للاستماع إلى الدرس

الدرس الثاني للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الكبريت الأحمر و الأكسير الأكبر في معرفة أسرار السلوك إلى ملك الملوك ، للإمام الحبيب عبد الله بن أبي بكر العيدروس . ضمن دروس الدورة الصيفية الأولى بمعهد الرحمة بالأردن.

مساء الإثنين 15 صفر 1446 هـ

نص الدرس المكتوب :

بسم الله الرحمن الرحيم

وبسندكم المتصل إلى الحبيب عبد الله بن أبي بكر العيدروس من كتابه الكبريت الأحمر والإكسير الأكبر -رضي الله تعالى عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم وعلوم سائر الصالحين في الدارين آمين:

 

فَصْل

فِي التَّوْحِيدِ

التوحيد: "نفي التقسيم لذاته؛ لا مثل له في ذاته، ونفي التشبيه عن حقه وصفاته، ونفي الشريكِ عن أفعاله ومصنوعاته".

قال العلماء بالله، وجميع المشايخ، والعلماء: "أشرفُ كلمة في التوحيد.. ما قاله أبو بكر الصديق-رضي الله عنه-: سبحان من لم يجعل للخلق سبيلًا إلى معرفته .. إلا بالعجز عن معرفته".

وقال:

……………………  *** والعجز عن درك الإدراكِ إدراكُ

 

وقالت الملائكة عليهم السلام: "ما عرفناك حق معرفتك".

وقال العلماء بالله، وجميع الصوفية: "التوحيد الذي انفرد به العلماء بالله الصوفيةُ .. هو إفراد القِدَم له، ونفي الحَدَث، والخروج عن الأوطان، وقطع المحابِّ، وترك ما عُلم وجُهل، وأن يكون الحقَّ مكان الكلِّ." 

والتوحيد أيضاً عند بعضهم .. إسقاط الياءات، لا تقل: "لي"، و"بي"، و"مني".

وَشَرْحُ الجميع، وحقيقة التوحيد .. ما قاله الأكابر من الصوفية، وهو: "محو البشرية ، وتجرد الإلهية".

 

الله، لا إله إلا الله، اللهم ارزقنا حقيقة التوحيد. 

الحمد لله، ويبيّن الشيخ -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- معاني توحيد الحق تبارك وتعالى؛ وهو: العلم بأنه واحد، وتبعه كل ما يتعلق بأوصافه، وأسمائه سبحانه وتعالى، وما يتعلق بأنبيائه ورسله، وملائكته، وما يتعلق بما أُمرنا بالإيمان به من الغيب؛ من اليوم الآخر، والجنة والنار وما إلى ذلك، فشَمِله اسم علم التوحيد، وإلا أصل التوحيد: أن تعلم أن الله واحد -جل جلاله وتعالى في علاه-؛ فهو الواحد في ذاته، وفي صفاته، وفي أفعاله.

قال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)؛ "نفي التقسيم لذاته"، لا مثل له في ذاته، "ونفي التشبيه عن حقه وصفاته"، فليس يشبهه شيء، وإذا اقتضى قصوره وانحصاره نطاق اللغات والتعبير عن ذكر الأوصاف الحسنة، إلا بنفس الأوصاف التي يُوصف بها الحق تبارك وتعالى، فتُذكر بمعناها اللائق للمخلوق الموصوف بتلك الصفة؛ من علم أو قدرة أو سمع أو بصر، وما إلى ذلك. فاللفظ يجيء واحد؛ ولكن المعنى بعيد ومختلف، فليس يشابه وصفه وصف.

فأوصاف الكمال في الخلق إذا وُصفوا بالعليم أو بالكريم أو بالرحيم أو بالعزيز أو بالمتفضّل أو بالسخيّ أو بالجواد وما إلى ذلك؛ فهذه أوصاف كمال بالنسبة للخلق، معناها في حقهم: أمرٌ طارئ محدود محصور، إما يُوهب بأصل الفطرة، أو يكتسبونه بالتدريب والتمرَّن، لكن أين هذا من أوصاف الحق؟ أوصاف الحق سبحانه وتعالى: قديمة أزلية قائمة بذاته، محيطة بكل الأشياء، غير منحصرة، لا تقبل الزوال؛ فلا مشابهة بين الخلق والخالق أصلا! 

………………… *** هيهات ما المخلوق مثل خالق

فلا مشابهة. فمهما جاء الوصف نفسه، والاسم نفسه؛ كما خلع الله على نبيّنا من أسمائه: اسميّ الرؤوف الرحيم؛ سمّى نفسه بالرؤوف الرحيم في كتابه، وسمّى رسوله (..بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) [التوبة:128] .

لكن إذا انصرفت إلى رسول الله ﷺ، فمعناه: ما خصّه الله به من شرف التجلي عليه بأسرار الرحمة، التي جعله معدنها وأصلها، ومنه مُنبعثة في جميع ما رحمه الله تبارك وتعالى، وهذا أمر بالنسبة لرسوله ﷺ طارئ وبخلقه، ومن وقت إيجاده عليه الصلاة والسلام، وبداية الخلق بروحه الكريمة، ونوره العظيم عليه الصلاة والسلام.

يُوصف غير الله وغير رسوله بالرؤوف الرحيم، فيأخذ معنى أيضًا، لا المعنى هذا ولا المعنى هذا، إذا وُصف آخر بالرؤوف الرحيم، أمر طارئ جدًا من بعد، وهو متفرّع عن الرحمة والرأفة التي في ذات محمد ﷺ؛ تتعلق بشيء من الشؤون التي حوالي هذا الإنسان، يرأف بها ويرحمها؛ من ولد، ومن أهل، من صاحب إلى غير ذلك، ورِّقة في القلب تقتضي العطف وتقتضي الحنان، هذا معانيها عند الخلق.

إذًا، حتى إذا قارنَّا بين وصف رسول الله ﷺ بها، ووصف غيره؛ وجدنا فارق كبير؛ من حيث اتصافه بها بمعنى لائق به، واتّصاف غيره بها بمعنى لائق به، فكيف بالخالق جلّ جلاله؟ لا يشابهه أحد في وصفٍ مهما جاء الاسم نفسه والوصف نفسه، فالمراد في حق الله شيء أعظم وأجل وأكبر وأقدس.

وهكذا يقول: "نفي التقسيم لذاته"؛ لا مثل له في ذاته، "ونفي التشبيه عن حقه وصفاته، ونفي الشريكِ عن أفعاله ومصنوعاته"، (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) [فاطر:3]، (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) [الزخرف:9] جل جلاله، فليس له شريك في الفعل، وليس له مشابهٌ في الصفات -سبحانه وتعالى-، وليس له نظير ولا ندٌّ في الذات؛ 

  • فلا تقسيم للذات.
  • ولا تشبيه في الصفات.
  • ولا مشاركة في الفعل. 

جلّ جلاله، هو وحده الذي خلق، وهو وحده الذي للعبادة استحق. 

"قال العلماء بالله، وجميع المشايخ، والعلماء: "أشرفُ كلمة في التوحيد.. ما قاله أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-"، مُتلقيًا عن حبيب الرحمن ﷺ أسرار التوحيد، وما وصله منه ﷺ وما أفضى به إليه ﷺ، قال: "سبحان من لم يجعل للخلق سبيلا إلى معرفته .. إلا بالعجز عن معرفته"، فهذا طريقه، وكلما ازدادت معرفتهم به؛ زادت معرفتهم بالعجز عن معرفته، فأعرَفُنا بالله، أعرفنا بعجز الكائنات كلها عن أن تعرف الله تعالى، أي: معرفة الإحاطة، وأشار إلى قوله أيضًا: "العجز عن دَرَك الإدراك إدراكٌ"؛ إذا عجزت عن درك الأمر، فأنت أدركت عجزك عن ذلك الإدراك؛ فهذا إدراك، وهو في أبيات منسوبة لسيدنا أبو بكر، أولها: 

