الكبريت الأحمر - 6 | المقامات العشرة
الدرس السادس للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الكبريت الأحمر و الأكسير الأكبر في معرفة أسرار السلوك إلى ملك الملوك ، للإمام الحبيب عبد الله بن أبي بكر العيدروس . ضمن دروس الدورة الصيفية الأولى بمعهد الرحمة بالأردن.
مساء الجمعة 19 صفر 1446 هـ
نص الدرس المكتوب :
بسم الله الرحمن الرحيم
من كتاب الكبريت الأحمر والإكسير الأكبر وبسندكم المتصل إلى صاحب الكتاب الحبيب عبد الله بن أبي بكر العيدروس رضي الله تعالى عنه وعنكم ونفعنا بعلومه وعلومكم وعلوم سائر الصالحين في الدارين آمين إلى أن قال:
فصْل
المَقَامَاتِ العَشَرَةِ
"هذه عشر مقامات، وهي مكاسب، تثمر عشرة أحوال؛ مواهب بقدرة الواهب:
أصل المقام الأول: التوبة؛ فمن لا توبة له.. لا مقام له.
وسبب توبة الشيخ العارف بالله ذي النون المصري أنه : قال ـوقد سُئِل عن أصل توبته- قال: "خَرَجْتُ من مصر إلى بعض القرى؛ فنمت في الطريق؛ فانتبهتُ، وفتحت عيني؛ فإذا أنا بقنبرة عمياء سقطت من شجرةٍ؛ فانشقت الأرض، فخرج منها سُكُرُّجَتان، إحداهما من ذهب، والأخرى من فضة، في إحداهما سمسم، وفي الأخرى ماء؛ فأكلت من هذه، وشربت من هذه، فقلت: حسبي -تبتُ-، ولزمت البابَ إلى أن قبلني".
المقام الثاني: الورع.
رجع الشيخ إبراهيم بن أدهم من بيت المقدس إلى البَصْرَة لردِّ تمرة.
ورجع الشيخ أبو يزيد من "بسطام" إلى "همدان" لردِّ نملة، وجدها في قُرْطَم اشتراه من هناك وقال: "غَرَّبْتُها عن وطنها".
المقام الثالث: الزهد؛ فرض على كل مسلم، أعني: الزهد في الحرام.
حُكِيَ أنه تحارب مَلِكَان من ملوك اليمن في قديم الزمن؛ فغلب أحدهما صاحِبَهُ، وقتله، وشرَّد أصحابه، وهُيِّئت له السُّررُ، وزينت له دارُ المُلك، وتلَقَّاه الناس؛ ليدخل، فبينما هو في بعض السِّكَكِ يقصد دارَ المُلك.. وقف له رجل يُنْسَبُ إلى الخير، وأنشده:
تَمَتَّعْ مِنَ الأَيَّامِ إِنْ كُنْتَ حَازِمًا *** فَإِنَّكَ فِيْهَا بَيْنَ نَاهِ وَآمِرٍ
فَكَمْ مَلِكِ قَد رُكِّمَ الثَّرْبُ فَوْقَهُ *** وَعَهْدِي بِهِ بِالْأَمْسِ فَوْقَ المَنَابِرِ
إِذَا كُنْتَ فِي الدُّنْيَا بَصِيْرًا فَإِنَّمَا *** بَلَاغُـكَ مِنْهَا مِثْلُ زَادِ الْمَسَافِرِ
إذَا أَبْقَتِ الدُّنْيَا عَلَى المَرْءِ دِينَهُ *** فَمَا فَاتَهُ مِنْهَا فَلَيْسَ بِضَائِر
فقال له: "صدقتَ"، ونزل عن فرسه، ورقا الجبل، وأقسم على أصحابه أن لا يتبعه أحد، فكان آخر العهد به، رحمه الله.
المقام الرابع: مقام الصبر.
حُكِيَ عن بعضهم أنَّه راضَ نفسَه بالشهر، وصبَّرها عليه؛ حتى صار لها عادةً؛ فأقام على ذلك مدة من الزمان ـ كما يشاء الله عزّوجل ـ ثم غلبه النوم فرأى الحقَّ -سبحانه وتعالى- فى المنام؛ فكان يتكلف النوم بعد ذلك، فقيل له في ذلك، فقال:
رَأَيْتُ سُرُوْرَ قَلْبِيْ فِي مَنَامِي *** فَأَحْبَبْتُ التَّنَعُسَ وَالمَنَامَا
المقام الخامس: الفقر.
حُكِيَ عن بعضهم قال: كُنَّا بِعَسْقَلان؛ وشاب يغشانا يتحدث معنا، فإذا فرغنا.. قام إلى الصلاة يصلي؛ فودعني يوما، وقال: "أريد الإسكندرية"، فخرجت معه فناولته دراهم.. فأبى أن يأخذها، فألححتُ عليه، فألقى كفًّا من الرمل في ركوته، واستقى من ماء البحر، وقال: "كُلْهُ"، فنظرت فإذا هو سويق بسُكَّر كثيرٍ، فقال: "مَن كان حاله معه مثل هذا يحتاج إلى دراهمك؟!".
وَحُكِيَ عن بعضهم، قال: "رأيتُ كأن القيامة قد قامت، ويُقال: ادخلوا محمد بن واسع، ومالك بن دينار الجنَّة، فنظرت أيهما يتقدم؛ فتقدم محمد بن واسع، فسألت عن سبب تقدمه، فقيل لي: إنه كان له قميص واحدٌ، ولمالك قميصان".
المقام السادس: الشكر.
قال العارفون: هو اعترافُ اللسان بالنّعْمَة، واتصافُ البدن بالخدمة.
حُكِيَ أنه لمَّا بُشِّر إدريس -عليه السلام - بالمغفرة سأل الحياة، فقيل له في ذلك، فقال:"لأشكره؛ فإني كنتُ أعمل قبله للمغفرة"، فبسط الملكُ جناحه، وحمله إلى السماء.
المقام السابع: الخوف.
وكان أبوبكر الصديق -رضي الله عنه- إذا تنفّس يُشَمُّ منه رائحةُ الكبد المشوية.
وكان بعضُهم إذا غلبه الخوفُ في الخلوة.. رجع إلى السوق، ولم يزل كذلك إلى أن تمكن وقوي وأُذِنَ له بالاجتماع، والصحبة، وصَحِبَهُ الناس، وانتفعوا به.
ومن ذلك ما حُكِيَ عن بعضهم أنه كان إذا اشتد عليه الحال… ركب فرسه أو أتى امرأته فيسكن ما به.
المقام الثامن: الرجاء.
قال الله عزّ و جل: (لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ ) [الزمر: 53].
وقال سبحانه وتعالى (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: 156].
وفي رواية للبخاري: "إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي".
ورُوِيَ أن بعض الفقهاء كان من الوكلاء على باب القاضي، وكان يقرأ في المصحف ويمسح به وجهه في آخر عمره؛ فرآه بعض الناس بعد موته، فقال له: "ما فعل الله بك؟ "، فقال: "قال لي يا شيبة السوء جئتني بالذنوب الموبقات"، فقلت: يا ربّ ما هكذا بلغني عنك"، قال: "فما الذي بلغك عني"، قلت: "الكرم"، قال: "اذهب؛ فقد غفرتُ لك".
المقام التاسع: التوكل.
قال الله -عزّ وجل- (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: 3]، قال العلماء: "أي: كَافِيه، ومنجِّيه من كلّ كرب في الدنيا والآخرة إذا فَوَّض أمره إليه".
وقال ذو النون المصري -رضي الله عنه-: "التوكل تركُ تدبير النفس، والانخلاعُ من الحول والقوة".
المقام العاشر: الرضا.
قال الله عزّ وجل: (رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ﴾ [البينة: 8]
وقال النبي ﷺ: "ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبَّا".
هذه عشر مقامات، وما بعدها إلا ذكر الأحوال العشرة".
الحمد لله رب العالمين، مُقرِّب من شاء، ومصطفي ومُجتبي من شاء بعجائب الاجتباء والاصطفاء، اللهم لا تحرمنا خير ما عندك لشر ما عندنا وأدخلنا في عبادك المصطفين الأخيار، وصلي وسلم على عبدك المختار، نور الأنوار وسر الأسرار سيدنا محمد من جعلته الباب لدخول الحضائر القدسية، ونيل المراتب السنية، والمقامات العلية، والأحوال الوهبية، والأنفاس الربانية، وعلى آله وصحبه ومن تبعه في سبيله السوية، وعلى آبائه وإخوانه من أنبيائك ورسلك أهل المراتب العلية العظيمة القدسية، وعلى آلهم وصحبهم وتابيعهم، وعلى ملائكتك المقربين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبعد،
فيذكر لنا مقامات اليقين، ويذكر لنا الأحوال التي تُثمرها هذه المقامات، وقد علمنا من كلامه السابق أن تلك الأحوال إذا صحت وثبتت أثمرت أنفاسها من الأنفاس القدسية الربانية، ولكن البداية بهذه المقامات.
وأول المقامات: "التوبة"، يقول: "وهي مكاسب" يعني: جعل الله للعباد سبيلًا إلى كسبها ونيلها والتحقق بها، فأولها: "التوبة".
بمعرفته خطر الذنب وسوء عاقبته وقباحته وشناعته، وأنه إن لم يُسامَح فيه أدى إلى عذاب لا يُطاق، فيتألم القلب هذا العلم أولًا؛ وهذا التألم هو الحال الذي يتبع العلم، فيحصل من ذلك صدق الندم، فيقلع إقلاعًا وينوي أن لا يعود إلى ذلك الذنب.
فهذه التوبة؛ التوبة معرفة عظمة الله -تبارك وتعالى- وقباحة وشناعة معاصيه، وسوء عواقبها، وخطر ثمارها وآثارها، والمؤاخذة عليها، الله أكبر!
ثم أن هذه التوبة من الذنوب والمعاصي، والتوبة أوسع من ذلك:
- فالتوبة من الكفر.
- ثم من الكبائر.
- ثم من الصغائر.
- ثم التوبة من المكروهات.
- والتوبة من الشبهات وهي مستحبات.
- ثم وراء ذلك أيضًا توبات؛ ولم تزل التوبة يترقى في مراقيها حتى المعصومون من الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم.
(لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ) [التوبة :117]، وهؤلاء خيارنا معاشر هذه الأمة ورؤوسنا وتاب الله تعالى عليهم، قال ﷺ سيد المعصومين يقول: "إني أتوب إلى الله وأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة"، وقالوا: إن من معانيه أنه يترقى من مقام إلى مقام، فيجاوز في اليوم الواحد سبعين مقامًا، كلما ارتقى إلى مقام تاب عن الذي قبله ﷺ؛ ومعنى توبته مما يقولون عنه: "حسنات الأبرار سيئات المقربين"، لما ارتقى إلى ما هو أعلى من ذلك، رأى ذلك نقصًا فاستحيا فهذا معنى التوبة.
يقول لنا: أن أول مقام من مقامات التوبة وهو أصل المقامات لليقين كلها "فمن لا توبة له.. لا مقام له".
فمن لم يتحقق بالتوبة ثم ادعى أي مقام من مقامات اليقين، قل له كذاب؛ كذاب؛ ماعندك مقام، أصل المقامات لليقين كلها التوبة، فإذا أنت لم تتحقق بالتوبة في حياتك فمستحيل أن ترقى أي مقام من مقامات اليقين؛ لأن أول مقام هو التوبة، فإذا لم تصح التوبة منك، وأنت مُصِرّ على أي ذنب صغير أو كبير ولا تبالي بفعله؛ فلست من أهل المقامات، ولا يصح لك مقام، الأصل الذي يقوم عليه مقامات اليقين التوبة، "فمن لا توبة له.. لا مقام له".
كما يأتي معنا في الأحوال أولها هذا الذي يثمره المقام الأول، أول الأحوال: وهي المحبة بمعانيها الواسعة، ولكنها من بدايتها فمن لا محبة له لا حال له، من لم تصح له المحبة ثم ادعى أي حال من أحوال اليقين، قل له: كذاب؛ ما يصح، مايقوم حال من دون المحبة، من لم تتمكن فيه المحبة وقلبه معلق بغير الله وغير رسوله يعظمها ويقول عنده أحوال؛ أحوال ايش؟ أحوال خبيثة ولا أحوال ساقطة؟! أحوال اليقين ما أنت حولها، أول مرتبة وأول مقام وأول خطوة في الأحوال والرأس الذي يقوم عليه: المحبة، أنت قلبك معلق بغير الله، محب لغير الله، تقول لي عندي حال؟! ما عندك حال؛ عندك خلل، عندك خبال ما هو حال، عندك خبال ما عندك حال؛ الحال عند من صدقت محبته، من صدق في محبة الله ورسوله هذا يكون عندهم أحوال صحيح؛ لا إله إلا الله.
فالمقام الذي يقوم عليه المقامات كلها:
"التوبة؛ فمن لا توبة له.. لا مقام له".
والمحبة تقوم عليها الأحوال ومن لا محبة له لا حال له.
قال: "وسبب توبة الشيخ العارف بالله ذي النون المصري رحمه الله تعالى -في بداية سلوكه الخاص في رجعته القوية إلى الله تعالى- أنه : قال ـوقد سُئِل عن أصل توبته- قال: "خَرَجْتُ من مصر إلى بعض القرى؛ فنمت في الطريق؛ فانتبهتُ، وفتحت عيني؛ فإذا أنا بقنبرة -نوع من الطيور- عمياء". مسكينة طائر أعمى لايشوف بالعين ذه ولا بالعين ذه، وحالَّة وسط الشجرة هذه، عجيب! كيف تأكل؟! وعاد لها عُمر!
قال: "سقطت -خرَّت- من شجرةٍ؛ فانشقت الأرض، فخرج منها سُكُرُّجَتان -إيناءان، وعائين-، إحداهما من ذهب، والأخرى من فضة، في إحداهما سمسم، وفي الأخرى ماء؛". يشوفه قدَّام عينه فتَعَجَّب، ولمَّا أدنت بفمها وأكلت من السمسم، وأدنت فمها من الثاني وشربت من الماء؛ انطبقت الأرض عليها، وهي رجعت إلى محلها، فأخذ يفكر: هذه تأكل وتشرب من رزق الله تعالى بلا واسطة طيران إلى مكان ولا أَخْذ من ثمار ولا من الأشجار، ويسخر لها الأرض، وينزل لها هذا وما نسيها رب السموات والأرض مشان باقي عمرها تأكل وتشرب وأنا فين غافل عن هذا الإله؟! قال: بس خلاص؛ بعدها تُبْت ولزمْت الباب؛ حتى وصل -رضي الله عنه- ذي النون المصري.
"فقلت: حسبي -تبتُ-، ولزمت البابَ إلى أن قبلني" .
لا إله إلا الله؛ ياالله بتوبة؛ ياالله بتوبة؛ توبة صدق يا رب العالمين من جميع ما كان منا، من جميع ما لا ترضاه، من النيات والمقاصد والأقوال والأفعال والحركات والسكنات والأخذ والعطاء والوجهات والنيات كلها، ياتواب تُب علينا وارحمنا وانظر إلينا (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ )[البقرة: 222]، ولابد أن نصدق مع الله في الندم على كل ما كان منا مما يخالف الشرع ومما يخالف السنة ونتوب إليه.
يقول أهل الفقه:
- أن التوبة من الذنوب واجبة مِن تَرْك الواجبات -واجبة-.
- وأن التوبة مِن تَرْك السُّنن سُنَّة.
- ومِن فِعل المكروهات سُنَّة.
- وأن التوبة كذلك فضيلة مِن تَرْك خلاف الأولى ومن الشبهات وهي أيضًا تُوصل إلى الوَرع.
وبعد ذلك تستمر معاني التوبة عند التائبين، وعند التوابين الذين يحبهم ربهم سبحانه وتعالى -لا إله إلا الله-، هذا المقام الأول الله يحققه لنا ويمكننا فيه، ويتوب علينا توبة نصوحًا.
وقد ذكر الإمام الغزالي في منهاج العابدين طريقة لتحقيق التوبة: بالعلم والعمل والحال، وذَكَر الخلوة ووضع الجبهة على التراب، والدعاء بعد صلاة ركعتين سنة التوبة والتضرع؛ فهذه طريقة من طرق التوبة إلى الله -تبارك وتعالى-، رأسها صدق الندم والعزم الصادق ألَّا يعود إلى ذلك الذنب، -لا إله إلا الله- هذا المقام الأول.
"المقام الثاني: الورع". أن يتورع عن الشبهات، قال ﷺ لسيدنا الحسن: " دع ما يريبك إلى مال ا يريبك "، اترك ماتشك فيه، اترك ما فيه شبهة، اتركها إلى الأمر الواضح البين -لا إله إلا الله-؛ وإن الوَرع أساس هذا الدين فاحْكِم بِناه، فالوَرع ترك الشبهات والمشتبهات إلى الأمر الواضح، وكانوا يقولون من عهد الصحابة -رضي الله عنهم-:
- كُنَّا نَدَعُ تسعة أعشار الحلال مخافة الوقوع في الحرام.
- وقالوا: لا يبلغ العبد رتبة المتقين حتى يَدَع مالا بأس به حذرًا مما به بأس؛ أن يجعل بينه وبين الذنب وبين البأس حاجز، فيترك شيء لا بأس به خوفًا من أن يقربه إلى ما به بأس، هذا شأن الورع.
- وكان سيدنا عبد الله بن عمر يقول:" لو صُمتُم حتى تكونوا كالأوتار -ضعفتم مثل الوَتر صِرتُم من كثرة الصوم- وقُمتُم حتى تكونوا كالحنايا -انحنت ظهوركم من كثرة القيام- لم يُتَقَبَّل ذلك منكم إلا بوَرع حاجز".
