للاستماع إلى الدرس

الدرس الثالث للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الكبريت الأحمر و الأكسير الأكبر في معرفة أسرار السلوك إلى ملك الملوك ، للإمام الحبيب عبد الله بن أبي بكر العيدروس . ضمن دروس الدورة الصيفية الأولى بمعهد الرحمة بالأردن.

مساء الثلاثاء 16 صفر 1446 هـ

نص الدرس المكتوب :

بسم الله الرحمن الرحيم

من كتاب الكبريت الأحمر والإكسير الأكبر وبسندكم المتصل إلى صاحب الكتاب الحبيب عبد الله بن أبي بكر العيدروس -رضي الله تعالى عنه وعنكم، ونفعنا بعلومه وعلومكم وعلوم سائر الصالحين في الدارين، آمين- إلى أن قال:

فَصْل

فِي خِلَع التَّقوى

وخلعات التقوى الظاهرة والباطنة خمس خلعات، رحمانيات، محمديات.

الخلعة الأولى: لباس الأعضاء؛ بامتثال الأوامر، واجتناب النواهي.

الخلعة الثانية: لباس القلوب؛ بالمقامات وهي: التوبة، والورع، والزهد، والصبر، والفقر، والشكر، والخوف، والرجاء، والتوكل، والرضا.

مع الصدق، ودوام الحزن بالقلب لله تعالى، والتحلي بالصفات الحميدة، والتخلي عن الصفات الذميمة.

الخلعة الثالثة: لباس الأرواح؛ بالأذواق، والمحبة، والشوق، والهيبة، والأنس، والقرب، والسكر، والوصول، والفناء، والبقاء.

الخلعة الرابعة: لباس الأسرار؛ بالواحدية، والوحدانية، والتوحيد في الهوية، ومعرفة الواحدية؛ فصارت هذه الخلع لباسَ الإنسانِ الكاملِ على الشريعة، والطريقة، والحقيقة.

الخلعة الخامسة: لباس سر السر؛ الذي لا يطلع عليه إلا الحق سبحانه وتعالى.

وهي الخلعة الكبرى المعبر عنها بــ "خلعة التفريد"، المرصعة بالدر والجوهر.

فمن وُهِبَ ذلك من حضرة الوهاب سبحانه وتعالى، نال سر الخلافة؛ خلافة آدم -عليه السلام- بِتَعَلُمِهِ علم  الأسماء، أسماء الله، وصفاته، بتعليم الله إياه؛ فإنه جعل ذات آدم وصفاته بالتسوية مرآة قابلة لتجلي صفات جماله، وجلاله؛ تبارك وتعالى، كما قال ﷺ: "إن الله خلق آدمَ فتجلى فيه"؛ فبالتجلي عُلِّمَ التخلقَ بأخلاقه، والاتصاف بصفاته، وهذا هو سر الخلافة على الحقيقة؛ لأن المرآة تكون خليفةَ المُتَجَلِّي فيها".

 

الله، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهَ، وكلمة التقوى: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قال عنها ربنا: (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا)[الأحقاف:13]. هذا رعيلنا الأول، ثم كان أحق بها وأهلها من بعدهم خلفاؤهم على قدر خلافتهم، والاِتِّصاف بأوصافهم، والدخول في دوائرهم، والانطواء فيهم (وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا)[الفتح:26].

وهذه التقوى يشير سيدنا الإمام العيدروس إلى خِلعها الخمس، التي هي من بدايتها إلى نهايتها في ظاهر التقوى وباطن التقوى، وهي التي بها الوصول إلى الله تعالى، قال: (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا) يعني: صور وأجساد ومظاهر أعمالكم التي تتقربون بها إلينا ما تصل هي (وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ)[الحج:37]. الذي يصل إلى الله: التقوى التي في القلب، هي التي تصل وتوصِل صاحبها.

وقال الإمام الحداد:

وجئنا منى في خير كل صبيحة***لرميّ إلى وجه العدو المُجَاهِرِ

وحَلْقٍ وإهداء الذبائح قُرْبَةً***إلى الله والمرفوع تقوى الضَّمَائرِ

والمرفوع تقوى الضَّمَائرِ.. 

هذه الأعمال كلها ما يرفع منها إلا ما اتصل بقلوبنا من تقواه -جَلَّ جلاله- (وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ)[الحج:37].

وبِتْنَا بها تلك الليالي، ويَا لَهَا *** ليالٍ لقد طابت بطِيبِ التزاور

ألا يا ليالي الخَيْفِ عودي وأسعدي*** لكي يحيا مني كل ميت، وداثرِ

يقول: "وخلعات التقوى الظاهرة والباطنة خمس خلعات، رحمانيات" من فيض عظمة الرحمن، ومِنَّتِه وجوده، وكرمه، تُخْلَعُ على مَن سبَقَت له السعادة؛ بواسطة محمد ﷺ، الذي هو الأتقى، قال ﷺ : "أمَا إني أتقاكم لله". فلا يكون تقي إلا وهو مُتَّبِعٌ له، مُقتَدٍ به، داخل في دائرته، من الأنبياء فمن دونهم كلهم، وكما قال: "آدم فمن دونه تحت لوائي" ﷺ.

ولهذا قال: "رحمانيات ، محمديات"، هذه الخِلَع؛ ما ينال حقيقة خلعة من هذه الخِلَع من لم يتصل بسيدنا محمد اتصالاً لائقًا بعبيد الإله مع حبيب الإله.

الاتصال الذي يليق بعبيد الإله مع حبيب الإله، كيف يتصل عبد الله بحبيب الله؟! 

فالله يُحققنا بالعبودية له، ويخلع علينا هذه الخِلَع؛، ويتكرم بالفضل والإحسان، يخلعها علينا، ولا ينزعها عنا، ويجعلنا من أهلها القائمين بحقها.. اللهم آمين.

لو جعل الواحد منكم وجهته من خلال هذه الأيام كلها، والدورة: أن يحظى بشيء من هذه الخلع، وإن لم يحظَ بها كلها، فلا أقل من أولى أو ثانية أو ثالثة...على حسب القسمة، والتهيؤ، والتأهل والاستعداد والاستقبال بحُسنِ الاستقبال..

كلٌّ على قدر الصفاء والاقتداء***نال الهدى في أحسن استقبالِ

قال: "خمس خلعات رحمانيات، محمديات"، رحمانيات محمديات: من عَيْنِ الرحمة تصدر، بواسطة الحبيب الأطهر، الذي هو الأتقى ﷺ.

قال: "الخلعة الأولى: لباس الأعضاء" السبعة التي آتانا الله إياها، وجعلها على عدد أبواب النار السبعة، ولا يتهيأ للدخول من أبواب النيران السبع إلا من عصى الله بالأعضاء السبع.

 فالمصيبة إذا كان عصيان هذه الأعضاء أوصله إلى رتبة يتجاوز بها الباب الأول، إلى الباب الثاني؛ إذا تجاوز الباب الثاني فلا يوجد مخرج، الباب الأول هذا الذي هو مُعَدْ لعصاة الموحدين؛ من مات وفي قلبه ولو مثقال ذرة من إيمان، الطبقة الأولى. وأمَّا الدركات التي بعدها من دخلها لا يخرج منها، قال تعالى: (وَمَا هُم بِخَـٰرِجِینَ مِنَ ٱلنَّارِ)[البقرة:167]، (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ)[النساء:56].

وما كان لهذه الأعضاء -وهي مصنوعة له ومخلوقة له- أن تعمل على عصيانه! وتَنصَرِف فيما نهاها وحرَّمَ عليها! ما كان لها ذلك! ولكن جراءة العبيد على إِلَهِهم -جل جلاله-، ومع ذلك فتح لهم باب التوبة!

فأول خلعة من خلع التقوى: لباس الأعضاء، فتَلْبَسُ العين لباسها من التقوى، فلا تنظر إلى مسلم بعين احتقار، ولا تنظر إلى زهرة الدنيا وزخرفها بعين تعظيم وإجلال (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ)[طه: 131]، (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ)[التوبة:55].