لا يعرف الله إلا الله فاتئِدوا *** والدين دينان إيمانٌ وإشراكُ

 وللعقول حدودٌ لا تجاوزها *** والعجز عن دَرَكِ الإدراك إدراكُ

قال: "سبحان من لم يجعل للخلق سبيلا إلى معرفته .. إلا بالعجز عن معرفته".  

يقول: "وقالت الملائكة عليهم السلام:" -سبحانك ما عبدناك حقّ عبادتك-و"ما عرفناك حق معرفتك".

ويقول هذا طوائف من الملائكة، أحدهم منذ خلقه الله وكوّنه، وهو قائم بين يديه في الصلاة، ويستمر كذلك إلى أن تقوم الساعة. وبعضهم من حين خلقه الله، ركع لهيبة الله وجلاله، ولم يزل كذلك وهو إلى الآن وإلى أن تقوم الساعة. وأحدهم خلقه الله فسجد للرحمن، فهو ساجد إلى أن تقوم الساعة. وأحدهم عاكف -جالس- بين يدي الرحمن متضرعًا إلى أن تقوم الساعة. فإذا قامت الساعة وجاء هؤلاء؛ قالوا: "سبحانك ربنا ما عرفناك حقّ معرفتك ولا عبدناك حقّ عبادتك".

لا يقوم بحقّ الله أحد..  لا إله إلا الله!.. لكن رضيَ من الخلق بما آتاهم وأقدرهم عليه، ومكّنهم منه، ووفّقهم له، ورضيَ منهم بذلك، لا إله إلا هو، له الحمد وله المِنّة.

يقول: "وقالت الملائكة عليهم السلام: ما عرفناك حق معرفتك. وقال العلماء بالله، وجميع الصوفية: التوحيد الذي انفرد به العلماء بالله"؛ أي: المعرفة الخاصة، الذين انتشر وصفهم واسمهم في القرون الأولى من بعد القرن الثاني والثالث باسم: "الصوفية"،  قالوا: 

  • "هو إفراد القِدَم له" -جلّ جلاله- والمراد بذلك: إفراد شهودٍ وذَوْق.
  • "ونفي الحَدَث"؛ الحدوث عن ذاته وصفاته سبحانه وتعالى.
  •  "والخروج عن الأوطان"؛ وهو كل ما تألفه النفس أو تميل إليه أو تركن إليه، "الخروج عن الأوطان"؛ يعني: عدم الركون إلى شيء، فلا تتوطن النفس شيئًا من الكائنات، تثق به وتركن إليه وتلجأ إليه أصلًا، هذا المراد بالخروج عن الأوطان.

فكل ما تعتاد النفوس الركون إليه، والاطمئنان به، والثقة به، والاستناد إليه، من جميع الكائنات والأحوال الظاهرة والباطنة، فالتوحيد عند أهل الصوفية: لا تركن لشيء من هذا، لا تعتمد على شيء من هذا، لا تثق بشيءٍ من هذا قطّ، ولكن به وحده، فأنت دائمًا في فرار إليه، كما أمر الرسول ﷺ أن يدعوك إلى ذلك: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ) [الذاريات:50-51]. 

(فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ)؛ فهم دائمي الفرار إلى الله تعالى، وكلما ارتقوا من مقام لم يركنوا إليه ولم يطمئنوا به، فهم يفارقون الأوطان، يخرجون عن الأوطان، يرقى من ذاك المقام إلى ما أعلى منه، ولا يزالون هكذا، فلا طمأنينة لهم إلا بالله، ولا ثقة وركون إلا إلى الله جلّ جلاله.