نصلح هذا الصوم وهذا القيام وأنت تأخذ الشبهات ولا تبالي من أي باب دخل عليك المال والرزق؟ تريد تغالط من؟ "إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا" -جلّ جلاله-؛ هذا الورع يُورث الشوق؛ حال الشوق يأتي من الورع، من تورع أُكرم بالشوق يشتاق إلى فوق ويتهيأ لفوق؛ أما ما يتورع حتى الشوق ما يجي في قلبه، ما ينازل الشوق قلبه حتى؛ إلا لما يتورع يكرمه الرب بالشوق.
قال: "رجع الشيخ إبراهيم بن أدهم من بيت المقدس إلى البَصْرَة لردِّ تمرة". كان جاي يبايع صاحب التمر يقول له كم هذه التمر وأخذ التمرة يقلبها وحطها في المخلاة اللي بيأخذ فيها تمره، وكال له بعدين التمر وهذه ما دخلت في الكيل ما انتبه؛ لما رجع فكر، قال: التمرة اللي أخذتها ما دخلت في الكيل فهي زائدة، وقد سافر من بيت المقدس سافر إلى البصرة، فكر! قال: التمرة هديك لما كنت اقلبها حطيتها فوق التمر حقي من دون ما تدخل في المكيال فهذه حرام فلا بد أن أرجعها؛ سافر ثاني مرة من البصرة إلى بيت المقدس يرد لصاحب التمر التمرة حقك دخلت ما هي في ملكي خذ التمرة اللي تريدها مقابلها شله حتى أكل من الباقي! إبراهيم بن أدهم -رضي الله عنه- بهذا ارتقوا وشوف ذكرهم طبق الآفاق كيف بمسك عباق لأنهم تأدبوا مع الخلاق، رضي الله عنهم.
قال: "ورجع الشيخ أبو يزيد من بسطام إلى همدان"،ايش السبب؟ في كلام غريب "لردِّ نملة،و جدها في قُرْطَم" حقه في الوعاء اللي فيه متاعه قال: هذه مسكينة نملة بلادها هناك في بسطام مسكينة يمكن لها أولاد هناك ولا أهل أنا غربتها ذا الحين ما معه إلا يرجع ويردها إلى بسطام، ويرجع ثاني مرة من بسطام إلى همدان مسكينة نملة غربناها من بلادها؛ يمكن هناك عاد لها أولاد ولا لها مسكن رجع ردها إلى البلاد، وصلوا إلى هذا الحد في رحمتهم بالحيوان ورعايتهم للحقوق راعوا الحق تعالى في خلقه حتى الذر حتى النمل ما هذه الأخلاق!
مَاذَا يَقُولُ المُنْكِرُونَ *** فِيمَنْ لَهُ قَلْبٌ سَلِيمْ
عَلَى جَمِيع المُسْلِمِين *** وَقَصْدُهُ المَوْلَى الكَرِيم
هؤلاء أحد ينكر عليهم هؤلاء! هذا أدبهم ومعاملتهم مع الخلاق جل جلاله؛ الله لا إله إلا هو.
وجاءوا بعضهم إلى أولاد بشر الحافي يقولُون: أن الإمام أحمد أرسلنا إليكم، قالوا: ليش؟ قال: أريد آكل من طعامكم؛ قالوا: لماذا؟
قال: لانه عندي مرض وما وجدت له دواء! وقال لي: إن الحلال الصرف دواء؛ وإنك ستجد الحلال الصرف عند أولاد بشر الحافي.
قالوا: يرحم الله الإمام أحمد كان عهده بنا من أهل الورع كان يعهدنا من أهل الورع لأن تغير…ايش اللي حصل؟
قالوا: خرج يوم الثور الذي نحرص عليه ورجلاه مبلولتان فدخل في أرض الجيران فعلق في رجله تراب من أرض الجيران ثم دخل إلى أرضنا ما درينا هذه اختلطت ما عاد عندنا ورع.
قال: عاد شي غير هذا؟ قال: لا
قال: هاته! هاته! من عندكم، فأكل منه فعافاه الله شافها الله.
قالوا: خرج من بيتنا الورع؛ كنا ورعين ما عاد عندنا ورع؛ لأن التراب الذي علق برجل الثور دخل ثاني مرة وسط تراثنا واختلط ماعاد احنا من أهل الورع.
وجاءت بنت بشر الحافي في مرة عند سيدنا أحمد تسأله وتقول له: إنها تغزل، وأن في الليل أحيانًا يمر حقهم السلطان، ويمر معهم حقهم الشموع، وأنها قد تغزل بعض الغزل على ضوء الشموع، فهل يجوز لها ذلك؟ تعجب في السؤال الدقيق! قال: أنت بنت من؟ قالت: بنت بشر الحافي، قال: آه؛ من بيتكم خرج الورع، أنت ما يصح لك هذا، مثلك ما يجُوزْ لها هذا، أنتم نشأتم على ورع تجنبي هذا، إذا جاءت الشموع حقهم، قفي وكُفِّي عن الغزل حتى يمروا، ثم بعدين اغزلي بحقك الشمعة ولا ضوء القمر.
لا إله إلا الله! سبحان الله! وهذا مقام الورع.
وهذا ورع الصديقين؛ سيدنا أبو بكر جاء حقه المملوك له بلقمة أخذها أكلها، قال: عادتك - يا خليفة رسول الله - تسألني منين اليوم ما سألتني، قال : كنتُ مشغول من أين جئت بها؟، قال: مررتُ على قوم كنتُ تكهنت لهم في الجاهلية، كان عندهم زواج، عرفوني، فأعطوني هذا، فدخل الشك على سيدنا أبو بكر الناس عندهم زواج، من أين جاب يعطونه! ولكن عرفونا من طريق الكهانة، أيام الجاهلية، قال: اووه معرفتهم لك من طريق الكهانة؛ هذا شبهة دخل أصبعه في فمه، يُتهوع ليُخرجه؛ حتى جاء الجيران! قالوا: ما لخليفة رسول الله؟! سمعوا أصواته، قال لهم: طعام دخل في بطنه؛ لا بد أخرجه؛ قالوا: استعنِ خذ عليه ماء لتخرجه، فلما قذفه وخرج قعد يستغفر من البقايا.
ولكن قال هذا وَرَع الصديقين؛ والرجال هو جاب شبهة هذه ولا ماشي شبهة والناس عندهم زواج أي حد جاء بيكرمونه! عرفوه ولا ماعرفوه بيعطوه ولكن هو قال: بيعرفونا من جهة الكهانة في أيام الجاهلية. فسيدنا أبو بكر تحرّز من هذا، وبعدين قالوا له: كدت تهلك نفسك! قال: لو لم تخرج إلا بخروج روحي لأخرجتها.
قال: بعد ما سمعت النبي يقول: "كل لحم نبت من سُحت، فالنار أولى به، فأخشى أن ينبت فيّ شيء من هذا" لا إله إلا الله هذا الصِّديق، وَرَع الصديقين.
أصبحت عند عقول الكثير من المسلمين مثل الخرافات، ومثل الغرائب، ومثل أمور واقعة حاصلة الذي أوقعها وأحصلها سرّ الوحي، وقوة الإيمان به والتصديق، هذه أمور شريفة وعظيمة لأهلها، الله يصلح أحوال المسلمين، وينوّر قلوبهم، ويُزكي عقولهم.
وكان يقول بعض الأكابر: إن رد درهم من شبهة خير لك من أن تتصدق بمئة ألف، ومئة ألف، ومئة ألف، ومئة ألف، أن ترد درهم واحد من شبهة أفضل لك من صدقة بمئات الألوف، هذا هو الورع.
بعده المقام الثالث: الزهد؛ الله، لا إله إلا هو!
قال: "فرض على كل مسلم" أعني: الزهد في الحرام" هذا فرض، والزهد في الشبهة ورع، والزهد في الفضول وفي المباحات هذا شهود وقرب من الله.
قال: "حُكِيَ أنه تحارب مَلِكَان من ملوك اليمن في قديم الزمن؛ فغلب أحدهما صاحِبَهُ، وقتله، وشرَّد أصحابه، وهُيَّئت له السُّررُ، وزينت له دارُ المُلك، وتلَقَّاه الناس؛ ليدخل، فبينما هو في بعض السِّكَكِ يقصد دارَ المُلك.. وقف له رجل يُنْسَبُ إلى الخير قال هيه! أنت الملك؟ قال: مرحبا. قال: اسمع. هات
وأنشده:
تَمَتَّعْ مِنَ الأَيَّامِ إِنْ كُنْتَ حَازِمًا *** فَإِنَّكَ فِيْهَا بَيْنَ نَاهِ وَآمِرٍ
فَكَمْ مَلِكِ قَد رُكِّمَ الثَّرْبُ فَوْقَهُ
كم عدد ملوك التُرب رَكَمَ فوقهم؟ ماتوا ودفنوا، كم عدد، عشر، عشرين، مئتين، ألف، ألفين،
فَكَمْ مَلِكِ قَد رُكِّمَ الثَّرْبُ فَوْقَهُ *** وَعَهْدِي بِهِ بِالْأَمْسِ فَوْقَ المَنَابِرِ
إِذَا كُنْتَ فِي الدُّنْيَا بَصِيْرًا فَإِنَّمَا *** بَلَاغُـكَ مِنْهَا مِثْلُ زَادِ الْمَسَافِرِ
إذَا أَبْقَتِ الدُّنْيَا عَلَى المَرْءِ دِينَهُ *** فَمَا فَاتَهُ مِنْهَا فَلَيْسَ بِضَائِر
فقال له: "صدقتَ"، ونزل عن فرسه،" -بغى دار الملك- "ورقا الجبل، وأقسم على أصحابه أن لا يتبعه أحد،" -قال لأصحابه: محلكم ولا يتبعنا أحد، روحوا، ولا أريد ملككم-؛ "ورقا الجبل"، وذهب، "فكان آخر العهد به، رحمه الله"، ما عاد دروا -ما عرفوا- به فين راح.
تأثر بكلام هذا الرجل الصالح الذي في الطريق، وترك الملك لأجل الملك، فهو في الحقيقة إلا حصَّل الملك.
لا إله إلا الله!
هذا مقام الزهد يورث الهيبة، فمن زَهِدْ تبدّى له الجلال، فوقعت عنده الهيبة.
قال: "المقام الرابع: مقام الصبر"
"مقام الصبر" (إِنَّمَا یُوَفَّى ٱلصَّـٰبِرُونَ أَجۡرَهُم بِغَیۡرِ حِسَابࣲ) [الزمر: 10]
الصبر: أن توطِّن نفسك على تحمل مشقة، أو ترك مرغوب محبوب للنفس، لأجلِ ما هو أعظم، وأجلُّ منه.
الله أكبر!
هذا الصبر، لا يذكر الملائكة إذا سلموا على أهل الجنة من أوصافهم إلا هذا الوصف، (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [الرعد 23-24]، ولا عاد يذكرون من أوصافهم شيء إلا الصبر، فالصبر أوله مرّ وآخره عسل.
وَحَالِفِ الصَّبْرَ وَاعْلَمْ أَنَّ أَوَّلَهُ *** وَآخِرَهُ كَالشَّهْدِ وَالضَّرَبِ
فهو صبرٌ:
- عن المعاصي؛ وهو من أعظمها.
- وصبرـ على الطاعات.
- وصبرٌ على البلايا والآفات، على البلايا والشدائد.
و الله لا إله إلا الله، "حُكي عن بعضهم أنه راضَ نفسه بالسهر، وصبرها عليه"، فصار يسهر، وما عاد جه النوم، "حتى صار لها عادةً؛ فأقام على ذلك مدة من الزمان ـ كما يشاء الله عزّوجل ـ، ثم يومًا من الأيام نازله بعض النوم، "ثم غلبه النوم فرأى الحقَّ -سبحانه وتعالى- فى المنام".
وأهل السنة يقولون: إن الرؤية للحق في النوم جائزة، وأما في اليقظة فلا تكون حتى للأنبياء، كما قضى لسيدنا موسى: (قَالَ لَن تَرَانِي) [الأعراف:143]، فإنما تكون كرامة من الله المؤمنين في الدار الآخرة، وسواء في النوم أو في اليقظة أو في الآخرة لا تكون على شيء من هيئات الصور، ولا الأجسام، ولا الجهات، ولا شيء من الكيف والحصر هذا، إنما تجلٍّ كريم، وانكشاف حجب، عبَّر عنه صاحب الشريعة بالرؤية: "إنكم سترون ربكم".
ولهذا كان مسلك أهل السنة إثبات الرؤية، الفِرق من المسلمين الذين أنكروا الرؤية، وهي منفية عند أهل السنة أيضًا، يقولون: "إن الأبصار ما ترى إلا جسم، ما ترى إلا من جهة".
نقول هذا منفي أيضًا عند أهل السنة، عند أهل السنة الرؤية لا جهة، ولا جسمية ملآنية فيها ولا شيء من الكيف، ولكن هم ما تصوروا أن شيء يُسمى رؤية من دون جسمانية، فلهذا أنكروا الرؤية، وراحوا يؤولون، والحديث صرّح به ﷺ تصريحًا واضحًا في الصحاح عندنا كله، يقول: "إنكم سترون ربكم مثل ما ترون القمر" فأهل الرؤية قصدهم بإثبات الرؤية ما أثبته ﷺ، هو ما قصدهم.. أما هذا منفي عندهم من الأصل، لا جهة، ولا كيف، ولا صورة، هذا أمر منفي قطعًا بلا شك، لكن عند تصور أنه ما يكون رؤية إلا بالجسم فهذه نفاها من نفاها من الفرق الذين قالوا: أنه غير ممكن، والرؤية التي تصوروها هم نعم غير ممكنة حتى عند أهل السنة غير ممكنة، ولكن أن يكون تجلي يعبر عنه بالرؤية، كما عبر عنه ﷺ، فهذا الذي أثبته أهل السنة.
مع أن الأبصار بالنسبة للآخرة تتحول مثل البصيرة بالنسبة للدنيا، الأبصار ترى المعاني، المعاني ما شي لها صور، الأبصار ترى الحسنة، ترى السيئة، ترى حسن جمال صورة الحسنة، البصر يراها في الآخرة، يرى الصلاة وحسنها، وجمالها، وهيئتها، في الدنيا لا يشوفها، البصيرة قد تُدرك هذا، لكن في الآخرة هو البصر يصير مثل البصيرة، يُدرك المعاني الغيبية، والتي ليست في الأصل صور جسمانية، فيرى الطاعات، ويرى السيئات، والحسنات تشوفها أمامه؛ وتكلمه ويكلمها، تكلمه الأعمال:، تقول: أنا عملك الفلاني.
وهذه أمور معنوية، ما لها صورة من جهة الجسم، في الآخرة تتحول الأبصار مثل البصائر في الدنيا، تشاهد المعنويات؛ تشاهد ما ليس بصورة.
وهذا لم يحصل في الدنيا لأحد إلا لواحد اسمه مُحمَّد ﷺ، في ليلة الإسراء والمعراج، هو وحده ﷺ؛ قال: مع أنه كان أشد شوقًا من سيدنا موسى، ولكن لتمكنه ترك الطلب -ما طلب- سيدنا موسى لما زاد عليه الشوق، (قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ)[الأعراف: 143] ما عاد قدر يصبر!
مثل هذا الشوق أشد منه عند الحبيب، ولكنه مُمَكَّن، فلم يطلب، فأُعطي من دون أن يطلب، ولكن الله كافأ سيدنا موسى، قال له: إذا ما مكنتك قبل الآخرة من الرؤية، شوف هذا الذي رآنا بخليه يمر عليك؛ فإن لم ترانا فترى من رآنا. يقول النبي - في الحديث -: "جعلتُ أتردد بين ربي، وموسى" أنبياء كثير في السماء، لكن لم يذكر لموسى مع الرجوع، فكأنه يقول: فشاهد من رآنا.
لا إله إلا الله!
وإنّما السّرّ في موسى يردّده *** ليجتلي حسن ليلى حين يشهده
فأخذ تسع مرات ما بينه وبين ربه ويقول: "ارجع إلى ربك، اسأله التخفيف"؛هو يتمتع بالنظر سيدنا موسى؛ وقده يريد يرحم الأمة، نعم، ولكنه أيضًا عنده تمتع بالنظر إلى الوجه الذي رآه، يا بخت من قد رآهم، أو رأى من رآهم.
لذلك سرَت الرؤية، عندنا في صحيح البخاري يقول: "يأتي على الناس زمانٌ يغزو فئامٌ من الناس -فيبطئ الفتح عليهم- فيقال لهم: فيكم من رأى رسول الله ﷺ؟ -يقدمونهم فينصرون- فيُفتَح لهم" بسرّ الرؤية "فيكم من رأى رسول الله ﷺ ؟" وينقطع جيل الصحابة، ويبقى الذين رأوا الصحابة، ثم يغزو فئامٌ من الناس، -فيبطئ الفتح عليهم- فيقال لهم: هل فيكم مَن رأى مَن رأى رسول الله ﷺ؟ فيقولون: نعم فيفتح لهم".
يعني: تنحل المشاكل بسرّ الرؤية، والحبيب خصّ برؤية ما نالها غيره.
فَسَمِعْتَ مَا لَا يُسْتَطَاعُ سَمَاعُهُ *** وَعَقَلْتَ مَا عَنْهُ الْوَرَى قَدْ نَامُوا
مِنْ حَضْرَةٍ عُلْوِيَّةٍ قُدْسِيَّةٍ *** قَدْ وَاجَهَتْكَ تَحِيَّةٌ وَسَلَامُ
وَدَنَوْتَ مِنْهُ دُنُو حَقٌّ أَمْرُهِ *** فِيْنَا عَلَى أَفْكَارِنَا الْإِبْهَامُ
مَا لِلْعُقُوْلِ تَصَوُّرٌ لِحَقِيقَةٍ *** يَأْتِيكَ مِنْهَا الْوَحْيُ وَالْإِلْهَامُ
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وَبَلَغْتَ أَوْ أَدْنَى وَتِلْكَ مَزِيَّةٌ *** عُظْمَى وَأَسْرَارُ الْحَبِيْبِ عِظَامُ
اللهم صل وسلم عليه وعلى آله.
يا بختنا بهذا النبي، فلهذا بشّر من رآه حتى في المنام، قال ﷺ: "مَن رآني في المنامِ فقد رأى الحقَّ -فقد رآني حقًّا- إنَّ الشَّيطانَ لا يتشبَّهُ بي"، وفي صحيح البخاري قال: "مَن رَأَني في المنامِ فسيراني في اليَقَظَةِ"، بعض الشراح قالوا: أنه أقل ما يكون لهذا الذي رآه في المنام، أن يراه في اليقظة عند الموت؛ قالوا: إذا كان كذلك فهذه أهم الساعات، فلتكن، مشاهدته عند الموت سبب الثبات وهذا أصعب ساعة، وأهم ساعة، إذا حضر فيها ما عاد في مشكلة، راح الشيطان وما يوقع إلا ثبات إذا حضر سيد الكائنات ﷺ!
يارب ثبتنا على الحق والهدى.
فهذا الرجال سهران؛ سهران في طاعة الله، ألِف السهر، يوم من الأيام غلبته عينه، "فرأى الحقَّ -سبحانه وتعالى- فى المنام"، ورأى لذة، رجع ثاني مرة "فكان يتكلف النوم بعد ذلك"؛ -قالوا له: مالَك؟- "فقيل له في ذلك، فقال:
رَأَيْتُ سُرُوْرَ قَلْبِيْ فِي مَنَامِي *** فَأَحْبَبْتُ التَّنَفُّسَ وَالمَنَامَا
وفي لفظ: التَّنَعُسَ
الله! الله!
قال سيدنا أحمد بن حنبل: رأيتُ رب العزة تسعة وتسعين مرة، فقلتُ: إن رأيته تمام المئة لأسألنه، قال: فرأيتُه، فقلتُ: يا رب، ما أفضل ما تقرب إليك المتقربون؟ قال: بكلامي يا أحمد، بكلامي يا أحمد. قلتُ: بفهم، أو بغير فهم؟ قال: بفهم، وبغير فهم.
كلام ربي يُقرِّب إليه، لمن قرأه بالتعظيم، والمحبة، حتى ما يفهم معانيه، مثل بعض العجم يقرؤونه القرآن يستلذونه بالتعظيم ومحبة، يُقربون من الله -تعالى-، وهم ما يدرون، يرفعونه ما يخلوه؛ يرفعونه، (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج: 32].
فهذا بالصبر وصل إلى هذا الحال، بالصبر، قال: لا بد من الصبر.
وقالوا: ما دمتَ في الدنيا لا بد لك من الصبر. (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾[الزمر:10]، (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة:155] كما قال الله.
لا إله إلا الله!
قال سيدنا الحداد:
وَكَمْ مِحْنَةٍ كَابَدْتُهَا وَبَلِيَّةٍ *** إِلَى أَنْ أَتَانَا اللهُ بِالفَتْحِ وَالنَّصْرِ
صَبَرْتُ لَهَا حَتَّى انْقَضَى وَقْتُهَا الَّذِي***بِهِ وُفِّتَتْ فِي سَابِقِ العِلْمِ وَالذِّكْرِ
وَلَوْ أَنَّنِي بَادَرْتُهَا قَبْلَ تَنْقَضِي***بِمَا تَقْتَضِيهِ النَّفْسُ فِي حَالَةِ العُسْرِ
مِنَ الجَزَعِ المَذْمُومِ وَالغَمِّ وَالأَسَى***لَكُنْتُ قَدِ اسْتَجْلَبْتُ ضُرًّا إِلَى ضُرٍّ
وقتها قده هو بتِمشي فيه، وبتنتهي، يأتي بعدها الفرج، فانتظار الفرج عبادة.
قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة:24]، فَمَن صَبَرَ هُيئ لِلإِمَامَة، فما وَقَعَ إِمَامًا فِي دِينِ اللهِ، إِلَّا مَنْ صَبَرْ.
المقام الخامس: الفقر.
بمعنَييه:
1- الافتقار الكامل إلى الله - تعالى-.
2- وعدم المبالاة بالأمتعة ووفرتها.
قال: "يقول بعضهم: كنا بعسقلان، وشاب يغشانا يتحدث معنا، فإذا فرغنا.. قام إلى الصلاة يصلي؛ فودعني يوما، -وسألته: أين تريد؟-
قال: أريد الإسكندرية" من عسقلان إلى الإسكندرية؛ من هنا، بيت المقدس، من عند غزة، بجانب غزة عسقلان، سيدنا الشافعي أحيانًا يقول: ولدتُ بغزة، وأحيانًا يقول: ولدتُ بعسقلان، قال: ودعته بغى الإسكندرية، قال: "خرجتُ معه، وناولته دراهم"، قال: لا؛ لا؛ ما أريد شيء. قال: قلتُ: خذها توافقلك -تحتاجها- في الطريق، قال: ما أريد شيء، قال: "فألححت عليه، فألقى كفًّا من الرمل في ركوته" قال: اصبر، أخذ كفًّا من الرمل، رمل؟ حطه في الركوة حقه، الوعاء اللي بيتَوَضَّأ فيه، "واستقى من ماء البحر" شال ماء البحر، حطه فوقه، بحر؟! حطه وقلبه كذا.
قال: خذ، كُلْ، "وقال: "كُلْهُ"، فنظرت فإذا هو سويق بسُكَّر كثيرٍ"، فيه سكر كثير حالي عجيب. صُلْح له، عصيدة عجيبة."فقال: مَن كان حاله معه مثل هذا يحتاج إلى دراهمك؟!." شِلْ -خذ- الدراهم حقك، خل الدراهم معك.
يعني أنا بصدق افتقاري إليه سخر لي الركوة، ما أحتاج منك شيء، خلّ دراهمك لك. سبحان الله!
"قال: كُلْ، فنظرته، فإذا هو سويق بسكر كثير، فقال: من كان حاله معه مثل هذا يحتاج إلى دراهمك!".
"قال بعضهم: قال: رأيت كأن القيامة قامت، ومنادي ينادي: أدخلوا محمد بن واسع، ومالك بن دينار الجنة. فنظرتُ أيهما يتقدم، فتقدم محمد بن واسع، فسألت عن سبب تقدمه -ليش تقدم هذا؟ هم دخلوا ولكن تقدم ذا على ذا- قال: قيل لي: إنه كان له قميص واحد -محمد بن واسع- ولمالك قميصان" فلهذا زاد عليه هذا ودخل قبله.
لا إله إلا الله! هذا شأنهم في الافتقار إلى الله - تعالى -.
وبعد ذلك مقام الشكر، وهذا الفقر يورث القرب ، حال القرب.
المقام السادس: الشكر.
"قال العارفون: هو اعترافُ اللسان بالنّعْمَة، واتصافُ البدن بالخدمة"، لأن الشكر يتعلق بالقلب، وباللسان، وبالأعضاء.
- فتعلقه بالقلب شهود المنة للرحمن، ومن يُحصِي نعم الله - تبارك وتعالى - على كل ذرة من ذرات الكائنات؟ وأما مثل ابن آدم، نعم كبيرة كثيرة، أعطاه إياها، وخصّه به، فما يستطاع حصرها، ولا شكرها، (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ) [النحل:18]، جل جلاله. فهذا شأن القلب، واعترافه بالعجز عن الشكر، اعترافه بعظيم النعمة، وبعجزه عن الشكر، هذا شأن القلب.
- شأن اللسان: الحمد والشكر، والثناء عليه.
شأن الأعضاء: أن لا تعصي، أن تنصرف لما خُلِقَت له، ولا تُستعمل فيما يخالف أمره - تبارك الله - هذا الشكر.
أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ منِّى ثلاثةً *** يَدِي ولِسَانِى والضَّمِيرَ المُحَجَّبَا
فاليد والأعضاء ما تعصي، واللسان تُثني وتحمد وتشكر، والقلب يعترف بالنعمة، ويتصف البدن بالخدمة؛ يشهد مِنَّة الله -تبارك وتعالى-، ويوقن عجزه عن القيام بالشكر.
"حُكِيَ أنه لمَّا بُشِّر إدريس -عليه السلام - بالمغفرة سأل الحياة" فقيل له: لماذا؟، فقال: " لأشكره؛ فإني كنتُ أعمل قبله للمغفرة"،
والآن أريد الشكر؛ قال: قد بشّرني بالمغفرة "فبسط الملكُ جناحه، وحمله إلى السماء"، طلعه في السماء الرابعة، وأقام هناك.. إلى أنْ جاء وقت الأجل، فقبض روحه في السماء الرابعة، وقيل: محلك ورجع ثاني مرة الجسد للروح، وهو قاعد محله يعبد الله في السماء الرابعة.
فقال تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا * وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا) [مريم: 56-57]، حتى الموت، حقه هناك، قُبضت روحه من أجل الأجل المحتوم، ورُدّت إليه، وبقي محله، كأنه في البرزخ وهو فوق في السماء، حتى النبي ﷺ في السماء الرابعة لقي سيدنا إدريس -عليه السلام-.