إذا لبست العين لباسَ تقواها لله تعالى؛ حينئذ لا تنظر العورات، ولا تتبع المحرمات، ولا الصور الماجنات، ولا تنظر إلى فسوق ولا كفر بعين تعظيم، وتهتدي في الظلمات بواسطة هذه العين أو بنورها، وكذلك تقرأ بها كتاب الله تعالى، وتنظر كلام رسوله ﷺ، وكذلك تنظر في الوجود والكائنات نظر الاعتبار؛ حتى تتخلَّص من الفضول في النظر إلى أي جماد أو نبات أو حيوان أو إنسان، فما عاد يصير لها بحسب تقواها فضول النظر، ولكن كل نظر يزيدها قربًا، ويزيدها محبة، ويزيدها أدبًا؛ لأنَّ آيات ربنا في الكائنات، مبثوثة في دلالتها على عظمته، وإشارتها إلى واحديته ووحدانيته -سبحانه وتعالى- فما يقع نظره على جماد أو حيوان أو نبات؛ إلا ازداد بها إيمانًا (أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ)[الغاشية:17-20]، (أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ* أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ* نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ)[الواقعة: 60]، (أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ* أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً)[الواقعة:63- 72].

إذًا، فالنظر حتى إلى النار مُذكِّر، مُبصِّر، مُنوِّر، مُطَهِّر، مُقَرِّب؛ لأنها تذكرة، تذكرة بنار الآخرة، نار الدنيا تُذَكِركْ بنار الآخرة (نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ* فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)[الواقعة:73- 74]. 

إذاً هذه العين إذا لَبِسَت لباس التقوى تكون في هذا الحال العجيب! وهذا الحال يُهيئها لأن تنظر وجوه الأتقياء، من المقربين الأصفياء، ومن الصديقين الأولياء، ومن الأنبياء والمُبَشّرين، تتهيأ هذه العين التي تنزهت عن وسخ الالتفات إلى الدنيا، والنظر إلى المحرمات؛ عين تصلح للنظر إلى وجوه أنبياء الله، وتعرف كيف تنظر إليهم؛ حتى تكسب من النظرة عجائب من المِنَّة الربانية.

إذا كان التبَسُّم في وجه المسلم صدقة، والنظر إليه بعين الاحترام والمحبة والمودة قُرْبة، فكيف إذا نظرت إلى وجه مُقرَّب عند الله، أو ولي، أو صدِّيق! تعرف كيف تنظر! وإلَّا كان الحبيب ﷺ بينهم، وعرف كيف ينظر إليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار. ونظرتهم إليه ما وصل إلى مستواها نظرة غيره! أما من كفر ومات على الكفر؛ فلم ينظروا حقيقة من حقائق فضله، ولا مقامه، ولا قدره أصلًا! وأمَّا مَن أسلموا بعد؛ فلهم نظر إلى الذات، بمستوى من التعظيم؛ لا كمستوى السابقين، ومستوى من المحبة؛ لا كمحبة السابقين، ونسبة من المعرفة؛ لا كمعرفة السابقين، ونسبة من المودة؛ لا كمودة السابقين، ونسبة من الانطواء؛ لا كانطواء السابقين، ونسبة من الاتباع؛ لا كمثل اتباع السابقين. ثم شابهوهم في العمل من حيث الإنفاق والقتال. أبرز مظاهر صدق الإيمان: الإنفاق والقتال، فقال: (لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا..) أنفق وقاتل وأنفقوا وقاتلوا؛ كلهم أنفقوا وقاتلوا؛ لكن لا يستوون (..وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ)[الحديد:10].

فبنظرتهم إلى ذاك الجناب بعين التعظيم، فنظرة السابقين الأولين غير نظرة من بعدهم، ونظرة الخواص من مثل ساداتنا أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وأهل الكساء، وسعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وأهل بيعة العقبة.. نظرتهم إلى الجناب أعلى فكانوا أعلى، نظرتهم إلى الجناب أعظم فكانوا أعظم ممن سواهم، ونظرِهِ هو إليهم ﷺ بعين رحمته، وشفقته، ورأفته؛ هذا لِبَاسُ العين.

وكذلك الأذن، والأذن إذا لبست لباس التقوى اِسْتَقْبَحَت سماع الآلات المحرمة، واستَقْبَحَت سماع الكذب، والغيبة، والنميمة، بل كَرِهَت استماع الفضول واللغو، وما عاد يَطِيب لها إلا سماع الآيات، سماع الأحاديث، وأنباء الصالحين والأنبياء.. وأخبارهم وقصصهم، والفقه في الدين، والنصح، والدعوة إلى الله، تستمع بلذة وراه (فَبَشِّرۡ عِبَادِ* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)[الزمر:17-18]. (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ)[المائدة:83].

وهكذا.. هذه الأذن تتهيَّأ لسماع كلام أهل التقوى، من المقربين، من الأرواح الطاهرة، من الملائكة المقربين، قالت سيدتنا مريم: (قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا)[مريم:18-19]، قالت الملائكة: (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ)[آل عمران:43]، (إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ..) الملائكة تُكَلِّم مريم؛ لأنَّ مريم أذنها لبست خلعة التقوى وتهيأت لسماع صوت الملائكة.. صارت تسمع الملائكة (..يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ)[آل عمران: 45-47]. لا إله إلا الله جل جلاله.

وهكذا.. تتهيَّأ هذه الأذن لسماع ما لا تسمع غيرها من الآذان المُوَسَّخة.. باستماع الباطل، والزيغ، والزور، وكلام الفساق، والفجار، واللعن، والسب، والشتم.. وما إلى ذلك، إذا تلطخت الأذن بهذا ما يمكن تسمع الكلام العظيم من أهل العظمة وأهل التقوى!

وهكذا.. حتى جاء عن سيدنا جعفر الصادق كان يردد آية..يرددها يرددها حتى أُغمِي عليه، ولمَّا أفاق سألوه: ما الذي حصل؟ قال: ما زلتُ أرددها حتى سمعتها من المتكلم بها، وقال: "إن الله تجلَّى لعباده في كتابه، ولكن لا يبصرون". 

وإذا نظرنا إلى الأنبياء وجدناهم يسمعون ما لا يسمع غيرهم، وإذا جئنا إلى عند الأتقى وجدناه رقى حتى سَمِع ما لم تسمع ملائكة السماء..

ودَنَوْتَ منه دنو حَقٍّ أمره *** فينا على أفكارنا الإبهام

فسَمِعتَ ما لا يُستَطَاعُ سماعه

 -أي: لغيرك من الخَلْق-

*** وعَقَلْتَ ما عنه الورى قد ناموا 

من حضرة علوية قدسية *** قد واجهتك  تحيَّةٌ وسَلَامُ

 صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله..

لباس اللسان كذلك، إذا لبس اللسان لباس التقوى.. لا يستطيع يكذب، لا يغتاب، لا يسب، لا يشتم "ليس المُؤمِنُ بالطَّعَّانِ ولا اللَّعَّانِ ولا الفاحشِ ولا البَذيءِ"، وسُئل ﷺ: أيكذب المؤمن؟ قال ﷺ: "لا"، وتلا الآية: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ)[النحل:105].

وهكذا.. يقولوا أيضًا في السماع أن الإمام الغزالي في آخر عمره رجع إلى قراءة الحديث وتلقّيه؛ لأنَّ مَنْ قويَ في شأن علم الحقيقة والباطن، وامتلأت أذنه بأنوار التقوى؛ ما عاد يطيق إلا سماع العلم المطلق.. كلام الله وكلام رسوله ﷺ.

ولهذا يقولون عندنا مثل الحبيب علوي بن عبد الله بن شهاب الدين -عليه رحمة الله-، ما عاد يليق ويستمع إلا بمثل القرآن، يفرح به ويخرج في الليل -غير قراءته الخاصة التي يقرأها فردية- يخرج آخر الليل إلى المسجد يقرأون خمسة أجزاء ستة أجزاء يقرؤونها قبل الفجر، حتى إذا صلى سنة الفجر قال: خلصت الستة المقارئ؟ ما يصبر عن القرآن، ويُقَال لأنه في الحالات هذه ما عاد تطمئن الروح ولا تلذّ الأذن إلا لكلام الكبير العليم! -لا إله إلا الله- ثم باقي وقته فيما يتكلم إلا بذكر الصالحين والأخيار، حتى كان يقول: ما عاد لنا غرض بقى في الدنيا، ولا لنا مراد فيها إلا لتربية الأولاد ولقيام الليل، وعسى نسمة تَهِب علينا نطلع بها إلى فوق، قال هذا المقصود في الدنيا ولا ما لنا غرض آخر في هذه الحياة!

-لا إله إلا الله، لا إله إلا الله! ما شاء الله لا قوة إلا بالله-

وكنَّا مرة في الطائرة.. وواحد حامل مصحف يقرأ، وواحد شيبة من البحرين يسمعه ويسمعه، وبعدين أكمل كأنه حزبه ووضع القرآن، وأَتَى بجريدة، فقال له الشايب: كنتَ تقرأ كلام الله، تجيب جريدة؟! تقرأ في جريدة؟! هذاك الكلام الزين، وكنَّا نترَوَّح به.. فتأتي بجريدة؟! استقبحها، وقال له: كلام خلق، شيء منه كذب، وشيء صدق! كنت تقرأ كلام الله! فجعله يستحيي! وتعجَّبْ في الشيبة هذا كيف التِذَاذه  بالقرآن وسماع كلام الرحمن -جَلَّ جلاله-.

وهكذا إذا اللسان تحلَّى بحلية خلعة التقوى، لا يطيق إلا ذكر الله وكلامه، وذكر الأنبياء والمرسلين، وذكر الصالحين. هذا اللسان يتهيَّا لأن يتكلَّم ويُخَاطِب، ويُخَاطَب؛ لأن من الناس من يكلمهم الله يوم القيامة، ومن يزكيهم، ومن ينظر إليهم. ومن الناس من لا ينظر الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا يكلمهم، كما ذكر في القرآن (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ..) لأنهم هم أصلًا ما استمعوا لكلامه في الدنيا، ولا تعاملوا مع كلامه بما يليق (..وَلَا يُزَكِّيهِمْ)[البقرة:174]؛ لأنهم ما قبلوا تزكيته بواسطة أنبيائه، (وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ)[آل عمران:77]؛ لأنهم ما نظروا إلى ما أرسل إليهم وإلى ما أنزل عليهم، فكيف ينظر إليهم؟!

فما أسعدنا بأن ننظر إلى ما أَرسل إلينا بصرًا، وفكرًا، وما أنزل علينا وما بعث برسولنا، وأن نصغي لكلامه، ونستمع له، ونُعَظِّم كلامه ونتلوه، ونتزكَّى بالتزكية التي بعث بها نبينا، فإذا فعلنا ذلك؛ كلَّمنا وزكّانا ونظر إلينا في القيامة، وخرجنا من دائرة الذين قال الله: (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[البقرة:147]، في الآية الثانية: (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[ال عمران:77]

وكذلك اليد، والرجل، والفرج، والبطن، إذا حُفظت من الذنوب خُلِع عليها خِلع التقوى؛ هذا "أول خلعة في التقوى: لباس الأعضاء بامتثال الأوامر، واجتناب النواهي". اللهم اخلعها علينا، اللهم ألبسنا إياها، اللهم اجعلنا من أهلها. إذا أكرمك بهذه فهي نعمة كبيرة، وعاد هذه أول واحدة، عاد وراءها أربع خلع، يارب حققنا بها، لا إله إلا الله .

 

قال: "الخلعة الثانية: لباس القلوب"

هذا لباس الأعضاء انتهينا منه: امتثال الأوامر واجتناب النواهي. رجعنا إلى لباس القلوب، لباس القلوب قال: "بالمقامات"، وذكر لنا العشر المقامات، فهي من مقامات اليقين العشر.

قال: "التوبة"، فيكون القلب توَّاب، مُقْلِعْ عن الذنوب، كاره لها، نادم عليها لا يُحَدِّث نفسه بالرجوع إليها، ومع ذلك يتوب من توبة إلى توبة، ولا يزال يرتقي في التوبة (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ)[البقرة:222].

 

قال: "التوبة، والورع"، وكّل واحدة من هذه المقامات تُورِث للروح حال:

  • فـ "التوبة" تُثمِر المحبة.
  • "والورع" يُثمِر الشوق.
  • "والزهد" يورث الهيبة.
  • "والصبر" يورث الأنس. 
  • "والفقر" يورث القُرب (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب)[العلق:19].
  • "والشكر، والخوف" يُثمِر السُكْر.
  • "والرجاء" يُثمِر الوصول.
  • "والتوكل" يُثمِر الفناء.
  • "والرضا" يُثمِر البقاء.

 

ولكن هذا اللباس الثاني -الخلعة الثانية للقلوب- بهذه المقامات:

التحقق بالتوبة، والورع: بترك الشبهات، وترك ما يريبه إلى ما لا يريبه.

والزّهد: فيما لا يقربه إلى الله، فيما لا ينفعه في دينه ولا في دنيا يستعين بها على الدين. 

والصّبر: عن الذنوب والمعاصي، وعلى الطاعات، وعلى النوازل والأقضية والأقدار.

والفقر: باستشعار صدق الافتقار، وحقيقة الافتقار إلى الله تعالى، الذي لولاه لما كانت ذرة من أرواحنا، ولا من أجسادنا، ولا من الأرض التي نحن عليها، ولا من الهواء الذي نستنشقه، ولا من السماء التي فوقنا، ولا من العروق التي فينا، ولا من الخلايا التي ما نقدر نعدها في أجسامنا، لا شيء إلا به قامت كلها، فنحن مفتقرون إليه في كل ذرة. كل مسام من مسامك مفتقر إليه، كل خلية من خلاياك مفتقرة إليه، كل عضو من أعضائك مفتقر إليه، وروحك مفتقرة إليه، وقلبك مفتقر إليه، والهواء الذي تستنشقه أنت مفتقر إليه، وهو مفتقر إلى الحق ليوجده -سبحانه وتعالى-، والجماد، والحيوان، والنبات.. كلها مفتقرة إليه (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ)[فاطر:15]، فلا بد من صدق الافتقار إلى الله تعالى. من عرف أنه فقير ذهب عنه الرياء، والعجب، والكبر، وقَرُب من الحق -سبحانه وتعالى-؛ فالقرب على قدر الافتقار، ومظهر الافتقار: السجود (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب)[العلق:19].

يقول: "والشّكر" على ما أنعم، فهو المنعم المتفضل، بالخلق والإيجاد، والإمداد بما لا يناله تعداد (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا)[النحل:18]، (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً)[لقمان:20].

"والشكر، والخوف" من الله؛ لأن الأمر بيده، والقوة قوّته، والقدرة قدرته، و: (بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ)[يس:83]، ولا يُنَالُ خير بأيّ واسطة ولا سبب؛ إلا به وبأمره و بإرادته، ولا يُصَاب شيءٌ بشرٍّ -كائنا ما كان- بأيّ واسطة؛ إلا بقدره وإرادته -سبحانه وتعالى- ولا يُدفَع شرّ إلا بقدره وإرادته.. وهكذا.

قال: "والرّجاء"؛ أن تُوقِن أنه وهَّابٌ، كريمٌ، جوادٌ، لا يتعاظمه شيء، ترجو رحمته كما تخاف عذابه؛ لأنه أَهْلٌ لأن يُرجى، وأن يُؤمّل ما عنده من الخير؛ فالرجاء يُثمِر الوصول إلى الربّ -جلّ جلاله-.

والمواهب جميعًا وَالمِنَن تحتَ***حُسْنِ الرَّجَاءِ فَاحطُطْ هُنَا 

 

 تحت باب الرجا وقفت بذلّي***فأغثني بالقَصْدِ قبل المَنِيَّة

 والرسول الكريم باب رجائي*** فهو غوثي وغوث كل البرية

 فأغثني به وبلّغ فؤادي*** كل ما يرتجيه من أمنية

واجمع الشمل في سرورٌ ونور***وابتهاج بالطلعة الهاشمية 

لَيْتَهُ خَصَّنِي بِرُؤْيَةِ وَجْهٍ***زَالَ عَنْ كُلِّ مَنْ رَآهُ الشُّك

فيا ربّ شرّفنا برؤية سيّدي***وأجلِ صدأ القلب الكثير صداؤه

 الرجاء، فلا وصول إلى الله إلا بالرجاء..

 

 عِشْ بالرجاء والأمل يا صاح *** وحسِّن الظنّ بالمعبود

 وزَجِّ وقتك بالأفراح  *** ولا تأسَّف على مفقود

 وارقَ إلى عالم الأرواح *** فإنه الأصل والمقصود 

ولا تُعَوِّل على الجثمان *** فإنما هي للتُّربِ

 

يقول:

سَقيًا لأيامنا اللاتي*** مَرّت لنا بالحِمى المأنوس

كانت بها كلّ لذّاتي*** في عالم الروح والمحسوس

لولا الترجّي لما يأتي*** من نفحة الملك القدّوس

 لمزّقت قلبي الأحزان*** وذبتُ من شدّة الكربِ

 

 لا إله إلّا الله.

الرجاء، لا بُدَّ أن نرجوه؛ لعظمة إفضاله، ولأنه لا يتعاظّمه شيء، يُعطي ولا يُبالي.

والتوكّل؛ لأنّه صاحب القوّة والعظمة، ولا يكون شئ إلا بأمره، فيجب أن نتوكل عليه ونستند (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)[المائدة:23]، فعلى قدر الإيمان نتوكل على الله.

والرضا به ربًّا، وبعبده محمد رسولًا، وبالإسلام دينًا، والرضا بقضائه وقدره، والرضا بشريعته، والرضا بدينه، والرضا بكلِّ أسمائه وصفاته، والرضا بعبوديتنا له، والرضا عنه؛ لننال الرضا منه -جلَّ جلاله- "من رضي فله الرِضا ومن سخطِ فله السخطُ".

اللهم ارضَ عنَّا.

قال: هذه المقامات التي أشرنا إليها "مع الصدق، ودوام الحزن بالقلب لله تعالى" هذه الخلعة الثانية: لباس القلوب "والتحلّي بالصفات الحميدة، والتخلّي عن الصفات الذميمة".

فهذه الخلعة الثانية من خلعِ التقوى، يا ربّ أكرمنا، واخلعها علينا بمحض فضلك.

وهذه مراتب شريفة، ومقامات كريمة.

قال عاد باقي..هذه اثنتين، عاد باقي ثلاث.

"الخلعة الثالثة: لباس الأرواح" والذي هو باطن القلوب، كما أنَّ باطن الجسد القلب؛ باطن القلب الروح، وعاد باطن الروح السرّ، وباطن السرّ سرّ السرّ؛ تتوزَّع الخلع الخمس عليها؛ من الأعضاء إلى القلب إلى الروح إلى السرّ إلى سرّ السرّ، خمس خلع. يا فوز الذين لبِسوها!

"الخلعة الثالثة: لباس الأرواح بالأذواق؛ والمحبّة، والشوق، والهيبة، والأنس، والقرب، والسُّكر، والوصول، والفناء، والبقاء".

 يا سلام! أصحاب هذا اللباس -الأرواح- ذوَّاقين!!!

واجعل العلم مقتدانا بحكم الذّوّق ***في فهم سِرِّ معنى  المعية

 مُحبّين ويزدادون محبّةً دائمًا، والمحبّة -الله الله الله-، وعلى شوق ما ينطفئ قطّ ناره؛ إلّا باللقاء، ولا يزالون كلّما ارتقوا مقامًا اشتاقوا إلى ما فوقه.

قال سيّدنا عمر بن عبد العزيز لمّا سُئل: كنتَ أنت أوّل شبابك يجلبون لك لباسًا ممتازًا لينًا بأربعمائة درهم، تلبسه فتقول: ما أحسنه! لولا خشونة فيه. تُريد أَلْيَنَ منه، والآن كَبُرتَ وقد بُلّغتَ الخلافة، يجلبون لك ثوب خشن بأربع دراهم ليس أربعمئة تلبسه فتقول: ما أحسنه، لولا ليونة فيه! تُريد أخشن منه، ما الذي جرى لك أنت؟! كيف ساعة كذا وساعة كذا؟، قال: إنّ لي نفس تَوَّاقَة، ذَوَّاقة، كلّما ذاقت شيئًا تاقت إلى ما فوقها، فمرَّت على الدنيا ذاقت كلّ شيء فيها حتّى المُلْك؛ فتاقت إلى ما فوقه!. هذا الحين أنا تائق إلى ما فوق، ما أحبّ حقكم هذه المظاهر، واللباس هذا الذي تعدّونه خشن أعدّه لين، وأنا مشتاق لشيء فوق الآن!! لا إله إلّا الله!

قال: "والهيبة" التي هي مرقى يُرتقى إليه بسُلّم الخوف، فالهيبة أعظم من الخوف.

"والأنس" بالحقّ وأحكامه وآياته وذكره وتفضّلاته علينا، فيُعبّر عنها بـ: الأنس بالله؛ وهي في الحقيقة أنس بتفضّلاته وتجلّياته ومنَوحاته وفتوحاته؛ لأنه لا مناسبة بين المخلوق والخالق؛ ولكن بما يواصلهم يؤنْسِهم.

ولمَّا كان هذا الأنس هو الأشرف والمُلتصق بالقرب من الله؛ سُمِّي أنس بالله، له أنس بتجليه وبتفضله؛ لأن ذاته العليَّة ما يناسبها شيء من المخلوقات ولا الكائنات.

"والقرب" اللهمّ قرّبنا وزِدْنا قُربًا.

"والسُّكر" الذي هو الغَيْبَة عمَّا سوى المقصود والمعبود، فإذا غَلَبَ الحال حتى ذَهِلَ الإنسان عن السِّوى سُمِّيَ سكرانًا. كما أنه قد يَذْهَل إمَّا من شدّة وجع أو ألم أو عذاب، وقد يذهل من شِدَّة لذَّة فيذهل عمّا حواليه؛ فيُقَال: سَكِر. فالذي غاب عنه ولم يدركه -وهو في العادة يُدرك- يُسمّى هذا: سُكْر.

قال تعالى في موقف القيامة وشِدّة ما يُنَازِل الناس من العذاب: (وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَـٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَـٰرَىٰ..) بطريقة السّكر حقّكم هذا الذي هو شرب الخمر (..وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِید)[الحج: 2]. 

فلذلك سَكِروا، فإذا أَسْكَر عذاب الله فكيف لا تُسْْكِر رحمته؟! رحمته أقوى بالسُّكر، سُكْرها أقوى! العذاب يُسْكِر تحت قهر وتحت شدّة؛ لكن الرحمة تُسْكِر تحت لطف وتحت لذَّة ورحمة. فهم أولى بأن يَسكروا؛ ولذا قال سيّدنا الإمام العدني -عليه رحمة الله- أبو بكر بن عبد الله العيدروس:

يا ذا الذي ناداني  *** وقت السُّحَيْر أشجاني 

نِداءٌه لي أسْقاني *** من قُرقُفِاه الهاني

سكرت به -ما الذي حصل في هذا السكر؟ قال:- فأفناني ***عن  كل ضِدٍّ ثاني 

 من قاصي أو داني *** في العالم الجسماني 

سَكِرت عن هذا الوجود الجسماني الجثماني القالبي الظاهر. فأين ذهبت؟! قال:  

آنستُ أُنسَ الأُنسِ *** في مهرجان القدسِ 

وأفْنَيتُ هيكل نفسي *** وقالبي وحِسّي

 وزال وهمُ الَّلبْسِ *** وحُنْدُسَات الحَدْسِ

بالبارقِ النَّوْرَانيّ *** والوارد الربّاني

إيش الكلام هذا؟!

قال: 

هذا مقامُ الوَهْبِ *** لا يُرتقَى بالكَسْبِ

وليس هذا سِر بي *** لكنّني به أُنْبي

عن حال أهل القُربِ *** نعم وإن شاء ربّي 

كمثلهم أعطاني *** فهو عظيم الشان 

 فيَا أُسارَى الغفلة *** ويا سُكارَى المُهلة

أُنْبيكم عن خصلة *** فيها الفضائل جُملة

أَنعِم بها من مِلّة *** هي دين خاتم رُسْله

المصطفى العدْنانِ *** دينه محا الأديان

تعالوا إلى عنده واقتدوا به تحَصّلوا الخير كُلّه.. يا ربّ صلّ عليه!

"والوصول" إلى حضرة الربّ، ويُعبّر بالوصول عن ارتفاع الحجب، والارتقاء في مراتب القرب إلى عين اليقين، وحقّ اليقين؛ فحينئذ يُقالُ واصل، للذي ينتهى من المعرفة بالله إلى حدٍّ عظيم؛ لا يبقى بينه وبين الحقّ حاجز ولا حاجب من الظاهرات ولا الباطنات؛ هذا الوصول إلى الله.

ومراتب الوصول بعد ذلك يتفاوتون فيها، وهم فيها على درجات، ولها أبراج يحِلّ فيها مَن يحلّ.

ويقول سيّدنا الإمام الحداد في ذكر الوصول والحلول في برج الوصول:

 هَبَّت نُسَيمات الوصال *** من جانبِ القُدْسِ العلي

واستغرقت أنوارها *** عوالم القلب الخلي

-قلبك فيه عوالم؟ لكنّ هذا القلب الخلي عما سوى معبودِه، ما فيه إلّا (الله)- 

 واستغرقت أنوارها ** عوالم القلب الخلي 

عما سوى معبوده ** الواحد الحق الولي 

وَكُشِفت أسراره ** وحلَّ في برج الوصول

 الله حسبي وكفى ** قل ما تشاء يا ذا الفضول

واحد يقول لأهل المسالك هذه: لِمَ يُنكر المُنكِر عليهم؟ وبأيّ حجّة؟ ولأي معنى؟

 قال: 

ماذا يقول المنكرون فيمن له قلب سليم ***على جميع المسلمين …

-هذا طريق القوم، وهذا مسلك أهل هذه الأذواق-

ماذا يقول المنكرون فيمن له قلب سليم ** على جميع المسلمين وقصده المولى الكريم

ويعتقد في نفسه بأنه عبد ذميم ***

-ما الذي تُنكِره عليّ؟ ماذا تُنكر عليّ؟ -

ويعتقد في نفسه بأنه عبد ذميم *** لولا عناية ربه لكان بَطَّالا ضلول

الله حسبي وكفى قل *** ما تشاء يا ذا الفضول 

دَعِ الناس يا قلبي يقولون ما بدا ***لهم ولتثِق باللهِ ربِّ الخلائق

ولا ترتجي في النفعِ والضرِّ غيرَه ***تباركَ مِن ربٍّ قديرٍ وخالقِ

فليس لمخلوقٍ مِن الأمرِ ها هنا *** ولا ثمَّ شيءٌ فاعتمِد قولَ صادقِ

هو الله لا ربَّ سواه وكلُّهم *** عبيدٌ وتحتَ الحكمِ مِن غير فارقِ

 

يقول: "والفناء والبقاء" ، والفناء: في الله تعالى، والبقاء: بالله -جلّ جلاله وتعالى في علاه-.

ومقام البقاء بعد الفناء، فإذا فَنِيَت جميع الخصال الذميمة، وفَنِيَ عن شهود الغير؛ بقي بالله -إن كان لله مراد- في أن يُوصِل على يده أحد إليه؛ نَقْلُه إلى مقام البقاء؛ حتّى يستطيع مجالسة الناس، والمخاطبة مع الناس، والتفكّر في مصالح الناس، وكيفية هداية الناس؛ فينقله إلى مقام البقاء. ولا يحجبه خَلْقٌ عن حق، ولا ينقطع بالحق عن الخَلْق؛ لكنه علاقته بالخلق من أجله، من أجل الحق، وللحق، وفي سبيل الحق، وللهداية للحق، والدلالة على الحق.

قال الإمام الحداد:

ولي أملٌ وراء هذا بعيد *** وذاك بأن أصيرَ إلى الحَبِيبِ 

أُشاهده مشاهدةً فأفنى *** عن الكون البعيد مع القريب 

وأن أبقى به بعد التَّفَانِي *** فيا بُشرَايَ ما أوفى نَصيبي! 

وأن أبقى به بعد التفاني؛ لأنّه لمّا يرجع إلى الخَلْق بعد الفناء ما عاده كحاله مع الخَلْق من قبل، لا في نظره، ولا في ذوقه، ولا في قصده، ولا في معاملته، يصير ينظر إليهم وهو راجع إليهم من عند مُكوّنهم وخالقهم ليوصلهم إليه، ما عاد عنده شيء من الرُّعونات ولا القواطع التي كانت من قبل، فيصير الآن حاله معهم ثاني.

هذه الخلعة الثالثة، باقي رابعة..

الله يرحمنا بأهلها، وببركتهم يجود علينا -إن شاء الله- ويتفضّل.

"الخلعة الرابعة: لباس الأسرار" الذي هي باطن الروح. القلب محلّ المعرفة، والروح محلّ المحبّة، والسرّ محلّ المشاهدة.

يعني: أعظم ما يتعلَّق شؤون المعرفة بالقلب، وأعظم ما تتعلّق شؤون المحبة بالروح، وأعظم ما يتعلَّق شؤون الشهود بالسِّر.

والكل في المحبة، وفي السر، وفي الشهود، وفي المعرفة.

قال: "لباس الأسرار بالوَاحْدَية، والوَحْدانيّة، والتوحيد في الهويّة، ومعرفة الواحديّة" كلّها مندرجة في آيتين، في آية (وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ)[البقرة:163]، وآية (قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ)[الإخلاص:1].

كلّ كلامه هذا مندرج في هذا.

لكن أن يَنكَشِف لك سِر: (وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ) واحد في ذاته وصفاته وأفعاله؛ فلا مُكَوِّن سواه، ولم مُوجِد غيره، ولا خالق غيره؛ فإذا بالكائنات كلها في قَبْضته وتحت أمره، لا استقلال لشيء منها من قريب ولا من بعيد، بأيّ وجه من الوجوه، لا لصغير ولا لكبير، لا في قليل ولا في كثير (وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ)[الزمر:67]. فما بقي استقلال لشيء قطّ، لا سماء ولا أرض ولا ما بينهما (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَىٰ)[طه:6].

ايش عاد باقي؟! خلاص راحت، هذه كلّها أفعاله، الباقي ايش باقي؟! باقي أسماء وصفات ذاته، وأنت رُحْت فيها! (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَىٰ)[طه:6]. خلاص عاد ايش لك وجودك أنت؟! خلاص ما بقي شيء! كلّها له!

فلهذا حذّرنا من الياءات، تقول: لي لي لي! قل: له! ماذا لك أنت؟! (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَىٰ)[طه:6]، كلّها (لَهُ) فماذا بعد باقي؟ (لِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ).

هذا لباس الأسرار بحقائق الواحديّة، ومعرفة الواحديّة والوَحْدانيّة، والتوحيد في الهويّة -هوّيّة الذات- بأن تعرف هو الواحد قبل أن يخلقك، والتوحيد في الهويّة أنْ تعرف أنه إنما وحدّهُ نفسه وذاته فهو الواحد.

أنت مَن أنت؟! هو الذي ينتظر في وَحْدانيّته إلى أن يخلقك وتعرف الوَحْدانيّة؟! أنت مَن أنت؟ وماذا أنت ؟!

فهو الواحد قبل ما يخلقك، وقبل ما يخلق أباك وجدَّك، وقبل ما يخلق السماء والأرض! أو أنت يوم جئت توحّده الآن!! هو واحدٌ أصلًا، لا إله إلّا هو، وهو مع ذلك الأحد.

فهذه خلعة السرّ لأرباب الشهود، عبّر عنها ﷺ بقوله: "أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قالَها الشّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ: أَلا كُلُّ شيءٍ ما خَلا اللَّهَ باطِلُ" هذا هو.

فأيش بغيت -ماذا أردت- بالباطل؟ خلَّك مع الحق، أترك الباطل وكن مع الحق!

يارب حققنا!

 وعاد باقى فوقها خلعة خامسة!

إلَّا إنه -بحمد الله- من بعد بعثته ﷺ إلى زمنا؛ لم يخلو زمن من الأزمنة عن وجود لابسين للخِلَعِ الخمس كلها، ولله الحمد! وهذه من الخيرية في هذه الأمّة، إلا أنهم يكثرون في وقت ويَقِلّون.

والخلع الخمس كلها -الحمد لله- محفوظة على يده ﷺ، من حين ما تَحَلَّى بها مَن حواليه، لبَّسها لأبي بكر ولبسها لعمر.. ولَبِسوها على يده ﷺ.

 حتى نزل في سيدنا أبي بكر الصديق: (وَسَيُجَنِّبُهَا الْأَتْقَى..) على النار (وَسَيُجَنِّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ..) منهم سيدنا أبو بكر (..وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَىٰ * وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ)[الليل: 19-21]. 

حتى قال له مرة جبريل: انظر أبا بكر لابس ثياب خشنة، ومخلل بعضها بشوك معه، قال: قل له، يقول لك ربك: أنت راضٍ عن ربك في حالك هذا؟ كان تاجر كبير في مكة، عنده ستة دكاكين في مكة، كل ساعة يقفل واحد، لأنه كان مشغول بالنصرة والانطواء في الحبيب، يقفل الدكاكين وينفق ماله، وما هاجر إلا والستة كلها ما في، أخذ ماله ينفق وينصر رسول الله ﷺ (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ * وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ)[الليل:17-19].

 ولمَّا ذكر النبي لسيدنا أبو بكر، بكى سيدنا أبا بكر: كيف! أعلى ربّي أسخط! أنا عن ربّي راضٍ، أنا عن ربّي راضٍ! قال له: (وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ)[الليل:21]. 

يا ربّ ارزقنا الرضا.

"الخلعة الخامسة: لباس سر السر" وماذا بعد هذا؟ قال: "هذا لا يطلع عليه إلا الحق -سبحانه وتعالى-" خصائص يخص بها من يشاء ويوليها من يشاء، لا إله إلا الله .

ولهذا قالوا: "إنَّ سِرَّ الولي، أو سريرة الولي، لا يطلع عليها الولي نفسه إلاّ الله -تبارك وتعالى-" 

هذه خلعة خامسة، قال هذه الخلعة:

"وهي الخلعة الكبرى؛ المُعَبَّر عنها بـ: "خلعة التفريد،" ولا تكون إلا للأفراد من المقربين.

"المرصعة بالدُّرِّ والجوهر" في المعارف واللطائف وحقائق التوحيد.

"فمن وُهِبَ ذلك من حضرة الوهَّاب -سبحانه وتعالى- نال سِرَّ الخلافة؛ خلافة آدم -عليه السلام-" (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)[البقرة:30].

فمن خُلِعَت عليه هذه الخمسة الخِلَع فهو خليفة، والطريق إليها: الإيمان والعمل الصالح (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ)[النّور:55]. يُوصِلهم إلى مرتبة الخلافة.

وهذا الوصول الخاص إلى مرتبة الخلافة، "بتعلُّمِهِ علم الأسماء" (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا)[البقرة:31]، "أسماء الله، وصفاته؛ بتعليم الله إيَّاه؛ فإنه جعل ذات آدم وصفاته بالتسوية مرآةً قابلةً لتجلي صفات جماله وجلاله -تبارك وتعالى-، كما قال ﷺ: "إنَّ الله خلق آدم؛ فتجلَّى فيه"، وجعله شيخاً للملائكة (فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ)[البقرة:31-33].

تعال علِّمهم..فكان أول تلامذة لآدم الملائكة، عاد ما أحد مع آدم إلا هو، وكانوا تلامذته الملائكة! علَّمهم في السماء بعدين خرج يُعلّم في الأرض (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ)[البقرة:30].

 وكان هذا التَّخَلُّق بأخلاق أسماء الله الحسنى.

"فبالتجلي عُلِّم التخلّقَ بأخلاقه"، وكما تقدّم معنا الأسماء والتخلّق بأخلاق الأسماء، والتخلّق بالقرآن الكريم، وقالت السيدة عائشة في وصف نبينا: "كان خُلقه القرآن" ﷺ.

قال: "فبالتجلي عُلِّم التخلّقَ بأخلاقه.." الرب تعالى "..والاتصاف بصفاته" لأنه لا شرف لشيء من الكائنات إلا بما أحبَّ الله من الصفات، والتي أحبَّ من الصفات وجعلها صفاتًا لخلقه هي من تفضُّله وتكَرُّمه؛ وهو مُتَّصِفٌ بها اتّصاف الألوهيّة والربوبية اللائق به -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-.

"وهذا هو سِرُّ الخلافة على الحقيقة؛ لأنّ المرآة تكون خليفة المتجلِّي فيها"، لا إله إلا هو -جل جلاله وتعالى في علاه-.

يقول فالتجلّي: أنه ما ينكشف للقلوب من أنوار الغيوب.

فهذا الآدمي إذا صَدَق مع الله، يُعطى الخلعة الأولى، والخلعة الثانية، والخلعة الثالثة، والخلعة الرابعة.. يصير خليفة.

هذا سوق الأنبياء تُعرَض علينا هذه، وإلَّا مَن في العالَم بيعرض عليكم هذه الخِلَع؟! مَن بيرغّبكم فيها؟ مَن بيدلّكم عليها؟ شيء من الحضارات هذه بتعلّمكم هذا؟

هذا الذي جاءنا به الأنبياء، وهو مذخور لنا فيما ترك فينا رسول الله ﷺ، فجزاه الله عنَّا خيرا. كان الأنبياء فتح الله الأبواب لأُممهم بواسطتهم، ولكن جاءنا خاتمهم فانفتح الباب أوسع انفتاح، وتيسَّرت الأسباب أكبر التيسير؛ فمن صَدَق من هذه الأُمّة؛ فالواسطة عظيم وكبير؛ يَسْهُل له الوصول إلى هذه الخيرات. 

اللهم لا تحرمنا خير ما عندك لشَرِّ ما عندنا، ونسألك بحَقِّ مَن خَلَعْتَ عليهم هذه الخِلَع الخمس أن تخلعها علينا، وأهالينا وأولادنا، وتُوَفِّر حظَّنا يا ربّ منها، ولا تُخَيِّب رَجاءَنا فيك، وإن لم نستحق ذلك أصلاً، ولم نكن له أهلاً، فأنت أَهْلٌ لأن تَهَب، وأن تجود، وأن تُكْرِم، وأن تَمْنَح، وأن تُعطي، وأن تَتَفَضَّل، وأن ترفعنا من حضيض شؤوننا وأحوالنا يا مولانا إلى رفيع سِرِّك السَّاري، اللهمّ ارفعنا من حضيض أطوارنا إلى رفيع سِرِّك السَّاري. 

 

وقال -رضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين: 

فَصْل

في أهلِ الإيمان والعلماءِ والعارفين والعقلاء

 

"الخاصة من جميع الناس.. هم أهل الإيمان، وخاصّتهم.. العلماء، وخاصة العلماء.. العارفون، وخاصّة أهل المعرفة.. العقلاء العاملون على الرضا؛ أهل الخلعة الإلهيّة؛ وإن قلَّت روايتهم، وقلَّ في العلم نطقهم، وخَمُل في النّاس ذكرهم.

 

فبالإيمان تُنال النجاة من النّار، وبالعلم تُنَالُ الدرجة في الجنان، وبالمعرفة يُقَرَّبُون في مقعد الصدق، وبالعقل يفهمون عن الله الإشارة، ويؤذن لهم في الشفاعة. 

 

قال العلماء بالله العارفون، ومشايخ الصوفيّة: "ركعة من عارف.. أفضل من مائة ألف ركعة من عالم، ونَفَسٌ من أهل حقيقة التوحيد.. أفضل من عمل كُلِّ عالم وعارف"".

 

 لا إله إلا الله، اللهم وَفِّر حظَّنا من الخير. 

خلق الله الخلائق كلهم بقدرته -جَلَّ جلاله-، وفضَّل هؤلاء العقلاء والإنس والجنّ والملائكة، وخصَّص الملائكة أجمعين بالعصمة وخلقهم أرواح مجرّدة نورانيَّة مع العصمة (لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[التحريم:6]، على معرفة به -سبحانه وتعالى-. وجعل الإنس والجنّ، منهم المؤمن ومنهم الكافر، ومن المؤمنين عالم ومنهم جاهل، ومن العلماء عارف ومنهم غير عارف. وبعد ذلك العارفون على مراتب ودرجات، فمنهم أهل الصِّدِّيقية الكبرى، وفوقهم الأنبياء والمرسلون -صلوات الله وسلامه عليهم-. 

 

فيقول: "الخاصّة من جمع النّاس" النّاس كلّهم خاصّتهم أهل الإيمان، فأهل الإيمان مميزون عمّن لم يؤمن.

(أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا ۚ لَّا يَسْتَوُونَ)[السجدة:18].

(وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ۗ)[البقرة:221].

(وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ۗ)[البقرة:221]. فالإيمان نعمة كبيرة.

خواصّ مَن على ظهر الأرض: المؤمنون، هم الخواصّ من بقيّة الخلق كلهم. كلّ من لا يموت على الإيمان لا حاجة لله به، فلا يُعتَبَر شيء.. مهما سمّوه عبقري، مهما سمّوه مُفَكِّر، مهما سمّوه مُختَرِع، مهما سمّوه رئيس.. ما هو مؤمن يموت على غير الإيمان ليس بشيء. خاصة الناس في العالَم المؤمنون.

فقوِّ يا ربّنا لنا الإيمان، وزدنا منه.

والمؤمنون خاصّتهم.. العلماء، والخاصّة من المؤمنين.. العلماء. 

اللهمّ فقِّهنا في الدّين، واجعلنا من العلماء العاملين.

والعلماء بعدين لهم خاصة وخاصة العلماء.. العارفون، فليس كلّ العلماء عارفون بالله، منهم من يعرف الأحكام والمسائل ولكن ما يعرف الربّ! يا لطيف! يشرح ويُقرِّر ولكن ما يعرف الرَّب! علم بلا ذوق..علم صورة! علم الصنعة يُتقنه البرّ والفاجر، لكن العلم المقرون بالخشية، المقرون بالصدق، المقرون بالورع، المقرون بالزهادة.. هذا وظيفة العلماء المتحقّقون بالعلم؛ يصلون إلى المعرفة. 

 

قال: "وخاصة أهل المعرفة..العقلاء العاملون على الرضا؛ أهل الخلعة الإلهية" هذيك الخامسة التي أشار إليها، "وإن قلَّت روايتهم" في مظاهر العلم، "وقلَّ في العلم نطقهم، وخمل في النّاس ذكرهم" ما أحد يلتفت إليهم، ولكنهم هم هؤلاء خاصة خاصة خاصة الخاصة؛ خاصة العارفين. 

قالوا للنبي ﷺ: ومن أويس؟ قال: "رجل مجهول في الأرض معروف في السماء". هذولا خاصة، وقال لسيدنا عمر ولسيدنا علي: "إذا أنتما لقيتماه فاسألاه أن يستغفر لكما يغفر الله لكم". ولقياه في آخر خلافة سيدنا عمر، وكان كل من جاء من الإيمان يتخبرّهم سيدنا عمر عن أويس. ولمّا جاء بعضهم من الحج وجاءوا إلى سيدنا أويس يطلبون منه الدعاء، قال: أنتم تطلبون عندي الدعاء؟! ويقول: لقيتم عمر؟ يقولون له: نعم. يعرف أن عمر كلمهم فيرجع يفرّ منهم، حتى رجع إلى العراق، ثم خرج في وقت الفتنة مع سيدنا علي، فقُتِل في صفين. هذا أصحّ الروايات، وقيل غير ذلك.. هذا أويس بن عامر القرني، له ذكر في صحيح الإمام مسلم من قِبَلِ النبي ﷺ أنه من أهل الشّفاعة عند الله تعالى، وأنه خير التابعين.

 

يقول: "الخاصة من جميع الناس.. هم أهل الإيمان، وخاصّتهم -المؤمنين-.. العلماء، وخاصة العلماء.. العارفون، وخاصّة أهل المعرفة.. العقلاء العاملون على الرضا؛ أهل الخلعة الإلهيّة" 

قال: "فبالإيمان تُنال النجاة من النّار" لكن إذا فوق الإيمان علم "وبالعلم تُنَالُ الدرجة في الجنان" لكن إذا كان فوق العلم معرفة يُنال القرب "وبالمعرفة يُقَرَّبُون في مقعد الصدق"

 في مقعد الصدق الذي **  قد أشرقت أنواره بالعِنْدِ

(فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ)[القمر:55].

يا لك من سناء! والمتقون رجاله ** وحضوره يا ربِّ ألحقنا بهم يا ربنا

 

قال وبعد هذه المعرفة: وعي خاصّ بقوّة عقل "يفهمون عن الله الإشارة، ويؤذن لهم في الشفاعة"، هم أهل العقل هؤلاء من خواصّ العارفين، هم الذين تمتدّ شفاعاتهم وتَعظُم، حتى قال ﷺ في أويس: "إذا كان يوم القيامة قيل له: قِفْ فاشفع، فيُشَفَّع في عدد كربيعة ومضر"! أكبر قبائل العرب هذه أكثرهم عدد..ربيعة ومضر! ملايين! وحده يشفع في مثل هؤلاء كلهم!

يؤذن لهم في الشفاعة بواسطة هذا العقل بعد المعرفة! 

ولهذا كان يقول سيدنا علي: "إذا تقرَّب الناس بأعمالهم؛ تقرَّب إلى الله بعقلك". ولكن هذا العقل العجيب البديع النورانيّ هذا، وهو الذي يتَّصِل بأوَّل ما خلق الله -تعالى-: العقل.

ولذا "قال العلماء بالله العارفون، ومشايخ الصوفيّة: «ركعة من عارف.. أفضل من مائة ألف ركعة من عالم، ونَفَسٌ.." نفس واحد من أهل حقيقة التوحيد هؤلاء العقلاء "ونَفَسٌ من أهل حقيقة التوحيد.. أفضل من عمل كُلِّ عالم وعارف»".

شاهده (لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا ۚ)[الحديد:10]. وقوله ﷺ-: "لو أنفَقَ مِثلَ أُحُدٍ ذهبًا.."!

أتصوّر مثل أحد ذهب! كيف هذا؟ مثل أحد ذهب! وهذا أُحُد كم ألف كيلو هذا أُحُد؟ كذا كذا ألف كيلو! "مثل أُحُد ذهبا"! يجيب الذهب حقّ الدنيا كلّها "..ما بَلَغَ مُدَّ أحَدِهِمْ ولا نَصِيفَهُ"! ذاك يتصدق بمُدّ: حَبْ، طعام، شعير، برّ، ذُرَة: ولا نصف مُد! يَعظُم ثوابه على تصدُّق غيرهم بمثل أُحُد ذهب! أوه! وإيش العطاء هذا؟ سبحان المعطي!

(هَٰذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[ص:39].

 

وقال -رضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:

فصل

في معنى الصوفيّ

والصوفيّ.. العالم بالله، وهو: والذي يضع الأشياء في مواضعها، ويدبّر الأوقات والأحوال كلها بالعلم؛ يُقِيمُ الخلقَ مقامهم، ويُقِيمُ الحقَّ مقامه، ويستر ما ينبغي أن يُستَر، ويُظْهِرُ ما ينبغي أن يُظْهَر، ويأتي الأمور في مواضعها بحضور عقل، وصحَّةِ توحيدٍ، وكمالِ معرفةٍ، ورعايةِ صدقٍ وإخلاصٍ.

وهؤلاء هم أهل الشريعة، والطريقة، والحقيقة"

اللهمّ ألحقنا بهم..

قال سيّدنا العدنيّ في جدّه السقّاف: 

رقى في رتبة التمكين مرقى *** وقد جمع الشريعة واليقينا

 هذا معنى الصوفي؛ ماذا يقصدون بالصوفي؟ على مرّ القرون كان العلماء وخيار الأُمَّة إذا قالوا صوفي يعنون ماذا؟ يعنون واحد يرقص؟ ولا واحد يصفق؟ ما معنى صوفي؟

قال: لا، لا، لا!

تظنّ السماع سماع الدفوف *** أو أن التصوّف لباسك لصوف

أو الوجد هو التصديه بالكفوف *** فلا يعتقد ذاك إلا سخيف

قال: من هو الصوفي؟ قال: "والصوفيّ.. العالم بالله، وهو: والذي يضع الأشياء في مواضعها.." مُهتَدٍ، مُقتَدٍ مُتَّبِع، زاهد، مُخلِص، يريد الواحد -جَلَّ جلاله-

قال: "ويدبّر الأوقات والأحوال كلها بالعلم" الذي بُعِث به رسول الله، "يُقِيمُ الخلقَ مقامهم"، فلا يرائي الخلق، ولا يقصدهم بشيء من عبادته، ولا يحتقرهم، ولا يؤذيهم، ولا يضرّهم، ولا يجاوز فيهم الحد لا في مدحٍ ولا في ذنبٍ.

"ويُقِيمُ الحقَّ مقامه" إله الكلّ، مُدَبِّرُ الكل، مقدّم على الكلّ أمره، وهو المقصود دون الكلّ.

"ويستر ما ينبغي أن يُستَر، ويُظْهِرُ ما ينبغي أن يُظْهَر، ويأتي الأمور في مواضعها بحضور عقل، وصحَّةِ توحيدٍ، وكمالِ معرفةٍ، ورعايةِ صدقٍ وإخلاصٍ"

هذا هو الصوفيّ، فماذا يُنكَر من حاله؟!

"وهؤلاء هم أهل الشريعة، والطريقة، والحقيقة".

يا ربّ فانفعنا بهم.

 

وقال رضي الله عنه وعنكم ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:

 

فصل

 في الملامَتِيَّة والقَلَنْدرِيَّة

"ومن طوائف الصوفية قوم يُسَمَّون الملامتية؛ فالملامتي الصادق له حالٌ شريفٌ ، ومقامٌ عزيزٌ، متمسِّك بالسنن والآثار، وتَحَقُّقِ الإخلاص والصدق، وليس مما يزعم المفتونون بشيء، الذين يُسَمُّون أنفسهم ملامتية، وليسوا بملامتية، وينتهجون -والعياذ بالله- مناهج الإباحة، وهذا غرورٌ.

ومنهم طائفةٌ يسمون القلندرية؛ فالقلندري الصادق.. له حال شريف".

والفرق بين القلندري الصادق، والملامتي الصادق.. أن الملامتيَ الصادق يسعى في كتم العبادات، ويتمسك بكل أبواب الخير، والبر، ويرى الفضلَ فيه، ولكن يُخفي الأعمال والأحوال، ويوقفُ نفسَه موقفَ العوام في هيئته ، وملبوسه ، وحركاته ، وأموره ؛ سترًا للحال ؛ لئلا يُتَفَطَّن له ، وهو مع ذلك متطلَّعٌ إلى طلب المزيد، باذلٌ مجهوده في كل ما يتقرب به العبيد.

وعلامة الملامتي هو الذي لا يضمِر على المسلمين شرًا، ولا يظهر لهم خيرًا، بل يخفيه ، ويستره.

وأما القلندري الصادق.. هو الذي لا يتقيد بهيئةٍ، ولا يبالي بما يُعْرَفُ من حاله، وما لا يُعرَف، ولا يَنْعَطِفُ إلا على طيبة القلوب، وهو رأس مالِهِ -أعني رأس ماله طيبة قلبه مع ربه-، ولم يسلك طريق الإباحة المعبَّر عنها بـ «الغرور»".

ثمّ ذكر عندكم فصل يذكر فيه: ملامتية، وقلندرية.. هذولا من جملة أهل القرب من الله -تعالى-، جماعات يميلون إلى الاستتار، ويحبّون الاستتار، يسمونهم "الملامتية". قال إنّهم من طوائف صوفية، قوم يُسَمّون "الملامتية".

لكن مَن الملامتية الصادقة؟ قال: "حالٌ شريفٌ ، ومقامٌ عزيزٌ، متمسِّك بالسنن والآثار، وتَحَقُّقِ الإخلاص والصدق، وليس مما يزعم المفتونون بشيء، الذين يُسَمُّون أنفسهم ملامتية، وليسوا بملامتية، وينتهجون -والعياذ بالله- مناهج الإباحة، وهذا غرورٌ"، قال هؤلاء الملامتية يتعمّدون ستر أحوالهم ومقاماتهم وقدرهم، وقد يشتغلون أمام الناس بشيء من المباحات؛ يصرفون نظر الناس عنهم، "ومنهم طائفةٌ يسمون القلندرية؛ فالقلندري الصادق.. له حال شريف"، لكنه ما يبالي أيّ شيء يظهر، وأي شيء يكتم، ما له التفات إلى الخلق أصلاً.

فالأوّل يتعمَّد كتم أحواله الشريفة عن الناس أشد مما يكتم الغافلون والفُسَّاق أحوالهم الخبيثة عن الناس، فهو يكتم أحواله الشريفة عن الناس.. هذا ملامتي، ويحب يظهر بمظهر أنه جاهل، وهؤلاء الذين قال عنهم الإمام الحداد:

فمنهم مًقِيمٌ في الأنام وإنّه *** لمستورٌ عنهم تحت أستار غيرةِ
يَرَاهُ الورى إلَّا القليلُ كغيره *** من الغافلين التاركين استقامةِ

يرونه واحد مقصر وما هو شيء، وهو ملآن بالأسرار، هؤلاء الملامتية.. يتعمّدون كتم الأحوال الشريفة. أمّا القلندرية، ما يلوون إلا على طيبة قلوبهم وصلاحها مع الله.. بس، ظهر شيء ما ظهر شيء، حد أقبل حد مدح حد ذم.. كله سواء عندهم، ما يبالون بشيء.

وهؤلاء القلندرية وهؤلاء الملامتية.. من أصناف العباد الصالحين.

قال: "والفرق بين القلندري الصادق، والملامتي الصادق.. أن الملامتيَ الصادق يسعى في كتم العبادات، ويتمسك بكل أبواب الخير، والبر، ويرى الفضلَ فيه، ولكن يُخفي الأعمال والأحوال، ويوقفُ نفسَه موقفَ العوام في هيئته، وملبوسه، وحركاته، وأموره؛ سترًا للحال؛ لئلا يُتَفَطَّن له، وهو مع ذلك متطلَّعٌ إلى طلب المزيد، باذلٌ مجهوده في كل ما يتقرب به العبيد.

وعلامة الملامتي هو الذي لا يضمِر على المسلمين شرًا، ولا يظهر لهم خيرًا، بل يخفيه، ويستره.

وأما القلندري الصادق.. هو الذي لا يتقيد بهيئةٍ، ولا يبالي بما يُعْرَفُ من حاله، وما لا يُعرَف.." وبأيّ زيّ تيسَّر له حلال لبسه.. إن يقع عمامة وإن يقع صدقة، وإن يقع حاسر الرأس، وإن يقع رداء وإن يقع ما شي رداء.. اللي عنده، ما دامه حلال.. المهم قلبه محفوظ مع الأدب مع الله ، وبس.. هذا قلندري يسمونه. 

"هو الذي لا يتقيد بهيئةٍ، ولا يبالي بما يُعْرَفُ من حاله، وما لا يُعرَف… ولا يَنْعَطِفُ إلا على طيبة القلوب، وهو رأس مالِهِ -أعني رأس ماله طيبة قلبه مع ربه-، ولم يسلك طريق الإباحة المعبَّر عنها بـ «الغرور»". فهذا الملامتي، وهذا القلندري.

وأمّا مَن جاء يرتكب محرم أو يتعمّد ترك السنن ويقول أنا ملامتي.. قل له كذاب، ولا يدعي أنه قلندري، ولا ينتبه من قلبه وحاله.. قل له كذاب، لا هكذا الملامتية ولا هكذا القلندرية، كلهم لهم أحوال شريفة مضبوطة، إنّما هذا يُخفِي عباداته وذاك لا يبالي ايش ظهَر وايش خَفِي، قاعد مشغول بربّه على المستوى الذي هو فيه، ما يرى إلا طيبة القلب فين تكون.. وبس، في المجلس ذا أو في المجلس ذا، وساعة في السوق وساعة في المسجد وساعة في الجبل وحده يطلع وساعة... حيث ما كان، يشوف فين صفى قلبه وحضوره مع الله يروح وراه..

رضي الله عن أوليائه الصالحين أجمعين..

وأكثر الناس غيرهم مغرورين بمظاهر الحياة، وهذا المجلس الفلاني، والهيئة الفلانية، واللبس الفلاني، والوظيفة الفلانية، والشهادة الفلانية… هذا ما هو مبالي بشيء من هذا كله ولا داري به، مستعد للذي إليه مرجعه ولقاه.. بس خلاص!

الله يصلح أحوالنا والمسلمين.. 

عسى الله يتطوَّل علينا بشيء من هذه الخِلَع، على صغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، يا معطيها، يا مانحها، يا واهبها، يا مُتَفَضِّلاً بها، يا من يجود بها على من شاء، لا تحرمنا خير ما عندك لشَرِّ ما عندنا، وألبسنا من هذه اللباسات، وقد قلت في محكم الآيات: (وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ)[الأعراف:26]، فألبسنا لباس التقوى، وتولَّنا في السِّرِّ والنجوى، ولا تحرمنا خير ما عندك لشَرِّ ما عندنا، وشرِّف أعضاءنا هذه كلها بلباس التقوى في الأعضاء، ولا تنزعها عنّا، وانظر إلى قلوبنا وشرِّفها بلباس التقوى للقلوب، اخلعها علينا ترك الخِلَع، ولا تنزعها عنّا، وانظر إلى أرواحنا، وانظر إلى أسرارنا، وانظر إلى سِرِّ السِّرِّ مِنّا، وتولَّنا بما أنت أهله، حيث ما كُنّا وأين ما كنّا.

اللهمّ إنّا في قبضتك حيث ما كنّا؛ فلاحظنا بعين عنايتك حيث ما كنّا. 

اللهمّ إنّ في قبضتك أين ما كنّا؛ فلاحظنا بعين عنايتك أين ما كُنَّا.

اللهم إنّا في قبضتك حيث ما كنّا وأين ما كنّا؛ فاجعلنا في رحمتك حيث ما كنّا، وأين ما كنّا.

اللهمّ اجعل مُستقرَّ العلم النافع قلوبنا، ومستقرّ أربابه ديارنا، اللهمّ اجعل مُستقرَّ المعرفة بالله قلوبنا، ومستقر أربابها ديارنا، اللهمّ اجعل مُستَقَرَّ الورع الحاجز قلوبنا، ومستقر أربابه ديارنا، اللهمّ اجعل مُستقرَّ اليقين التام قلوبنا، ومستقر أربابه ديارنا.

اللهم اعصمنا من الشرك، واغفر لنا ما دون ذلك، واسلك بنا أشرف المسالك، وجُد علينا بخِلَعِ التقوى، وتولَّنا في السر والنجوى.. بسرِّ أهل التقوى. 

 

بسرِّ الفاتحة 

إلى حضرة النّبيّ محمّد ﷺ.

تاريخ النشر الهجري

04 صفَر 1447

تاريخ النشر الميلادي

29 يوليو 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام