الكبريت الأحمر - 17 | في السائرين و الطائرين
الدرس السابع عشر للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الكبريت الأحمر و الأكسير الأكبر في معرفة أسرار السلوك إلى ملك الملوك ، للإمام الحبيب عبد الله بن أبي بكر العيدروس . ضمن دروس الدورة الصيفية الأولى بمعهد الرحمة بالأردن.
ظهر الخميس 25 صفر 1446 هـ
نص الدرس المكتوب :
بسم الله الرحمن الرحيم
وبسندكم المتصل إلى الحبيب عبد الله بن أبي بكر العيدروس من كتابه الكبريت الأحمر والإكسير الأكبر رضي الله تعالى عنه وعنكم ونفعنا بعلومه وعلومكم وعلوم سائر الصالحين في الدارين آمين:
فصلٌ
فِي السَّائِرِينَ والطَّائِرِينَ
"ولكن الشأو ـ مع عِظَمِ شأنه، وعز برهانه ـ قد جعل الله للسائرين إليه منارات، ورتَّب للطائرين به مقامات روحانيات، فمبلغهم من ذلك على ما طابت لهم ريحُ العناية، وسارت بهم على فُلك الاستقامة؛ حتى وصلوا إلى معادن جواهر الهداية؛ فنزلوا ليحصّلوا، وانفصلوا ليتّصلوا؛ فهبّت نفحات ألطاف الربوبية، فانخرَقت حُجُبُ أستار البشرية، عن وجه العبودية، عند سطوات كتائب أوصاف الإلهية؛ فكشف عن قلوبهم غطاء ظلمة الفكرة، وكُوشفوا بأنوار المعرفة؛ فعاشوا بعد أن طَاشُوا، وطَاشُوا بعد أن عاشوا؛ فتارةً بتجلّي جماله عاشوا، وأخرى بتجلّي جلاله طاشوا؛ فهم متردّدون بين روضة عيشٍ، وغدير طيشٍ؛ إلى أن قطعوا مفاوز العيش، وعبروا عن بحار الطيش؛ فلم يبقَ العيش، ولا الطيش؛ ففُنوا عن أنانيتهم بهويّته، وبقوا بلا "هُمْ" بربوبيته.
(وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ۖ) [الأعراف:43]،
و (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [يونس:10].
وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه والتابعين، ونفعنا بهم، ولا حرمنا بركتهم، ولا بركة جميع عباد الله الصالحين."
آمين آمين، آمين بسر الفاتحة إلى حضرة روح المؤلف الإمام عبدالله بن أبي بكر العيدروس وأصوله وفروعهم، أن الله ينفعنا بهم وبما آتاهم، بكتبهم وبعلومهم ومعارفهم وأسرارهم، ولا يحرمنا بركة مقرَّب ولا بركة عارف ولا بركة ولي ولا بركة صالح من أهل الأرض والسماء في الأولين والآخرين، اجمع لنا خيراتهم ودّنا بإمداداتهم، واصلح لنا الشأن كله ولكل الأمة أجمعين وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
هكذا ختم الشيخ كتابه، والحمد لله الذي قَرَّب أحبابه، ووهبهم سبحانه وتعالى مِنّته وفضله وثوابه، وخصّص أهل الإنابة، وأحسَن لكل منهم إيابه. نشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، يأخذ بيد من استهداه سبيل الإصابة، ونشهد أن سيّدنا ونبيّنا وقرة أعيننا و نور قلوبنا محمدًا عبده ورسوله، أوحى إليه كتابه، وجعله سيّد أحبابه، وإمام أهل حضرة اقترابه. صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى من والاه وأحبّه واقتدى به، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، سادات أهل قُرب الحق تبارك وتعالى، وأهل الوجهة إليه في كل الشؤون، وآلهم وصحبهم وتابعيهم ومن بهديهم يهتدون، وعلى ملائكته المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم في كل حالٍ وحين، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعدُ،
فيختم سيدنا الإمام عبد الله العيدروس -عليه رحمة الله- كتابه في ذكر السائرين والطائرين، ليبيّن أنهم وبداياتهم ونهاياتهم كانت من فيض فضله، وكانت من خالص طَوْله، وكانت من خصائص نيله سبحانه وتعالى؛ إنالته إياهم تلك المواهب، وعجيب تلك المراتب، وكل ما أحاط بها ما كان إلا شأن الربوبية والألوهية، التي تولّت أولئكم العبيد، ووهبتهم المزيد، وقرّبتهم تقريبًا، ومنحتهم فضلًا رحيبًا.
