الكبريت الأحمر - 7 | تكملة الأحوال العشرة

للاستماع إلى الدرس

الدرس السابع للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الكبريت الأحمر و الأكسير الأكبر في معرفة أسرار السلوك إلى ملك الملوك ، للإمام الحبيب عبد الله بن أبي بكر العيدروس . ضمن دروس الدورة الصيفية الأولى بمعهد الرحمة بالأردن.

مساء السبت 20 صفر 1446 هـ

نص الدرس المكتوب :

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

من كتاب الكبريت الأحمر والإكسير الأكبر وبسندكم المتصل إلى صاحب الكتاب الحبيب عبد الله بن أبي بكر العيدروس -رضي الله تعالى عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم وعلوم سائر الصالحين في الدارين آمين إلى أن قال:

فَصْلٌ

الأَحْوَالِ العَشَرَةِ

 

"والأصل في الأحوال الذي تُبنى عليه، ولا تصح إلا به.. المحبة؛ كما أن أصل المقامات التوبةُ؛ فمن لا توبة له.. لا لا مقام له، ومن لا محبة له.. لا حال له.

وإنما تبنى عليها المقامات والأحوال بعد كمالهما؛ فمن تاب التوبة النصوح الصادقة بصدقِ النيةِ، وشَجَنِ القلبِ.. أثمرت له مَحَبَّةَ الله تعالى. وهي: حالة يجدها العبد في قلبه تلطف عن العبارة، تحمله تلك

الحالة على التعظيم الله، وإيثارِ، رضاه، وقلة الصبر عنه، والاحتياج إليه، وعدم القرار من دونه، ووجود الاستئناس بدوام الذكر له بقلبه.

ومن أحكمَ المقامَ الثاني -وهو مقام الورع- بصدق النية، وشَجَنِ القلبِ.. أثمر له الحال الوهبيَّ، وهو حال الشوقُ.

والشوق عندهم: احتراق الأحشاء، وتَلَهُبُ الأكباد.

وعند بعضهم ارتياح القلوب بالوجد، ومحبة اللقاء بالقرب.

ومن أحكم المقام الثالث وهو: الزهدـ بصدق النية، وشَجَنِ القلب.. أثمر له الحال الوهبي؛ -وهو- حالَ الهيبة الوهبية. والهيبة هي: خشوع النفس، وخضوعُها عند ظهور لائح الجلال والعظمة. 

ومن أحكم المقام الرابع - وهو: مقام الصبر ـ بصدق النية، وشَجَنِ القلبِ.. أثمر له الحال الوهبيَّ؛ وهو حال الأنس.

والأنس عندهم: ارتفاع الحشمة، مع وجود الهيبة. وعلامة الأنس بالله كلما ازداد زادت المحبة والهيبة.

ومن أحكم المقام الخامس ـوهو: مقام الفقرـ بصدق النية، وشَجَنِ القلب.. أثمر له الحال الوهبيَّ؛ وهو حال القرب، قال الله تعالى (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب) [العلق : 19].

ومعنى القرب، هو: قرب العبد أوَّلًا بإيمانه، وتصديقه، ثم قربه بإحسانه، وتحقيقه.

وقرب الحق من العبد.. بما يخصه به اليوم من العرفان، وفي الآخرة ما يكرمه به من الشهود والعيان، وفيما بين ذلك بوجود اللطف ، والامتنان.

ومن أحكم المقام السادس -وهو مقام الشكرـ بصدق النية، وشَجَنِ القلب.. أثمر له الحال الوهبي؛ وهو حال الحياء، وهو: وجود الهيبة في القلب، مع وحشة ما سبق منك إلى ربك.

ومن أحكم المقام السابع -وهو: مقام الخوف- بصدق النية، وشَجَنِ القلب.. أثمر له الحال الوهبي؛ وهو حال السُّكر، وهو عندهم: استيلاء سلطان الحال.

ومن أحكم المقام الثامن -وهو مقام الرجاءـ بصدق النية، وشَجَنِ القلب.. أثمر له الحال الوهبي؛ وهو حال الوصول.

والوصول عندهم: أن لا يشهد العبد غير خالِقِه ، ولا يَتَّصَلَ بسره خاطر بغير صانعه.

قال المشايخ: هو أن يكون العبد همه الله، وشغله بالله، ورجوعه إلى الله. 

وعند بعضهم أنه: مكاشفاتُ القلوب، ومشاهدات الأسرار. والواصل لا يحجبه عن الحقِّ شي.

ومن أحكم المقام التاسع وهو: مقام التّوكُل، والتوحيد

بصدق النيةِ، وشَجَنِ القلبِ.. أثمر له الحال الوهبي؛ وهو حال الفناء. والفناء عندهم هو: سقوط الأوصاف المذمومة.

قال المشايخ: الفناء هو الغيبة عن الأشياء، كما كان فناء موسى -عليه السلام- حين تجلى ربه للجبل.

ومن أحكم المقام العاشر وهو: مقام الرضاـ بالصدق والنية وشَجَنِ القلبِ.. أثمر له الحال الوهبي؛ وهو حال البقاء وهو عندهم بقاء الصفات المحمودة، بعد فناء الصفات المذمومة.

قال المشايخ العارفون: وصاحب البقاء هو الذي يكون في مقام لا يحجبه الحقُّ عن الخلق، ولا الخلقُ عن الحق، بخلاف الفناء؛ فإن صاحبه محجوب بالحق عن الخلق". 

 

 

لا إله إلا الله وحده لا شريك له.

ذكرلنا مقامات اليقين ذكر لنا العشرة وما تثمر لنا، وذكر لنا مقام التوبة؛ حققنا الله وإياكم بها وجعلنا من أهلها ورَقَّانَا في مراقيها، اللهم اجعلنا من التوابين واجعلنا من المتطهرين، واجعلنا من عبادك الصالحين. 

  • ذكر لنا مقام التوبة؛ وأنها تثمر المحبة، وهي أصل الأحوال.
  •  ثم ذكر لنا مقام الورع؛ وأنه يثمر حال الشوق.
  •  وذكر لنا مقام الزهد؛ وأنه يثمر حال الهيبة.
  •  وذكر لنا مقام الصبر؛ وهو يثمر حال الأُنس.
  •  وذكر لنا مقام الفقر؛ وهو يثمر حال القرب.
  • وذكر لنا مقام الشكر؛ وهو يثمر حال الحياء. 

عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ ذاتَ يومٍ: "استَحْيوا مِن اللهِ عزَّ وجلَّ حقَّ الحَياءِ، قال: قُلْنا: يا رسولَ اللهِ، إنا نَستَحي، والحَمدُ للهِ، قال: ليس ذلك، ولكنْ مَن استَحْيى مِن اللهِ حقَّ الحَياءِ؛ فليَحفَظِ الرَّأسَ وما حَوى، وليَحفَظِ البَطنَ وما وَعى، وليَذكُرِ المَوتَ والبِلى"، وهذا الحال كان يغلب سيدنا عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، فكان عظيم الحياء؛ شديد الحياء من الله، وكان في مختلف أحواله مراقِبًا؛ حتى إذا أراد دخول الخلاء بسط رداءه للملائكة وقال: هاهُنا فاقعدا أكرمكم الله، فلمَّا غلب عليه الحياء كُوفِئ بأن كانت تستحي منه ملائكة الرحمن، فكانت ملائكة الله تستحي من سيدنا عثمان؛ لأنه صاحب حياء قوي من الله -تبارك وتعالى-، والجزاء من جنس العمل، الله -الله أكبر-.

والحياء نتيجة الشكر، فمن شكر الله استحيا؛ ومعنى استحيا: أيقن أنه مهما اجتهد وبذل فهو دون ما يجب عليه وما كان ينبغي له، فيستحيي من الله، ويقوم منه حفظ الرأس وما وعى؛ والبطن وما حوى، يا كريم يا رحمن يا رحيم.

وهو أيضًا من خُلق الرحمن، قال ﷺ: "إن اللهَ يستحي من عبدِه إذا رفع إليه يديه أن يردَّهما صِفْرًا"، وذكر مرةً مِن شابَ شيبة في الإسلام قال: استحيا الله منه، ثم بكى ﷺ، قالوا: ما يبكيك يا رسول الله؟ قال: "بكيتُ إلى من يستحي اللهُ منه ولا يستحي من اللهِ"، إذا قد شابَ في الإسلام شيبة؛ الله يستحي منه وهو ما يستحي من الله؟! لا حول ولا قوة إلا بالله، كيف؟! لا إله إلا الله، "إن اللهَ حييٌّ كريمٌ يستحي من عبدِه إذا رفع يديْهِ أن يرُدَّهُما صِفْرًا" يا رب أكرمنا.

 قالوا الرسول ﷺ لما أرادوا وصف حياؤه، قال: "كانَ أشَدَّ حَياءً مِنَ العَذْراءِ في خِدْرِها"؛ وهذا الذي ضربوا به المثل لأن الناس بحكم الفطرة ما وجدوا مَثَل لقوة الحياء من العذراء؛ لأنهم لم يروا مَثَل زماننا، لو رأوا مَثَل زماننا بيدورون مَثَل ثاني، لو رأوا العذارى عندنا خرجن من الحياء إلا من رحم الله -تبارك وتعالى-، وقد عهدنا العذارى في أول وقتنا في حضرموت قريباتها ما يَرَيْن شعرها، قريباتها نسوان مثلها، قريباتها حتى أخواتها، كان بعض البنات عندنا في البيت تساوي شيء في شعرها، تريد أمها تصلح شعرها ما مكنتها تفتح شعرها وهي أمها، لا إله إلا الله؛ ما هو قديم هذا نحن أدركناه؛ فصحَّ للصحابة يمثلون حياء النبي ويقولون: "كانَ أشَدَّ حَياءً مِنَ العَذْراءِ في خِدْرِها"، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، لا إله إلا الله؛ والله يحفظ على الناس ويَرُدّ عليهم ما فات، ويحيي فيهم ما مات من الخيرات.

وقال: "ومن أحكم المقام السابع  وهو: مقام الخوف -والخشية من الله تبارك وتعالى، وهو أيضًا من نتائج المعرفة، فماذا يحصل له؟- "بصدق النية، وشَجَنِ القلب..أثمر له الحال الوهبي؛ وهو حال السُّكر -بأن يغيب عما سوى الله من شدة الخوف- حال السُّكر وهو عندهم: استيلاء سلطان الحال" حتى يغيب ويذهل عما حواليه وعما سواه، ما شاء الله.
سمعنا قول سيدنا العدني:

يا ذا الذي ناداني***وقت السحير أشجاني

نداه لي أسقاني***من قرقفاه الهاني

سكرت به فأفناني***عن كلّ ضدّ ثاني

من قاصي أو داني***في العالم الجسماني

قال: 

                        وَهُمْ فِي السُّكْرِ مَا شَهِدُوْا لِثَانِيْ 

 وَبَيْنَهُمْ مِنَ الْمَوْلَى عَلَامَةْ

وإذًا هذا المراد بالسكر غيبته عما حواليه وعن نفسه وعما سواه -سوى الله تعالى- هذا يُثمره الخوف.

قال: "ومن أحكم المقام الثامن -وهو مقام الرجاء-":

 عِشْ بِالرَّحَا وَالأَمْلَ يَاصَاحْ***وَحَسِّنِ الظَّنَّ بِالمَعْبُودْ

وَزَجِّ وَقْتَكَ بِالأَفْرَاحْ***وَلاَ تَأسَّفْ عَلَى مَفْقُودْ

وَارْقَ إِلَى عَالَم الأَرْوَاحْ

قال: تظل إنت والأجسام إلى عمرك كم؟! سنة بعد سنة وأنت مؤمن بالله مع الأجسام، مع الأجسام إلى متى؟! 

وَارْقَ إِلَى عَالَم الأَرْوَاحْ*** فَإِنَّهُ الأَصْلُ وَالمَقْصُودْ

وَلاَ تُعِّولْ عَلَى الجُثْمَانْ***فَإِنَّما هُوَ لِلتُّرْبِ

 

 جسد يرجع إلى التراب؛ كان الإمام أحمد بن علوان -عليه رحمة الله- الحسني  يقول: "من شغله في حياته تغذية جسده عن تغذية روحه، فليطلب أجره من الحيتان والديدان"؛ قال: ليش؟ قال: لأنه عاش في الدنيا يربي لها الجسد وهي تأكله في القبر، فهو خادم لها، إنما عاش خادمًا لها فليطلب أجره منها؛ قال: روحوا عند الحيتان والديدان التي تأكل الأجساد وقول: ائتوني أجري أنا اشتغلت بالجسد لكم، انشغل بتغذية جسده عن تغذية روحه، فليطلب أجره من الحيتان والديدان، فإنه إنما عاش خادمًا لها.

وَارْقَ إِلَى عَالَم الأَرْوَاحْ*** فَإِنَّهُ الأَصْلُ وَالمَقْصُودْ

وَلاَ تُعِّولْ عَلَى الجُثْمَانْ***فَإِنَّما هُوَ لِلتُّرْبِ

 


يقول: "إذا أحكم المقام الثامن مقام الرجاء".

     تحت باب الرجاء وقفتُ بذلي***فأغثني بالقصدي قبل المنية

     والرسول الكريم باب رجائي***فهو غوثي وغوث كل البرية

 

قال: "بصدق النية، وشَجَنِ القلب.. أثمر له الحال الوهبي؛ وهو حال الوصول".

قال: "والوصول عندهم: أن لا يشهد العبد غير خالِقِه، ولا يَتَّصَلَ بسره خاطر بغير صانعه، قال المشايخ: هو أن يكون العبد همه الله، وشغله بالله، ورجوعه إلى الله". 

"همه الله، وشغله بالله، ورجوعه إلى الله"... فهو على حق، بسم الله وبالله ومن الله وإلى الله وعلى الله وفي الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ شغله به، قصده هو، مراده هو، وجهته إليه، اعتماده عليه، تذلُّلَه بين يديه، لا يغفل عنه؛ هذا حال الواصل.
الواصل يكون في أحد الحالين: 

  • إما مقام الجمع. 
  • أو مقام الفرق، لا إله إلا الله.

ومقام الجمع متصل بحال الفناء، ووراؤه جمع الجمع.

وحال الفرق متصل بحال البقاء.

 

قال الإمام الحداد: "والعارفون يشتاقون إلى دوام الجمع والحق ينقلهم عنه لطفاً بهم"، لئلا تتلاشى قواهم، وليستطيعوا القيام بما كلّفهم بهم من حقوق؛ لأنه إذا دام تتلاشى القوى؛ كيف؟ وقد دُكَّ ذلك الطور لمَّا أشرق سناء ذلك النور (وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ) [الأعراف:143].
قال الإمام الحداد:

وَكُوشِفَتْ وشقت أَسْرَارُهُ *** وَحَلَّ فِي بُرج الوصول

من غير شك؛ والواصلون على مراتب: أهل الجمع وأهل الفرق.

وَعَلى مَنَصِّ الجَمَع قِفْ مُتَخَلياً***عَنْ كُلِّ فَانٍ لِلتَفرِّقِ نَافِ


"قال المشايخ: هو أن يكون العبد همه الله، وشغله بالله، ورجوعه إلى الله".

ومقصوده الله، ووجهته إلى الله، وحضوره مع الله، وغرضه الله، وأنسه بالله، وشوقه إلى لقاء الله.

وقال: "وعند بعضهم أنه: مكاشفاتُ القلوب، ومشاهدات الأسرار".

كلها نواحي من نواحي الوصول يعبرون عنها، نواحي من نواحي الوصول.

 

"والواصل لا يحجبه عن الحقِّ شي".

لا نفس ولا هواء، ولا أرض ولا سماء، ولا دنيا ولا آخرة، ولا الجسد ولا الروح، ولا حس ولا معنى، ولا ظاهر ولا باطن، لا يحجبه شيءٌ من ذلك عن الحق، وشهود الحق، والحضور مع الحق، وقصد الحق، والتهيُّم في الحق، والوَلَع بالحق -جل الحق- 

ألا كل شيء ما سوى الله باطل

يا رب ارفع عنا الباطل، وكن لنا بما أنت أهله في كل شأن من الشؤون، وحالٍ من الأحوال، يا حي يا قيوم.

 

بصدق النيةِ، وشَجَنِ القلبِ.. أثمر له الحال الوهبي؛ وهو حال الفناء. والفناء عندهم هو: سقوط الأوصاف المذمومة

 

قال: "ومن أحكم المقام التاسع وهو: مقام التّوكُل، والتوحيد" الذي أساسه التوحيد، على قدر صحة التوحيد يصح التوكل.

"بصدق النيةِ، وشَجَنِ القلبِ -فوض أمره إلى الله واعتمد على ربه- أثمر له الحال الوهبي؛ وهو حال الفناء، والفناء عندهم هو: سقوط الأوصاف المذمومة -فتفنى- "قال المشايخ: -يحصل من أثر ذلك- الفناء هو الغيبة عن الأشياء، كما كان فناء موسى -على نبينا وعليه الصلاة والسلام- حين تجلى ربه للجبل". فَنِي عن الكائنات وخرَّ صعِقا، لا يشهد إلا الحق، الله! حال الفناء في الله.

ووراءه المقام العاشر: "ومن أحكم المقام العاشر وهو: -مقام الرضا -عن الله، والرضا بالله، ويحصل له الرضا من الله، فإذا حقق مقام الرضا -بالصدق والنية وشَجَنِ القلبِ.. أثمر له الحال الوهبي؛ وهو حال البقاء وهو عندهم بقاء الصفات المحمودة، بعد فناء الصفات المذمومة، قال المشايخ العارفون: وصاحب البقاء هو الذي يكون في مقام لا يحجبه الحقُّ عن الخلق، ولا الخلقُ عن الحق -ينزل الأشياء منزلتها- بخلاف الفناء؛ فإن صاحبه محجوب بالحق عن الخلق".

فلا يشعر بأحد منهم، ولا بما يكون من أحوالهم، حينئذ ما يقدر على مخاطبتهم، ولا على تعليمهم، ولا على العهد، ولا على العطاء، في حال الفناء؛ ولكن في حال البقاء يكون حاضرًا مع الله، وشهوده للخلق بمنظار ورؤية غير ما كان يشهد الخلق قبل الفناء، فيرجع إلى الكائنات والخلق لكن بمنظار آخر، وبحال آخر، غير الحال الذي كان فيه مع الكائنات قبل الفناء، والآن ينظر إليهم بعين الموجد، والمقدر، والمدبر، والرافع، والخافض، والمعطي المانع، ماعاد ينظر إليهم من حيث ذواتهم؛ ينظر إليها إلا مكسوة بِخِلَع الأسماء والصفات، وتصريف البارئ، المقدر، المدبر، المسخر الميسر، الرافع الخافض، المعز المذل، المعطي المانع، السميع البصير؛ فنظرته إليهم غير النظرة التي كانت قبل الفناء، فهو يرجع إلى الخلق لكن على حال ما هو كحاله قبل الفناء مع الخلق، يختلف حاله مع الكائنات والوجود الآن، والآن ينظر إليها من حيث إثبات الحق لها، فهو يرى الله قبلها، ويرى الله تعالى فيها، فشأنه ثاني، ما هو كما كان يراها من قبل، فلهذا ما عاد صارت تحجبه، صارت له مثل الزجاج، تحوّلت الكائنات له مثل الزجاج، والزجاج ما يحجب اللي وراءه، الزجاج الصافي تشوف اللي وراءه، وكل كائن إذا وقع لك مثل الزجاج وراءه خالقية الخالق، وقدرة القادر، وإرادة المُرِيد، ونورانية المُكون -سبحانه وتعالى- موجود فيه -تشوفها-، كان أول تشوفه مخلوق كذا حاجب مثل جدار ما تشوف الذي وراءه، يتحوّل مثل الزجاج ظهر ما وراءه، ووراء كل مخلوق عظمة الخالق، وأسرار تقديره وتصويره، وتقديمه وتأخيره، وتقريبه وإبعاده، وإشقاؤه وإسعاده، وإعطاؤه ومنعه وراءه؛ فما تشوف أحد مُبْصِر إلا والبصير أمامك؛ المُمِد له بالبصر، فصار الآن وجوده مع الخلق وشهوده للخلق ليس كما كان من أول، حال وجوده الآن مع الخلق بعد الفناء ليس كما كان قبل ما يفنى.  لا إله إلا الله.
وبذا يقول سيدنا الجنيد أو غيره من العارفين كان يقول: لي عشرون سنة يظن أن الناس تتكلم معه؛ قال: أنا ما أتكلم إلا مع الله، كان يشهد الله، تمكن في شهود الحق، فكان من أجل الحق يخاطب كائناته ومخلوقاته بخطابه، ومشاهد أنه المُصَرِّف فيه وفيهم، والقائم عليه وعليهم؛ فأنا أتكلم مع الحق لا أتكلم معهم، يعني  كهيئتهم لما يتكلمون مع بعضهم البعض المنقطعين عنها، كيف تظنون؟ قال: لا ما أتكلم معهم كذا؛ إن سلمت على أحد وأنا أشهده تعالى يوفقني ويطلق لساني، وأوجب علي هذا وسنَّه لي على لسان نبيه وأنا أقوله، ومن أجله أتذلل بين يديه وأعبده بإلقاء  السلام؛ أخاطبه هو، وذا يظن أني إلا أنا معه، اللي قدامي يظن أنط إلا معه! لا إله إلا الله.
ويقول:

كم شخص تنظره حاضرًا *** وروحه في العُلا تجول 

هذا يقول: قريب بعيد، حاضر غائب، كائن غير كائن.

يقول: "ومن أحكم المقام العاشر وهو: مقام الرضاـ بالصدق والنية وشَجَنِ القلبِ.. أثمر له الحال الوهبي؛ وهو حال البقاء وهو عندهم بقاء الصفات المحمودة"

قال سيدنا الإمام الحداد: 

و لِي أَمَلٌ وَرَا هَذَا بَعِيدٌ *** وَذَلكَ أَنْ أَصِيَر إَلَى الحْبَيِبِ

وَأَشْهِدَهُ مُشَاهَدةً وأَفْنَى *** عَنِ الْكَوْنِ البَعيِد مَعَ الْقَرِيبِ

وَأَنْ أَبْقَى بِهِ بَعْدَ التَّفَانِي *** فَيَا بُشْرَايَ مَا أَوْفَى نَصِيِبي

قال: ويُمَكِّن الحق في مقام البقاء من أوليائه من أراد أن ينفع بهم عباده، فمن أجل يأخذون عنهم ويتلقون منهم، وتتصل أرواحهم بأرواحهم وأسرارهم بأسرارهم، ويلاحظون تربيتهم أن يتِمّ، وإلا كيف بيعملون؟ إذا أخذهم الفناء ما بيدرون بأحد، فإذا أراد إيصال أحد على يده مكَّنه في مقام البقاء؛ لا إله إلا الله.

