الكبريت الأحمر - 13 | حقيقة علم التوحيد المبني على التفريد
الدرس الثالث عشر للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الكبريت الأحمر و الأكسير الأكبر في معرفة أسرار السلوك إلى ملك الملوك ، للإمام الحبيب عبد الله بن أبي بكر العيدروس . ضمن دروس الدورة الصيفية الأولى بمعهد الرحمة بالأردن.
فجر الأربعاء 24 صفر 1446 هـ
نص الدرس المكتوب:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد، نويت التذكر والتذكير والنفع والانتفاع، والإفادة والإستفادة، والحث على التمسك بكتاب الله وسنة رسوله والدعاء إلى الهدى والدلالة على الخير، ابتغاء وجه الله ومرضاته وقربه وثوابه سبحانه وتعالى.
من كتاب الكبريت الأحمر والإكسير الأكبر،للإمام القطب عبد الله بن أبي بكر العيدروس، نفعنا الله به و بعلومه وعلومكم في الدارين:
فصلٌ
فِي حَقِيقَةِ عِلْمِ التَّوْحِيدِ المَبْنِي عَلَى التَّفْرِيْدِ، بَعَدَ أَدَاءِ حَقَّ التَّجْرِيْدِ
وهو أن يفردك الحقُّ عنك بفردانيته؛ عند استيلاء سلطان الذكر؛ حينَ يخرج من قشور الحروف والصوت؛ فيفنى بسطوة نفيه وجودُ الذاكر، ويُبقيه بسلطنة إثباته ببقاء المذكور.
فينوب المذكور عن الذاكر، بدوام الذكر، على مقتضى قوله تعالى:
(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة:152]؛ فيصير حينئذ الذاكر مذكورًا، والمذكورُ ذاكرًا، ويتبدل الأينُ بالعين والمباينة بالمعاينة، والاثنينية بالوحدانية، ويفنى عن نفسه، وعن غيره بالكلية، في عين جمع الجمعية، مشاهِدًا لذاتِ الحقيقية، الصمدية، المنزهة عن الجسمية الكثيفة واللطيفية، وتوابعها ولوازمها بالكلية ولا يرى إلا الواحد الحقُّ، أوَّلاً وآخرًا، ظاهرًا وباطنًا، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[الشورى:11].
هذا توحيد خواص الخواص."
رضى الله عنهم، ونفعنا بهم وأعاد علينا بركاتهم، وسلك بنا مسالكهم إنه أكرم الأكرمين.
الحمد لله الذي يهيئ من سبقت له السعادة إلى مراتب قُربه -سبحانه وتعالى- وما يُفِيضَهُ من حقائقِ التفريد، ويُوَفِّق له من التجريد ليصل بذلك إلى حقيقة التوحيد، فيدخل في خيار العبيد من أهل التمكين والإرادة بالفضل مع كلِّ سعيد، له الحمد والمِنة لا إله إلا هو وحده لا شريك له، أرسل إلينا عبده الهادي إليه، والدال عليه، صفيّه المختار محمد بن عبد الله، بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وختم به النبيين، وجعله سيد المرسلين.
اللهم أدِم صلواتك على عبدك المحبوب الأمين، سيدنا محمد وعلى آله وأهل بيته وصحابته الأكرمين، وعلى من والآهم فيك واتبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقربين، وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعدُ،
فيذكر لنا الشيخ -عليه رحمة الله- في هذا الفصل الإشارة إلى حقيقة من علم التوحيد الخاص للخواص، وذلك فضل الله بالتعيين والاختصاص لأهل الصدق وأهل الإخلاص، يقول: يبتني هذا العلم الشريف الرفيع الكريم "عَلَى التَّفْرِيْدِ": وهو إفراد الحق -تبارك وتعالى- بالقصدِ، وإفراده سبحانه وتعالى بالألوهِيَّةِ والربوبية، وإفراده سبحانه وتعالى بالوجهة إليه، إفراده سبحانه وتعالى بالإقبال الكلي عليه، فإذا كان ذلك الإفراد بعد أن يقوم حق التجريد، بتجرّد العبد عن مراداته الأخرى وعن شهواته، وعن أهوائه وعن مقتضيات طبعه، وعن جميع الدواعي الكونية، وجميع القواطع السفلية، إذا تجرد عن كلِّ ذلك، أقام حق التفريد للمَلِكِ المجيد الحميد، المُبْدِئِ المُعيد، الفعَّال لما يريد؛ فإذا قام بحق التفريد، أمدّه الواحد بحقائق التوحيد.