يقول: "ولكن الشأو مع عظم شأنه" الرفعة والكرامة والجلال والعظمة، "مع عظم شأنه -سبحانه وتعالى- وعِزّ برهانه" الشأو والفضل والكرامة لأولئك ما جعله لهم، "قد جعل الله للسائرين إليه منارات" أبصروها وسعوا في طرقها، واستناروا بها ومضوا إليها، ورفع لهم تلك المنارات علامات رضوانه، وعلامات تخصيصه إياهم بواسع إحسانه.
ومنها ما يأتي إذا أراد أن يظهر محبته لمحبوبٍ سبقت له المحبة، ولم يسبق أن أبرزها قبل بروزه إلى هذا العالم، وقبل التحاقه بركب الوجهات إليه سبحانه وتعالى مع الخواص الأكارم، فينادي جبريل: يا جبريل، إني أحب فلان بن فلانٍ فأحبّه، ويأمر جبريل أن ينادي في عالم السماوات للملائكة ومن فيها: يا أهل السماء إنّ الله قد أحب فلانًا بن فلان فأحبوه فيحبه أهل السماء ويوضع له القبول في الأرض. ومنهم من تسبق تلك النداءات والتخصيصات والتفضيلات خلقَه وتكوينه الجسماني، وظهوره الجسداني، فلا يزالون الملأ الأعلى يعبدون الحق -جل جلاله- بمحبّته ومودته وإكرامه من أجل مصطفيه ومنتقيه ومقربه -جل جلاله وتعالى في علاه- قبل وجوده وقبل بروزه، ويقولون: فلان الذي يبرز يوم كذا، والذي يولد يوم كذا في مكان كذا، ويكون له من الشأو كذا، إلى غير ذلك حتى لا يأتي وقت تكوينه إلا وقد عظُمَ تعلق الملأ الأعلى بشؤونه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
وبذلك نرى ما جعل سبحانه وتعالى في شأن الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- فهذا عيسى بن مريم عليه السلام من قبل التكوين والإيجاد: (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا) [مريم:17-19] عليه صلوات الله وسلامه عليه. كان خاله زكريا دعا ربه -سبحانه وتعالى- فبشّره الله أن يرزقه ولدًا (قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً ۖ )، قال من يوم تكوينه في بطن أمه سنجعل لك علامة؛ لا تستطيعُ لسانك ان تنطق بغير ذكرنا، فلا تستطيع إلا أن تُسبّح، (قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا ۗ وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ) [آل عمران:41]. صلوات الله وسلامه عليهم.
وهكذا، كان الذي هو أبرز في ذلك المقام، وأعلى في تلكم الخصائص من الملك العلام، خير الأنام، عبده محمد ﷺ، بل خلق نوره قبل خلقه كل شيء، وجعله سيد كل شيء، ولم يخلق ملكًا ولا نبيًا إلا أعلمه به، وبمكانته لديه، وباسمه وبوصفه ﷺ، حتى لما كونه أبان آدم -عليه السلام- ونفخ فيه من روحه، جعل أول نظرة ينظر إليها عند هذا التكوين أن نظر إلى قوائم العرش، وقرأ عليها مكتوبًا: "لا إله إلا الله محمد رسول الله" ﷺ، ولم ينزل من السماء كتاب، ولم يبعث رسولًا إلا أخبره بشأن محمد وتعظيمه ﷺ:
(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ۚ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ۖ قَالُوا أَقْرَرْنَا ۚ قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَن تَوَلَّىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [آل عمران:81-82]. أعاذنا الله من كل فسق، وألحقنا بسيد الخلق.
وقال له تعالى: (أَلَمۡ نَشۡرَحۡ لَكَ صَدۡرَكَ * وَوَضَعۡنَا عَنكَ وِزۡرَكَ * ٱلَّذِیۤ أَنقَضَ ظَهۡرَكَ * وَرَفَعۡنَا لَكَ ذِكۡرَكَ) [الشرح:1-4] صلى الله عليه وسلم وعلى آله. فما من محبوب لله مذكور على ألسنة الملأ الأعلى، يُلهج بذكره مثل محمد بن عبد الله ﷺ.