كذلك سيدنا عيسى، عاده -بعده- لم يمت بعد، لا يزال بعمره هذا الدنيوي وهو في السماء عايش عاد-بعده- ما مات، روحه في الدنيا وهو في السماء عايش..، والنبي ﷺ شاهده في السماء الثالثة.. وسينزل بعد ذلك، ويأتيه الموت هنا على الأرض؛ لكن السِنْ الذي رُفع فيه ينزل به إلى الدنيا، يرجع إليه، وإلا الآن قده من حين وُلد بالشمسي هذا؛ بالسنين الشمسية قدنا نحن في عام 2024 وواحد في 2030 عمره كيف ستقابله؟!
قالوا: الطبقات الهوائية التي فوق والمُحيطة بالأرض، إذا طلع الجسد إليها، تنحل عنه التأثرات الجسدية كلها..! حتى المشي يطلع وينزل ويمشي كذا وكذا.. وما يتأثر مع مرور الوقت عليه، ما هي مؤثرة لا على جسده، ولا على قواه؛ يبقى كما هو، وهكذا بقاء الناس في الجنة.. كذلك، أبناء ثلاثة وثلاثين سنة ومحلهم إلى الأبد، وهذا سيدنا عيسى يخرج في السِنْ الذي رُفع فيه إلى السماء، ويرجع إلى الأرض حتى يتزوج، ويُولد له في بعض الروايات، وفي رواية لها سند صححه بعض المحدثين يقول: "وَليأْتِيَنَّ قَبْرِي حتى يُسَلِّمَ عَلَيَّ، ولَأَرُدَّنَّ علَيْهِ" السلام، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله.
فهذا شأن الشكر.. شكر سيدنا إدريس -عليه السلام- .
المقام السابع: الخوف:
"وكان أبوبكر الصديق -رضي الله عنه- إذا تنفّس يُشَمُّ منه رائحةُ الكبد المشوية" من احتراق أنفاسه من خشية الله، بعضهم قال: إذا خلا به الخوف وزاد عليه؛ سيدنا أحمد بن حنبل نفسه نازله مرة معاني من الخوف، ضعف عنها حتى تشفع بعض الأولياء فيه وخفف عنه، وقدر يرجع إلى التدريس ويُعلِّم، وإلا أُخِذ من شدة الخوف، نازله خوف شديد ما قدر عليه، وتشفع له بعض الأولياء وقدر يرجع إلى التدريس والتعليم، (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ) [الحجر: 21]، إيش طاقة الإنسان هذه؟ إي طاقته؟ مسكين وإلا هو بس يغتر ولا هو إيش طاقته! إن شي حرارة زادت عليه! إن شي برد زاد عليه! إن انقطعت عنه المطر تعب! وإن زادت عليه أيضًا تعب! ماشي له طاقة! طاقته ضعيفة، (وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا) [النساء: 28] ولكنه يدّعي القوة.
ماشي لو طاقة!، كل شيء، حتى هذه المقامات الشريفة، لو شيء زاد عليه، تضعف قواه، ما يقدر عليها، ماله إلا لُطف اللطيف، فلهذا: (وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ) [الحجر: 21]، لا إله إلا الله!، يقول: " لو كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحاتُ وجْهِهِ ما انْتَهَى إلَيْهِ بَصَرُهُ مِن خَلْقِهِ"، يعني: كل شيء بيحترق، ما عاد بيبقى لا سماء ولا أرض، ولكنه تحت ستر الحجاب، تعيش هذه بالوقت الذي حدده الله لها، لا إله إلا هو.
وسيدنا إدريس قبره محله في السماء، محله.. وقت الصعقة يُصعق محله -عند النفخة في الصور- يُصعق محله في السماء، مثل الملائكة يُصعقون محلهم في السماء، بعدين النفخة الثانية يقوم من في الأرض، خلاص بس..(وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا) [مريم: 5].
وهذا يقول: "وكان بعضُهم إذا غلبه الخوفُ في الخلوة.. رجع إلى السوق -يخفف عن نفسه، كي لا يتعب- ولم يزل كذلك إلى أن تمكن وقوي وأُذِنَ له بالاجتماع، والصحبة، وصَحِبَهُ الناس، وانتفعوا به.
ومن ذلك ما حُكِيَ عن بعضهم أنه كان إذا اشتد عليه الحال… ركب فرسه أو أتى امرأته فيسكن ما به".
يُخفَّف عليه ما ينازله من هذه الأحوال، وفي المحبة كذلك؛ حتى يقول سيدنا عبد العزيز الدباغ: أن النبي ﷺ سكت مع سيدنا أبو بكر عن الخوض في بعض أسرار المحبة والذوق آخر أيامه إبقاءً على أبي بكر، خاف أن أبو بكر تتلاشى قواه، سيموت ويعلم أنه بقي له مدة، وأنه سينال الخلافة من بعده مدةً، فسكت قبل وفاته بستة أشهر، لم يخض معه في بعض هذه الشؤون؛ إبقاءً له، علشان يبقى يستلم باقي عمره، ويقضي باقي عمره وهو متَماسك القوى، كان يُفضي إليه بأسرار كثيرة.
وسيدنا علي كان يأتيه ساعةً من الليل، لا يدخل عليه غيره فيها، في بعض الأحيان يدخل وهو يصلي، وينتظره إذا كان يصلي ويسبِّح ﷺ، وإذا كان خارج الصلاة يقول له ادخل، في الليل فيجلس معه، يُفضي إليه، سبحان الله!
وأفضى إلى سيدنا حذيفة بسر خاص حق المنافقين، وكان يعلمه دون بقية الصحابة، لا إله إلا الله.. وكان يقول أيضًا سيدنا عبد العزيز الدباغ: أن سيدنا علي كان حَذِر أيضًا من سرعة تولي الخلافة، لأنه يريد كِبَر الحسن والحسين ليفضي لهما بأسرار ما يحملها غيره من العلوم، ويعلم أنه لن يمكث في الخلافة أكثر من أربع سنين، لأن النبي قد أخبره وداري من نفسه، فبقي ولم تأته الخلافة إلا وقد كَبُرَ الحسن والحسين، وقد تلَقَّوا عنه؛ وشاهد ذلك ماكان يقوله علي زين العابدين:
إِنّي لَأَكتُم مِن عِلمي جَواهِرَهُ***كي لا يَرى الحَقَّ ذي جَهلٍ فَيَفتَتِنا
وَقَد تَقَدَّمَ في هَذا أَبو حَسَنٍ***إِلى الحُسَينِ وَوَصّى قَبلَهُ الحَسنا
يا رُبَّ جَوهَرِ عِلمٍ لَو أَبوحُ بِهِ***لِقيلَ لي أَنتَ مِمَّن يَعبدُ الوَثَنا
وَلَاِسَتَحَلَّ رِجالٌ مُسلِمونَ دَمي***يَرَونَ أَقبَحَ ما يَأتونَهُ حَسَنا
كلهم حملوا من السر ومن العلم المخصوص ما لا يحمله غيرهم -عليهم رضوان الله-.
والخوف هذا يُثمر حال السُّكر، والرجاء يُثمر حال الوصول،
المقام الثامن: الرجاء.
"قال الله عزّ و جل: (لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ ) [الزمر: 53].
وقال سبحانه وتعالى (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: 156].
. وفي رواية للبخاري: "إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي".
ورُوِيَ أن بعض الفقهاء كان من الوكلاء على باب القاضي، وكان يقرأ في المصحف ويمسح به وجهه في آخر عمره؛ فرآه بعض الناس بعد موته، فقال له: "ما فعل الله بك؟ "، فقال: "قال لي يا شيبة السوء جئتني بالذنوب الموبقات"، -فألهمه الله حجته، سبحان الله هو صادق مع الله ورحمه الله- فقلت: يا ربّ ما هكذا بلغني عنك"، قال: "فما الذي بلغك عني"، قلت: "الكرم"، قال: "اذهب؛ فقد غفرتُ لك"، تكرمنا عليك، لا إله إلا الله!
ومثل هذا رُوِي عن بعضهم، وقال: لما مات رأوه، قال: ما فعل الله بك؟ قال: أوقفني بين يديه وقفةً فارتعدتُ منها في رأسي، ثم ألهمني، قلتُ: يا ربي ما هكذا حُدِّثتُ عنك، فقال: فما حُدِّثتَ عني؟ قال: قلتُ حدّثني: فلان، وفلان، وذكر بعدين: عن الزهري، عن أنس، عن نبيك، عن جبريل، عنك أنك قلتُ: "أنا عند ظن عبدي بي"، وكنتُ أظن أن لا تعذبني، قال: فقال لي الله: صَدَق جبريل، وصَدَق عبدي وحبيبي محمد، وصَدَق أنس، وصَدَق الزهري، وصَدَق شيخك، وصَدَقت أنت، قال: فأُلبستُ الحُلَل، ومشى بين يدي الولدان إلى الجنة، -سبحانه عز وجل- "أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء"، لك الحمد يا رب، أكرمنا بما أنت أهله في الدنيا والبرزخ والآخرة.
*المقام التاسع: التوكل.
قال الله عزّ وجل: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: 3]"
قال العلماء: "أي: كَافِيه" ونِعمَ الكافي، وقال الإمام الغزالي: مَثَلَه واحد عنده قضية، ويحتاج مُنافِح -مدافع- عنه، فإذا وثق بمهارة وقوة وقدرة هذا المُنافِح، هل يطمئن؟ هو ذا التوكل على الله، تطمئن أنه قادر، وعالم، وبيده.. وأنت إذا وثقت بحقك المحامي شاطر، ممتاز، وعنده حجج قوية، وعنده ممارسة وتمارين تروح وأنت فرحان نايم، مطمئن أن الرجال خلاص بيجيب حقك، وما تثق في القوي القادر المتين العليم؟! لا إله إلا هو، والذي هو أرحم بك من نفسك.
"قال العلماء: "أي: كَافِيه، ومنجِّيه من كلّ كرب في الدنيا والآخرة إذا فَوَّض أمره إليه".
وقال ذو النون المصري -رضي الله عنه-: "التوكل تركُ تدبير النفس، والانخلاعُ من الحول والقوة"، باعتقاد حقيقة لا حول ولا قوة إلا بالله، الله أكبر.
هذا التوكل يُورث الفناء، والرضا يُورث البقاء.
"المقام العاشر: الرضا".
"قال الله عزّ وجل (رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ﴾ [البينة: ۸]
وقال النبي ﷺ: "ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبَّا".
فالرضا عنه -سبحانه وتعالى- والرضا منه فوق كل وصف، والرضا منه أعظم من جميع ما في الجنة من النعيم دون الرضا، والنعيم دون الرضا ما تُنُعِّم به إلا من أثر الرضا، ولكن خالص الرضا أفضل من ذلك كله، "ألا أُعْطِيكُمْ أفْضَلَ مِن ذلكَ، فيَقولونَ: يا رَبِّ وأَيُّ شيءٍ أفْضَلُ مِن ذلكَ، فيَقولُ: أُحِلُّ علَيْكُم رِضْوانِي فلا أسْخَطُ علَيْكُم بَعْدَهُ أبَدًا"، جعلنا الله وإياكم ممّن يسمع هذا النداء بجوار المصطفى -إن شاء الله- يا كريم.
"هذه عشر مقامات، وما بعدها إلا ذكر الأحوال العشرة"
وقال -رضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:
مَعْنَى الحَال
"قال المشايخ -رضي الله عنهم- الحال معنى يرد على القلب من غير اجتلاب ، ولا اكتساب ؛ من طَرَبِ ، أو حُزْنٍ ، أو قَبْضِ، أو بسط، أو شَوقٍ، أوانزعاجٍ ، أو هيبةٍ، أو اهتياجٍ.
فالأحوال مواهب ، والمقامات مكاسب .
والأحوال تأتي من عين الجود، والمقامات تحصل ببذل المجهود.
وصاحب المقام ممكن في مقامه ، وصاحب الحالِ مُرَقًّى في حاله.
الأَحْوَالِ العَشَرَةِ
"والأصل في الأحوال الذي تُبنى عليه ، ولا تصح إلا به .. المحبة؛
كما أن أصل المقامات التوبةُ؛ فمن لا توبة له .. لا لا مقام له، ومن لا محبة له .. لا حال له .
وإنما تبنى عليها المقامات والأحوال بعد كمالهما؛ فمن تاب التوبة النصوح الصادقة بصدقِ النيةِ، وشَجَنِ القلبِ .. أثمرت له مَحَبَّةَ
الله تعالى.
وهي: حالة يجدها العبد في قلبه تلطف عن العبارة، تحمله تلك
الحالة على التعظيم لله، وإيثارِ رضاه، وقلة الصبر عنه، والاحتياج إليه، وعدم القرار من دونه، ووجود الاستئناس بدوام الذكر له بقلبه".
لكي نبدأ بالتوبة وماهي قليلٌ إذا تصدّقنا فيها وحصلنا في هذه الأيام، وهي سُلَّم لما بعدها من المقامات، كلّ واحد من هذه المقامات يُثمِر حال؛ وما معنى الحال؟
قال: "الحال معنى يرد على القلب من غير اجتلاب ، ولا اكتساب ؛ من طَرَبِ ، أو حُزْنٍ ، أو قَبْضِ، أو بسط، أو شَوقٍ، أوانزعاجٍ، أو هيبةٍ، أو اهتياجٍ.
فالأحوال مواهب -من الله تعالى- والمقامات مكاسب؛ -يعني: للإنسان سبيل لتحصيلها- والأحوال تأتي من عين الجود، والمقامات تحصل ببذل المجهود.
وصاحب المقام ممكن في مقامه ، وصاحب الحالِ مُرَقًّى في حاله".
فما هي هذه الأحوال؟ الأحوال عشرة مقابل تلك.
"والأصل في الأحوال الذي تبنى عليه ولا تصح إلا به المحبة، -اللهم ارزقنا المحبة-، كما أن أصل المقامات التوبة، فمن لا توبة له لا مقام له، ومن لا محبة له لا حال له".
عسى نبيت ومعنا نصيبٌ من هذه المحبة.
يَا الله بِذَرَّه مِنْ مَحَبَّةِ الله *** أَفْنَى بِهَا عَنْ كُلِّ مَا سِوَى الله
وَلَا أَرَى مِنْ بَعْدِهَا سِوَى الله *** الوَاحِدِ المَعْبُودْ رَبِّ الْأَرْبَابُ
. يا ربّ أكرمنا بذلك.
يقول: "وإنما تُبْنَى عليها المقامات والأحوال بعد كمالِهِما"؛ يعني: إذا كملت التوبة، ابتنى عليها حال المحبة، وإذا ثبت الحال وتمكّن في صاحبه يأتيه النَّفَس.
"فمَن تاب التوبة النصوح الصادقة بصدق النية وشُجْنِ القلب، -يعني: هَمُّهُ وحزِنه-، أثمرت له محبة الله تعالى".
بشاهدِ (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة: 222].
ما هي المحبة؟ قال: "حالةٌ يَجِدُها العبد في قلبه تَلطُف عن العبارة، تحملُه تلك الحالة على التعظيم لله، وإيثار رضاه، وقلة الصبرعنه، والاهتياج إليه -يكون دائمًا مُهْتَاجٌ إلى قرب ربّه ومحبّته بسبب المحبة-، وعدم القرار من دونه (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد: 28]- "ووجود الاستئناس بدوام الذكر له بقلبه".
هذا كان الكلام عن المقام الأول.
وقال -رضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:
ومن أحكمَ المقامَ الثاني وهو مقام الورع بصدق النية، وشَجَنِ القلبِ .. أثمر له الحال الوهبيَّ، وهو حال الشوقُ .
والشوق عندهم: احتراق الأحشاء، وتَلَهُُّبُ الأكباد.
وعند بعضهم ارتياح القلوب بالوجد، ومحبة اللقاء بالقرب.
ومن أحكمَ المقام الثالث وهو: الزهد ـ بصدق النية، وشَجَنِ
القلب .. أثمر له الحال الوهبي؛ وهو: حالَ الهيبة الوهبية.
والهيبة هي : خشوع النفس، وخضوعُها عند ظهور لائح الجلال،
والعظمة .
ومن أحكمَ المقام الرابع وهو: مقام الصبر ـ بصدق النية،
وشَجَنِ القلبِ .. أثمر له الحال الوهبيَّ؛ وهو حال الأنس.
والأنس عندهم: ارتفاع الحشمة، مع وجود الهيبة.
وعلامة الأنس بالله كلما ازداد زادت المحبة والهيبة .
ومن أحكم المقام الخامس وهو: مقام الفقر ـ بصدق النية،
وشَجَنِ القلب.. أثمر له الحال الوهبيَّ؛ وهو حال القرب، قال الله تعالى: ( وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب)[العلق : 19].
ومعنى القرب: وهو قرب العبد أوّلًا بإيمانه وتصديقه ثمّ قربه بإحسانه وتحقيقه، وقرب الحقّ من العبد بما يخصّه به اليوم من العرفان، وفي الآخرة مما يُكْرِمُه من الشهود والعيان، وفيما بين ذلك بوجوه اللطف والامتنان".
يقول أيضًا: "ومن أحكم (المقام الثاني مقام الورع) بصدق القلب وشجن القلب أثمر له الحال الوهبِي، وهو الشوق".
إذا عرفنا مسألة المقامات المكتسبة والأحوال، يُسْتَعْمَل أحيانًا: المقام والحال بمعنى آخر هذا الذي فيه كلام البعض؛ كيف؟
ما كان واردًا على الإنسان من غير ثبات حال.
وما ثبت ورسخ فيه مقام؛ بالمعنى هذا حتى مقام التوبة نفسه ما يكون مقامًا إلا بعد رُسُوخ القدم فيه.
- فمن كان تَرِدُ عليه التوبة وينقضها، ويعاود وينقضها، هذا حال توبة ما هو مقام.
- إذا رَسَخَ وثبت بصدق النية وشجن القلب على التوبة هذا صار مقام.
إذا صار مقام يُثمِر الحال اللي فوقه، وهكذا حتى صاحب الحال هذا، إذا ثبت يصير هذا الحال بالنسبة له مقام -بعد ثبوته ورُسُوخه فيه- أن يُثمِر له النَّفَس اللي فوقه، فيصير حاله النَّفَس، والنفس إذا ثبت فيه بعدين يصير له مقام، وهكذا.. فكلّ ما كان يَطْرَأُ على الإنسان من دون ثبات يقال له حال، وما يثبت ويَرْسَخُ فيه يقال له مقام.
هذا غير التقسيم الذي نقرأه في أن هنا مقاماتٌ عَشْرَةٌ تُكْتَسَب، ويُوصَل إلى الرّسوخ فيها وتَحصِيلها بالاكتساب، وهي تُثمِر الأحوال التي فوقها، بهذا المعنى يختلف عن المعنى الذي يسأل عنه هذا السائل.
وبعد ذلك يقول: ما هو الشوق عندهم؟
"والشوق عندهم احتراق الأحشاء وتلهّب الأكباد، وعند بعضهم: ارتياح القلوب بالوجد ومحبة اللقاء للقرب".
وكلٌّ يعبر عن شيءٍ مما وجده وشأن هذه الأشواق عجيب وعظيم، والناس فيها على اختلاف الأحوال والمقامات والمراتب فيه، وكلٌّ له نصيبٌ.
قال: "ومن أحكم -المقام الثالث وهو الزهد- بصدق النية وشجن القلب أثمر له الحال الوهبِي وهو حال الهيبة الوهبية"
هابوا الربّ تعالى، الهيبة فوق الخوف، وهذا فيها أيضًا معرفةٌ زائدةٌ على معرفة صاحب الخوف؛ فالمُهَتاب يعرف الذي يهَابُه أكثر من صاحب الخوف المُجَرّد عن الهيبة.
والهيبة قال: "خشوع النفس وخضوعها عند ظهور لائح الجلال والعظمة".
وفيها يحصل احتراق جميع الصفات الذميمة عند تجلّي الجلال، تحترق الصفات الذميمة عند الإنسان، تُنْزَع من أصله بالجلال، قبل أن يبدو لائح الجلال مهما اجتهد وتَصفَّى نفسه تبقى شوائب -تبقى شوائب وآثار- إلى أن يأتي لائح الجلال ويحْرِقُ كلّ آثار الكدورات والصفات الذميمة من أصلها، فلهذا يقول:
فُنوا عن الكون جملةً *** لمّا بدا طالع الجلال
فأحياهم بعد موتهم *** بالجمع في مشهد الجمال
يقول: "ومن أحكم المقام الرابع، وهو مقام الصبر بصدق النية وشجن القلب، أثمر له الحال الوهبي وهو الأُنْس، -الصابرون في أُنْس عجيب- والأُنْس عندهم، ارتفاع الحشمة مع وجود الهيبة وعلامة الأُنْس بالله كلّما ازداد ازدادت المحبة والهيبة".
وهذا الأُنْس الصحيح؛ وأمّا يقول أنه عنده أُنْسًا بالله، ما نَدْرَى به إلا رَكن إلى الإدٍّعاء وقِل الحياء، فنقول له: أنت عندك أُنْس بالنفس الخبيثة، أنت عندك أُنْس بالسقاطة، ما عندك أُنس بالله، الأُنس بالله ما يكون إلا مع وجود الهيبة؛ مع وجود الحياء؛ مع وجود الحشمة؛ مع وجود الهيبة، "وعلامة الأُنْس بالله كلّما ازداد ازدادت المحبة والهيبة".
"ومن أحكم المقام الخامس وهو مقام الفقر بالصدق والنية وشجن القلب، أثمر له الحال الوهبي وهو حال القرب".
ومظهر الافتقار: السجود، لهذا قال: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب) [ العلق: 19].
قال بعض المربيّن لتلميذه: رآه يسجد، وقال: يا ولدي! هذا السجود، فأين الاقتراب؟! يعني المقصود من السجود: الاقتراب، (وَٱسۡجُدۡ وَٱقۡتَرِب)، يعني: لا تبقى محبوس عند صورة السجود، إنما مقصوده القرب. لا إله إلا الله!
"ومعنى القرب وهو قرب العبد أوّلًا بإيمانه وتصديقه، ثمّ قربه بإحسانه وتحقيقه". وهنا يتجلّى عليه الحقّ تعالى في انكشاف قربه من هذا العبد بما يخصّه به اليوم في الدنيا من العِرْفَان؛ المعرفة الخاصة، هذا القرب، وهو المشار إليه بقوله: "من تقرَّب إليَّ شبرًا تقرَّبتُ إليه ذراعًا"، كيف تقرّب إليه شبرًا؟ تقرّب إليه شبرًا بالإيمان والتصديق، والإحسان والتحقيق؛ بهذه الأشياء نحن نتقرب إلى الله، كلّما قَرُبْتَ بشيءٍ منها يسير، فتح لك من جهته -تعالى- أمرٌ كبيرٌ، وعطاءٌ كثيرٌ، وكشفٌ لك من أسرار معرفته ما كشف لك، وهذا قربه إليك، هو أقرب إليك من حبل الوريد، لكن هذا الأمر مخفيٌّ عنك، فمعنى قُرْبِهِ إليك: يكشف لك سرّ قربه، يكشف لك شيءٌ من سرّ قربه، فهذا قربه إليك هو قده أقرب إليك من حبل الوريد، -جلّ جلاله-، البُعْدُ وصفُ العبد؛ والحجاب وصف العبد، لا يُوصَف به الحقّ أصلًا، لا يُوصَف بالبعد، ولا يُوصَف بالحجاب، هذا وصف العبد، "وهو قرب العبد أوّلًا بإيمانه وتصديقه ثمّ قربه بإحسانه وتحقيقه" ولكن قُرْبُكَ منه بالإيمان والتصديق، ثمّ بالإحسان والتحقيق،
وقرب الحقّ من العبد بما يخصّه به اليوم -في الدنيا- من العرفان، وفي الآخرة مما يُكْرِمُه من الشهود والعيان، وفيما بين ذلك بوجوه اللطف والامتنان"؛ أوجه من اللطف والامتنان يُكْرِمُكَ بها، فهو قُرْبُهُ منك، -جلّ جلاله- يا ربّي قرّبنا إليك زُلْفًا، وألحقنا بالمقرّبين.
والمقرّبون هؤلاء الذين هم خواصّ الأبرار، الذين اِرْتَقَوْا رتبة الأبرار إلى رتبة المقرّبين، وهم الذين ذكرهم الله تعالى في سورة المطفّفين، ذكر الأبرار، وذكر المقرّبين، فذكر أنَّ الأبرار يشربون من كأس مْزَاجُها كافُورا، قال تعالى: ( كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ ۚ وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ) [المطففين:18-27]، ومِزَاجُه: الشراب حقّ الأبرار هذا مِزَاجُه: يُخلَط بشوية من تسنيم، وين التسنيم هذا؟ قال: (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) المقرّبون فوق يشربون من التسنيم نفسه، وباقي أهل الجنة يُعْطوْنهم من التسنيم مزج في حقّهم الشراب، لا إله إلا الله! فَفَرق بين المقرّبين والأبرار الغير مقرّبين، اللهمّ قرّبنا إليك زُلْفًا، قال تعالى: ( فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ) [الواقعة:88-90] فهؤلاء عموم الأبرار، أصحاب اليمين، لكن المقرّبين فوقهم، المقرّبون يكونون في الجنة ما بين جنة المَزيد، وجنة علِّيِين، والفردوس، باقي الجنان للأبرار غير المقرّبين، أكثر أهل الجنة الـبُلْه، والعليّون لأُولي الألباب، فالجنات الثلاثة هذه مساكن المقرّبين: الفردوس، والمَزيد، والعلِّيِين، هذه مساكن المقرّبين؛ قد يُطْلَق عليها كلّها الثلاثة ويُقَال لها: الفردوس، ولكن إذا تُميّزها تصير ثلاثة.
ويقول الإمام عبد العزيز الدباغ: أنه لا تقوى روح عبدٍ على الجمع بين نعيم جنتين، غايته يسْتغْرق بنعيم واحدةٍ من الجنان -هؤلاء الثمان- إلا زين الوجود ﷺ يقول: إن خيمته مضروبةٌ من وسط الفردوس إلى المزيد إلى علِّيّين، فهو الذي يَتَنَاقَّل في هذا، ويَقوى على نعيم هذه الجنان كلّها، صلّى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله.
سبحان الذي خصّه، والحمد الذي جعله نبيّنا، الله يجعلنا من أمته حقيقةً، ومن متابعيه حقيقةً، ومن أنصاره حقيقةً، ومن وَرَثته حقيقةً، ومن خلفائه حقيقةً، ومن مشاهديه حقيقةً، ومن المنطوين فيها حقيقةً، اللهمّ آمين اللهمّ آمين، في لطف وعافية ويقين وتمكين مكين برحمتك يا أرحم الراحمين.
بِسرّ الفاتحة
إلى حضرة النبي ﷺ
07 صفَر 1447