قال: وهو "أن يفردك الحقُّ عنك بفردانيته" فهو الفرد الواحد فتكون واحدًا لواحد،
- ليس لك مقصود سواه
- ولا مراد غيره
فيتجلى عليك -جل جلاله- بفردانيته فيفردك عنك؛ أي: يأخذك عنك، حتى لا تبقى لك بقية من منازعةِ شهود الوجود مع واجب الوجود، واجب الوجود الحق -جل جلاله- فيُفْرِدك عنك بفردانيته "عند استيلاء سلطان الذكر" عليك حتى تخرج بهذا السلطنة للذكر عن " قشور الحروف والصوت" فيبقى ذكر القلب وترتقي، فيبقى ذكر الروح وترتقي، فيبقى ذكر الذات، فتفنى "بسطوة نفيه" ويفنى وجودك؛ أي: شهود منازعة منك في وجود الحق، فتعلم أن كل شيء ما سوى الله باطل.
ألا كل شئ ما سوى الله باطلُ *** …………………………….
فحينئذٍ تفنى عن نفسك فلا تشعر إلا بوجوده، ولا يكون لشيء معنى وجودك عند وجوده -جل جلاله- إذا تجلى لك بوجوده، فكما يتلاشى نور الشمعة إذا أشرق نور سراجٍ كبير، وكذلك وجودك إذا أشرق الحق على باطنك، ومشاهدة قلبك وروحك وسرك نور وجوده، لم يبقَ لمعنى وجودك شيءٌ يُحسُّ ولا يُلتفت إليه، ولا يُعَوَّل عليه، ويأخذك سلطان وجوده عن وجودك، فتبقى "بسلطنة إثباته ببقاء المذكور"، "فيفنى بسطوة نفيه" لا إله إلا الله، لا إله "وجودُ الذاكر، ويُبقيه بسلطنة إثباته" إلا الله "ببقاء المذكور" جل جلاله وتعالى في علاه.
حينئذٍ تكون قد خمدت جميع حواسك، وصار يجري الذكر عليك بذاتك وفي جميع ذاتك لذاته سبحانه وتعالى، بالإفضال المُحْضِ من عنده، أوجه الاكتساب لك اضمحلت، فلم يبقى عندك اكتسابٌ لشيءٍ من حقيقة هذا الذكر، ولكن تَفَضَّل المذكور عليك، وصِبغتهُ إياك بصبغة الحضور معه والشهود لجلاله، فحينئذٍ لا تبقى منك بقية أمام هيبة هذه الذات القدسية العلية، حينئذ فمن الذاكر إذًا؟ جميع أوجه الاكتساب اضمحلت، من الذاكر؟ هو الذي مكّنك من الذكر، وثبّتك حتى أخذك عنك، فهو الذاكر في الحقيقة.
وما كان لك ذلك، أو ما تجلى عليك بذلك، إلا بعد أن وفقك لذكره -سبحانه وتعالى- ولكن تلاشى جميع معاني قيامك بالذكر، في قوله "(فَاذْكُرُونِي)" في حقائق تفضلاته بقوله: "(أَذْكُرْكُمْ)"، فينوب المذكور عن الذاكر؛ لأنه قد غاب قد غاب عن حسه، وغاب عن سعيه، وغاب عن كسبه، وغاب عن قوّته، وغاب عن ما أوتي من قدرة، فإذا الذي أكرمه سبحانه وتعالى، ووهبه كلَّ ذلك، فغيّبه عنه ينوب عنه بقدرته وبفضله وبِمِنَتِه، فيجعل ذلك العبد ذاكرًا بذكره سبحانه وتعالى.
وإذا بالعبد مُضْمَحِل و مُتَلاشي، وإذا بالذاكر هو والمذكور هو جلّ جلاله وتعالى في علاه، فاضمحلت شؤون العبدية في عجائب معاني العندية، "فينوب المذكور عن الذاكر، بدوام الذكر، على مقتضى قوله تعالى: "(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة:152]، فيصير حينئذ الذاكر" العبد "مذكورًا" من قبل الحق -تبارك وتعالى- بذكرٍ شريفٍ جميلٍ غيّبه عنه، وعن جميع الكائنات والموجودات، ويصير "المذكورُ " الإله الحق جل جلاله القدوس الذي "(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)[الشورى:11]"، ذاكرًا لهذا العبد بهذا التفضّل الخاص، وبهذا التعيين والاختصاص.
- و"يتبدل الأينُ" أين "بالعين"، فما يُطلب مع العين "أين"؟
- وتتبدل "المباينة"، وهي القطيعة "بالمعاينة"، ومن عاينَ لم يبقَ بينه وبين المعاين بَيْن؛ أي: انقطاع.
- وتتبدل "الاثنينية"، بأن كان يشهد نفسه في هذا الوجود، فيضمحل ذلك الشهود لنفسه بإشراق نور الواجب الوجود، فتتبدل الإثنينية "بالوحدانية" فتوحيده لله -تبارك وتعالى- أنهى عنده شهوده لنفسه، وشهود وجود نفسه، فلم يبقَ الموجود إلا واحد، ولم يبقَ المقصود إلا واحد، كما أن المعبود واحد جل جلاله.
قال: "ويفنى عن نفسه، وعن غيره بالكلية"، فناء ذوقٍ وتحققٍ فوق تصور المتصورين، و دعوى المدّعين "في عين جمع الجمعية"، وقد تقدّم عندنا معاني الجمع وجمع الجمع.
والفرق الثاني: "مشاهِدًا لذاتِ الحقيقية الصمدية، المنزهة عن الجسمية الكثيفة واللطيفية، وتوابع -الجسمية- ولوازمها بالكلية -إذ- (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى:11]" مشاهدة فناءٍ وانطواء، لا جزئية ولا جسمية، ولا بعضية، ولا شيء من هذه المستحيلات. "لا يرى إلا الواحد الحقُّ -جل جلاله- أوَّلاً وآخرًا، ظاهرًا وباطنًا" تحت حقيقةِ إثبات: (هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[الحديد:3]، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى:11] جلّ جلاله وتعالى في علاه.
قال: "هذا توحيد خواصّ الخواص" عليهم رِضْوَانُ الله تبارك وتعالى "توحيد خواصّ الخواص" وهذا الذي لا يشمون منه شمة، ولا يعرفون منه نسمة، المُتَشَدِّقُونَ باسم التوحيد، ممن يُكَفِّرُونَ خلق الله تعالى، وينسبون الأتقياء الموحدين إلى الشرك، وهم من أبعد الناس عن حقيقة التوحيد -والعياذ بالله تعالى- ولم يشهدوا من هذا التوحيد المُشار إليه قول سيدنا الإمام الحداد:
اللَه لا تشهد سواه ولا ترى *** إلاه في ملكٍ وفي ملكوتِ
- في ملكٍ؛ أي: في الحسِ والشهادة
- وفي ملكوت؛ أي: في الغيب والمعنى، لا تشهد إلاه في ملكٍ وفي ملكوتِ
اللَه لا تشهد سواه ولا ترى *** إلاه في ملكٍ وفي ملكوتِ
سبحانه سبحانه من ماجد *** متفردٍ بالعز والجبروت
القَهْرِ لِكُلِّ ما سواه فالكل مقهور، وهو الواحد القهَّار -جل جلاله-
من قيّداه قصوره وكلاله *** عن أن يراه فَسِمْهُ بالمبتوت
- من قيّداه قصوره؛ في الفهم، والوعي، والإدراك، والشهود.
- وكلاله؛ عن أن يتمكن بالشهود.
- عن أن يراه؛ فيعبده كأنه يراه، من تقيد بالقصور والكلال عن ذلك:
- فَسِمْهُ -وأعرفه- بالمبتوت؛ أي بالمقطوع؛ هذا المقطوع، هذا المنفصل هذا المحجوب، الذي تقيّد بقصوره وكلاله عن هذه الرؤية، وعن هذا الشهود، وعن هذا الإدراك.
فاحذر من الانقطاع، ولكن أقبل بالصدق سافر إليه، فارً إليه به، مُمْتَثِلاً لما أوحى إلى نبيه: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)[الذاريات:50].فتَعَلَّمْ الفرار إلى الله، فهذا السفر المحمود المطلوب، السفر الذي يُخْرِجُكَ من قفصِ وحبسِ عاداتك وقُصُورَك، وانحجابك في هذا الكون.
قال:
سافر إليه بهمةٍ علويةٍ *** ………………………….
(فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ*وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)[الذاريات:50]
سافر إليه بهمة عُلْوِية *** ……………
فلا تصلح هذه الأحوال إلا لأرباب الهمم والعزائم.
سافر إليه بهمة عُلْوِية *** حتى تراه وقل لنفسك موتي
حتى تراه؛ تَشْهَدُهُ بعين قلبك مشاهدة.
وقل لنفسك موتي؛ فلا تبقى منكِ بقية أمام هذه العطية والمنحة السنَّية، والتفضلات العلية.
وأقبل إليه بكل قلبك..*** …………………………..
بكلِّ قلبك، وقلبك ذو عوالم وذو أودية، وإن في الفؤاد لألف واد، فبالكل أقبل عليه وحده، ولا تبقي في وادٍ من أودية قلبك غيره قط.
وأقبل إليه بكل قلبك قاصداً *** محو الظِّلال أُشير للناسوت
أن تمحو شهود الظلال، وما الظلال؟ قال: أُشير للناسوت؛ عالم الخلق عالم الصور، عالم الكائنات والأجسام هو الناسوت، فبهذا الشهود للحق ذي الجبروت، يضْمَحُل هذا الناسوت في شهودك، وفي إحساسك.
وأقبل إليه بكل قلبك قاصداً***محو الظلال أشير للناسوت
بماذا يَنمحِى هذا الظلال في شهودك؟
بالشمس شمس الذات….*** ……………………..
إذا أشرقت لك معرفة الذات، بعد أن تُستغرق في أنوار معرفة الأفعال والأسماء والصفات، فإذا أشرقت شمس الذات، اضمحل هذا الظلال، ولم يبق لظلال عالم الناسوت وهو العالم الخلقي عالم الكائنات، وعالم الصور والأجسام، لم يبقَ له وجود، قد اضمحل له بإشراق شمس الذات.
بالشمس شمس الذات حتى لا ترى *** شيئًا سوى متقدس اللاهوت
اللاهوت؛ شؤون الألوهية، الساري سرُّهَا في كلِّ ذرة من ذرات الوجود العلوي والسفلي، فكلها مألوهَة وهو الإله وحده جل جلاله وتعالى في علاه.
…………… حتى لا ترى *** شيئًا سوى متقدّس اللاهوت
ترى عظمة الإله في يدك ورجلك، وكل ذرة من ذرات الكون، لا تشاهدها بمستقلّة، ولا تشاهدها بذاتيّة الوجود، ولا تشاهد فيها إلا متقدّس أنوارِ لاهُوتِهِ -سبحانه وتعالى-
وَفي كُلِّ شيءٍ لَهُ آيَةٌ *** تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ الواحِدُ
وأشهد جمالاً أشرقت أنواره *** في كل شيء ظاهراً لا خافي
فجمال الأُلُوهِيَّةِ مكسو به كل ذرة من ذرات الوجود والكون.
فإذا انتهيتَ إلى الذي عرّفته *** شاهدتَ من عرشٍ إلى بهموت
- والعرش: المُنْتَهَى في العلو
- والبهموت: عوالم البهائم، والحوت الذي في أسفل البحار، وفي أسفل الأرض.
………………… *** شاهدتَ من عرشٍ إلى بهموت
مشاهدة سريرة وبصيرة.
ورأيت سراً لم يُجِزْ إفشاءه *** أهلُ الهدى والكشفِ والتثبيتِ
إنا لنعلمُه ولم نَحْظَ به *** ذوقًا لما معنا من التشتيت
والشوق منا لا يزال منازِعًا *** والأمر بالتقدير والتوقيت
يا ليتني قد غبتُ عن هذا الورى *** ودُعيتُ بالمستغرق المبهوتِ
ماذا عليَّ من الأنام وقولهِم *** إن أُدعَ بالمحبوب أو الممقوت
ماذا يعملون؟ لا يقدمون ولا يؤخرون، ولا يرفعون ولا يخفضون، ولا ينفعون ولا يضرّون، فما معنى التعلق بهم؟ وما معنى الشهود لهم؟ ما هذا إلا إساءة أدب مع هذا الإله الرب.
ماذا عليَّ من الأنام وقولهِم *** إن أُدعَ بالمحبوب أو الممقوت
حسبي إلهي والذي يختاره *** اللَه أكبر غارَ بحرُ الحوت
ولا عاد يبقى للحوت وجود إذا غار بحره بل يموت، وكذلك قل لنفسك: موتي.
الله يُميت فينا جميع صفات الانقطاع والسوء والشر، والغفلة والظلمة، حتى نبقى بنوره المتلالي المُتعالي. (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[النور:35].
وأين يُتحصل على هذا النور ويُتصل به؟ (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) بماذا تميزت بجدران أم بفرش، أم بكراسي أم بكهرباء، أم بميكروفونات أم بسُرُج؟ لا،لا… تميزت بـ (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ) فبهم كانت المساجد مساجد، وبهم زانت المساجد (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) ما وصفهم؟ قال: (يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[النور:36-38] سبحانه وتعالى.
فَصْل
فِي مَعْرِفَةِ أَهْلِ المُشَاهَدَةِ الخُصُوْصِيَّةِ
"وحقيقة العارف سائر طائرُ، ثم السير يتبدل بالطير؛ فالسير يكون في مقامات النفس المطمئنة، والطير يكون في مقامات الروحانية العلوية السرية.
ثم يتبدل الطير بالجذبات؛ فالجذبة تبعده عن أنانيته، وتقربه إلى هويتهُ،
إلى أن تورث الجذبةُ المشاهدة؛ فالمشاهدة أحضرته معه وغيَّبَتْهُ عنه، إلى أن تثمر المشاهدة المعاينة، فالمعاينة تجمعه به، وتفرقه عنه، إلى أن ظهر بالعِيان؛ فالعِيانُ يَسْحَقُهُ، والعينُ تَمحَقُهُ، ثم يحققه الحق، ويُزهقُ باطله؛ فيكاشف بأنوار غيب الغيب؛ فيطالع أسرار ربوبية المُلك والملكوت، ويله حيران في تيه العظموت والجبروت؛ حتى تتجلى له شمس الربوبية عن سماء العبودية، فأشرقت أرض البشرية بنور ربها، وترقى المقام إلى تلألى أنوار الألوهية ،المستفادة من سِرِّ (اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرضِ) [النور:35]. ثم هبت نفحات ألطاف الربوبية، وانفتح في عين الشمس بابُ الهوية، وانغمس فيه المنغمس، ثم لا تسأل شعرا:
قَدْ كَانَ مَا كَانَ سِرًّا، لَا أَبَوْحُ بِهِ ** فَظُنَّ خَيْرًا وَلَا تَسْأَلْ عَنِ الخَبَرِ
فاستضاءت الأفاقُ الجَسْدَانية.. بضوء الشريعة، وظهرت المشكاة النفسانية.. بلوامع الطريقة، وتنورت الزجاجة القلبية.. بأنوار حقيقة الروحانية، وأشرق المصباح الروحاني.. بنار نور الألوهية، وبدت شجرة الوحدانية، ونودي موسى؛ السرُّ مِنَ الشَّجَرَةِ (أَن يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [القصص:30].
فانمحت الجهات، وتلاشت الصُّور، وانطمست الأبعاض، وانعدمت الأجزاء، وسطت عِزةُ الوحدانية، وتجلى نور الصمدانية الربانية، فتدكدك جبل الإنسانية (وَخَرَّ مُوسَى) الروحانية (صعقا) [الأعراف:143]؛ فاحترقت الغيرية بنار الغيرة، وارتفعت الشركة، وبقيت الوحدة متعزّزة برداء الكبرياء والعزة، مُتَزِرَةٌ بإزار العُلاء والعظمة، وحده لا شريك له (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكُ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْه ِ تُرْجَعُونَ) [القصص:88].
هذا أوانُ (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) [الأنفال:17]،
وهذا وقت (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى) [ النجم :3].
وهو سِرُّ: "كُنْتُ لَهُ سَمْعًا ، وَبَصَرًا، وَلِسَانًا، فِبِي يَسْمَعُ، وَبِي يُبْصِرُ، وَبِي يَنْطُقُ"، ولعمري إن هذا حال من كوشف بأسرار: "كُنتُ كَنْزًا مَحْفِيَّا".
فلما كُشِفَ الغطاء، وذهب الجفاء، ورفع الخباء، وطويت الأرض والسماء.. ظهر الخفاء، ودام اللقاء فـ (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) [النجم:11]، ولا القلبُ ما روى؛ فرعى في رياض المعرفة، وشَرِب من حياض المحبة، وسُقي بكأس الجمال شراب الجلال؛ من بحر الوصال؛ فاستراح من ضروب القيل والقال، وكثرة السؤال، وتغير الأحوال؛ إذ تجافى عن المُحَاطِ المطلق المحيط به، والغيب المُحاط المحيط به غيبُ المحيط المطلق؛ فتحقق له حقيقة (أَلَا إِنَّهُ بِكُلّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ) [فصلت:54].
شعر:
أَبَانَ الْحَقُّ لَيْسَ بِهِ خَفَاءُ *** وَبَاحُ السِّرُّ وَانْكَشَفَ الغِطَاءُ
فَنَفْسِي زَايَلَتْ وَالرُّوحُ بَادَتْ *** فَلَمْ يَبْقَ التَّكَدُّرُ وَالصَّفَاءُ
بقاءُ الحَقِّ أَفْنَانَا وَأَفْنَى *** بَقَاءَ فَنَائنَا ذَاكَ الفَنَاءُ
تَجَلَّتْ سَطْوَةُ الجَبَرُوْتِ حَتَّى *** فُنيْنَا ثُمَّ قَدْ فَنِيَ الفَنَاءُ
هذا مقام المعرفة بالمشاهدة الحقيقية، التي يُعرف فيه الرب بالرب؛ كما قال ﷺ: "عَرَفْتُ رَبِّي بِرَبِّي، وَلَوْلَا فَضْلُ رَبِّي مَا عَرَفْتُ ربي"، رزقنا الله، وإياكم.. كمالية الإيمان بهذا المقام، وثبت أقدامنا على الصراط المستقيم يوم تَزِلُّ الأقدام."
قال: "في معرفة أهل المشاهدة الخصوصية" الذين شهدت أسرارهم بعد أن صَفَت أرواحهم، وطهُرت قلوبهم وامتلأت بنور المعرفة، ثم امتلأت أرواحهم بأنوار المحبة، فتولّعوا وتولّهوا بالذكر ففنُوا في المذكور، عن ذكرهم وعن ذواتهم وعن نفوسهم وعن الكائنات كلها، فما مجالي مشاهدتهم هذه الخاصة؟
قال: "حقيقة العارف سائر" يسير إلى ربه، بصدق الوجهة، في تبعية مطلقة للإمام القدوة خير أسوة خاتم النبوّة ﷺ، وبهذا السير يتهيأ للطير، "ثم السير يتبدل بالطير"، فهو سائر طائر، سائر في الأول، طائر في الأخير، "فالسير يكون في مقامات النفس المطمئنة"؛ تسير الى الله -تبارك وتعالى- فهذه بدايات السفر، الذي قيل فيه:
سافر إليه بهمةٍ علوية *** حتى تراه وقل لنفسك موتي
"والطير يكون في مقامات الروحانية"، بعد أن ترتفع النفس فوق المطمئنة إلى الراضية المرضية، فترد موارد الكمال الإنساني فيتحول روحها إلى طائر يطير في مقامات الروحانية "العلوية"؛ أي: الرافعة، رافعة القدر رافعة المكانة رافعة الشأن السرية المتعلقة بهذا السر الذي وهبه الله للإنسان.
قال: "ثم يتبدل الطير" من هذه الروح وذلك السر إلى الجذبات، "بالجذبات"، ولا يصل إلى الحق من لم يجذبه إليه، ولو جدّ ما جدّ واجتهد ما اجتهد، وكابد المكابدات وعمل جميع الرياضات، إذا لم تنله جذبةٌ من الحق فلن يصل، حتى يوصله اليه بجذبته إليه. "فالجذبة تبعده عن انانيته" وتبعد أنا كلها، أنا الإبليسية، وأنا خير منه، ويبقى الهوية "هو"، فما يبقى "أنا"، ولكن "هو" جلّ جلاله، هكذا قال: "تبعده عن أنانيته وتقربه إلى هويّته"، فيشهده جلّ جلاله ويفنى عن نفسه وما سواه.
"إلى أن تورث الجذبة المشاهدة فالمشاهدة أحضرته معه -تعالى-، وغيبته عنه"؛عن نفسه، وعن ذاته، وعن شأنه البشري الخَلقي المضمحلّ في ظهور نور الخالق، "إلى أن تثمر المشاهدة المعاينة، فالمعاينة تجمعه به، وتفرقه عنه"، عن نفسه، تجمعه بالرب وتفرقه عن نفسه، "إلى أن ظهر بالعِيان؛ فالعيان يسحقه"، فلا تبقى فيه ذرة من بقيةٍ لنفسه، "والعين تمحقه"، فلا يبقى فيه شيء من نفسه لنفسه، "ثم يحققه الحق ويُزهَق باطله"، (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) [الإسراء:81]. "فيكاشَف بأنوار غيب الغيب فيُطالع أسرار ربوبية المُلك والملكوت"؛ فهو رب الملك ورب الملكوت (وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) [الأنعام:75].
"ويله"؛ بمعنى يَتَوَلَّهُ، يَتَوَلَّهُ فيمتلئ بالوَلَهِ، "حيران في تيه العظموت"؛ وهو مجال ظهور العظمة الربانية، فَتَحَارُ فِيهَا العقول، وتَتِيهُ، فيتولّه حيرانًا ملآن "بالوَلَهِ بتيه العَظَمُوتِ، والجبروت" والجبروت: مظاهر قهره لمن سواه سبحانه وتعالى. "حتى تتجلّى له شمس الربوبية عن سماء العُبُودِيَّةِ" قال: "فأشرقت أرض البشرية بنور ربها"، (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ) [الزمر:69]، وحَضَرْت إلى ذاته أنوارهم ودلالاتهم على الحق -جل جلاله-، (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ)، فَلَمْ يبقَ إِلَّا الْحَقُّ، وفني الخلق، "وترقّى المقام إلى تَلَألُي أنوار الأوهِيَّة" من كلِّ جانب، "المستفادة من سِرِّ (اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرضِ) [النور:35]"
والله لولا الله ما اهتدينا *** ولا تصدّقنا ولا صلّينا
"ثم هبّت نفحات ألطاف الربوبية، وانفتحت في عين الشمس باب الهوية" الحقيقة المطلقة، "وانغمس فيه المنغمس"، بعد ذلك قال: "لا تسأل"، ما عندنا تعبير، ولا ممكن ذكر هذا بأيِّ لسان.
قَدْ كَانَ مَا كَانَ سِرًّا، لَا أَبَوْحُ بِهِ ** فَظُنَّ خَيْرًا وَلَا تَسْأَلْ عَنِ الخَبَرِ
لا تقْنعنَّ بِدُونِ الْعَيْنِ منزلةً *** فالخبْ من يكتفي بالظِّلِّ والأثر
فإنها شؤون لا يُقْنَعُ فِيهَا بالكلام، ولا يوصل الكلام فيها إلى غاية المرام، ولكن شمّر، وجِدْ وسافر إِلَيْهِ، حتى تَذُوق وتُدْرِك ما سبق لك في الأزل من القِسْمِ من هذا الخير.
"فاستضاءت الآفاق الجسدَانِيَّةُ بضوء الشريعة"؛ فكلُّ أعضائه تنورت بنور الشرع المصون، ودلالة الأمين المأمون. "وظهرت المشكاة النَّفْسَانِيَّةُ بِلَوَامِعِ الطريقة"، فآفاق الجسد تنوّرت بنور الشريعة، فصارت في مشكاة النفس (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ) [النور:35]، مشكاة النفس التي تلمع بِلَوَامِعِ الطريقة، فتنورت الزجاجة القلبية (الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ) زجاجة القلب، فهذا الجسد يتنوّر بنور الشرع، فيظهر في مشكاة النفس، فالنفس لامعة بِلَوَامِعِ الطريقة، فيظهر فيها الزجاجة، المشكاة في زجاجة، الزجاجة هو القلب، "تنورت الزجاجة القلبية بأنوار حقيقة الروحانية، وأشرق المصباح الروحاني بنار نور الأُلُوهِيَّةِ. وبدت شجرة الوحدانية، ونودي مُوسَى" ما هو موسى هنا؟ "السرُّ مِنَ الشَّجَرَةِ (أَن يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [القصص:30]، فانمحت الجهات، وتلاشت الصور، وانطمست الأبعاض، وانعدمت الأجزاء" فلا جهة، ولا صورة، ولا بعض، ولا جزء، "وسَطَت عِزَّةُ الوَحْدَانِيَّةِ"، واحدٌ أحد،
وتجلى نورُ الصَّمَدَانِيَّةِ الصمدانية، فَتَدَكْدَكَ جبل الإنسانية"، (فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) [الأعراف:143]، فلم يبقَ له في الشهود وجود، (وَخَرَّ مُوسَىٰ) الروحانية (صَعِقًا ۚ)، "فاحترقت الغيرية بنار الغيرة"؛ لأنه لا شيء غيره، ولا شيء معه.
"وارتفعت الشركة، وبقيت الوحدة"، واحدٌ أحد، وفيها كان سيدنا بلال -بروحه الصافي- يتقلّب وهو يُضْرب على أيدي القُساة المُعَذِّبِين من المشركين في مكة المكرمة، وإذا وَضَعُوا عليه الحجارة المحماة وضربوه وطلبوا منه أن يُنْكِرَ الحق، ويُنْكِرَ محمد، نادى: أحدٌ أحد، أحدٌ أحد، أحدٌ أحد، حتى سُئِلَ بعد ذلك في الشدة التي نَازَلَتْهُ من هذا التعذيب: أما كنت تشعر بألم العذاب؟ قال: خلطته، خلطت هذا العذاب بِحَلَاوَةِ الإيمان، فزادت حلاوة الإيمان على ألم العذاب، فهو ينادي: أحدٌ أحد، أحدٌ أحد.
"وبقيت الوحدة متعزّزة برداء الكبرياء والعزة"، يقول تعالى: "الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي"، "متزّرة بإزار العلاء والعظمة"، "فمن نازعني واحدًا منهما قصمته"، "وحده لا شريك له"، هو المتكبر العزيز الجبار العظيم، "(كلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ۚ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص:88].
"هذا أوانُ" إدراك مقام "(وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ ۚ) [الأنفال:17]، وهذا وقت ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ) [ النجم:3]. وهو سِرُّ: "كُنْتُ لَهُ سَمْعًا، وَبَصَرًا، وَلِسَانًا، فِبِي يَسْمَعُ، وَبِي يُبْصِرُ، وَبِي يَنْطُقُ"، ولعمري إن هذا حال من كوشف بأسرار" ما يذكر العارفون أن الحق قال: "كنت كنزًا مخفيًا"، فأحببت أن أعرف فخلقت العباد فبي عرفوني.
"فلما كُشِفَ الغطاء، وذهب الجفاء، ورفع الخباء، وطويت الأرض والسماء"، (وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ) [ الزمر:67]، ولكن أرباب المعارف من قبل هذا الطيّ العام للكل قد طُويت في شهودهم وهم في الدنيا، وقد نُسفت جميع جبال القواطع والحجب، (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا) [طه:105]. "فلما كُشِفَ الغطاء، وذهب الجفاء، ورفع الخباء، وطويت الأرض والسماء.. ظهر الخفاء، ودام اللقاء فـ (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) [النجم:١١]، ولا القلبُ ما روى؛ فرعى في رياض المعرفة، وشَرِب حياض من المحبة، وسُقي بكأس الجمال شراب الجلال؛ من بحر الوصال".
أهل اليقين، لعينه ولحقّه *** وصلوا، وثَمّ جواهر الأصداف
راح اليقين اعزّ مشروب لنا ** فاشرب وطِب واسكر بخير سُلافِ
هذا شراب القوم سادتنا وقد *** أخطأ الطريقة من يقل بخلافِ
"فاستراح من ضروب القيل والقال، وكثرة السؤال، وتغيّر الأحوال؛ إذ تجافى عن المُحَاطِ المطلق" وهو جميع الكون والوجود "المحيط به" الحق سبحانه، "والغيب المُحاط المحيط به غيبُ المحيط المطلق"؛ والمحيط المطلق هو الله، "فتحقّق له حقيقة (أَلَا إِنَّهُ بِكُلّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ) [فصلت:54]"، فكل شيءٍ سواه مُحاط، وهو المحيط بكل شيء، جلّ جلاله.
أَبَانَ الْحَقُّ لَيْسَ بِهِ خَفَاءُ *** وَبَاحُ السِّرُّ وَانْكَشَفَ الغِطَاءُ
لهذا المخصوص.
فَنَفْسِي زَايَلَتْ وَالرُّوحُ بَادَتْ *** فَلَمْ يَبْقَ التَّكَدُّرُ وَالصَّفَاءُ
فالتكدر بالنفس فلم يبقَ للنفس وجود، ولا صفاء بالروح فقد بادت الروح، بتروّحها برَوح قدّوس سبوح.
بقاءُ الحَقِّ أَفْنَانَا وَأَفْنَى ** بَقَاءَ فَنَائنَا ذَاكَ الفَنَاءُ
تَجَلَّتْ سَطْوَةُ الجَبَرُوْتِ حَتَّى *** فُنيْنَا ثُمَّ قَدْ فَنِيَ الفَنَاءُ
فنينا عن شهودنا أننا فانين.
هذا مقام المعرفة بالمشاهدة الحقيقية، التي يُعرف فيه الرب بالرب؛ كما قال ﷺ: "عَرَفْتُ رَبِّي بِرَبِّي، وَلَوْلَا فَضْلُ رَبِّي مَا عَرَفْتُ ربي"،
فلولا تعرّفهم ما كنت تعرفهم *** ولا وصلت إلى شيءٍ من الرُتب
هم أهّلوك لهم حتى ولعت بهم *** وبلّغوك الذي ترجو من الأرب
"رزقنا الله، وإياكم.. كمالية الإيمان بهذا المقام، وثبّت أقدامنا على الصراط المستقيم يوم تَزِلُّ الأقدام." فإنه تزلّ في أقدام كثير حتى لا يجد المُغترّ بعقله ولا بفهمه إلا الإنكار، فيُنكر حقائق العطاء من الغفار، والجود المدرار الذي يجلّ عن جميع العقول والأفكار، فيقع -والعياذ بالله- في حبس الأغيار، فيبعد عن الحق، وبإنكاره يسقط في حُجُب البُعد والطرد.
ولمّا ظهر أثر الإنكار من الخبيث إبليس، وقال: (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) [الأعراف:12]، قيل له: (فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ) [ص:77-78]. فنعوذ بالله من الإنكار على أهل الله، وعلى أهل المعرفة بالله،
إذا كنت بالمدارك غِرّا *** ثم أبصرت حاذقًا لا تماري
وإذا لم تر الهلال فسلّم *** لأناس رأوه بالأبصار
الله يعيد عوائدهم علينا. آمنا بالله وبما منّ به على أنبيائه، وعلى ملائكته وعلى أوليائه، وما اختصّ به أصفيائه، آمنا بكل ذلك، وآمنا بما آتاهم وتفضل به عليهم، آمنا بما أكرمهم وأتحفهم، وآمنا بما منّ عليهم ولاطفهم، وآمنا به وبجميع أسمائه وصفاته، وبفضله العظيم.
فياربّ ثبّتنا على الحق والهدى *** وياربّ اقبضنا على خير ملة
وقراءة سورة يس فيها التّقرب إلى الرحمن ونيل المطالب، وفيها عدّة يعدّها العارفون بالله تعالى، لكشف كلّ بلية، ودفع كلّ أذية، يحبون قراءتها في كلّ يوم، وفي مثل يوم الأربعاء الأخير من شهر صفر يحبّون تلاوتها، ويتلون معها قوله تعالى: (سَلَامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ) [يس:58]، ويردّدونه 313 مرة. فنقرأ سورة يس أن الله يكشف الحجب عنّا، ويزيل الآفات منّا، ويتولّانا في الحسّ والمعنى، ويحمينا من شرّ هذا اليوم وما قبله وما بعده، ويحمي أهلينا، وأولادنا، وذرياتنا، وذوينا، ويحفظنا بما حفظ به الذكر الحكيم، وينصرنا بما نصر به المرسلين، في خير ولطف وجود وعطف ويقين وتمكين مكين، وما أحاط به علم ربّ العالمين من صالح النيّات لنا ولأهل الوجود أجمعين، وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
13 صفَر 1447