباره- عظيم، وكبير، وجليل، ومن لم يُعَن على ارتقاء مراتبه فلا يُرْقَى.
فلِهذا قال: "أعني على ذكرك"، ولو كان مجرد اللفظ باللسان فما يحتاج معونةً، قده بذله لك، ويُسِّر لك تذكر، باللسان سهل ما أسهل أن تقول: لا إله إلا الله، والحمدلله والله أكبر،… ولكن: أعنّي على ذكرك، على حقيقته أعنّي عليه حتى أتمكن فيه وأتحقق بحقيقته. وكذلك الشكر؛ "أعنّي على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك".
ونحن نحبكم في الله -تبارك وتعالى-، فلا تدعوا أن تقولوا في دُبُر كل صلاة: اللهم أعنّي على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك.
ثبّتنا الله وإياكم، ورعانا بعين عنايته، وأدخلنا دوائر أحبته، وأعاننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وحققنا بحقائق ذكره، وغمسنا في بحار ذكره، وملأنا بأنوار ذكره، وجعلنا مسعودين بذكره لنا حيثما كنّا، وأينما كنّا، مستغرَقين في ذكره بجميع هِممنا ونوايانا ومطالبنا ومقاصدنا.
اللهم إنا نعوذ بك من نيةٍ تخرج عن حقيقة ذكرك، ونعوذ بك من قصدٍ يخرج عن حقيقة ذكرك، ونعوذ بك من قولٍ يخرج عن حقيقة ذكرك، ونعوذ بك اللهم من فعلٍ يخرج عن حقيقة ذكرك، ونعوذ بك اللهم من لحظةٍ تخلو عن حقيقة ذكرك، ومن نَفَسٍ يخلو عن حقيقة ذكرك.
فأعنّا على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك، واجعلنا عندك مذكورين بأسنى ما تذكر به محبوبيك والمقرّبين لك من خواصّ بريتك، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اجعل لنا إمدادًا من سرّ ذكر حبيبك لك نذكرك به، واجعل لنا إمدادًا من سر ذكرك لحبيبك تذكرنا به، بمحض الفضل والجود، يا بَرّ يا ودود، بوجاهة صاحب المقام المحمود، زين الوجود، عبدك الشاهد المشهود، محمد بن عبد الله، الرحمة المهداة، والنعمة المُسداة، أبي القاسم، أبي الزهراء البتول، وأبي عبد الله، وأبي إبراهيم، وأبي زينب و رقية وأمُّ كَلثَّوم، اللهم حنّن روحه علينا حنانًا تغمسنا به في بحار ذكرك الخالص، وتَهَب لنا به ما وهبت للذاكرين المذكورين من شريف الخصائص، برحمتك يا أرحم الراحمين، وجُودك يا أجود الأجودين.
نعوذ بك من الغفلة عنك، ونعوذ بك من التولّي عن ذكرك، ونعوذ بك من الإنقطاع عن ذكرك، نسألك أن تحيينا ذاكرين شاكرين، وتتوفانا ذاكرين شاكرين، وتبعثنا ذاكرين شاكرين، وتحشرنا ذاكرين شاكرين، وتُشهِدنا مواقف القيامة كلها في قُربٍ من حبيبك الأمين ذاكرين شاكرين، وتمرّ بنا على الصراط ذاكرين شاكرين، تدخلنا جنّاتك في زمرة حبيبك ومعيته ذاكرين شاكرين، تُنزلنا منازلها الرفيعة ذاكرين شاكرين، برحمتك يا أرحم الراحمين، حتى توردنا إلى ساحة النظر إليك مذكورين مشكورين، لائقٌ ذلك بعطائك الثمين، و منّك الواسع المبين، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.
فبحقّك عليك، لا تَكِل أحدًا منّا إلى نفسه، ولا إلى هواه، ولا إلى غيّه، ولا إلى أحدٍ من خلقك طرفة عين ولا أقل من ذلك ولا أكثر، يا كريم، يا بر، يا أرحم الراحمين، يا أكرم الأكرمين.
وبين الظهر والعصر في يوم الأربعاء ساعة إجابة، كانت فيها إجابته -تعالى- للحبيب الأعظم في غزوة الخندق، ولم يَزل أهل المدينة يخرجون ما بين الظهر والعصر إلى مسجد الفتح في مكان غزوة الخندق، حيث الحَجَرة التي وقف عليها ﷺ، ورفع يديه يدعوه حتى سقط رداؤه، وأُجيب في تلك الساعة ﷺ فهبت الريح في تلك الليلة على الكفار، وأكفأت قدورهم، وقلعت خيامهم، وسَروا هاربين فارين.
لا إله إلا الله، بجاه حبيبك الأمين، ردَ عْنا كيد الشياطين من الإنس والجنّ أجمعين، واخذل أهل المكر والزيغ من شرار الصهاينة، ومن أعانهم، ومن وقف في صفّهم، اهزمهم وزلزلهم يا منزل الكتاب، يا سريع الحساب، يا هازم الأحزاب، اهزمهم وزلزلهم، اهزمهم وزلزلهم، يا هازم الاحزاب، يا منزل الكتاب، يا مُنْشئ السحاب، يا سريع الحساب، اهزمهم وزلزلهم، اهزمهم وزلزلهم، اهزمهم وزلزلهم.
اللهم يا منزل الكتاب، يا سريع الحساب، يا مُنْشئ السحاب، يا هازم الأحزاب اهزمهم وزلزلهم، اللهم اهزمهم وزلزلهم، اللهم اهزمهم وزلزلهم، وادفع عن المسلمين جميع شرورهم، يا قوي، يا متين، يا أكرم الأكرمين، يا أرحم الراحمين.
14 صفَر 1447