(535)
(339)
(364)
الدرس الرابع للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الكبريت الأحمر و الأكسير الأكبر في معرفة أسرار السلوك إلى ملك الملوك ، للإمام الحبيب عبد الله بن أبي بكر العيدروس . ضمن دروس الدورة الصيفية الأولى بمعهد الرحمة بالأردن.
مساء الأربعاء 17 صفر 1446 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
من كتاب الكبريت الأحمر والإكسير الأكبر وبسندكم المتصل إلى صاحب الكتاب الحبيب عبد الله بن أبي بكر العيدروس رضي الله تعالى عنه وعنكم ونفعنا بعلومه وعلومكم وعلوم سائر الصالحين في الدارين آمين إلى أن قال:
فصْل
في عظم قتل المسلم
"قال الأئمة والعلماء بالله؛ مثل الإمام عبدالله بن أسعد اليافعي وغيره من العلماء.
قال الإمام عبدالله بن أسعد اليافعي في كتابه "نشر المحاسن": "قلت: ولعِظَم حرمة المؤمن إذا صدر منه كفر صريح تَعَمَّدَهُ، أو ارتد عن الإسلام.. لا يُبَادَرُ إلى قتله، بل يستتاب وجوبا، أو استحبابا على خلاف في ذلك.. فكيف بمن لا يُعْلَمُ أنه تعمد الكفر، ولفظه يحتمل وجوها من إرادة التخصيص وغيره، ويحتمل أيضا السهو، وسبق اللسان إلى غير ذلك ، فينبغي التثبت".
وقد صرح الإمام الغزالي أن ترك قتل ألف نفس ممّن استحق القتل.. أهون من سفك مِحْجَمَةٍ من دم المؤمن".
الحمدلله، ويواصل الشيخ -عليه رحمة الله- الكلام ويبيّن عظمة وحرمة قتل المؤمن، قال تعالى: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [النساء:93]، أجارنا الله من عذابه.
فكان ذلك الأمر مخطِر حتى "لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يُصب دمًا حرامًا"، وكان الخطر في المشاركة فيه أو الرضا به؛ فإن من شارك فيه ولو بشطر كلمة، ولو بقدر كلمة، "لقي الله مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة الله"، إذا أعان على قتل مسلم بشطر كلمة. وكذلك من رضي بذلك، فمن قُتِل ظلمًا بأقصى المشرق، فرضيَه رجل بأقصى المغرب، كان شريكًا في إثم القتل. وكذلك لو قتل رجل بأقصى المغرب ظلمًا، فرضيَه رجل بأقصى المشرق، فهو شريك لقاتله، والعياذ بالله تعالى.
فلا نشارك في دماء المسلمين ولا نرضى بذلك، وتقدم معنا أنه الأمر الذي اختلِف فيه، هل تقبل منه التوبة أم لا؟ دون بقية الذنوب، حتى ما هو أكبر منه كالشرك بالله تعالى فبالإجماع تُقبل التوبة منه، ولكن سفك دم المسلم عظيم عند الله تبارك وتعالى.
"قال عبد الله بن أسعد اليافعي: ولعِظَم حرمة المؤمن إذا صدر منه كفر صريح تَعَمَّدَهُ، أو ارتد عن الإسلام.. لا يُبَادَرُ إلى قتله،" من قبل الحاكم وأمير المؤمنين، "بل يستتاب وجوبا"، بل يجب عليه أن يستتيبه، وأن يبحث عن الشبهة التي أخرجته عن الإسلام، وأن يعينه على تجاوزها بالبيان له من قبل العلماء وغيرهم، حتى إذا استبان الأمر، وأصر على الكفر بعد ذلك، كان عليه حد قتله.
"بل يستتاب وجوبا أو استحبابا على خلاف في ذلك.."، بين أهل العلم والجمهور على أنه وجوبًا، إلا ما جاء عن سيدنا مالك غير، في من يسب النبي -صلى الله عليه وعلى صحبه وسلم- نعوذ بالله من غضب الله.
"فكيف بمن لا يُعْلَمُ أنه تعمد الكفر،" ولذا كان الحكم على الكفر بالناس من أخطر ما يسخط الله -تبارك وتعالى- ويغضبه، وقال: وكيف إذا كان "ولفظه يحتمل وجوها من إرادة التخصيص وغيره، ويحتمل أيفر، ضا السهو، وسبق اللسان…" فكيف الحكم بالكفر إذا؟ فهذا أمر من أخطر الأمور وأشنعها، أجارنا الله منه، وقد جاء في التحذير منه أحاديث كثيرة عنه ﷺ.
وذكر عن الإمام الغزالي: "أن ترك قتل ألف نفس ممّن استحق القتل.. أهون من سفك مِحْجَمَةٍ من دم المؤمن" لا يستحق القتل. وكذلك ما جاء عن الإمام من علماء التوحيد - عليه رحمة الله تبارك وتعالى عليه- الإمام الباقلاني يقول: أن إدخال ألف كافر إلى الإسلام بشبهة إسلام، أحسن للمؤمن عند الله -تبارك وتعالى- من أن يُكفِّر مسلمًا واحدًا بألف شبهة كفر. قال: يُكفِّر مسلمًا واحدًا بألف شبهة كفر أخطر من أن يدخل ألف كافر إلى الإسلام بشبهة إسلام واحدة، لأن الدين دين الله، والخلق خلق الله، وهو -سبحانه وتعالى- وليُّهم وقائم عليهم، فلا حق لأحد أن يتجاوز حدَّهُ ويحكم على خلق الله بالإسلام وبالكفر، وبالجنة وبالنار، فإن ربهم إليه مرجعهم؛ وهو محاسبهم ليس العباد.
لا إله إلاالله، رزقنا الله الأدب والإيمان، وإذا تمكن الإيمان من قلب المؤمن صار معظِّمًا لكل ما عظم الله، وصار متأدبًا مع صنعة الله وخالقه، إنما يكره ما أمره الخالق الباريء المكوّن بكراهيته، ويحب ما أمره بمحبته، ليس له غرض، ثم بعد ذلك هو واقف أمام الأدب مع الصانع المكوّن -جل جلاله-، حتى يروى أن سيدنا النبي داود -عليه السلام-، قال له الحق: إنه يمنعه عن تجديد المسجد الأقصى. قال: لأنك تسببت في قتلِ كذا وكذا من عبادي. قال له: يا رب إنما أقاتلهم في سبيلك. قال: صدقت، أنت بذلك مثاب عندي، ولكنهم عبادي، ولكن أجعل ذلك على يد ابنك سليمان.
فالخلق كلهم عيال الله -تبارك وتعالى-، وكما قال الإمام الغزالي: "قتل ألف نفس ممن استحق القتل -ترك ذلك، ترك قتل ألف نفس- أهون من سفك مِحْجَمَةٍ من دم مؤمن". لا إله إلا الله.
وقال : ولا تحضر حيث يُضرب مسلم ظلمًا فضلًا على أن يُقتل؛ حتى يضرب فقط ظلمًا لا تحضر، فإن اللعنة تنزل على القاتل، وعلى الضارب، وعلى من حضر، فلا تقصد حضور مكان يُظلم فيه مسلم. لا إله إلا الله.
فرج الله كروب المسلمين، دفع البلاء عن جميع المؤمنين، وحوّل الأحوال أحسنها، وعلّم المؤمنين الأدب معه، ومع آياته وكتابه، وسنة رسوله ﷺ، ومع الخلق له، ومن أجله. الله أكبر.
وقال -رضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:
فصل
في الصُّوفي والمُتَشَبِّه ومُتَشَبِّه المُتَشَبِّه
"حال الصوفي: السالك الواصل.
والمتشبه: المتمسك بطريقهم، المؤمنُ بطريقهم، المحبُّ لهم.
ومتشبه المتشبه: المؤمنُ بطريقهم، المحبُّ لهم.
ومن أحبَّ قومًا.. كان منهم، وفي الحديث الصحيح: "المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ"".