قال: "الشأو ـ مع عِظَمِ شأنه، وعز برهانه ـ قد جعل الله للسائرين إليه منارات، ورتَّب للطائرين به مقامات روحانيات، فمبلغهم من ذلك" العطاء، والفيض، والفضل الذي جل عن الإحصاء، وعن الحصر، وعن العدّ، وعن التخيل، "فمبلغهم من ذلك على ما طابت لهم ريحُ العناية" من قِبَل الرحمن، "وسارت بهم على فُلك الاستقامة"؛ فريح العناية تهب، وفلك الاستقامة يسكن فيه من يحب، حتى سارت بهم في بحر ذلك التخصيص، والتمييز، والتقديس، حتى وصلوا إلى معادن جواهر الهداية، (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا [النساء:174]. ويقول جلّ جلاله وتعالى: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ) [المائدة:16].
وقال سبحانه وتعالى في بيان هذا الشأن العظيم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا) [النساء:174-175]، فسيُدخلهم في رحمةٍ منه، ما هذا الإدخال؟ وما هذه الرحمة؟ وما هذا الفضل؟ (فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا)، حتى وصلوا إلى معادن جواهر الهداية، وأعظِم بها من هداية بعد هداية بعد هداية.
ولقد تكرّم الله على جميع المكلفين الذين قد أخذ عليهم العهد والميثاق في عالم الأرواح: (أَلَسۡتُ بِرَبِّكُمۡۖ)، تكرّم عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وبهدايتهم إلى الصراط بالبيان والإرشاد، فمنهم من أقبل، ومنهم من أعرض وتولى وأدبر، قال تعالى: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ) [فصلت:17]، وأنعم على من سبقت له السعادة، فوفّقهم، وهداهم للعمل والمجاهدة، ثم أنعم على أهل تلك المجاهدة بعد هذه الهداية الثانية بهداية ثالثة، وهي ما أشار إِلَيْهِ: (لَنَهۡدِیَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ)، (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا)، فكانت هدايات فوق هدايات، فوق هدايات، عظيمات، كبيرات، جلّت عن الحصر وعن القصر لأحد من أهل الأرضين والسماوات.
قال: "حتى وصلوا إلى معادن جواهر الهداية؛ فنزلوا ليحصّلوا" وينالوا التفضل عليهم، "وانفصلوا" عن أنفسهم، وعن جميع الكائنات، وجميع الموجودات من حيث الالتفات إليها، أو التعويل عليها، أو الركون إليها، أو اعتبار لها أدنى أدنى أدنى استقلالٍ في شيء من أمورها، فانفصلوا عن جميع هذه الكائنات، وعن جميع الموجودات، والعوالم العلويات والسفليات، "انفصلوا ليتصلوا" بموجدها، ومنشئها، وإلهها، وخالقها، وبارئها، وفاطرها، ومصوّرها، ومقدرها، والمتصرّف في أولها وآخرها.
"فهبّت نفحات ألطاف الربوبية"، على أهل تلك المنازل العليّة، وعلى تلك الأرواح والأسرار، "فانخرَقت حُجُبُ أستار البشرية" التي كانت ساترًا عن حقائق الروحانية، وعن حقائق مطالعة الأوصاف القدسية الإلهية الربانية، "فانخرَقت حُجُبُ أستار البشرية، عن وجه العبودية" المحضة الخالصة التامة لله، "عن وجه العبودية، عند سطوات كتائب أوصاف الإلهية"، وعبّر عمّا ينازلهم من إدراك ومعرفة وذوق ومعاينة أسرار صفات الحق تبارك وتعالى، ومعاني أسمائه بكتائب من الجيوش تسطو بقوتها فلا تبقي في مقابلها شيئًا يقاوم، ولا شيئًا يقابل، فكذلك تأتي سطوات كتائب أوصاف الإلهية "فكشف عن قلوبهم غطاء ظلمة الفكرة" القاصرة البشرية المحدودة، فذهبت ظلمة حدّ الفكر، وذهبت ظلمة انحصار الفكر، فكُشف عنهم غطاء ظلمة الفكرة، فحُلَّ العقل عن عقاله، وطالع شريف وعظيم جلال الله تعالى وجماله وكماله.
قال: "فكشف عن قلوبهم غطاء ظلمة الفكرة، وكُوشفوا بأنوار المعرفة" الخاصة، "فعاشوا" في رحاب ذلك القرب والمراتب الرفيعة، "بعد أن طاشوا"؛ أن طاشت عقولهم عن الالتفات إلى السوى، وأدهشها عظيم الجود من قِبل عالم السِرّ والنجوى جلّ جلاله، وتجلّي سلطان أسماء وصفاته وأنوار ذاته جلّ جلاله، "فعاشوا بعد أن طاشوا، وطاشوا" بما أشهدهم وما آتاهم، "بعد أن عاشوا" في رحاب قربه ومراتب رفعته، فهم في ترقيات، "فتارةً بتجلّي جماله عاشوا، وأخرى بتجلّي جلاله طاشوا"، فهم في ذلك المقام وتلك الرتب "بين روضة عيشٍ، وغدير طيشٍ"، ومع ذلك فوراء ذلك ترقي، وعجيب تلقّي بحقائق انتقاءٍ من المصطفي المنتقي جل جلاله، قال: "إلى أن قطعوا مفاوز العيش، وعبروا عن بحار الطيش؛ فلم يبقَ العيش، ولا الطيش"، فانتهوا من شهود جميع شهودهم، وشهود جميع مشاهدهم، وشهود جميع ما نازلهم.
فكما غابوا في البداية عن ظلمات الأكوان وما فيها، فهم أيضًا هنا يغيبون عن أنوار ما خُصّوا به من تلكم المراتب والمواهب والمنازل والمقامات والأحوال والصفات، بسطوة سلطان إشراق نور الذات، "فلم يبقَ العيش، ولا الطيش؛ ففُنوا عن أنانيتهم"؛ عن أنا، فليس فيهم من يشهد أنا، وليس فيهم إلا أهل شهود هوية ربهم؛ هو هو؛ لا إله إلا هو، "وبقوا بلا "هُمْ" "، لم تبقَ منهم بقية، ولم يبقَ لهم ملاحظة لوجودٍ مع وجوده جلّ جلاله، فلم يقدروا إلا على ملاحظة وجود واجب الوجود، الموجود الحق جلّ جلاله وتعالى في علاه.
وفي هذه الأحوال، بل في هذه الرتب العليا، لا مقامات ولا أحوال تبقى لها بقية، ولا شيء مما مرّ بهم من شريف المنازلات، فضًلا عّما سواها، فاخترقوا حُجُب الأنوار، حتى وصلوا إلى الرتب التي يخصّ الله بها خيرة الخيرة من خيرة الأخيار -جلّ جلاله- يبقوا "بلا "هُمْ" بربوبيته"، فما عندهم إلا التعبير عن حمده به، ولا يشهدون حامدًا إلا هو، ولا محمودًا إلا هو جلّ جلاله.
وقالوا قول الذات بجميع ذرات وجودهم الذي فنيَ في وجود الحق جل جلاله، فشهدوا الحق تعالى حامدًا لنفسه، مُمِدًّا لهم من أسرار حمده، بما يقدرون عليه ويتحمّلونه في مراتب ذلك التخصيص العجيب بالجود الرحيب، فإذا الحامد هو والمحمود هو جلّ جلاله، وإنما قالوا بلسان شهوده -جلّ جلاله- بحمده سبحانه وتعالى، الذي حمد به نفسه، وأيقنوا أن كل ما هم فيه فمنه وإليه. "(وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ۖ) [الأعراف:43]" كما أنه ما كان لنا أن نوجد لولا أن أوجدنا الله، ولا أن نخلق لولا أن خلقنا الله، (وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ۖ).
وقالوا: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ۖ)؛ وهو: الالتفات إلى السوى ولو كان نورًا محضًا، فضلاً عن الظلمات، أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ) [فاطر:34-35]. وقالوا: "(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [يونس:10]" الذي له الحمد، وهو أهل الحمد، ومستحقُّ الحمد، وكل من عرفه من أهل السماوات والأرض، أيقن أنه أهل الحمد، وتعلّق من حمده سبحانه وتعالى بما مُكّن منه، وبما أوتيَه من أسرار ذلك الحمد، حتى تنتهي المحامد إلى أحمد الخلق، ومحمود الخالق، أحمد الخلق؛ محمود الخالق؛ حبيب الرحمن محمد صلى الله وسلم عليه وعلى آله.
ولهذا فاض على أمته ما لم يفض على الأمم السابقة، فسمّوا في الكتب المنزلة: الحمّأدون، سميت الأمة بالحمّادين، لما فاض عليهم من نور حمد سيد المرسلين لرب العالمين. ثم يأتي في القيامة فيحمل لواء الحمد ﷺ، لأنه أحمد الخلق ومحمود الحق صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله.
"ولواء الحمد بيدي يوم القيامة"، ومعنى "لواء الحمد بيدي": أنه لم يقف من سر حمدي لله تعالى في الأرض والسماء أحدٌ على ما أوقفني عليه، ولم يصل أحدٌ إلى ما وصلت إليه، فكل من حمد في الأولين والآخرين، فهذا اللواء للحمد بيدي، والحمّادون الكبار من خواصّ الأنبياء تحت هذا اللواء، "آدم فمن دونه تحت لوائي"، فصلى الله على أحمد الحامد محمد المحمود، صلى الله عليه وسلم، جامع المحامد، صلوات ربي وسلامه عليه.
والحمد لله رب العالمين، فنعم الحمد حبيب الرحمن صلى الله عليه وسلم ﷺ، فلم يحمد الحق سبحانه تعالى من خلقه أحداً كما حمده محمدٌ، ولا يحمده أحدٌ كما يحمده، ولا حمد الحق تعالى من خلقه أحدا كما حمده محمدًا.
حتى أنه يلهمه من المحامد في القيامة، ما لم يحمده به أحد من قبل، ويناديه في ذلك المقام: "يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لقولك، وسل تعطه، واشفع تشفّع"، صلوات ربي وسلام عليه.
ربطنا الله به، وجمعنا تحت لواء حمده في ذلك اليوم، وجمعنا تحت أنوار حمده وأسرار حمده في هذه الحياة، وجعلنا مستظلّين بظل هذا اللواء حتى الوفاة، وما بعد الوفاة، حتى يعظم لنا الشأن والمكان تحت لواء الحمد، يوم لقاه، آمين اللهم آمين، "آدم فمن دونه تحت لوائي"، صلوات ربي وسلامه عليه. وسنشاهد هناك الحمّادين وأحمَدهم الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ونحظى من سر لواء الحمد بأعلى وأجلّ التخصيصات الربانية، للمخصوصين من أهل المراتب العليّة السنيّة، اللهم آمين.
"وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين"، الذي ما وصل الواصلون من الأولين والآخرين إلى شيءٍ من هذه العطايا والمنح والهدايا، إلا بمحبته واتباعه والاقتداء به ﷺ، وتعظيمه والارتباط به، صلوات ربي وسلامه عليه، فبذلك حازوا ما حازوا، ونازَلهم ما نازَلهم من عظيم إحسانه، وواسع امتنانه سبحانه وتعالى.
ولكن كل ما نالوا ذرة منه إلا بسِرّ صلة بهذا الجناب الأشرف صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله، رزقنا الله وإياكم محبته، ورزقنا الله وإياكم مودته، ورزقنا الله وإياكم الاقتداء به، ورزقنا الله وإياكم الاهتداء بهديه، ورزقنا الله وإياكم الحضور في حضرته، ورزقنا الله وإياكم النظر إلى طلعته، رزقنا الله وإياكم تأمُّل جمال الحق في غرّته، رزقنا الله وإياكم الاقتداء به، رزقنا الله وإياكم الشرب من كاس حبّه، رزقنا الله وإياكم الاهتداء بهديه، رزقنا الله وإياكم الحضور في محاضر قربه، رزقنا الله وإياكم السقيا من طيّب شربه، رزقنا الله وإياكم حسن الاهتداء بما جاء به، رزقنا الله وإياكم كمال نصرته، وكمال متابعته، وكمال خدمته وخدمة شريعته، وخدمة مِلّته، وخدمة سُنّته، وخدمة أصحابه، وخدمة أهل بيته، وخدمة أمّته، بخير ما وفّق أن يخدمه المقرّبون والمحبوبون وأهل المقام العظيم والمجال الواسع الفخيم، يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين، كُن لنا بما أنت أهله حيث ما كنّا وأينَ ما كنّا، وادفع عنا الآفات، وتولّنا في الظواهر والخفيات.
قال سيدنا الإمام الحداد:
واعلم بأنك لا تفضي إلى غرضٍ *** …………………………
من الأغراض الشريفة، ولا المقامات المنيفة.
واعلم بأنك لا تفضي إلى غرضٍ *** بدون أن تقتفي في الوردِ والصَّدَرِ
خير النبيين هادينا ومُرشدنا *** بما أتانا من الآيات والسُّور
صلى عليه إلهي كلما سجعت *** حمامةٌ فوق ميّاسٍ من الشجر
وهكذا…
وعُد هُديت فقد نُوديت مطَّرحًا *** هذا الوجود وما فيه من الغِيَر
واسلك سبيلًا إلى الرحمن قيّمةً *** بها أتاك إمام البدو والحضر
مشروحة في كتاب الله واضحةً *** فسِر عليها وكن بالصدق متّزر
وبالرياضة من صمتٍ ومخمصةٍ *** مع التخلّي عن الأضداد والسهر
ودُم على الذكر لا تسأمه معتقدًا *** أن التوجّه روح القصدِ في السفر
وصلّى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله أهل قرابته من المؤمنين من بني هاشم وبني المطلب، وأصحابه الذين رتب مُكوّن السماوات والأرض أن يجعل وجودهم على ظهر الأرض في أيام بروزه في القالب البشري على ظهر الأرض، وقدّر اتصالهم به وإيمانهم به، وثبّتهم على ذلك حتى أماتهم عليه، فنعم الصحب صحبُ محمد، والتابعين لهم بإحسان.
ولقد جعل الله تعالى لكل نبيّ آلًا وصحبًا وأمة، ولم يزل قدر آل كل نبيّ وصحب كل نبيّ وأمة كل نبيّ على قدر ذلك النبي عند الله تعالى، وهكذا في مراتبهم، فجاء سيّدهم وإمامهم، فلم يكن في الصحب أفضل من صحبه، ولا في الآل أفضل من آله، ولا في الأمم أفضل من أمّته، (كُنتُمۡ خَیۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ) [آل عمران:110]. ونفعنا بهم، ولا حرمنا بركتهم، ولا بركة جميع عباد الله الصالحين.
وهكذا ينطق صاحب القطبانية والمزيّة العلية بأن لا يُحرم بركة جميع عباد الله الصالحين، فلا معنى لمن يفصل نفسه عن حسن الظن، ولا حسن الأدب مع وليّ من الأولياء عربي أو عجمي، صغير أو كبير، ذكر أو أنثى، في الشرق أو في الغرب، في أي وقتٍ كان، بل بعموم أهل الإيمان نودّهم ونواليهم ونحبهم ونستمد منهم، فكيف بخصوصهم ممن أوتيَ مزيّة، أو أعطيَ خصوصية من حضرة رب البرية، فلا حرمنا الله بركة جميع عباد الله الصالحين، الأولين والآخرين من الملائكة والإنس والجن، آمين اللهم آمين.
أعد علينا عوائد كل وليّ، وكل مقرّب، وكل صدّيق، وكل عارف، وكل محبوب لك، وما آتيتهم فوفّر حظنا من تلك اللطائف والمعارف والعطاء الواسع، يا واسع برحمتك يا أرحم الراحمين.
وأيضًا إخواننا مع السيد محمد بن حسين العطاس ختموا كتاب للإمام الحداد، والإمام الحداد مع القرون بينه وبين الإمام العيدروس، فكان العيدروس في القرن التاسع، والإمام الحداد جُدّد به القرن الثاني عشر، ولكن كانت علاقته به قوية، وأمّه من ذرية الإمام العيدروس، وكانت صلته به من البداية، ومن أيام الطفولة، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
وخاتمة كتاب "آداب سلوك المريد" هذا الدعاء، فنتوجه إلى الله بالدعاء، متوجهين إليه بحبيبه سيد المرسلين، صلى الله عليه وسلم أن يقبلنا.
فإنه ختم الكتاب بقوله: على المريد الصادق، فتراه في غاية الحرص على متابعة نبيّه، وممتثلًا لأمر ربه، راغبًا في الوعد الكريم، وهاربًا من الوعيد الأليم الواردين في الآيات، الوعد والوعيد، راغب في الوعد الوارد في الآيات، وهارب من الوعيد الوارد في الآيات التي أوردناها وفيما لم نُورده مما هو في معناها، المشتملة على البشارة بغاية الفوز والفلاح للمتّبعين لسيدنا الرسول، وعلى النذارة بغاية الخزي والهوان للمخالفين له، (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور:63].
اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت، الحنّان، المنّان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، أن ترزقنا كمال المتابعة لعبدك ورسولك سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أخلاقه وأعماله وأقواله، ظاهرًا وباطنًا، تحيينا وتميتنا على ذلك برحمتك يا أرحم الراحمين (ثلاثًا).
اللّهمّ ربّنا لك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، سبحانك لا علم لنا إلا ما علّمتنا إنّك أنت العليم الحكيم، لا إله إلا أنت سبحانك إنّي كنت من الظالمين.
تمّت هذه الرسالة للمريد المخصوص من ربّه المجيد بالتثبيت والتأييد والتسديد، وكان بحمد الله ملؤها في سبع ليالٍ وثمانية من شهر رمضان سنة إحدى وسبعين وألفٍ من هجرته صلى الله عليه وآله وسلم تسليمًا كثيرًا، والحمد لله ربّ العالمين.
قبل ثلاثمائة وشيء وأربعين سنة. لا إله إلا الله… الفاتحة إلى سيدنا الإمام حدّاد القلوب الحبيب عبد الله بن علوي بن محمد الحداد وأصولهم وفروعهم، أن الله يرفع لهم الدرجات ويجمعنا به في أعلى الجنّات ويرزقنا العملُ بما بيّن على ألسنتهم من هدي رسوله ﷺ وهداه تبارك وتعالى، وأن يكشف عن قلوبنا حجب الغفلة والعمى، ويتولانا بما يتولّى بهم محبوبيه الكرماء، ويتولانا بما تولّى به الصادقين أهل الوفاء بعهده من المثبّتين والموفّقين في ألطاف وعوافي ظواهر وخوافي، الفاتحة إلى روحه وأصوله وفروعه وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
وختمتم الرسالة القدسية التي كتبها في القدس سيّدنا الإمام الغزالي -عليه رحمة الله- وخاتمتها بعد الأركان الأربعة، الحاوية للأصول الأربعين هي "قواعد العقائد"، فمن اعتقدها كان موافقًا لأهل السنّة ومباينًا لرهط البدعة، والله تعالى يسدّدنا بتوفيقه، ويهدينا للحق تحقيقه بمنّه وسعة جوده وفضله، والصلاة على محمد وآله وعلى كلّ عبدٍ مُصطفى، وأعلى درجات الإمام محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي -عليه رحمة الله تبارك تعالى- وجمعنا به في دار الكرامة، وحفظ الله بيت المقدس وحمى الله بيت المقدس، وحمى الله المسجد الأقصى، وأبعد وأقصى عنه المعتدين والظالمين والغاصبين، ودفع شرهم عنّا وعن بيت المقدس وعن أهل بيت المقدس وعن أهل الضفة الغربية وأهل غزة وعن أهل رفح وعن جميع أكناف بيت المقدس، وعن المسلمين في الشام واليمن والشرق والغرب وردّ كيد أعداء الدين في نحورهم، ودفع عن المسلمين جميع شرورهم، وعجّل بالإغاثة والفرج، ورفع الضيق والحرج، وفتح الباب المرتج، بسِر الفاتحة إلى روح سيدنا الإمام أبو حامد الغزالي وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
وكمّلوا "دروس التوحيد"، وختمها بذكر النبيّ والرسول، فذكر تعريف الرسول: إنسان حر ذكر، أُنزل أوحى الله إليه بشرع وأمره بتبليغه إلى الخلق.
والنبي فهو: إنسان حر ذكر، أُنزل أوحى الله إليه بشرع وإن لم يأمره بتبليغه إلى الخلق. فكل رسول نبي.
أول النبيين بصورته آدم، وآخرهم بصورته وأولهم بمعناه محمد ﷺ، فهو سيد الأولين، وخاتم النبيين.فهو وإن جاء الأخير مُقدَّمٌ…
فإن برزت إلى الشهادة آخرًا *** فوجود روحك للورى قدّام
ولا نبيّ ولا رسول بعده أبدًا، قال الله تعالى: (مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ۗ) [الأحزاب:40].
وختم لكم السمعيّات التي لا يستقل العقل بمعرفتها، ذكر لكم، وما وجب الإيمان به من الموت وما بعده؛ من سؤال الملكين، وعذاب القبر ونعيمه وما يكون في القيامة، والجنة، والنار. وختمها بالعقيدة المُجملة للإمام الحداد، وبعدُ:
فإنّا -والحمد لله- قد رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبسيدنا محمد ﷺ نبيًّا ورسولًا، وبالقرآن إمامًا، وبالكعبة قبلةً، وبالمؤمنين إخوانًا، وتبرأنا من كل دينٍ يخالف دين الإسلام، وآمنّا بكل كتابٍ أنزله الله، وبكل رسولٍ أرسله الله، وبملائكة الله، وبالقدر خيره وشره، وباليوم الآخر، وبكل ما جاء به سيدنا محمد رسول الله ﷺ عن الله. على ذلك، نحيا، وعليه نموت، وعليه نُبعث إن شاء الله من الآمنين، الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، بفضلَك اللهم يا رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
ختموا كتاب بعض أدلة أهل السنة، ذكروا فيها أبيات للإمام الحداد، التي فيها ذكر الآل والصحابة أهل الكرام، والتي تَلَوْناها من قبل، وقالوا: هذا آخر ما يسّره الله، نسأل الله بما جمعوه في هذا الكتاب من أدلة أهل السنة والجماعة، وبيان مسلكهم السويّ المستقيم ليصدق عليه قول الله تعالى: (مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِّلشَّارِبِينَ) [النحل:66] نسأل الله أن ينفع بهم مريدي الحق وطالبي البيان وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليمًا كثيرًا وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.
الله يثبتنا على الإيمان، ويُجعل حقائق الإيمان في قلوبنا نرقى بها إلى أعلى مراتب علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، وأن يدفع عن الأمة ابتداع المبتدعين، وتشكيك المشككين، ووسوسة الموسوسين، وتلبيس المُلَبِّسين من الإنس والجن أجمعين، ويثبّتنا على الحقّ فيما نقول، ويثبتنا على الحقّ فيما نفعل، ويثبّتنا على الحقّ فيما نعتقد، ويزيدنا زيادة، ويرزقنا التعاون على الاستقامة على منهج رسول الله، ووعي ما جاء به عن الله على الوجه الذي أراده وارتضاه في خير، ولُطفِ وجود وعطف، ويُخلص المؤمنين من جميع الأوهام والخيالات والضلالات ظاهرًا وباطنًا بسر الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
الله ينفعهم بما قرأوا وبما درسوا في "رسالة المعاونة"، ويرزقهم الاستقامة، ويعيذنا وإياهم من الشرور والآفات وكل محذور، ويرزقنا العمل والوصول إليه في لطف وعافية بسر الفاتحة إلى روح مؤلفها سيدنا الإمام عبد الله الحداد وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
وهذه الكتب التي قرأتموها اهتموا بتكرير النظر فيها وتأمّل معانيها والعمل بذلك وتعليم ذلك ولكم الإجازة في تأمل معانيها والعمل بما فيها وتعليم ذلك.
عن سيدنا معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: قال ﷺ: "يا معاذ إني أحبك"، في رواية: "إني لأحبك"، في رواية: "والله إني لأحبك"، "فلا تدعنّ أن تقول في دبر كل صلاة: اللهم أعنّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"، وإنّا نحبكم في الله تبارك وتعالى فلا يدع كلٌّ منكم أن يقول في دبر كل صلاة اللهم أعنّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، ولكم الإجازة بهذا الحديث المسلسل بالمحبة عن عدد من شيوخنا إلى شيوخهم إلى سيدنا معاذ بن جبل -عليهم رضوان الله تعالى- أجزناكم في ذلك. الحمد لله، جعلنا الله في المتحابّين فيه.
13 صفَر 1447