  • "وقطع المحابِّ"؛ ما تشتهيه النفوس، وتميل إليه غير الحق - جلّ جلاله- يقطعون هذه المحاب؛ حتى لا يصير لهم محبوب على الحقيقة إلا الله، وما أحبوا شيئًا سواه إلا بأمره، ولوجهه، ومن أجله. 

فإذًا ما أحبوا إلا هو في الحقيقة؛ لأن ما أحبوه لأجله فهو من حبه سبحانه وتعالى، فبذلك أحبّوا أنبيائه وملائكته والصالحين من عباده، وأحبوا الإيمان والطاعة والخيرات، (وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً ۚ) [الحجرات:7-8]، اللهم اجعلنا منهم، وأرشدنا كما أرشدتهم.

  • "وترك ما عُلم وجُهل"، فما يجهله لا يتخيل ولا يظن أن في شيء مما يجهله -غير الحق تبارك وتعالى- فائدة ولا مرجع، ولا غاية، ولا ما علِمه يركن إليه ويقف عنده، ويعلم أن وراء علمه علم، وفوق علمه علم، (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) [يوسف:76]، وهكذا إلى أن ينتهي العلم إلى الله تعالى، (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ ) [البقرة:255].

وقد عاتب الله -جل جلاله- سيدنا موسى ورقّاه، لما أجاب: هل على الأرض أعلم منك؟ يعني بالله ورسله، قال: لا - فيما يعلم-،  فأوحى الله إليه: لِمَ لَمْ ترد العلم إليّ؟ بلى، عبدي الخضر أعلم منك، فخضع سيدنا موسى، وقال: يا رب، أين عبدك الخضر هذا أنا سأتعلم منه.. فقال له: باختبار وبصدق وبجِدْ في الطلب، فقال له امضِ إلى مجمع البحرين، خذ معك حوت، واحمله في زنبيلك -القفة الكبيرة أو الوعاء- وامشِ، قال: إلى أين أمشي؟ امشِ إلى أن يخرج هذا الحوت! متى سيخرج؟.. لم يُخبر سيدنا موسى بذلك، يوم، يومين، شهر، شهرين،… ما عنده خبر! بل أُمر أن: احمله وامشِ إلى أن نحيي هذا الحوت، وأنت تمشي على البحر، فإذا قام هذا الحوت؛ فهناك تلقى عبدنا الخضر، قال: مرحبا، وقال لفتاه: تعال يا يوشع، (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا) [الكهف:60]، أوقات طويلة؛ إلى الوقت الذي يريده الله، ألست تطلب العلم؟ إذًا امشِ.. تحمّل.. أم لست صادق في الطلب؟ قال: مرحبا يا رب، قال: امشِ إلى أن نحيي الحوت،… متى؟ (أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا)، ومشوا، حتى قالوا -القيلولة- تحت شجرة على الساحل، وخرج الحوت من المكتل، ودخل في البحر، ونسي يوشع أن ينبَّه سيدنا موسى، حتى مشوا وأحس بالتعب، قال: (لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبًا)، قيل: ما وجد حِس النصب حتى جاوز المكان الذي أُمِرَ به، قال سيدنا موسى: (ءَاتِنَا غَدَاۤءَنَا) هات الحوت، قال: نسيت أقول لك الحوت خرج من المكتل، قال: (ذلك مَا كُنَّا نَبْغِ) كيف نسيت؟! قال: (وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ۚ)، رجع (فَارْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصًا * فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا ). 

 وبعد الاختبار هذا كله، قام هو الشيخ أيضًا يصلّح له اختبار ثاني! (قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)، (قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا)، قال: اسمع، أسكت ساكت؛ إذا بتمشي معي، حين أتصرّف أي  تصرف أو أصلح شيء لا تقول أي كلمة بل إلزم السكوت حتى أكلمك أنا وأُحدّثك، وأقول لك ما هذا، وكيف هذا.. قال: مرحبا، بسم الله.. وقبِل الشرط وراح معه، وفي السفينة أخرج اللوح وخرق السفينة، فقال: إيش هذا؟ عرفوك وركبونا وإياك من غير نول من أجلك، وتجازيهم بهذا؟! قال: (أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)؟ قال: العفو نسيت! فكانت نسيانًا، قال: (قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ..)، قال: مسامح، ومشى ثاني مرة وقتل الغلام، فما صبر سيدنا موسى، وقال له إيش هذا؟! (..أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ)، (..قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لُكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا) قال: بقي فرصة أعطنا هذه المرة وإن رجعت وما صبرت خلاص فهو فراق بيني وبينك، (قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي ۖ قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا) [الكهف60-76]، وجاءت الثالثة. الحبيب ﷺ قال: وددت لو موسى صبر، لأرانا الله عجبًا.. فما  كان إلا هذا، فالثالثة هو تعمّدها، لأنه أخذ حظه من معنى العلم الذي عند سيدنا الخضر، وعلم أن مهمته في الحياة غير هذا، مهمته تبليغ بني إسرائيل، وإقامة الشرع فيهم؛ فتعمّد الثالثة، وأخذ منه الخبر ورجع ليؤدي مهمّته في الحياة، عليهم صلوات الله وتسليماته. 

قال:

  • "وترك ما عُلم وجُهل، وأن يكون الحقَّ مكان الكلِّ."  الأوطان، والمَحاب، وما تعلمه وما تجهله، كله منفي وما المثبت؟ الله.. كله مُعرَض عنه، وعلى ماذا تُقبل؟ على الله.. كله تتركه، وماذا تأخذ؟ الله.. ويكون الله محل الكل، هذه حقائق التوحيد، لا إله إلا الله.

"والتوحيد أيضاً عند بعضهم .. إسقاط الياءات"، ماذا تعني إسقاط الياءات؟

 نسبة الأشياء إليك، ياء النسبة هذه يسمونها "بي، لي، مني، فيّ، حقي، إليّ،" أنت عبد.. تنبّه.. قل: له، إليه، منه، عليه… إيش يعني بي، مني، لي؟! لا بك وإنما به، وإليه ، ومنه -جلّ جلاله-.

سيدنا النووي يقول في ورده: "بسم الله وبالله ومن الله وإلى الله وعلى الله وفي الله"؛ يعني: لا بي ولا لي ولا إليّ ولا فيّ،… كله له -جلّ جلاله-. "إسقاط الياءات"؛ نسبة الشيء إليك.

وفي هذا يقول بامخرمة: ما أنا من أهل: بي لي؛ الذين يقولون: (بي) كان كذا، أو (لي) كذا وكذا، لا لي شيء، ولا يكون بي شيء.

ما أنا من أهل بي، لي *** كلا ولا سبيلي

 في الحطِّ والرحيلِ ***  إلا إن شي بلا شي 

يالله بـ شي  بلا شي

 بلهجته الدارجة العامية يقول:

 أويت إلى فراشي *** دوّرت في قِشاشي

 حصلت فيه ما شي *** يالله بـ شي بلا شي 

 حصلت فيه ماشي؛ ما وجد شيء…

 "إسقاط الياءات، لا تقول: "لي"، و"بي"، و"منّي"."؛ فهذا كلام الخبيث إبليس: (أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ) [الأعراف:12]. فيقول: به، ومنه، وإليه، وفيه، وعليه، جلّ جلاله وتعالى في علاه. 

"وَشَرْحُ الجميع، وحقيقة التوحيد .. ما قاله الأكابر من الصوفية، وهو: محو البشرية"؛ أي: مقتضياتها من غفلاتها، وركونها إلى الغير، واعتمادها على السّوى، هذا معنى محو البشرية، يعني: مقتضياتها في تهذيب طبعها بنور الشرع، حتى بنور شرعه تحلى، وعن ظلمة طبعه تخلى، وتحلى بنور الشرع. 

"محو البشرية ، وتجرد الإلهية"؛ أي: في شهوده، فلا يشهد إلا الله، مقدّمًا مؤخرًا، رافعًا خافضًا، نافعًا ضارًّا، هاديًا مُضلًا، مُسعِدًا مُشقيًّا، أولًّا آخرًا، ظاهرًا باطنًا.. الله!

 "محو البشرية ، وتجرد الإلهية". ما السبيل إلى ذلك إلا:

  •  الصدق مع الله، والتوجّه إليه، وقطع العلائق من امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، كما سيأتي معنا في فصل التقوى، أول خِلعة من خِلع التقوى؛ لباس الأعضاء الظاهرة، بامتثال الأوامر واجتناب النواهي.
  •  ثم إضعاف وسائل إبليس للوصول إلى قلبك وإغوائك؛ وهو أنواع الشهوات، فتكون أقوى منها، فتتحول مراداتك ورغباتك ومبتغاك من السفليات إلى العلويات، وتتخلّى عن الركون إلى الشهوات القاصرة، وتدوم على بابه بتخلية الباطن عن الالتفات إلى ما سواه.

 إذا شاء تصل إلى أنوار هذه الحقائق، وإلى معانيها، لمعرفتها المعرفة الخاصة، ثم لذوقها والتحقق بها مراتب يرفع الله إليها من يشاء. الله لا يحرمنا خير ما عنده لشرّ ما عندنا، الله لا يحرمنا خير ما عنده لشرّ ما عندنا. 

يقول: "محو البشرية ، وتجرد الإلهية"

وعن شرور طبعه تخلّى *** ثم بنور شرعه تحلّى 

 فيصير عبد محض. ويحدثنا عن الطريق لهذا كله.. الطريق لهذا كله هو التقوى بمتابعة واحد اسمه محمد بن عبد الله ﷺ؛ حقائق التوحيد، والمعرفة، والقرب، والمقامات، والأنوار، كلها هذا بابها.

واعلم بأن الخير كله أجمع *** ضمن اتباعك للنبي المشفّع

   فمتابعته -وهو أتقى الخلق- في التحقق بحقائق التقوى، وسيذكر لنا خلعها الخمس، نَسأل ربنا الرحمن أن يتكرّم بخلعها علينا. آمين يا رب العالمين.

 

 

وقال -رضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:

 

فصل في التقوى

اعلم أن تقوى الله، هو الذي عليه مدار السعادات، والذي لا يصلح البناء إلا عليه في جميع العبادات، وكل السعادات محلها العاقبة، وقد قال الله تعالى: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) ]القصص:83]، والأصل الذي يصلح عليه بناء العمل حتى يتم، ويُقبل هو: تقوى الله، قال الله تعالى: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة:27]، قال العلماء بالله العارفون وجميع مشايخ الصوفية والعلماء أجمعون: الأصل المذكور -المعبّر عنه بالتقوى- هو الأصل الذي لا ينهدم عليه البناء على تعاقب الدهور، إذ هو أصل الدين الذي صاحبه لا يزال يرتع في رياض  السرور والنعيم، ويرتقي في مراقي الشرف، في عالم الجلالة".

 لا إله إلا الله.. هذه وصية الله للأولين والآخرين، (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131]، وهي: من أعظم ما يتواصى به الصالحون والمحبوبون على مدى القرون، يتواصون بتقوى الله تعالى، وهي جامعة لجميع الخيرات، ومعناها: اتّقاء سخطه وغضبه بحُسن امتثال أوامره، واجتناب نواهيه؛ محبةً وتعظيمًا وإخلاصًا لوجهه الكريم. 