املأ قلوبنا بمحبتك ومحبة رسولك، حتى نحيا بقية أعمارنا، وأنت ورسولك أحب إلينا مما سواكما، ونحب بحبك الناس، ونعادي بعداوتك من خالفك من خلقك.
قال: من يُطلق عليه اسم الصوفي؟ قال: فلا يُطلق اسم الصوفي بالمصطلح الذي أراده أهل هذا الشأن، وأهل هذا الميدان، وأهل هذا العلم، وأهل هذا الطريق، لا يُطلق إلا على:
الواصل: سلَكَ فوصل.
وعرفنا معنى الوصول إلى الله -تبارك وتعالى-: وهو الخروج من الذنوب والأوهام والشكوك إلى اليقين، والارتقاء بعلم اليقين إلى عين اليقين، الذي جاء عن سيدنا أبي بكر، وسيدنا علي بن أبي طالب، أن كلًّا منهما كان يقول: لو كُشف الغطاء ما ازددت يقينًا، فيصير جميع ما أمره الله أن يؤمن به من الغيب كأنه شهادة.
صاحب علم اليقين هذا الواصل إلى الله تعالى؛ وهو الذي ينكشف له من أسرار عظمة الله وآياته وأسمائه وصفاته -جل جلاله- ما ينال به الخصوصية والمزية. وعلمنا أن لذلك بداية وليس له نهاية، وأنه لا يحيط بعلم الله محيط -جل جلاله وتعالى في علاه-.
ولكن هذا الذي يسمى الواصل هو الذي يُطلق عليه اسم الصوفي أنه أكمل السلوك، وحظي بالوصول فصار من أهل عين اليقين. ومنهم من يرتقي إلى درجات في حق اليقين؛ وإنما الراسخة أقدامهم في حق اليقين الأنبياء والملائكة صلوات الله عليهم، ترسخ أقدامهم في حق اليقين، ويصل إلى حق اليقين بعض الخواص من الأولياء والعارفين والصديقين أهل عين اليقين.
ووراء علم اليقين عين اليقين، أقل منه: علم اليقين.
وهذه المراتب مذكورة في القرآن علم اليقين وعين اليقين في سورة التكاثر ﴿لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ﴾؛ قال أولًا: ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ﴾[التكاثر: 5]، (عِلْمَ الْيَقِينِ)، ثم قال: ﴿لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَیۡنَ ٱلۡیَقِینِ﴾ [التكاثر: 6-7]. ولما ذكر المصير والنهاية للأصناف الثلاثة في آخر سورة الواقعة ذكر "حق اليقين" قال: ﴿فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ حَقُّ ٱلیَقِینِ) [الواقعة: 88 - 95]. ما عاد هو رؤية جنة ولا رؤية نار.. دخول فيها "حق اليقين هذا ، ما عاده في عين اليقين تجاوز إلى حق اليقين، هذا قد تسعرّ بلظى جهنم، وذا قد تذوق نعيم الجنان.
قال: فهذا "السالك الواصل" هو الذي يسمى: بـ "الصوفي". وأخذ بعضهم أنه مما يقال في اللغة: الترضى حكومته، يعني تدخل الألف واللام على الفعل المضارع فتكون بمعنى: الذي، الذي تُرضى،
ما أنت بالحكم الترضى حكومته***......
في شعر العرب: ما أنت بالحكم الترضى أي: الذي ترضى حكومته، -الترضى-.
وكذلك الصوفي؛ صوفِيَ أيضًا فعل ماضي و-ال- بمعنى: الذي، الذي صوفي؛ فمعناه: من صفا لله، وصافى الله، حتى قبلهُ الله فصافاهُ فهو: صوفي، فإذا صوفِيَ من قِبَلِ الله فهو صوفي، هذا معنى الصوفي في اصطلاح القوم من حين بدأ هذا الإسم من القرن الثالث الهجري، وألف فيه الإمام الكَلَاباذي -عليه رحمة الله- مع أنه في بلاد ما وراء النهر هناك، لكن قد وصل اسم التصوف ومعناه وهو في القرن الثالث -أواخر القرن الثالث- ألَّف كتابه: كتاب التعرف لمذهب أهل التصوف، وذكر أئمة التصوف: علي زين العابدين بن الحسين، والحسن البصري، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير من التابعين -أضرابهم-؛ ثم في تابعي التابعين، وتابعي التابعين هكذا. حتى برز فيهم أمثال: الحارث المُحَاسِبي، وأمثال: الجنيد بن محمد -من أهل الطريقة-، والإمام الغزالي، وغيرهم من الأئمة من قبل ومن بعد.