 

وقال -رضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:

فَصْلٌ

في معرفة سلوك القوم بالمقامات القلبية

ومعرفة الطُّرُق، وهي ثلاثة: الشريعة، والطريقة، والحقيقة 

"عند القوم الشريعة كالسفينة، والطريقة كالبحر، والحقيقة كالدُّرِّ؛ فمن أراد الدرَّ ركب السفينة، ثم شرع في البحر، ثم وصل إلىٍ الدُّرِّ ؛ فمن ترك هذا الترتيب.. لم يصل إلىٍ الدُّرِّ.

فأول شيء وجبَ على الطالب.. هو الشريعة.

والمراد بالشريعة ما أمر الله تعالى، ورسولهُ؛ من الوضوء، والصلاة، والصوم، وأداء الزكاة، والحج، وطلب الحلال، وترك الحرام، وغير ذلك من الأوامر، والنواهي؛ فليزَيِّن الرجلُّ ظاهرَه بلباس الشريعة؛ حتىٍ يقع نورُ ظاهرِ الشريعة في قلبه، ويُزِيلَ عن قلبه الظلمةَ الإنسانية؛ فيمكِّن الطريقةَ النزولَ في قلبه.

والطريقة.. الأخذ بالتقوى، وما يقربك إلى المولى؛ من قطع المنازل والمقامات.

والعارفون مختلفون؛ فلكلِّ شيخِ مقامٍ طريقة، وطُرُقُ المشايخ مختلفةٌ؛ لان مقاماتهم مختلفة؛ فكلُّ شيخٍ وضع طريقَهُ على ما هو عليه؛ ومن أحوالهم الحال والمقام.

فبعضهم وضع طريقهُ الجلوس مع الناس وتربيتهم.

وبعضهم وضع طريقهُ كثرة الأوراد مع الصلاة والصلاة وغيرهما من العبادات.

وبعضهم وضع طريقهُ خدمة الناس؛ بحمل الحطب والحشيش على ظهره، ويبيع في السوق ويتصدق بثمنه.

وعلى هذا لكلّ واحد منهم اختيار من الطرق.

وأما الحقيقة فهي الوصولُ إلى المقصد، ومشاهدةُ نور التجَلِّي.

كما قال ﷺ لحارثة: "لكُلِّ حَقٍّ حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟!" فأجاب، وقال: "عزفت نفسي عن الدنيا، فاستوى عندي حجرها ومدرها، وذهبها وفضتها، وأظمأتُ نهاري، وأسهرتُ ليلي.." الحديث.
فتمسكه بدين الله، وقيامه بأمر الله.. شريعة، وأخذه بالأحوط والعزيمة، بسهره، وظمئه، وعزوف نفسه عن المشتهيات.. طريقة، وانكشافه عن أحوال الآخرة ووجدانُه ذلك.. حقيقة".

ما شاء الله لاقوة إلا بالله.

بَيَّن ارتباط الشريعة بالطريقة، وأنه لا طريقة إلا بالشريعة، وأنَّ القيام بحَقِّ الشريعة والانتهاج فيها هو الطريقة، وأن الطريقة هي الموصلة إلى الحقيقة.

قال فالمثل يقول: عندنا الدُّرّ موجود في البحر، فعندنا الدُّرِّ موجود لكنه في أعماق البحار، وعندنا البحر موجود كذلك، ولكن من دخل فيه يغرق؛ وكيف بيصل للدُّرِّ؟ بيموت قبل ما يصل إلى الدُّرِّ! ايش يعمل؟ يركب السفينة.. ايش هي السفينة؟ السفينة: الشريعة، يركب السفينة، يدخل البحر، يصل إلى الدُّرّ، يجيب الدُّرِّ ويرجع، الآن خذ نصيبك من هذا الدُّرِّ.
كذلك الذي أراد الوصول إلى الحقيقة؛ إن كان من دون الشريعة؛ مثل واحد يدخل البحر بلا سفينة، ويقول: إنه بيجيب الجواهر منه والدُّر! فَتقَع له موتة شنيعة، ولا عاد دُر ولا جواهر منه؛ خسر حياته كلها! فلابد من السفينة، ولابد من الشريعة، بالشريعة يحصل الرُّقي؛ العمل بالشريعة على وجه الإحسان هو الطريقة؛ أن تُحْسِن العمل بالشريعة هذه الطريقة، وهذه الطريقة التي توصلك بعد ذلك إلى الحقيقة.

 

يقول: "الشريعة كالسفينة، والطريقة كالبحر، والحقيقة كالدُّرِّ ؛ فمن أراد الدرَّ ركب السفينة، ثم شرع في البحر، ثم وصل إلى الدُّرِّ ؛ فمن ترك هذا الترتيب.. لم يصل إلىٍ الدُّرِّ. فأول شيء وجب على الطالب.. هو الشريعة."

ولهذا قال سيدنا العدني العيدروس:

أرى طُرَقَ الحقيقة قليلا سالكيها ***وأضحى كل جاهل بلا شيء يدّعيها!

بلا علم وعمل مَحَالا يرتقيها *** حَمَتْهَا الأُسُد من دونها العُسل الشواجر

فيَـا أهل التلابيس **** عن التقوى مَفَالِيس

فلا يغويكم إبليس 

ومَن خالف مقاله فِعَاله فهو خاسر 

سألتُ الله يغفر ذنوبي خير غافر

  قال:

ومـن لم يدمن الغوص *** ما جاب الجواهر

ولا نــــــــــال الجـــــــــوائز*** ولا يُدعى بفـائز

علــــــى التحقيـــق عـاجز

ومن لم يبذل الروح *** ما يشفى الخواطر

ومـن هـاب العوالي *** فلا يرقى المعالي

 

قال:

باب ما يدخله واحد سوى باذل الروح *** أو مُشَمّر ذَبَح نفسه مع كلّ مذبوح

وانطرح في حمى ليلى مع كل مطروح *** وشاهد البيت والأركان والسر واللوح

 والبصيرة تجلت وانعزل كل مقبوح

يقول: "فأول شيء وجب على الطالب.. هو الشريعة.

والمراد بالشريعة ما أمر الله تعالىٍ، ورسولهُ؛ من الوضوء، والصلاة، والصوم، وأداء الزكاة، والحج، وطلب الحلال، وترك الحرام، وغير ذلك من الأوامر، والنواهي -الظاهرة والباطنة، التي جاء بها ﷺ- فليُزَيِّن الرجلُّ ظاهرَه بلباس الشريعة".

وهو أول خِلْعَة في التقوى -كما تقدَّم معنا-: لباس الأعضاء الظاهرة بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، هذه أول خِلْعَة في التقوى.

قال: "حتى يقع نورُ ظاهرِ الشريعة في قلبه".

ثم بنور شرعه تَحَلّى، وعن شرور طَبْعِهِ تَخَلَّى، يتخلَّى عن شرور طبعه بنور الشرع.

يقول: "ويُزِيلَ عن قلبه الظلمةَ الإنسانية؛ فيمكِّن الطريقة النزول في قلبه. والطريقة.. الأخذ بالتقوى، وما يقربك إلىٍ المولى؛ من قطع المنازل والمقامات".

اللهم اُسْلُك بِنَا مَسَالِك التقوى، والخِلَع الخمس التي أشار إليها سيدنا نسألك أن تُكرمنا بالنصيب منها.


قال: "والعارفون مختلفون؛ فلكلِّ شيخِ مقامٍ طريقة، وطُرُقُ المشايخ مختلفةٌ؛ لأن مقاماتهم مختلفة؛ فكلُّ شيخٍ وضع طريقَهُ على ما هو عليه؛ ومن أحوالهم الحال والمقام".

فتَعَدَّدَت في الرَّسْمِ والهيئات؛ أمَّا العمل بالشريعة، وقصد وجه الله تعالى، واتباع الحبيب كلهم مُجْمِعُون عليه، ولا طريق إلا بذلك؛ وأمَّا كيفية التطهير للنفس، والتزكية لها، والتركيز في ذلك على أيِّ الأعمال ذا أو ذا أو ذاك؛ يختلفون فيه بمختلف مقاماتهم، مثل ما اختلَف أئمة الفقه في الشريعة باستنباط الأحكام من الكتاب والسنة، واهتدوا إلى هذه المسائل، كلها مأخوذة من أصل واحد: الكتاب والسنة. 

فكذلك الطرق؛ الأصل فيها واحد، أساسها: اتباع الكتاب والسنة، اختلافهم: فقط في الهيئة والوسيلة والأسلوب للتزكية، وكيف الوصول إليه يختلفون؛ يقول: بعضهم صار شأن مقامه ووصوله إلى الله حصل له بالجلوس مع الناس، وخدمتهم، وتربيتهم، والقيام بآداء حقوقهم، ورعاية حق الشرع فيهم؛ فكانت سبب وصوله إلى الله -سبحانه وتعالى-؛ فيُرَتِّب طريقته على ذلك، ويأخذ أتباعه على أن يقوموا بهذه الأعمال حتى يصلوا.

"وبعضهم وضع طريقه كثرة الأوراد -لأنه بها وصل- مع الصوم والصلاة وغيرهما من العبادات -والطاعات- وبعضهم وضع طريقه خدمة الناس؛ بحمل الحطب والحشيش على ظهره".

والحشيش قوت الحيوانات من الشجر النَّابت في الجبال وفي بعض المزارع يقولون له: حشيش، ما هو الحشيش حقَّ المسكرات أو المخدرات ما لهم دخل في هذا، هذا الحشيش شجر يأكله الحيوانات.

 "ويبيعه في السوق ويتصدق بثمنه. وعلى هذا لكلّ واحد منهم اختيار من الطرق".

إذن:

فهم كذا الرسل بنوا علاتي *** طريقهم واحدة في الذَّاتِ

تعدَّدَت في الرسم والهيئاتِ *** في كُلِّ تفصيل بلا انفصال

اختلفوا في ظاهر الأحكامِ *** افترقوا في شُعَبِ الإسلام

واتفقوا في القصد والمرام *** وقصد وجه الله ذي الجلال

كلهم على هذا؛ فالأصل واحد، وتعددت بعد ذلك المَشَارِب، والوسائل، والأساليب في كيفية تنزيه الباطن عن الشوائب، وتزكية النفس اختلفت من واحد لآخر، والأصل واحد.

قال: "وأما الحقيقة فهي الوصول إلى المقصد، ومشاهدة نور التجلي.

كما قال ﷺ لحارثة "لكل حقٍّ حقيقةٌ، فما حقيقة إيمانك؟!" فأجاب، وقال: "عزفت نفسي عن الدنيا؛ فاستوىٍ عندي حجرُها، ومدرُها، وذهبُها، وفضتُها، وأظمأتُ نهاري، وأسهرتُ ليلي…" الحديث."

كما قال ﷺ لسيدنا حارثة -رضي الله تعالى عنه-، "كيف أصبحت؟ -وهو لمًّا لقيه النبي ﷺ كان لم يزل شابا، عمره ما بين ستة عشر وسبعة عشر سنة- كيف أصبحت؟ قال: أصبحت مؤمناً بالله حقاً؛ قال: إن لكلّ قول حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ قال: عزفَتْ نفسي عن الدنيا، فاستوى عندي ذهبها ومدرها، وأصبحتُ كأني أرى عرش ربي بارزا، وكأني أرى أهل الجنة يتنعمون فيها، وأسمع أهل النار يتعاوَوْنَ فيها؛ قال ﷺ: عبد نوًّر الله قلبه، عرفتَ فالزَمْ -وما اكتفى بهذا-، قال: يارسول الله ادعُ الله يرزقني الشهادة في سبيله؛ قال له: اللهم ارزق حارثة الشهادة في سبيلك؛ ثم خرج في غزوة بدر وهو في سبع عشرة سنة، -ما بين سبعة عشرة وثمانية عشر سنة في غزوة بدر- وكان في خدمة الجيش، لم يكن في المتصدين للقتال، جاءه سَهْم من أسهم المشركين أصابه وقتله، فكان أحد الأربعة عشر الذين استشهدوا في بدر، ودفنهم ﷺ هناك؛ وبعد ثلاثة أيام مشى بهم إلى المدينة، فجاءت أم حارثة؛ قالت: يا رسول الله أخبرني أين ابني حارثة؟ قال لها: احتسبيه عند الله؛ قالت: إنك تعلم منزلة حارثة مني، وأنه ليس لي من الولد غيره -لا عندها ابن ولا بنت ثانية، ما لها إلا هو-  فأخبرني أين ابني؟  قال لها: احتسبيه عند الله؛ قالت: أخبرني أين ابني؟ إن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك، فلترينَّ ما أصنع؛ قال: يا أمّ حارثة، إنها ليست جنة واحدة، إنها جنان كثيرة، وإنَّ ابنك أصاب الفردوس الأعلى!"

اطمئن قلبها عليه في هذا السن شوفوا كيف؟! لاإله إلا الله!؛ أحد الأربعة عشر الذين استشهدوا في بدر! هذا حارثة بن مالك -رضي الله تعالى عنه-، قال: "انظر ما تقول إن لكلّ قول حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ قال: عزفَتْ نفسي عن الدنيا.."، أخرج الحديث في شعب الإيمان للبيهقي.

وأما حديث رجوعه من بدر وسؤال أمّه عنه "إن ابنك أصاب الفردوس الأعلى" ففي البخاري، وقصّة مسائلته عن الإيمان وحقيقة الإيمان في شعب الإيمان للبيهقي؛ رضي الله عن حارثة، انظر في السن هذا وقد شربوا هذا الشَّرَاب! وطابوا هذا الطِّيب في مراتب الاقتراب! -رضي الله عنهم-.

قال: "فتمسكه بدين الله، وقيامه بأمر الله.. شريعة، وأخذه بالأحوط والعزيمة؛ بسهره، وظمئه، وعزوف نفسه عن المشتهيات.. طريقة، وانكشافه عن أحوال الآخرة، ووجدانه ذلك -"كأني أرى عرش ربي بارزا"- حقيقة".

فهم أهل الشريعة، والطريقة، والحقيقة.

قال الإمام العدني في جَدَّهِ سيدنا عبدالرحمن السقاف:

رَقَى في رُتبَةِ التمكين مَرْقى *** وقد جمع الشريعة واليقينا

تمكّن في المقامات كلّها..

 

وقال -رضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:

فَصْلٌ

في معرفة الوقت

"يريد الصوفية بالوقت.. ما هم عليه من الحال في الزمان الحاضر؛ إن كان الرجل في السرور فوقته السرور، وإن كان في الحزن فوقته الحزن.
قال العارفون: الصوفي ابن وقته، يعني يشتغل بما توجَّه إليه من حكم الله تعالى، لا يتعلق قلبه بالماضي ولا بالمستقبل؛ فإنه لو اشتغل بالماضي، والمستقبل.. فات الوقت، ومراعاة الوقت أولى؛ لأنه مُكَلَّف بالوقت، دون زمان آخر.
والصوفي بحكم وقته، يعني: مُسْتَسْلِم لما يجري عليه من قضاء الله، وقدره في وقته.
قال العارفون: الوقت سيف قاطع، أي: كما أن السيف قاطع؛ فما يجري من قضاء الله وقدره في الوقت.. لا يمكن خلافه".

يقولون: "الصوفي ابن وقته" ما المُراد بذلك؟

قال: "يرى الصوفية بالوقت.. ما هم عليه من الحال في الزمان الحاضر".

يعني: شأنه مع الله -تبارك وتعالى- في حاله الذي هو فيه، في مكانه الذي هو فيه، وفي وقته الذي هو فيه؛ يشتغل بما يراه أجمل وأفضل وأكمل، مُجْتَمِع على هذا الحال، غير مُفَرّق بماضي ولا بمستقبل، ولكن يهمّه حاله الآن مع الله، -حاله الآن- في الحال الذي هو فيه، في الوقت الذي هو فيه، في المكان الذي هو فيه، في العمل الذي هو بصدده، في الخطاب الموجّه إليه، في ما يليق بشأنه الذي هو فيه؛ هذا شغله، يعنى شغله: بما يعنيه وما يهمّه وبُدّه اللازم، هذا شأن الصوفي؛ أما يتنقّل من عمل إلى عمل وبلا بصيرة، يتفرَّق ويقول: لا أحسن هذا، ولا كذا، ولا يجيب كذا! شوف حالك مع الله في الحال الذي أنت فيه، كن على ما يحبّ منك في هذا الحال، وفي هذه الساعة، ثابت مجموع الحال عليه، غير مُفَرَّق الهم لا بماضي ولا بمستقبل، بل مُجْتَمِع على الحق في الحال الذي أنت فيه، والوقت الذي أنت فيه.
ولهذا يقول: "بالوقت.. ما هم عليه من الحال في الزمان الحاضر؛ إن كان الرجل في السرور فوقته السرور -ويقوم بحق ما آتاه الله من سرور- وإن كان في الحزن ووقته الحزن -ويحزن لأجل الله تعالى-.
وقال: "الصوفي ابن وقته، يعني يشتغل بما توجَّه إليه من حكم الله تعالى، لا يتعلق قلبه بالماضي ولا بالمستقبل؛ فإنه لو اشتغل بالماضي، والمستقبل.. فات الوقت، ومراعاة الوقت أولى؛ لأنه مُكَلَّف بالوقت، دون زمان آخر".
قال سيدنا الحداد: "أوصيك بوصية ينفعك الله بها: إذا دخلت في أمر ديني أو دنيوي فاجتمع عليه" تتقنه وتُحْسِنه، وإذا فكرت في ماضي وفي مستقبل ضيَّعت نفسك، اجتمِع على الحال الذي أنت عليه بكُلِّيتك. 

وقال: معنى الصدق: اجتماع قوى الظاهر والباطن على المقصد مرة تجتمع جميع قواك هذا هو الصدق.
قال: "لأنه مُكَلَّف بالوقت، دون زمان آخر. والصوفي بحكم وقته، يعني: مُسْتَسْلِم لما يجري عليه من قضاء الله، وقدره في وقته -فهو مُسلِّم، ومُسْتَسْلِم، وراضي-.
قال: "الوقت سيف قاطع، أي: كما أن السيف قاطع؛ فما يجري من قضاء الله وقدره في الوقت.. لا يمكن خلافه".

 فيغنم وقته، ويغنم حاله، ويغنم وجهته إلى الله تعالى، حيثما كان وأينما كان.

وهكذا يتكلم عن المنازل، ثم يُبيّن لنا ما ذكر لنا من الأحوال ومعانيها في الفصل الذي بعده؛ في هذا الفصل يتكلم عن المنازل.

 

وقال -رضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:                                           

فصل

فِي مَعْرِفَةِ المَقَامَاتِ مِنَ المَنَازِلِ

 

"والمنازل مختلفة :

أولها : اتباع الأوامر، وترك المناهي .

والآخر: معرفة عيوب النفس، تنقية النفس عن العيوب المذمومة عند الله.

والعيوب كثيرة، وأعظمها إعجاب الرجل بما فعل من الطاعات.

والمنازل كثيرة يطول إحصاؤها .

وشرط السالك أن لا يصعد من مقام إلى مقام؛ حتى يستوفي المقام الأول؛ فإن ترك مقاماً قبل أن يستوفي حقه.. كان كالمريض يشرب المسهل قبل نضج خلطه فإنه لا يفيد الْمُسْهَل، بل يزيد علته".

 

والمنازل مختلفة، أولها: 

  • أول منزلة في منازل الوجهه: "اتباع الأوامر" بآدائها على الوجه المرضي، "وترك المناهي" بالبعد عن المحرمات الظاهرة والباطنة. هذا أول شيء.
  • "والآخر: معرفةُ عيوبِ النفس" للتخلّص منها. فأولها المعرفة، وإذا لم يعرف العيوب كيف يتخلّص منها؟ ! 
  • فإذا عرفها، فيأتي المنزلة الذي بعدها "تَنْقِيَةُ النفس عن العيوب المذمومة عند الله تعالى".

قال: "والعيوب كثيرة -التي تصيب باطن الإنسان- أعظمها إعجاب الرجل بما فعل من الطاعات".

كأنه مُوجِد، أو خالق، أو فَعّال!

وهكذا تَقَدَّم معنا قول سيدنا داوود للرحمن يقول: لك الحمد يا ربّ، ما من وقت في ليل ونهار أو ساعة؛ إلا وأحد من آل داوود فيها لك قائم، أو راكع، أو ساجد، أو تالي أو ذاكر؛ قال: فأوحى الله إليه: مَن الذي وفّقهم لذلك؟ من الذي أعطاهم هذا؟ فَخَرَّ ساجداً لله وبكى، قال: لك الحمد، أنت، أنت الذي وفّقت لذلك.

"واللَّهِ لَوْلَا اللَّهُ ما اهْتَدَيْنَا، ولَا صُمْنَا ولَا صَلَّيْنَا، فأنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا، وثَبِّتِ الأقْدَامَ إنْ لَاقَيْنَا، والمُشْرِكُونَ قدْ بَغَوْا عَلَيْنَا، إذَا أرَادُوا فِتْنَةً أبيْنَا".

كانوا يشلِّون في الجهاد:

 نحن الذين بايعُوا محمداً  *** على الجهاد ما بَقِينَا أبدا
فيقول لهم رسول الله ﷺ: "اللهم إن العيش عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة".

الله أكبر!

فلله الحمد، وله الأمر.

قال: الإعجاب هذا أعظم العيوب، وهو العُجْب، قالوا أنه أخفى من الرياء، والرياء أخفى من دبيب النمل.


قال: "والمنازل كثيرة يطول إحصاؤها. وشرط السالك أن لا يصعد من مقام إلى مقام؛ حتى يستوفي المقام الأول؛ فإن ترك مقامًا قبل أن يستوفي حقه.. كان كالمريض يشرب المُسَهِّل قبل نضج  خلطه فإنه لا يفيد الْمُسْهَل ، بل يزيدُ عِلَّته".

حتى ينضج أولاً الخَلْط فيه، ثم يستعمل المُسَهِّل لإخراج القاذورات. والله أعلم.

 

اللهم لا تحرمنا خير ما عندك لشَرِّ ما عندنا، ولا تجعل حظَّنا الهذيان، ولا لقلقة اللسان، ولا مجرد السماع لهذا الكلام، ولا مجرد القراءة له في السطور، واجعل لنا من حقيقته وسِرِّه حظاً موفوراً.

نسأله -سبحانه وتعالى- كمال التوفيق، كمال العناية، كمال الرعاية، كمال الصلاح، كمال الفلاح، كمال النجاة، كمال الفوز، ويُنظِمنا وإياكم في سِلْك أهل الصدق من خيار الخَلْق، مع الذين رعتهم عين عناية الله في جميع الأطوار، ولم يمنعهم عن الدخول إلى حضرته قبيح الأوزار، ولم يحجبهم عن مواهب فضله سيء الإصرار.

ويأتينا -سبحانه- تقوانا، ويأتي نفوسنا تقواها، ويزكيها خير من زكَّاها؛ اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خير من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها؛ اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكّها أنت خير من زكّاها، أنت وليُّها ومولاها؛ اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خير من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها.

بسِرِّ الفاتحة 

إلى حضرة النبي محمد ﷺ.

تاريخ النشر الهجري

08 صفَر 1447

تاريخ النشر الميلادي

02 أغسطس 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام