الكبريت الأحمر - 15 | في السّماع
الدرس الخامس عشر للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الكبريت الأحمر و الأكسير الأكبر في معرفة أسرار السلوك إلى ملك الملوك ، للإمام الحبيب عبد الله بن أبي بكر العيدروس . ضمن دروس الدورة الصيفية الأولى بمعهد الرحمة بالأردن.
مساء الأربعاء 24 صفر 1446 هـ
نص الدرس المكتوب :
بسم الله الرحمن الرحيم
وبسندكم المتصل إلى الحبيب عبد الله بن أبي بكر العيدروس من كتابه الكبريت الأحمر والإكسير الأكبر رضي الله تعالى عنه وعنكم ونفعنا بعلومه وعلومكم وعلوم سائر الصالحين في الدارين آمين، إلى أن قال:
فصل فِي السَّمَاعِ
"قال العلماء بالله ومشايخ الصوفية: الناس مختلفون في الحِس، وأهلُ الحِس مختلفون في الفهم، وأهلُ الفهم مختلفون في الذوق،
والصوفية لهم في الحس، والفهم، والذوق.. ما ليس لغيرهم.
وإذا تواجد الصادق منهم عند وجود ما لا يقتضي وجدا عند من ليس له فهمهم وذوقهم.. فلا ينبغي أن يُنكَر عليه؛ فلهم في كل سماع فهم، واستبصار، وفي كلّ نظر عظةٌ، واعتبار، وفي كل سكوت أنواع من الفكر، وفي كل كلام أصناف من الحِكَم، وكم من مشاهد يشهدونها، ومن مواجيد يجدونها.
وقال العلماء بالله الصوفية: أيضًا قد يُطرِب ذكرُ حسن الصنعة السامعَ، ويذكره، أو يشهد عند ذكره جمال الصانع.
ومن لم يصل منهم إلى مشاهدة الجمال.. استدل باتقان الصنعة، وبداعة حسنها على الحكمة البالغة للصانع ، والكمال، وشاهد جميع ما في الوجود من الحسن والإحسان لصانع، حكيم، جواد، واحد، ما له.. ثانٍ، الجميل والجمال.. جوده، عظيم الشأن.
وقال العلماء بالله العارفون -مثلُ الإمام شهاب الدين السهروردي وغيره-: "فالسامع من الشعر بيتا يأخذ منه معنى يذكِّرُهُ ربَّه؛ إما فرحا بالله، أو خوفًا، أو انكسارًا، أو افتقارًا؛ كيف تقلب قلبه في أنواع ذلك..كان ذاكرًا لربه.
ولو سمع صوت طائر.. طاب له ذلك الصوت، وتفكر في قدرة الله -تعالى- وتسوية حنجرة الطائر، وتسخيره خَلْقَه، ومنشأ الصوتِ، وتأديته إلى الإسماع... كان في جميع ذلك الفكر مسبحًا مقدسًا.
فإذا سمع صوت آدمي، وحضره مثل ذلك الفكر، وامتلأ باطنه ذكرًا وفكرًا.. كيف يُنْكَرُ ذلك "
صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه
الحمدلله السميع البصير، الذي جعل للأسماع والأبصار في تركيبة خلقه المكلفين عجائب من الآثار ومعاني كُبار، وجعلهما بابين الى القلب يصل ما وصل إليهما، وجعل لهما بعد ذلك اتساع وارتفاع بحسب سلامة الطباع وحسن الاتباع؛ كما جعل لها ظلمات وكدورات وآفات وانحطاط؛ بحسب غلبة الشهوات والالتفات إلى السوى والخروج عن سواء الصراط، وذلك من عجائب ما قدر ودبَّر لهذه الخليقة فويل لمن لم يستمسك بالعروة الوثيقة.
قال: "فصل في السماع" وما يطرأ من الكلمات والاشعار الموزونة على وجه الخصوص ثم كل ما يطرق السمع من أي كلام؛ ومن أي صوت له تأثير على القلب بحسب حالة هذا السامع، وفيما يدل عليه مسموعه وما يشير إليه؛ وما يستفيد هو من ذلك المسموع.
يقول: "قال العلماء بالله ومشايخ الصوفية: الناس مختلفون في الحِس"، فحس هذا يختلف عن حس هذا، حس هذا أدق؛ وحس هذا أوسع؛ وحس هذا أضيق؛ وحس هذا أرفع؛ وحس هذا أجمع.
"وأهلُ الحِس مختلفون في الفهم" ومع اختلافه في الحس يختلفون في الفهم؛ بالفهم والعبور من المحسوسات إلى المعنويات، ومن السفليات إلى العلويات، ومن الجسمانيات إلى الروحانيات، ومن الظاهرات إلى الباطنات؛ وهكذا يختلفون في هذا الفهم، يختلفون في فهم الوحي، وفهم البلاغ النبوي، والبيان المحمدي، ثم يختلفون في فهم أجواء الصحابة وأهل البيت الطاهر، وأقوال العلماء والعارفين والأولياء.
"وأهلُ الفهم مختلفون في الذوق" يختلفون؛ وليس كل من فهم معنى ذاقه؛ وليس كل من فهم شأنًا أطاقه؛ وليس كل من فهم دلالة تمكن من استيعابها؛ فهم يختلفون بعد الفهم في الذوق.
وقال: "والصوفية.." بصفاء بواطنهم وصدق إقبالهم على ربهم وإخلاصهم له توسّع حسهم، فأحسُّوا ما لم يحسه غيرهم، فإذا كان واحد من المتمكنين في علم الفلك يحس بإحساس حتى تهب الريح على جسده فيقول: هبت من غربي الكعبة، هبت من شرقي الكعبة، هبت من كذا، يعرفها بحسها بمجرد الحس؛ وكان منهم في المتأخرين منهم الحبيب عبد الرحمن المشهور عندنا ما تهب الريح يقول: هذا هبت عن يمين الكعبة، هذه هبت من كذا، بمجرد ما يحس جسمه بالريح لما تهب يشعر من أين اتجاهها؟ وكيف جاءت؟ فإذا كان هكذا في هذه الأذواق الحسية؛ فكيف بأذواق أهل القلوب؟ وأهل الوجدان ! فيما يذوقون، فحسهم يتسع؛ ويتسع فهمهم بعد الحس، ويتسع بعد الفهم ذوقهم.
واجعل العلم مقتدانا بحكم ال***ذوق فـي فهـم سر معنى المعيه
اللهم لا تُحرمنا أذواق المقربين والصالحين.
قال: "لهم في الحس، والفهم، والذوق.. ما ليس لغيرهم"، قال: "وإذا تواجد الصادق منهم عند وجود ما لا يقتضي وجدا عند من ليس له فهمهم وذوقهم.. فلا ينبغي أن يُنكَر عليه؛ فلهم في كل سماع فهم"، وكان يقول الحبيب عبدالله الشاطري من المتأخرين يقول: الباب لما أحيانًا تهب الريح ويتقفل كانت الأبواب خشب يكون لها صوت، قال: حتى في عَنْيَطَةَ الباب -صوت الباب- لهم طرب وفهم وذوق، فمن تطرب روحه بالعنيطة هذه حق الباب؛ فإحساسهم واسع، وفهمهم واسع، وذوقهم دقيق، فالثاني يقول: لم يُحَب ذا؟ يشبه إيش بهذا؟ ما فيه شيء، ليه إيش اللي يُطربه؟ يقول: المشكلة مشكلتك أنت؛ أنت ما ذقت ولا عرفت، الذي عرف وإلا لطربت كما طرب، ولهذا قال: "اللهم اهدي قومي فأنهم لا يعلمون" لأنهم لو يعلمون ما بيوقعون بهذه الصورة، ولا بيوقفون بهذا الحد، بيسابقون أبوبكر وعمر، وبيسابقون سعد بن معاذ، وأبو الهيثم بن تيْهان، بيسابقون سعد بن عبادة، ولكنهم قاتلوهم لأنهم ما علموا، ولو علموا ما علموا لسابقوهم وتسابقوا معهم على نصرة النبي -صلى الله وسلم عليه وعلى آله-.
قال: "فلهم في كل سماع فهم، واستبصار، وفي كلّ نظر عظةٌ، واعتبار" لا إله إلا الله، إن حرك اليمنى؛ وإن حرك اليسرى، وإن أمسك هدىً أو شاهد نارًا، أو سمع صوتًا، أو رأى أشخاص أناس، أو نظر إلى جمادات، أو كان ما كان منه يحسه بإحساس، ويأنس بإيناس، ويقوى له الأساس، وتفيض خيراته على الجُلّاس، وهكذا شأن المعطي بغير قياس -جل ربّ الناس وصلّى الله على سيد الناس-.
يقول: "وفي كل سكوت أنواع من الفكر، وفي كل كلام أصناف من الحِكَم" جاء في الحديث في الدعاء: "اللهم اجعل نطقي ذكرًا، وصمتي فكرا، ونظري عبرة" نظري عبرة؛ نظر ايش؟؟ أي شيء؛ ينظر ثوب، ينظر إنسان، ينظر جماد، ينظر سماء، ينظر أرض عبرة؛ "نظري عبرة"، "صمتي فكرا"، "نطقي ذكرا"، لا إله إلا الله، فقال: "وكم من مشاهد يشهدونها، ومن مواجيد يجدونها" يفيضها عليهم مولاهم.
"وقال العلماء بالله الصوفية: أيضًا قد يُطرِب ذكر حُسن الصنعة السامع.." لِما يرى من جمال الصانع، لَمَّا تُذكَر حسنُ الصَّنْعة يتَذكَّر جمالَ الصانع وقدرته ﷻ "أو يشهد عند ذكره جمال الصانع ﷻ" -عند ذكر المصنوع- "ومن لم يصل منهم إلى مشاهدة الجمال استدل باتقان الصَّنعة وبداعة حسنها على الحكمة البالغة للصانع والكمال، وشاهدَ جميع ما في الوجود من الحسن والإحسان لصانعٍ حكيمٍ جوادٍ.." -ماجدٍ- "..واحدٍ ما له ثان، الجميل والجمال.. جوده، وهو عظيم الشأن". لا إلٰه إلّا هو الكريم المنَّان.
الله! وفي كلِّ شيء له آية تدلُّ على أنَّهُ الواحد.
أنتَ تعرف لو صدقتَ في محبة مخلوق مثلك إنسان، بعدين كان لهذا الإنسان مصنع، أيّ شيء يصدر من هذا المصنع.. بمجرد ما يذكر أو تشاهده.. تحس بطرب، تحس بأنس، تحس بجاذبية، تحس بفرح، فالذين أحبوا الله -تبارك وتعالى-.. جميع الوجودِ يُطرِبُهم. ولهذا هم حتى في هذا السماع الذي يذكره؛ منهم طائفة يستعملون السماع من أجل يخفف عليهم شدة ما ينازلهم وشدة ما هم فيه من طرب، فهم يستعملون السماع ليتكثفوا، وغيرهم من المبتدئين يستعملون السماع ليتلطفوا، أو لو زادت اللطافة عليهم وأرادوا أن يروحوه ويخففوا على أنفسهم فيستعملون السماع للتخفيف ما هو للتلطيف، فاللطف زائد عندهم، كل شيء يطربهم، وأنت عادك إلا بتسمعه، لكن وجود هذا السماع بشيء من الآلات المباحة يخفِّف عليهم قوة لطافة المشاهدة، لا إلٰه إلَّا الله! سبحان الله!
يقول: "وقال العلماء بالله العارفون -مثل الإمام شهاب الدين السُّهْرَوَرْدي -رحمه الله- وغيره- : فالسامع من الشِّعر بيتًا يأخذ منه معنىً يُذَكّره ربَّه، إما فرحًا بالله، أو خوفًا -من الله-، أو انكسارًا -لجلال الله-، أو افتقارًا -إلى رحمة الله وغناه- كيف تقلب قلبه في أنواع ذلك.. كان ذاكرًا لربه" فالسماع عندهم والإنشاد والحدو بابٌ من أبواب الذِّكرِ يجمعهم على المذكور ﷻ "ولو سمع صوت طائر.. طاب له ذلك الصوت وتفكر في قدرة الله - تعالى - وتسوية حنجرة الطائر وتسخيره خلقه، ومنشأ الصوت وتأديته إلى الإسماع.." يقول: " كان في جميع ذلك الفكر مُسَبِّحًا مُقَدِّسًا" مطالعًا للجلال والجمال والكمال -لا إلٰه إلَّا الله- "فإذا سمع صوت آدمي، وحضره مثل ذلك الفكر، وامتلأ باطنه ذكرًا وفكرًا.. كيف يُنْكَرُ ذلك".
ولهذا يقول الإمام العدني -ابن المؤلف هذا- يقول:
مقام السماع مقامٌ شريف *** بصحبٍ وزمنٍ وموضع نظيف
لنا فيه يا صاح معنى لطيف *** يقيمُ اللطيف ويفنى الكثيف
تظنّ السماعَ سماعَ الدفوف *** أو ان التصوّف لباسَك لصوف
أو الوجد هو التصدية بالكفوف *** فلا يعتقد ذاك إلا سخيف
سماع الرجال شهود وحال *** بحقّ اليقين ونفي المحال
لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله .. لا إله إلا الله
ويقول الحبيب علي الحبشي:
صَوْتُ الْمَغَانِي كَمَا الْمَاطِرِ *** لُه حَالُ يَا اصْحَابَنَا ثَانِي
وَاسْرَارُ بَاطِنُ وَشِي ظَاهِر *** وَامْرِ الْبِنَايَة إِلَى الْبَانِي
يخاطَبَ واحد الحبيب سقاف بن الحبيب محسن بن علوي السقاف، كان من الحداة عنده يقول:
سَقَافُ حَرِّكْ عَلَى الْهَاجِر ***
آلة مثل الطار يشبه الدف
سَقَافُ حَرِّكْ عَلَى الْهَاجِر *** وَحَكِّمُوا شَلَّةَ الدَّانِ
وَلَا يُرَوِّسُ سِوَى الْمَاهِر *** لِي يُحْكِمُ الضَّرْبَ فِي الْآنِ
شُو عِنْدَنَا الْمُصْطَفَى حَاضِر *** حَبِيْبُنَا خَيْرُ إِنْسَانِ
قَدْ فَاحَ رِيحُه لَنَا الْعَاطِر *** حَدْ رَاهُ يَا رُمُدَ الأَعْيَانِ
قال واحد: بس ما عاد نحن رُمُد إلّا قُلْ لنا يا عُمِي، ما هو رماد وبس، عندنا عمى.
بَرْكَتَكَ فِي حَضْرَتَكَ حَاضِر *** أَنَا وَصَحْبِي وَخُلَّانِـي
وَالْمَكْرُ قَدْ حَاقَ بِالْمَاكِرِ *** لا بَارَكَ الله في الشَّانِـي
يَا سَيِّدَ الرُّسْل يَا طَاهِر *** عَبْدُكْ عَلَى بَابِكُمْ حَانِي
صَلَّى عَلَيْكَ الْعَلِي الْقَادِرِ *** يَا غَايَةَ الْقَصْدِ وَالشَّانِ
الله ﷻ يحضرنا في تلك الحضرة، وينظر إلينا بنظرة.
وقال رضي الله عنه وعنكم:
فصل
فِي مَعْنَى مِن مَعَانِي السَّمَاعِ
السماع على ضربين، أعني: منه ما هو:
مباح، وهو لمن لاحظ له.. إلا التلذُّذُ بالصوت الحسن واستدعاء السرور، والفرح، أو يتذكرُ به غائبًا، أو ميتًا؛ فيستثير به حزنه؛ فيستريح بما يسمعه.
والضرب الثاني: هو المستحب، وهو لمن غلب عليه حبُّ الله، والشوقُ إليه؛ فلا يحرك السماعُ منه إلا الصفات المحمودة، وتضاعِفُ الشوق إلى الله -تعالى- واستدعاء الأحوال الشريفة، والمقامات اللطيفة.
وأما من سمع بغير قلب، ولا يعرف المباحَ، ولا المندوب؛ فظهرت عليه صفاته الذميمةُ، وذَكَرَ به حظوظه الخسيسة في طمع الدنيا وحرامِها، واستثار سماعُه وَسْواسَهُ، وهواه، ودنياه، وذنوبه.. فهذا حرام.
وأما من سمع؛ فظهر له ذكر ربه، والفكر في عجائب صَنْعَتِهِ، وخوفه من ذنوبه، وتَذَكَّرَ به آخرته؛ فأنتج له ذلك الذكر شوقا إلى الله ـتعالى- وخوفًا منه، ورجاءً لوعده، وحذرًا من وعيده.. فسماعه ذكرٌ من الأذكار مكتوب في صحائف الأبرار".
نعم، هكذا يقول -عليه رحمة الله- يختلف حال الناس في السماع، فالسماع المذموم والحرام.. كلُّ ما أدى إلى حرام؛ أو أوقع في حرام؛ أو دعا إلى حرام؛ فهو حرام. مثل من "يستمع بغير قلب، ولا يعرف المباح ولا المندوب، وتظهر عليه صفاته الذميمة، ويُذكر الحظوظ الخسيسة في طمع الدنيا أو حرامها -في أي معنى من المعاني- ويستثير سماعه وسَوَاسَه وهواه، ودنياه وذنوبه" فإما يزيده غيظا على أحد من المسلمين؛ وإما يحمله على مُقاطعة؛ أو على مُقاتلة؛ أو يحمله على شرب خمور أو شيء من تناول المحرمات إلى غير ذلك من كل ما يهيِّج على الحرام بأنواعه.. هذا حرام. ما يستريب مُستريب في أنه حرام، وأنه مُبعد عن الله، وأنه وصف اللئام وشرار الأنام.
ولكن سماع آخر، سماع إلى حد المباح، لم يرتقِ إلى المندوب وإلى المستحب. قالوا: وهذا من كان حظه من السماع التلذذ بالصوت الحسن، واستدعاء السرور الفرح، أو يتذكر غائبا، أو يتذكر ميتا له من الأموات، يُفرِغ ما عنده من الحَزن، يستثيره فيستريح بما يسمع ويُخفّف على نفسه.. هذا في حدود المباح.
لكن فوقه وأعلى منه، لمن غلب عليه حب الله والشوق إليه، فلا يُحرّك السماع منه إلا الصفات المحمودة، وتضاعُف الشوق، ويُحرّك منه مُضاعفة الشوق إلى الله، ويستدعي الأحوال الشريفة من حضور، وغيبة، ومن لوائح ولوامع وطوالع، ومن شُرب، وذوق، ومن قُرب إلى غير ذلك، فهذا شريف وعظيم، لأنه يستدعي الأحوال الشريفة والمقامات اللطيفة والمراتب المُنيفة.
قال: "وأما من سمع؛ فظهر له ذكر ربه، والفكر في عجائب صَنْعَتِهِ، وخوفه من ذنوبه، وتَذَكَّرَ به آخرته؛ فأنتج له ذلك الذكر شوقا إلى الله ـتعالى- وخوفًا منه، ورجاءً لوعده، وحذرًا من وعيده.. فسماعه ذكرٌ من الأذكار مكتوب في صحائف الأبرار".
وهكذا..
وكان بعض أهل العلم والفقه أيضًا من الأخيار عند بعض شيوخه يميلوا إلى السماع، واستعمال آلات مُختلَف فيها أو كراهتها، فكان عنده، استحيا، دعا الشيخ هذا المُسَمِّع وأمره يُسَمِّع، وهذا ما قدر أن يتكلم ولا يقوم، لأنه في حضرة شيخ من شيوخه. وإذا به يبدو له معاني ما بدت طول عمره له ومعارف ولطائف! فلمَّا قام بالليل يتهجَّد، دوَّر للمُسَمِّع حق الشيخ. وقال له: تعال هات الصوت اللي جبته قُبَيل عند الشيخ. قال: "أنا إلا فزعان منك"، قال: "خلاص ذالحين الشيخ روّانا أن لهم حال غير الحال عند المسألة، لا أصوات ولا ذا، ولهم مواجيد، ولهم أذواق، ما هم حول السفاسف، ولا اللفالف، عليهم رضوان الله تعالى.
لا إله إلا الله.
فهذه أحوال السامعين تختلف.
وقال رضي الله عنه وعنكم:
فصْل
فِي مِثَالٍ لِلْقُلُوْبِ عِنْدَ السَّمَاعِ
"اعلم أن القلوب عند السماع أوعية، والآذان أوكية، والنغمات أشربةٌ مُرْوِيَّةٌ ؛ لأن الأصوات تحمل النغمات من الأغاني إلى الأواني.
ولولا صفاء الأواني.. ما ذاقت الأغاني، ولولا صحة المعاني .. ما طابت المثاني.
فإذا وصلت الأشربة إلى أوانيها - والأواني هي: الأوعية، وهي:
القلوب .. ظهرت فيها معانيها.
فإن كانت صافية .. أثارت الأخلاق الحميدة، والأحوال الشريفة ، وإن كانت كَدِرةً خبيثة .. أثارت القسوات الخبيثة، والذنوب، والخطيئة.
وإن كانت لا صافية، ولا خبيثة ـ وهي متواضعة محسنة، غيرُ فاسدة - أثارت المباحات السليمة.
ولا على القوّالين لومٌ ؛ لأن القوّال ساقي بمشروبات النغمات التي تحملها الأصوات إلى أواني القلوب، المقتبسة لأنوار المعاني من حضرات المثاني، على قدر صفاء القلوب، وكدرها ؛ إن كانت مشحونة بذكر الله ، والفكر في عجائب وبدائع صنائع الله .. التذت، أو مشحونة باللهو والذنوب التي عجنت في خبث القلب وكدره.. قست.
مَا حِيْلَةُ السَّاقِي إِذَا طَافَ عَلَى *** نُدَمَائِهِ بِالخَمْرَةِ المُحَلَّلَة
قُلُوبُنَا أَوْعِيَةٌ فَكُلَّمَا طَابَ *** الوِعَاءُ طَابَ مَا قَدَ حَصَّلَهُ
فَوَاحِدٌ قَدْ زَادَهَا بِصَفُوهِ *** صَفْوًا وَهَذَا رَدَّهَا مُخَلَّلَةً
قَلْبٌ بِذِكْرِ اللَّهِ أَضْحَى رَوْضَةً *** وَآخَرُ بِالَّلهْوِ صَارَ مَزْبَلَةً
مَا مَنْبَتُ الوَرْدِ كَنَبَتِ غَيْرِهِ *** وَلَا شَذَا المِسْكِ كَرِيح البَصَلةَ
لَوْ سُقِيَ الحَنْظَلُ شُهْدًا دَائِمًا *** مَا أَنْبَتَ الحَنْظَلُ إِلَّا حَنْظَلَةُ
لا إله إلا الله ، يا رب صفّي بواطننا، صفي سرائرنا ونقي ضمائرنا؛ حتى لا يثير منا ما نراه وما نسمعه إلا جمالا وحُسنًا وأدبا وقربا ووصالًا وزيادة إيمان معك بك يا أرحم الراحمين. وصدقا وإيمانا بك، وصدقا معك يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين.
فالأثر عند القلوب؛ فهي الأوعية التي يتلون الماء بلونها. الماء لا لون له؛ لكن إذا وضعته في إناء أخضر رأيته أخضر، وإذا وضعته في إناء أزرق رأيته أزرق، وإذا وضعته في إناء أبيض رأيته أبيض، وإذا وضعته في إناء أسود رأيته أسود -وهو ماء- هو ماء يتلون بلون إنائه، فكذلك الأواني هذه هي القلوب، ولما كانت القلوب عنده سماع أوعية، والآذان أوكية، والنّغمات أشربة مروية بهذا الماء؛ لكن كان يتلون بلون الإناء بعدين، إذا وصل إلى قلب سليم فكله سلامة، إذا وصل إلى قلب كريم كله كرامة، إذا وصل إلى قلب عليم كله علم، إذا وصل إلى قلب عارف كله يتحول معرفة، وإذا وصل إلى قلب لئيم لُؤم، إذا وصل إلى قلب قبيح قُبْح وهكذا.
قال: "لأن الأصوات تحمل النغمات من الأغاني إلى الأواني. ولولا صفاء الأواني.. ما ذاقت الأغاني" وَلَا طَابَتْ وذَاقَتْهَا الأَرْوَاحُ "ولولا صحة المعاني .. ما طابت المثاني" لا إله إلا الله. وفي لفظ: "ما طابت المباني".
فإذا وصلت الأشربة إلى أوانيها، والأواني الأوعية وهي القلوب، ظهرت فيها معانيها، فإن كانت القلوب صافية، أثارت الأخلاق الحميدة، والأحوال الشريفة، والمقامات المُنيفة، وهكذا. فكم من إنسان سمع كلمة من عارف، أو لمنشد بكلام العارفين، فنّورت قلبه إلى الأبد؛ أو طهرته طُهرا يزداد، أو نقلته من غفلة إلى ذكر دائم، أو من معصية إلى طاعة، وهكذا.
لا إله إلا الله.
وإن كانت كَدِرةً خبيثة .. أثارت القسوات الخبيثة، والذنوب، والخطيئة.
"وإن كانت القلوب كدرة خبيثة، أثارت -النغمات فيها- القسوات الخبيثة والذنوب الخطيئة، وإن كانت لا صافية، ولا خبيثة ـ وهي متواضعة محسنة، غيرُ فاسدة- أثارت المباحات السليمة" التي لا تقع بسببها في الذنوب.
قال: "ولا على القوّالين لومٌ -أن الذي يُغير ويُلوّن الماء، إنما هو قلب السامع ما هو هم- لأن القوّال ساقي بمشروبات النغمات التي تحملها الأصوات إلى أواني القلوب، المقتبسة لأنوار المعاني من حضرات المثاني، على قدر صفاء القلوب وكدرها؛ إن كانت مشحونة بذكر الله، والفكر في عجائب وبدائع صنائع الله -جل جلاله- ... التذت، أو مشحونة باللهو والذنوب التي عجنت في خبث القلب وكدره.. قست"، وازدادت قسوة، ولا ينصرف فكرها إلا في ما يتناسب معها في انحطاطها -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
يقول:
مَا حِيْلَةُ السَّاقِي إِذَا طَافَ عَلَى *** نُدَمَائِهِ بِالخَمْرَةِ المُحَلَّلَة
قُلُوبُنَا أَوْعِيَةٌ فَكُلَّمَا طَابَ *** الوِعَاءُ طَابَ مَا قَدَ حَصَّلَهُ
فَوَاحِدٌ قَدْ زَادَهَا بِصَفُوهِ *** صَفُوًا وَهَذَا رَدَّهَا مُخَلَّلَةً
قَلْبٌ بِذِكْرِ اللَّهِ أَضْحَى رَوْضَةً *** وَآخَرٌ بِالَّلهْوِ صَارَ مَزْبَلَةً
مَا مَنْبَتُ الوَرْدِ كَنَبَتِ غَيْرِهِ *** وَلَا شَذَا المِسْكِ كَرِيْح البَصَلةَ
لَوْ سُقِيَ الحَنْظَلُ شُهْدًا دَائِمًا *** _____________
عسل والحنظل مر؛ أمرْ النباتات ولو جئنا نسقيه عسل يطلع حنظلة ويطلع مُرْ مرارة ولا يطيب أبدًا والقلب الخبيث القاسي هكذا يسمع كلام الله ويزداد نفرا.
- (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِيۤ آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) [فصلت: 44].
- (وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ) نظر بعضهم لبعض (فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَانًا ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ).
- في نفس السورة الآية الثانية (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ) [التوبة: 124-125].
ولهذا قالوا القلب المريض الخبيث الذي ما يتهيأ للصلاح والصفا؛ ما يزداد بأي شيء سمعه إلا بُعد -والعياذ بالله تبارك وتعالى- وإلا قسوة.
لَوْ سُقِيَ الحَنْظَلُ شُهْدًا دَائِمًا *** مَا أَنْبَتَ الحَنْظَلُ إِلَّا حَنْظَلَةُ
فيا ربِّ نقنا عن الشوائب، واجعل قلوبنا محلاً لكل طيب.
وقال بعض المتأخرين:
فما حيلة المطرود عن باب ربه *** إذا رد من علمه وعمله
وكم من بعيد عندما ظن نفسه *** قريبا من المولى هوى في منزله
ولم يدريَ الأحوال في علم غيبه***سوى حاكم الأحكام بل هو فاعله
وكم من نفوس زاهدات بعفة *** قلوبهم أضحت لدنيا مزايله
وكم سيد زان السماع بقلبه *** وطهر من رجس ونقي وغسله
فالأواني تتأثر، فهذه القلوب إن لله في أرضه أوانِ هي القلوب، بل هو بيت يقول لسيدنا الإمام الحداد لبعض المتوجهين للحرمين: واعلم أن لله في باطنك بيتاً، واعلم أن لله في باطنك بيتاً، كما له بيت في مكة هناك في باطنك بيت هو قلبك، وقد أُمر إسماعيل علمك، وإبراهيم عقلك أن يُطهّره، كما أمر إبراهيم وإسماعيل أن يطهرا البيت هذاك، قد أمر عقلك وعلمك أن يُطهّرا البيت هذا اللي فيك هذا، ويدخلك للطائفين والعاكفين حوله من الملائكة والروحانيين بالواردات التي يردون بها يطهره لهم ويزينه.
فالله يُطهر قلوبنا، ويُصفّي قلوبنا، وينقي قلوبنا، ويُزيّن قلوبنا بذكره، والحضور معه أبدا، لا إله إلا الله.
يقول: "فمن قهر نفسه بالرياضة، واقتلع رَعُوناتها، وزيّن باطنه بدوام الحضور مع الله، انهتك حجاب قلبه، فأبصر غيب ربه، وشاهد الأولياء على مراتبهم وعلى مقاماتهم، واستغنى بالعيان عن الخبر". لا إله إلا الله
فإذا أحكم الأصْلين: الرياضة البالغة الماحقة للرعونات النفسية، والثاني: زينة الباطن بدوام الحضور مع الله.
وذكر لنا في شؤون الذكر، وتأثيره أربع آداب عظيمة، أربع صفات: "الذكر لله بقلب حاضر، وأدب وافر، وإقبال صادق، وتوجه خارق" مؤثر يكشف الحُجُب، وترفع به الرتب.
الله يُنوّر قلوبنا، الله يُطهّرها، الله يُصفيها، الله يصطفيها، إنه أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين.
الله يكتبنا في ديوان أصفيائه وأتقيائه وخلفاء أنبيائه، ويعيد علينا عوائد رسله وأنبيائه وأوليائه وأصفيائه في كل شأن من شؤوننا؛ حتى لا تبقى ذرة من أحوالنا وشؤوننا في ظهورنا وبطوننا إلا انسكبت عليها عناية الأنبياء؛ والأولياء؛ والأصفياء في جميع الشؤون والظهور والبطون حتى يُثبت الحق كلا منا فيمن يهدون بالحق وبه يعدلون، واحضرنا في حضرة الأمين المأمون، وارزقنا شهوده تعالى بمرآة هذا الحبيب، وارزقنا شهوده تعالى بمرآة هذا الحبيب، وارزقنا شهوده تعالى بمرآة هذا الحبيب، ويكرمنا سبحانه بالفناء فيه بهذا الحبيب، ويكرمنا بالبقاء به في هذا الحبيب، في لطف وعافية ودين وتمكين مكين في خير ولطف وجود وعطف إلى حضرة النبي محمد صلى الله عليه وعلى آله الفاتحة.
13 صفَر 1447