يقول سيدنا الشافعي: -وهو في القرن الثاني- صحبت الصوفية..، فالإسم مشتهر في ذلك القرن بين الناس، صحبت الصوفية فاستفدت منهم حرفين:
فهذا الإسم المشهور من القرن الثاني الهجري بين الأمة، ما يُطلَق -عند أهله- إلا على من سلك فوَصل.
وبعد ذلك قال: "والمتشبه، -وهو السالك- المتمسك بطريقهم -سلوكًا وسيرًا إلى الله، الموقن المؤمن بها- المحبُّ لهم". مع المحبة، هذا مُتشبه ليس بصوفي، ولكن يُقال إذا تم سلوكه هو "مُتصوف"، ليس بصوفي "متصوف"، سالك ومتشبه بالصوفية حتى يصل إلى مرتبة عين اليقين، ويصفو تمامًا عن الأكدار والأدران؛ جليلها ودقيقها، فيصير عبدًا مُحَظَّىً خالصًا لله، وقبل ذلك هو سالك ليس بواصل، فلا يُعطى لقب: صوفي ولا يصح أن يُقال: إنه صوفي.
ووراءهُ "ومتشبه المتشبه" -قال: هذا- "المؤمنُ بطريقهم، المحبُّ لهم". مُسَلِّمْ لهم.
قال سيدنا الإمام الجنيد بن محمد: التصديق بعلمنا هذا ولاية صغرى. هذا "متشبه المتشبه"، ما حمل نفسه على السلوك والسير، ولكنه يحبهم ويواليهم، يُعظّمهم، و يعرف أحقيتهم وفضلهم؛ هذا "متشبه المتشبه"، "ومن أحبَّ قومًا.. كان منهم، وفي الحديث الصحيح -يقول ﷺ-: "المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ"، والحقيقةُ أن المحبة إذا سكنت القلب صادقة، وصاحبها صادق فيها، جعلته مع من يُحب بالصدق في شؤونه وأحواله كلها، فيكون معهم في دنياه، ويكون معهم بفكره، ويكون معهم بوجهته، ويكون معهم بنيته، يكون معهم بعمله. ويكون مع من أحب، وهكذا.. فمن غلب على قلبك محبته فأنت معه.
فتكون شغلك به، شغلك بمن أحببت على قدر محبتك، والمحبوب لذاته من جميع الوجوه، والواجب الحب على كل مخلوق هو الله، هو الله الخالق، هذا الذي يجب أن تجب محبته كلية بالكلية على كل مخلوق، فهو خالقهم، وصانعهم، ومكوّنهم، والمنعم عليهم، والجلال كله له، والجمال كله له، والفضل كله منه، فما شيء أحق أن يُحَب قبله، فهو محبوب لذاته، وما تصح محبة صحيحة لغيره إلا من أجله، ما كان من أجله، وإلا فليست بشيء، إلا أنها إذا كانت محبة بحكم الهوى والطبع والشهوة لغيره -سبحانه وتعالى- فهي المحبة الضارة، المبعدة عن الحق، الموصلة إلى مرافقة أهل النار، والعياذ بالله -تبارك وتعالى-. من أحب قومًا حشره الله معهم.
حتى كان يقول بعض العارفين: لو أن عابدًا صَفَنَ أي: أقام قدميه- يعبد الله بين الركن والمقام عند الكعبة سبعين سنة ثم مات، لم يحشره الله إلا مع من يحب، لم يحشره الله إلا مع من يحب؛ إن كان يحب يهودي مع يهودي، يحب نصراني مع نصراني، يحب كافر… يحب نبي مع النبي، من يغلب على قلبه محبته يحشر معه.
اللهم املأ قلوبنا بمحبتك ومحبة رسولك، يا حي يا قيوم.
ولذا كانت الذرة من محبة الله تُفني صاحبها عن كل ما سوى الله.
ويُروى أن بعض الأنبياء، جاء إليه بعض أمته يقول له: "اسأل ربّي أن يرزقني ذرة من محبته، فلما كلّم ربه، قال: "يا رب عبدك فلان يسألك ذرة من محبتك، قال: أعطيهِ ذلك في اليوم الفلاني"، فأخبره، وبعد ذلك اليوم جاء ليرى كيف حاله، قال: "ادع ربك يخفف عني ما قدرت"، فلما خاطب الرب قال: "عبدك فلان يسألك التخفيف من ذرة المحبة"، قال: "إن اثني عشر ألفًا من بني إسرائيل كلهم سألوني ذرة من محبتي، فأخرت إجابتهم إلى الوقت الذي عينت لك، فلما كان ذلك الوقت أخرجت ذرة من محبتي فوزعتُها عليهم -اثني عشر ألفًا- فهذا نصيبه"، سبحان الله! واحد من اثني عشر ألف من جزء من ذرة من المحبة صعب عليه وكبُر ما عاد لاق، ولا قدر،-لا إله إلا الله-.
ولذا قال الإمام الحداد:
يا الله بذرة من محبة الله *** أفنى بها عن كل ما سوى الله
يا اللَه بذرة من محبة الله *** أفنى بها عن كل ما سوى اللَه
ولا أرى من بعدها سوى اللَه *** الواحد المعبود رب الأرباب
فما أرجى اليوم كشف كربة *** إلا أن صاف لي مشرب المحبة
ونِلتُ من ربي رضًا وقُربه *** يكون فيها قطع كل الأسباب
على بساط العلم والعبادة *** والغيب عندي صار كالشهادة
هذا لعمري منتهى السعادة *** سبحان ربي من رجاه ما خاب
يا طالب التحقيق قُم وبادر *** وانهض على ساق الهمم وخاطر
واصبر على قمع الهوى وصابر *** واصدق ولا تبرح ملازم الباب
واعلم بأن الخير كله أجمع *** ضمن اتباعك للنبي المشفع
(فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) تأتي المحبة في اتباع الحبيب ﷺ.
ضمن اتباعك للنبي المشفع.
صلى عليه اللَه ما تشعشع *** فجرٌ وما سالت سيول الأشعاب
ولذا قالوا: إن جميع مقامات اليقين التي قبل المحبة لها مقدمات لها إليها وموصّلات إليه، وجميع ما وراء المحبة نتائج منها، وثمرات لها، لأن المحبة هي المقصود الأكبر، فقد خلقنا بالمحبة -جل جلاله-: أحببت أن أُعرف فخلقت، وإلا كنا عدم، ولكن بسر المحبة خلق؛ فلا يعامل، ولا يقابل إلا بالمحبة، وعلى قدر قوة هذه المحبة يحصل القرب منه -جل جلاله-، والمعرفة به؛ اللهم زدنا معرفة ومحبة.
وقال -رضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:
فصل
السلوك في البدايات يسبب الوصول للحضرة القدسية
سبب سلوكهم في البدايات للطريق الموصلة للحضرة القدسية أعني بهم: القومَ الصوفية. لمَّا أُريدَ بهم التخصيص، وسبقت لهم بالتقريب السعادة.. أسكن في قلوبهم المنيرة نار الإرادة ؛ فاحترقوا شوقًا إلى نارِ القرب، وتمزقوا في الهواء، وخرجوا عن العادة؛ فرفضوا الحظوظ من المنكح، والمطعم والمشرب والملبس والمسكن والمركب، وجميع أنواع الدنيا، والخلق، والجاه الذي رَفْضُهُ أصعب الأشياء، بل رفضوا جميع ما سوى الله، وجعلوه وحده هو المطلب.
وهجروا المنام، وجانبوا الكلام، واشتعلت في قلوبهم نار الغرام؛ فهي في الأحشاء تلتهب.
ثم تفاوتوا في الهوى وخلع العِذَار على حسب تفاوت النار.
فمنهم من اضطرمت فيه نار المحبَّة، فقلقلته لذعةُ الهَوَى، وأزعجته لوعةُ الجَوَى؛ فليس له قرار بل هائم في البراري والقفار.
ومنهم من سكن الخرابات بقلب عامر.
ومنهم من جاور -بقلب حي- الموتى في المقابر.
فذلك مستأنِس بوحوش الفلا، وذلك ناظر إلى خراب الدنيا، وذا معتبرٌ بمنازل الموتى.
قيل لبعضهم: "من أين أقبلت؟"، قال: "من عند هذه القافلة النازلة"، قيل له: ماذا قلت لهم، وماذا قالوا لك ؟"، قال: "قلت لهم متى ترحلون ؟ فقالوا: حين تقدُمون".
وسُئل بعضهم عن إقامته بالمقابر.. فقال: "أجاور قومًا إن حضرت لم يؤذونني، وإن غبت لم يغتابونني".
وقيل لآخر: "أين مأواك؟"، قال: "في دار يستوي فيها العزيز والذليل"، فقيل له: "أين هذه الدار؟"، قال: "المقابر"، قيل له: "أما تستوحش في ظلمة الليل!؟"، قال: "إني أذكر ظلمة اللحد ووحشة القبر فتهون عليّ ظلمة الليل"، قيل: "فربما رأيت في المقابر شيئًا تنكره؟"، قال: "ربما، ولكن في هول الآخرة ما يُشغل عن هول المقابر".
لا إله إلا الله.
أي: يلمح إلى شؤون من عجائب سلوكهم وسيرهم وحالهم في طُرقهم الموصلة إلى حضرة القدس -جل جلاله-.
قال: "لمَّا أُريدَ بهم التخصيص"، واختصهم الله -تعالى- لقربه، باستجَابتهم لنِدائه على ألسُن أنبيائه -صلوات الله وسلامه عليهم-: "أقبلوا بالصدق على الله -تعالى-".
قال: "أسكن في قلوبهم المنيرة نار الإرادة"، وهذه بداية الطريق إلى الله -تعالى-، باعثٌ إلهي قويٌّ ينبعث وسط القلب، يزعج القلب للسير إلى الله -تبارك تعالى-، فهذا قد يجده الإنسان في البداية، وقد ما يجده إلا في وسط عمره، وقد ما يجده إلا في مُنتهى عمره، ومنه من يمر عمره وما وجد هذا الباعث -والعياذ بالله تعالى-، ولكن إذا وُجِد هذا الباعث فقد دُعي، ونُودي للتخصيص، يعني أدخل مع الخواص في السائرين إلى الله -تبارك وتعالى-.
"نار الإرادة" إذا اسُكّنت قلوبهم، "احترقوا شوقًا إلى نار القرب"، فأزعجتهم، يريدون القربة من الله، والوصول إليه.
قال: "إذا تمزقوا في الهواء بما يُنازلهم من المحبة، وخرجوا عن العادة"، فما صاروا يحبون ما يقع فيه عامة الناس من مشتهيات النفوس، ولكن رفضوا الحظوظ العاجلة، من أجل الأمر الأكبر والأعظم.
وكان أوائلنا قال الله عنهم: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ..) والثانيين قاعدين في المدينة قال: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ.. ﴾ [الحشر: 8، 9]. كلهم خرجوا عن المألوف، خرجوا عن المُعتاد، طلبوا شيئًا أكبر مما تُحبه النفوس بحكم العادة، أو كيف يُخرج هؤلاء مالهم؟ وكيف يُخرجون هؤلاء من ديارهم وأهلهم؟ وكيف يكون هؤلاء مُنفقين ويؤثرون ولو كان بهم خصاصة؟ كل ذلك خروج عن المألوف والمُعتاد.
فقال: ولما رأت قريش رسولُه ﷺ يتردد إلى غار حراء يعبد الله، قالوا: "إن محمدًا عشق ربه"، قالوا: "إن محمدًا عشق ربه"، وقد أعطاه الله من المحبة ما لم يُعطِ سواه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
يقول: حينئذ "فرفضوا" أنواع هذه القواطع، "وأنواع الدنيا، وأنواع الخلق والجاه، "الجاه" يعني: المنزلة في قلوب الناس، قال: "الذي رفضه أصعب الأشياء" على النفس، من الناس من يجاهد نفسه فيحملها على رفض الكثير من الشهوات، وعلى رفض المال، لكن الجاه لا، الجاه والحُشمة عند الناس هذي ما يقدر عليها، إذا شيء يقدر عليه فيها يتغير، ويقع رجال ثاني، ويغضب المنزلة عند الناس، لهذا قال: "الذي رَفْضُهُ أصعب الأشياء"، أصعب الأشياء على النفس، رفض الجاه، أي: المنزلة في قلوب الخلق. لا إله إلا الله.
"بل رفضوا جميع ما سوى الله" تعظيمًا لله، ومحبةً لله، وطلبًا لله، والوصول إليه -جل جلاله-، "وجعلوه وحده هو المطلب"، فكما أيقنوا أن لا معبود إلا الله، تحققوا أن لا مقصود إلا الله، ولأجله "هجروا المنام، وجانبوا الكلام" -اللغو، والذي لا يقربهم إلى الرب-، "واشتعلت في قلوبهم نار الغرام، فهي في الأحشاء تلتهب"، ولا أقوى من هذه النار: نار المحبة، التي ما تنطفي إلا باللقاء.-الله أكبر-.
"ثم تفاوتوا في الهوى وخلع العِذَار"، أي: الخروج عن المُعتاد والمألوف، وقد سمى "خلع العذار"، على حسب تفاوت النار التي في بواطنهم، وعلى قدر لذّتهم فيها، حتى تكون على بعض الأفراد منهم وهم الخواص بردًا وسلامًا.
"فمنهم من اضطرمت فيه نار المحبَّة، فقلقلته لذعةُ الهَوَى، وأزعجته لوعةُ الجَوَى؛ فليس له قرار"، ومنهم كثير من من قبل من الأمم، ومن هذه الأمة، ساحوا في البراري والقفار، فارّين إلى الله -تبارك وتعالى-، وإذا جبل لبنان كم حوى منهم من أعداد كبيرة على مدى القرون السابقة، وفي الشام، وفي اليمن، وفي أفريقيا، وفي مصر، وفي المغرب، ساحوا وخرجوا، بعدوا من الناس إلى القفار وإلى الجبال، وقضوا دهورًا من أعمارهم، أُنسًا بالله -تعالى-، وفرارًا إليه من كل شيء، "فقلقلته لذعةُ الهَوَى، وأزعجته لوعةُ الجَوَى" الذي في بواطنهم، والنار المضطرمة للمحبة.
وَمِنْهُمْ رِجَالٌ يُؤْثِرُونَ سِيَاحَةً *** وَسُكْنَى مَغَارَاتِ الجِبَالِ وَقَفْرَةِ
يَسِيحُونَ مِنْ شِعْبٍ إِلَى بَطْنِ وَادِي *** وَكُلِّ خَرَابِ وَالفَيَافِي الخَلِيَّةِ
وهكذا... ومنهم، ومنهم.
يقولوا: "ومنهم من سكن الخرابات"، الأماكن المهجورة، الدّيار المُخربة، التي ما أحد فيها، لكن بقلب عامر.
"ومنهم من جاور -بقلب حيّ- الموتى في المقابر"، فيجلس هناك، وكما سمعتم، قالوا: ما لك قاعد عند المقبرة؟ ومقيم هنا؟ قال: أجاور قومًا إن حضرت لم يؤذونني، وإن غبت لم يغتابوني، وإن آتي عندكم أنتم وإن حضرت عندكم لسعتونا وإن غبت عنكم تكلمتم عليّ، خلّونا مع هذول، لا أحد يتكلم عليّ منهم، ولا أحد يُأذين منهم.
"فذلك مُستأنس بوحش الفلاة، وذا ناظر إلى خراب الدنيا، وذا مُعتبِر بمنازل موتى"، من أين أقبلت؟ قال له واحد جاء من المقبرة، قال: من عند هذه القافلة النازلة، قال: ماذا قلت لهم؟ قلت لهم: متى ترحلون؟ قالوا: متى؟ حين تقدمون؛ تعالوا إلى هنا ونحن وإياكم ندخل إلى القيامة، ما نرحل من مقابرنا إلا لما تصلوا كلكم، تعالوا واخد بعد الثاني، فنرحل، ونقوم مرة -مع بعض- إلى القيامة،-لا إله إلا الله-.
ولقي واحد جاء من المقابر، كان يستهزىء به، قال له: ايه قالوا لك؟، قال: قالوا لي استعدوا، فسكت الثاني، شوفك با تُصبح في نفس المقبرة، أنت بعدين انتبه لنفسك، المسألة ما هي يضحك-لا إله إلا الله-، يالله بالبركة في العمر وحسن الخاتمة.
وهكذا مرة بعضهم يسأل جنديّ صادف سيدنا إبراهيم، يقول له: أين العمران؟ قال: هذا -أشار إلى المقبرة-، أقول لك: أين العمران؟ قال: هذا المكان، كم يجلسون الناس في هذه الديار؟ قليل، وفي هذه الديار يجلسون كثير، -قام لطمه- وقال: أنت مستهزئ، وشالُه ودخلُه معه، فأقبلوا عليه الناس: يقبلونه، قال : فماذا؟ قالوا: هذا إبراهيم، قال: أنا ما عرفتك- لا إله إلا الله-.
قال: "وقيل لآخر: "أين مأواك؟"، قال: "في دار يستوي فيها العزيز والذليل"، فقيل له: "أين هذه الدار؟"، قال: "المقابر"، قيل له: "أما تستوحش في ظلمة الليل!؟"، قال: "إني أذكر ظلمة اللحد ووحشة القبر فتهون عليّ ظلمة الليل"، قيل: "فربما رأيت في المقابر شيئًا تنكره؟"، قال: "ربما، ولكن في هول الآخرة ما يُشغل عن هول المقابر". ما قعدت أفكّر في هذا، أنا مستعد للقاؤه والوصول إليه، والوقوف بين يديه، ما عاد اشتغل بشيء من هذا.-لا إله إلا الله-.
فهذا من مظاهر ما يحصل لهم في سيرهم وطريقهم الله -تعالى-،-ولا إله إلا الله-.
فَمِنْهُمْ مُقِيمٌ فِي الأَنَامِ وَإِنَّهُ *** لَمَسْتُورُ عَنْهُمْ تَحْتَ أَسْتَارِ غَيْرَةِ
يَرَاهُ الوَرَى إِلَّا القَلِيلَ كَغَيْرِهِ *** مِنَ الغَافِلِينَ التَّارِكِينَ اسْتِقَامَةِ
وَمِنْهُمْ رِجَالٌ ظَاهِرُونَ بِأَمْرِهِ *** لإِرْشَادِ هَذَا الخَلْقِ نَهْجَ الطَّرِيقَةِ
فهم أصناف، -لا إله إلاّ الله-.
فَلِلَّهِ أَقْوَامٌ نَأَى البَعْضُ مِنْهُمُ *** عَنِ البَعْضِ إِيثَارًا لِمَقْصُودِ خَلْوَةِ
وَأُنْسًا بِمَوْلَاهُمْ وَشُغْلًا بِذِكْرِهِ *** وَخِدْمَتِهِ فِي كُلِّ حِينٍ وَحَالَةِ
وأنسًا لمولاهم وشغلًا بقربه،- لا إله إلاّ هو-. فالله يجعل في قلوبنا نهضة للوجهة إليه، والإقبال الصادق عليه، حتى يوصلنا اليه، اللهم أوصلنا بمن يوصلنا إليك، واجمعنا بمن يجمعنا عليك.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
05 صفَر 1447