فـ "اعلم أن تقوى الله"، التي ذُكرت في القرآن، في أكثر من سبعين موضعًا، عظّم الله شأنها وشأن أربابها، وجعل خيرات الدنيا والآخرة لأهلها، فمن المعتقد اليقيني عند المؤمنين:

  •  أن خير الدنيا والآخرة في تقوى الله وطاعته.
  •  وأن شر الدنيا والآخرة في معصية الله ومخالفته.

 مُعتقد يقيني لا ريب فيه، يجب أن نجزم به، وأن نعمل على مقتضاه؛ خير الدنيا والآخرة في تقوى الله وطاعته، وشرّ الدنيا والآخرة في معصية الله ومخالفته.

الخير بما هو حقيقة خير بكل معنى، وبكل اعتبار، حقيقة كل خير في تقوى الله وطاعته، من دون التقوى والطاعة لا خير، من دون التقوى والطاعة: لا خير في مال، لا خير في علم، لا خير في جاه، لا خير في سلطة، لا خير في مظهر، لا خير في صحة وعافية… لا خير في أي شيء من دون التقوى؛ دون التقوى ما هناك خير، خير الدنيا في تقوى الله وطاعته، وشر الدنيا والآخرة في معصية الله ومخالفته، نعوذ بالله من غضب الله، ومن سخط الله، ومُوجبات ذلك.

يقول: "اعلم أن تقوى الله، هو الذي عليه مدار السعادات، والذي لا يصلح البناء إلا عليه"، يقول سيدنا علي:  فإنه لا يهيج على التقوى زرع قوم؛ لا يهيج يعني: لا يهلك، لا يهلك على التقوى زرع قوم؛ زرع قام على التقوى ما يهيج، "والذي لا يصلح البناء إلا عليه في جميع العبادات".

"وكل السعادات محلها العاقبة"، ما تكون سعادة حقيقية إلا إذا عاقبتها حسنة، (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)، إذًا، فالسعادة مع المتقين، السعادات كلها مع المتقين. وذلك أن الله -جلّ جلاله- يُوتي المُلك الظاهر في الدنيا من يشاء، وقد يكون الذي يُؤتاه سعيدًا أو شقيًا، مؤمنًا أو كافرًا، صالحًا أو فاسدًا، ولكن ليست العاقبة لجميعهم، قال سيدنا موسى لقومه: (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ) [الأعراف:128]، لكن ليس كلهم لهم العاقبة، ليس كل من أورثه المُلك في الأرض له عاقبة، (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) فقط وحدهم، من كان مُتقيًا منهم أفلح، والعاقبة عنده حسنة، ومن لم يكن مُتقي.. فمُلكه يبيد ولا يستفيد منه، بل يؤول إلى الحسرات والندامات والعذاب. 

(إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)؛ ذا وذا، لكن العاقبة ليست لكلّهم، ليس كل من تملك له عاقبة، العاقبة للمتقين فقط وحدهم، (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ). 

قال: "والأصل الذي يصلح عليه بناء العمل حتى يتم، ويُقبل هو: تقوى الله، قال الله تعالى: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)". 

وفي هذا كان يقول الإمام عمر المحضار بن سيدنا عبد الرحمن السقاف: لو علمت أن الله تقبّل منّي تسبيحة واحدة، لضيّفت أهل البلد ثمانية أيام على  البُرّ واللحم، شكرًا لله على قبول التسبيحة!؛ لأنه يعلم أنه لا يقبل التسبيح إلا من مُتّقي، فإذا هو مُتّقي فالخيرات كلها له، والتسبيحة هذه الواحدة المقبولة يضاعفها إلى ما لا نهاية جلّ جلاله، فلهذا قال: لو علمت أن الله قَبِل منّي تسبيحة واحدة، لضيّفت أهل تريم على البُرّ واللحم ثمانية أيام، شكرًا لله تعالى.

 

بسرِّ الفاتحة 

إلى حضرة النّبيّ محمّد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

15 صفَر 1446

تاريخ النشر الميلادي

19 أغسطس 2024

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام