(535)
 (339)
 (364)
الدرس الثاني عشر للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الكبريت الأحمر و الأكسير الأكبر في معرفة أسرار السلوك إلى ملك الملوك ، للإمام الحبيب عبد الله بن أبي بكر العيدروس . ضمن دروس الدورة الصيفية الأولى بمعهد الرحمة بالأردن.
مساء الثلاثاء 23 صفر 1446 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
وبسندكم المتصل إلى الحبيب عبد الله بن أبي بكر العيدروس من كتابه الكبريت الأحمر والإكسير الأكبر رضي الله تعالى عنه وعنكم ونفعنا بعلومه وعلومكم وعلوم سائر الصالحين في الدارين آمين:
فصلٌ
في الوُصُوْلِ إِلَى رُوْحِ عَالَمِ الرُّوْحِ
إذا وصل الذاكر إلى روح عالم الروح.. برزَ له نعتُ القدم بتنصيص التخصيص، ومنشور التشريف، من باب إضافة (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى) [الحجر:29]، وهذه إضافة تفضيل القِدَمِ للحدث، وتبجيل القديم المحدثِ.
كاد هذا التخصيص، والتفضيل.. أن يمحو عن المُحْدَث صفةَ الحَدَث، وكاد هذا التشريف أن يصل القديم بالمحدث؛ فكاد بهذه الإضافة أن يتشبث القِدَم بالحَدَث؛ تنزه القدم عن الحدث، وتنزه القديم عن المحدَث، وجَلّت الأزلية عن الوصل، والفصل إضافتك إليه إضافة مَزِيَّة، لا إضافة جزئية، إضافتك إليه إضافة خصوصية، لا إضافة بعضِيَّة، إضافة قرب، لا إضافة نسبة، إضافة كرم، لا إضافة قدم، هو منزّة عن كلّ إضافة؛ وإن قال (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن روحى)
"فصلٌ
فِي التَنْزِيْهِ
ليس له "كل".. فيُقال له "بعض"، وليس له "جنس".. فيقال له "نوعٌ"، تنزه عن حقيقة "من"، و"إلى"، و "في"، و"على".
ليس له جنسية، ولا بعضية.. فيقال "من"، ولا محليّة.. فيُقال "في"، وليس له قرار.. فيُقال له "على"، فمقدّسٌ عن البداية، والنهاية، والظرفية، والمحلية، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى:11]. "
الحمد لله المقدّس المُنَزّه عن كل ما لا يليق بعظمته، وعن كل ما يخطر ببال أي مخلوق من العالمين، لا إله إلا هو، أرسل إلينا النور المبين الحبيب الأمين، عبده خاتم النبيين وسيد المرسلين محمد المصطفى بالصدق والحق والوفاء، فهو المبعوث بالهداية والحق والتحقيق والولاية، إنسان عين الكشف والعناية، وروح معنى جملة المظاهر.
اللهم صلّ وسلم وبارك وكرم على عبدك الذي جعلته سيد الأوائل والأواخر، وجمعت فيه الفضائل والمحاسن والمفاخر، وعلى آله وصحبه وأهل بيته الطاهر، وعلى من مشى على قدمه في الباطن والظاهر، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، سادات أهل البصائر والسرائر، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقربين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبعد،
فيذكر الشيخ -عليه رحمة الله تبارك وتعالى - أحوال أهل الوصول إلى روح عالم الروح، عند تخلّصهم من كثافات وظلماتِ ومَحابسِ عالم الجسم والبدن والصورة والظاهر والشهادة إلى عالم الروح، (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء:85]، كما تقدمت الإشارات، ويقول: أنه بذلك الذكر الذي يستغرق العبد؛ وإنما يستغرقه بعد كثرته على وصف الحضور مع الله؛ فالقيام بالذكر لله -تبارك وتعالى- على وصف:
إذا دام الذكر على هذا الحال، قلب حاضر وأدب وافر وإقبال صادق وتوجه خارق، إذا دام الذكر على هذا الحال:
وقد تقدّم معنا أنه يحتاج إلى أن: يُفني أفعاله بالشرع المصون، فلا يفعل إلا ما يحبّه الحق. ويفني كذلك صفاته، بفائض فضل الله عليه، والصفات الموهوبة للخلق في الكمالات والفضائل معدنها عبد الله: محمد بن عبد الله، فما كان من وصف فهو وصفه، وإنما توزعت بنسبٍ في المحبوبين والمقرّبين من الملائكة والنبيّين والعباد الصالحين فكلّ وصفٍ محمود مجموع في زين الوجود، أيّ وصف كان.
فمثلًا:
لذلك ساد الخلائق، وقال عند الشدائد: "أنا لها". وناداه الخالق: "قُل يسمع لقولك"، والعجيب أنه يتجلى عليه في الموقف الذي أحجم النبيون فيه عن الشفاعة وعن طلب الشفاعة هيْبَةً، فإذا بمورد تجلي وموطن يتجلى فيه الحق عليه، قال: "فيلهمني محامد لا أعلمها الآن"، إن كان لم يكن يعلمها من قبل، فمن يعلمها؟!...وهو لا مَلَك ولا نبي ولا، فهو فتحٌ جديد؛ فصار هذا اليوم وساعة الشدة التي هابَها النبيون وقالوا: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله…. نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري.. كانت بالنسبة لمحمدٍ فتح باب تجلي جديد، وإمداد واسع، وفتوحات بمحامد ما حمد بها مَلَك ولا نبي، ولا أحد من الأولين والآخرين! يارب صلّ عليه.. هذا مقامه عند إلهه، فسبحان الإله الذي شرّف هذا العبد هذا التشريف الذي تكلّ عقول الخلائق عن أن تُحيط به.
وإذا كان فيما أعد لعموم المؤمنين المخلصين الصادقين، (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم) [السجدة: 17]
فأي نفس اعلم ما أخفي فيه وله ﷺ؟ المؤمن الذي يموت على الإيمان ويدخل الجنة (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم)، فمن يعلم ما أخفي لسيد الوجود، وما أخفي فيه ﷺ؟ يارب ارزقنا محبته، وادخلنا في دائرته، واحشرنا في زمرته.
ويقول: "إذا وصل الذاكر إلى روح عالم الروح"، وخرج من هذه القواطع والحواجز، والحُجُب الظلمانية الجسمانية الكثيفة، "برزَ له نعتُ القدم"، نعت الأولية للرحمن سبحانه وتعالى، هو الأول الموجود بذاته، لم يسبقه شيء، أنت الأول فليس قبلك شيء.
"برزَ"؛ أي: ظهر "له نعتُ القدم"؛ هو من أول خطوة، كان يؤمن بأن الله هو الأول، أنه القديم الذي لا ابتداء لأوليته، لكن الآن.. الآن يشاهد ويعاين معاني الأوليّة الأزلية الربّانية الرحمانية القدّوسية، التي لا حدّ لها ولا إدراك لكُنْه عظمتها، أولية الرحمن جلّ جلاله، تبرز له نعت القدم، فيصير يطالع فيما لم يكن يعلم، وما لم يكن يحسّ، ولا يدري من قبل في أسرار الأزلية والقدم والأولية، فما أعظمها من مزية..
"بتنصيص التخصيص"، (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [البقرة:105]، فمن يحصر فضله؟ ومن يحده؟ إلا من لم يعرفه تعالى، من لم يعرفه، من عرف الله ما يقدر يحصر فضله، (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) إذا كان ما يحصر فضله على أي مؤمن، (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) [النحل:18]، ففضله على الأنبياء كيف؟ وفضله على أولي العزم منهم كيف؟ وفضله على سيدهم كلهم كيف؟ من يحصر فضله! من لم يعرف الله يدّعي ويتوهم أنه يحصر، وكل من عرف الله على قدر معرفته أيقن أنه عاجز عن أن يحصر فضله، فيشتدّ علمه بعجزه، وهذه هي المعرفة.
قال: " برزَ له نعت القدم بتنصيص التخصيص"؛ اختصاص الله من يشاء برحمته الواسعة الخاصة، (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ۗ). "ومنشور التشريف"، "يا جبريل، إني أحب فلان ابن فلان فأحبه" ، فهذا منشور تشريف من الله شرّف به هذا العبد الذي أبرز له نعت القدم، وأخرجه من جميع الوهم والظنّ والظلم إلى ساطع نورٍ (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ۚ) [النور:35].
قال "منشور التشريف"؛ من باب إضافة: (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي)، تشريفًا، فنسبها إلى نفسه تشريفًا، كما نسب الكعبة المشرفة إلى نفسه تشريفًا، وهذه إضافة تفضيل القِدم للحَدَث فتفضّل القديم على هذا المُحدث فرفع شأنه.
بروز سيدنا آدم عليه السلام في عالم الحس كان بعد الملائكة بكم؟ بسنين طويلة ومدة واسعة، حَدَث فيما بعد ولكن شرفه الله وقال للملائكة اسجدوا لآدم، (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [الحجر:29]، تشريف.. وإن كان حادث، هم قبله موجودين في العالم، أجسادهم قد برزت في العالم قبله ولكن ليس العبرة بين الأجساد بينها البين، ولكن الأول القديم فضّل من؟ تفضّل على من؟ فهو المفضل.
ولما أراد الله أن يبرز هذا الجنس الإنساني، نوّه بِشأنه في السماوات لأنه يرد أن يبرز عبده المصطفى محمد ﷺ في هذا القالب، في هذا النوع من الخلق، فنوّه بِشأنه: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة:30]. فالله يُشرفنا بِسِرّ هذه الخلافة لِنَقوم بِها على قَدَم الصدق معه والأدب معه -جلّ جلاله- والوفاء بعَهْدِه الذي عَاهدْنا عليه.
"وتبجيل القديم المحدثِ"؛ القديم بجّل وعظّم من شاء من خلقه الذين أحدثهم وأوجدهم وكانوا عدمًا، وهذا التخصيص من قِبَل الله والتفضيل كاد "أن يمحو عن المُحْدَث صفةَ الحَدَث" ولا تمتحي، ولكن كاد؛ يعني: عظمة التجلّي القديم، جعلت هذا المُحْدَث في شأن عظيم، كَأَنَّه أَزَلّيّ قديم! وليس كذلك، إنما هو عبدٌ أُنْعَمَ الله عليه، كما قال الله تعالى في سيدنا عيسى عليه السلام: (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ)، فلما تَوَهَّمَ بعضُ هؤلاء الأتباع أنه كذا وكذا… حتى وَقَعُوا في الشرك والكفر وقالوا ابن الله واتخذوه مع الله إله، رَدَّ الله عليهم: (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ) [الزخرف:59].
لماذا؟ لأن هذا التجلّي الكبير يكاد أن يمحو عنه اسم الحدث، وهو حادث لا ينفكّ عن ذلك، ولكن شرف التفضيل والتبجيل من قبل القديم الجليل يجعل العقول تحار في عظمة شرفه وعلوّ وَصفه لما تفضّل الحق عليه بهذا.
………….. وكلهم *** عبيدٌ وتحت الحكم من غير فارقِ
نعم، من خَصَّصَهُم بهذه المزايا هنا يأتي شأن الصدق والثبات والفهم عند الموفّقين، ما يخلطون الأوراق، ولا يَجْعَلون مخلوق كخلّاق، ولا يقولون بحلول الحق - سبحانه وتعالى - في شيء، تعالى.. كل شيء محتاج إليه، وليس هو محتاج إلى شيء، وكل شيء قائم به، وهو القائم بِنَفْسِه جلّ جلاله، ولا شيء من العرش إلى الفرش يقوم بِنَفْسِه قطّ من جميع الكائنات والمخلوقات، إنما هي قائمة به، وهو الحيّ القيوم.
ومن هنا جاءت الأوهام والظنون عند أرباب الحلول والاتحاد، وتكلمُوا بِالكلام الباطل والمردود؛ المردود في الشرع وفي العقل، فإن الحق أجلّ من أن يحل في شيء، وأن يحل فيه شيء، مع أن هذا التجلّي نعم يُبهر.. يُبهر، "كاد أن يمحو عن المُحْدَث صفةَ الحَدَث، وكاد هذا التشريف أن يصل القديم بالمحَدث؛ فكاد بهذه الإضافة أن يتشبّث القِدَم بالحَدَث؛ وتنزّه القدم عن الحدث، وتنزَّه القديم عن المحدَث"، لا إله إلا هو.. هيهات ما المخلوق مثل خالق.. "وجَلّت الأزلية عن الوصل، والفصل"، فالوصل والفصل أوصاف المُحْدَثات الكائنات، يُقال فيها: متصل ومُنْفَصِل، هذا وصف المُحْدَثات الكائنات، ما يوصف به الرحمن، هذا وصف محدَث مكوّن مخلوق يُقال فيه: متصل أو منفصل؟ أمّا الحق جل جلاله فقد جَلَّ عن الاتصال والانفصال، هذه سِمَات أهل الحدوث، سِمَة الحادثين، سِمات المخلوقين، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى:11]، جلّ جلاله، لا إله إلا الله.
قال: "وجَلّت الأزلية عن الوصل، والفصل."، حتى التجليات التي وَرَدَتْ عليهم، سَمِعْتُ أنهم يَعْرِفُونَ فيها تنزُّهَها عن الاتصال والانفصال، سمعتُ قول ابن المؤلّف سيدنا أبو بكر العدني:
هَبَّتْ نَسِيمُ المواصلة *** بِلا اتصال ولا انفصال
لأن هذه أوصاف الجسمانيات والحادثات الكائنات
……………….*** بِلا اتصال ولا انفصال
بِمُقْتَضَى مَطْلَعٍ خَفِيّ *** وليس لِلْعِلْمِ فيه مجال
قال: "إضافتك إليه إضافة مَزِيَّة، لا إضافة جزئية"، جلّ الله وتعالى وسما، "إضافتك إليه إضافة خصوصية، لا إضافة بعضِيَّة، إضافة قرب، لا إضافة نسبة، إضافة كرم، لا إضافة قدم"، لا قديم إلا هو، "هو منزّة عن كلّ إضافة؛ وإن قال (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن روحي) بالتشريف لكن الإضافة بالمعنى البعضية والجزئية محالة"، محالة محالة، مستحيل مستحيل… أمر لا يمكن يكون وصف للخالق جلّ جلاله وتعالى في عُلاه، هذه أوصاف الكائنات والمخلوقات.
ولهذا قال: "فِي التَنْزِيْهِ: ليس له "كل".. فيُقال له "بعض"."، بعض وكل هذا للمخلوقات والكائنات (كل) و (بعض)، "وليس له "جنس"،"، هذا في المخلوقات، (وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ) [الذاريات:49]، اثنين، فنتجت أنواع، حتى الزمن ليل ونهار، وحتى كل الكائنات والمخلوقات، حتى الأحجار الأشجار وهكذا، وجعل الله تعالى من كل شيء زوجين اثنين.
"تنزّه عن حقيقة "مِن"، و"إلى"، و "في"، و"على"." ما يُقَال: من أيّ شيء؟ ولا إلى أين؟ ولا أين؟ ولا على كذا وكذا… لِمَ؟ لأنه "ليس له جنسية، ولا بعضية.. فيقال "مِن"."، مِن الله مِن كذا.. ليس له جنسية، ولا بعضية حتى يقال "مِن كذا!"، وإنما يقال "مِن" للذي له جنسية وله بعضية، فيقال: مِن كذا، مِن كذا،… تنزّه عن "مِن"، تنزّه من "إلى"، تنزّه عن المحل، ليس له محلّ، فيقال "في" "في كذا "في كذا". حين يُقال "في" هذا الذي يحتاج إلى المحلّ، "في كذا".. لكن الذي خلق المحل ولا يحتاج إلى محل؛ ما يُقَال: في كذا.
"وليس له قرار.. فيقال له "على""، على كذا، إنما تستقر الأجسام وبعض المعاني على كذا، على كذا، على كذا… نستقر على الأرض، نستقر على الكرسي، نستقر على الدابة، نستقر على الطائرة، هذا بوصف الأجسام، أما الحق ما يُقال له: "على كذا"! لا إله إلا الله…
فهذه: من، وإلى، وفي، وعلى، بالمعاني هذه الجزئية، والبعضية، والجسمية، الله منزّه عنها. فما هو وصفه؟ كما وصف نفسه، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى:11]، كل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك، سبحانه عز وجل، ولا يُحيط به إلا هو.. من هنا قال سيدنا أبو بكر الصديق: "لا يعرف الله إلا الله"؛ أي: معرفة الإحاطة، لا إله إلا هو.
"فصلٌ
في الوُصُوْلِ إِلَى عَالَمِ السِّرِّ
إذا وصل الذاكر إلى عالم السِّرِّ .. كوشف بأسرار الغيب ، وزُفّت إليه عرائس أبكار الأسرار في خلواتِ أَوْلِيَائِي تَحْتَ قِبَابِي لَا يَعْرِفُهُمْ
(فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ، مَا أَوْحَى) [النجم: 10]، في مجلس سَتْرِ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي سِرٌّ لا يَطَّلِعُ عليه مَلَكٌ مُقَرَّب، ولا نَبِيٌّ مُرسَل.
وثم تأتيه ألطافُ القدرة بتحف الحضرة، "بما لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ"،
(فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةٍ أَعْيُنِ) [السجدة: 17 ]. ما قرة عين العاشق..
أتدري ما قرة عين العاشق؟
رويه وجه معشوقه، والتمتع بالنظر إلى جمال جلاله؛ يشق له سمعا في قلبه، وبصرا في لبه؛ فيسمع بغير أُذُنٍ، ويبصر بغير عين؛ فلا
يسمع إلا من الغيب، ولا يبصر إلا من الغيب؛ فيصير
الغيب عنده عينًا، والخبر معاينة، وهو معنى قوله: "رَأَى قَلْبِي رَبِّي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ".
قال العلماء بالله: مفهوم إشارةِ القِدَم في متن المصحف المجيد..
(أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ) [الفرقان: 45].
فحينئذ يجذبك عنك، ويسلبك منك؛ فتقع في القبضة؛ فيوصلك إلى أعلى مراتب التوحيد، والمعرفة ، في أعلى منازل السر، والهمة؛ ما تقصر العبارة عن التعبير، به وتعجز الأسرار عن الإشارة إليه، وهو نهاية الأقدام، وليس وراء النهاية شيء "لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا
أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ"، فحينئذ تقول: "سُبْحَانَ مَن لَم يَجْعَلْ طَرِيْقًا إِلَى؛ مَعْرِفَتِهِ.. إِلَّا بِالْعَجْزِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ".
ولَّما علم - الحق سبحانه و تعالى - عجز خلقه عن أداء حقه في حقيقة الوحدانية، والفردانية.. شهد لنفسه بالحق للحق في قوله:(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)
[آل عمران: 18]
وحقيقة التوحيد.. هو البداية، وهو النهاية.
والنهاية رجوع إلى البداية منه بدأ وإليه يعود.
كلمة -لا إله إلا الله-.
هي البداية، وهي النهاية، منها بدأ، وإليها
يعود؛ فهي الكلمة الطيبة."
حققنا الله بحقائقها وجعلنا من خواص أهل طرائقها، والمطّلعين على رقائقها.
تكلم عن الوصول إلى عالم الروح، وما يترتب من وجوب التنزيه، والتقديس للملك -سبحانه- سبوح قدوس جل جلاله وتعالى في علاه. ومن وراء ذلك أيضًا عالم السر الذي هو باطن الروح، فإذا وصل الذاكر الذي استغرقه الذكر، فاستُغرِقَ في المذكور -جلّ جلاله- وفي عظمته، فصار الذكر له ذكرًا ذاتيًا، انتهى من كثرة ما ذكر حركة اللسان ونطق القلب، فاستغرق في المذكور فسكت القلب واللسان، فنطقت الذات كلها. وإذا بالذكر مستمَدٌّ من المذكور ( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) [البقرة:152].
حينئذٍ يقول: إذا وصل الذاكر إلى عالم السر كوشف بأسرار الغيب بما يطلع الله به عليه عباده من علم اليقين، ومن عين اليقين، ومن حق اليقين، على ما قسم لهم في دائرة (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) [البقرة:255] فما شاءه؛ يحيطون بما شاءه من هذه العلوم بعضٌ وجزءٌ لا يساوي شيء من واسع علم الذي أحاط بكل شيء علمًا.
ولمّا كان سيدنا موسى مع الخضر، وقف على حرف السفينة طائر، فنقر بمنقاره في البحر، وقال سيدنا الخضر لموسى: يا موسى، ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا بمقدار ما نقص هذا الطائر بمنقاره من البحر. كم نقص من البحر؟! ربع، أم كم؟… ولا أثر في البحر من منقار الطائر! قال: علمي وعلمك ما يساوي شيء بالنسبة لعلم الله.. لا إله إلا الله! هؤلاء من أعلم الخلق، كانوا هم في ذاك الوقت أعلم من في الأرض، موسى والخضر، ولكن قال: علمي وعلمك ما نقص من علم الله إلا بمقدار ما نقص هذا الطائر -العصفور- بمنقاره من البحر. نقص شيء؟ ولا نقص شيء، فكذلك.. سبحان العليم بكل شيء.
قال: "وزُفّت إليه عرائس أبكار الأسرار في خلواتِ "أَوْلِيَائِي تَحْتَ قِبَابِي لَا يَعْرِفُهُمْ غيري" جل جلاله. ومن هنا قالوا: لا يعرف الولي إلا الولي. كما لا يعرف الجوهر إلا الجوهري، إذا ما هو جوهرجي ما يعرف الجوهر، مثل الطفل تعرض عليه قليل شوكولاتة وحلوى وجوهرة، سيرمي الجوهرة ويأخذ الحلوى، يأخذ له لعبة أو حلوى أحسن له من عشرين جوهرة، ما يعرف قدرها وسيرميها لك، ويطلب الحلوى والشوكولاتة، ما يعرف أن الجواهر تجيء له بملء الغرفة حقه حلوى.. ما يعرف قدرها.
لا يعرف الجوهر إلا الجوهري، ولا يعرف الولي إلا الولي. لذلك قدر المؤمنين ما يعرفه إلا المؤمن، على قدر إيمانه. قدر المسلمين ما يعرفه إلا المسلم، المسلم المضعضع الضعيف إذا جاء له كافر أبهره صنع له جوال أو جهاز كمبيوتر، يستعظمه يقول: هذا عظيم! عنده أعظم من المسلمين مايعرف قدر الإسلام! (وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ۗ)، (وَلَأَمَةٌ مُّؤۡمِنَةٌ خَیۡرٌ مِّن مُّشۡرِكَةٍ وَلَوۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡ) [البقرة:221] لكن من عنده إيمان، يعرف قدر المؤمنين، من عنده إسلام، يعرف قدر المسلمين، على قدر إسلامه، عنده معرفة، يعرفه قدر العارفين، عنده ولاية، يعرفه قدر الأولياء، لا إله إلا الله..
قال: "بين مواسط (فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ) [النجم:10]"، وهذا الوحي الذي ذكره الله -سبحانه وتعالى- منه مجلى ليوحاند؛ أم سيدنا موسى -عليه السلام-، إمرأة ولية صالحة، قال: (وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ) [القصص:7]، هاتي بصندوق من الخشب، وضعيه وسطُه، وارْمِيه في البحر، اصنعي له تابوت من الخشب، وارْمِيه في البحر، إيش هذا الكلام؟! وأيّ أم ترضى تُلقي ابنها في البحر! لكن وحي جاءها،المرأة مُوحى إليها. (وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ) ما تقرأ القرآن أنت؟ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ) وبعد ذلك إذا واحد خاف على أحد يدخله البحر أم يُخرجه من البحر؟! إذا خفت على أحد تخرجه من البحر حتى لا يغرق لا أن تدخله وسط البحر لكن قال: (فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ). شُفت الوحي هذا لسيدتنا يوحاند؟
(فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ) ووحي فوق وحي فوق وحي، ووحي الأنبياء أعلى الوحي، وإلى عند الحبيب لما أُسري به وعُرج به إلى السدرة، حتى سيدنا جبريل وقف عند سدرة المنتهى قال أن ما عاد أقدر أتقدم، قال: كيف تتركني في هذا المكان؟ أيترك الخليل خليله؟! قال: يا محمد وما منا إلا له مقامٌ معلوم، إن تقدمت احترقت، وأنت دُعيت إن تقدمت اخترقت.. فأبهم الحق ما أوحى إليه، وقال: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ * فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ) [النجم:8-10]، إيش أوحى؟ … مبهم… لأنه ما أحد يقدر يستوعبها فأبهَم، فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ) لا إله إلا الله..
وأوحى الذي أوحى إليه إلهُه *** علومًا وأسرارًا وكم من لطيفة
وشاهد جنّاتٍ ونارًا وبرزخًا *** وأحوال أملاكٍ وأهل النبوّة
وصلى وصلوا خلفه فإذن *** هو المُقدّم وهو الرأس لأهل الرئاسة
وقد جمع الأسرار والأمر كله *** محمد المبعوث للخلق رحمة
قال: في مجلس سَتْرِ "بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي"؛ كحال تجلّي في الصلاة، يقول الله: قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي، كما نُقرأه في صحيح مسلم وغيره: "قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وبيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، ولِعَبْدِي ما سَأَلَ، فإذا قالَ العَبْدُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ)، قالَ اللَّهُ تَعالى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وإذا قالَ: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، قالَ اللَّهُ تَعالى: أثْنى عَلَيَّ عَبْدِي، وإذا قالَ: (مالِكِ يَومِ الدِّينِ) - أو (ملك يوم الدين)، قالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وقالَ مَرَّةً فَوَّضَ إلَيَّ عَبْدِي، فإذا قالَ: (إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ) قالَ: هذا بَيْنِي وبيْنَ عَبْدِي، ولِعَبْدِي ما سَأَلَ، فإذا قالَ: (اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذينَ أنْعَمْتَ عليهم غيرِ المَغْضُوبِ عليهم ولا الضّالِّينَ) قالَ: هذا لِعَبْدِي ولِعَبْدِي ما سَأَلَ".
إيش هذه المناجاة لمن صحت وصلته، وصَفَت طويته مع الله في كل صلاة في كل ركعة، والحق هكذا يقول له..يا الله!.. ولهذا قال: "سِرٌّ لا يَطَّلِعُ عليه مَلَكٌ مُقَرَّب، ولا نَبِيٌّ مُرسَل. ثم تأتيه ألطافُ القدرة بتحف الحضرة"، فيُدرك وهو في الدنيا قبل الآخرة "ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ على قَلْبِ بَشَرٍ" وهذه العطايا والمزايا عند ربك كثيرة وكبيرة ومالها حد، وكل واحد يُعطى ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، والثاني يُعطى ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، والثالث يُعطى ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وخزائن الله ملأى ما ينقص منها شيء! هذا الإله! هذا الإله جلّ جلاله.
(فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةٍ أَعْيُنِ) [السجدة:17]. وإيش تتوقع قرة أعينهم الكبار هؤلاء؟ إذا واحد من عموم المؤمنين ما أدرك الأذواق.. قُرّة عينه يقولون له نهر وجنة وقصر ذهب وفضة وهو يقول: تمام. لكن قرّة عين هؤلاء إيش؟! "ما قرة عين العاشق.." إذا كان الإمام أبو بكر بن عبد الله العطاس يقول: إني رأيت كأن الجنة جيء بها حورها وقصُورها، تحت منزل شيخه الإمام حسن بن صالح البحر يقول: فأشّر علي فأشرفْتُ، يقول: ما مرادي الحور ولا القصور، مرادي كشف الستور.
"ما قرة عين العاشق..أتدري ما قرة عين العاشق؟ قرة عين العاشق رؤية وجه معشوقه، والتمتع بالنظر إلى جمال جلاله"، فإنه في الدنيا لا يُمكن، سأله النبي موسى ومُنِعَه في الدنيا، قال: ما لك هذا.. ما تستعجل بعدين في الآخرة؛ في الدنيا لا، (رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ۚ) قال اصبر إلى وقته (قَالَ لَن تَرَانِي) [الأعراف: 143] هنا ما يكون؛ لكن شدة شوقه حمله على السؤال.
قال: "يشق له سمعًا في قلبه، وبصرًا في لبَّه؛ فيسمع بغير أُذُنٍ"، ويصير كله سمع "ويبصر بغير عين؛ ويصير كله عين "فلا يسمع إلا من الغيب، ولا يبصر إلا من الغيب"؛ -قال الله تعالى في المحبوب: "فبي يسمَعُ وبي يُبصِرُ" لا إله إلا الله! "فيصير الغيب عنده عينًا، والخبر معاينة"، قال سيدنا عمر بن الخطاب "وهو معنى قوله: رَأَى قَلْبِي رَبِّي"، رأى قلبي ربي! ولكن الرؤية بالعين ما تحصل إلا في دار الكرامة؛ فالله يرزقنا لذة النظر إلى وجهه الكريم.
"قال العلماء بالله: مفهوم إشارةِ القِدَم في متن المصحف المجيد.. (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ) [الفرقان:45]"، يخاطب نبيه محمد ﷺ "أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا" [الفرقان:45]، "أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ"، قال: "فحينئذ يجذبك عنك، ويسلبك منك" فما تكون إلا له، ما يبقى: "بي" ولا "لي" ولا "مني" ولا "عني" ولا "فيّ"؛ ما يبقى إلا "له"، فهو به؛ منه وإليه، لما ضحى ﷺ قال: "اللهم منك وإليك".
"فتقع في القبضة"؛ قبضة العناية والرعاية والتعرف الخاص "فيوصلك إلى أعلى مراتب التوحيد، والمعرفة ، في أعلى منازل السر، والهمة"؛ إيش هو هذا؟! "ما تقصر العبارة عن التعبير به" يقول لك إيش؟! ما أقدر أتكلم؛ ما يوجد لا في اللغة العربية ولا غيرها ما يعبر عن هذا، إيش أقول لك؟ ما أقدر... ما يوجد في اللغة لفظ يعبر عن هذا المعنى، فما أقول لك؟
فَكانَ ما كانَ مِمّا لَستُ أَذكُرُهُ *** فَظُنَّ خَيراً وَلا تَسأَل عَنِ الخَبَرِ
(فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ) [النجم:10].
قال: "ما تقصر العبارة عن التعبير به، وتعجز الأسرار عن الإشارة إليه، وهو نهاية الأقدام" في السير "وليس وراء النهاية شيء"، قال سيد الواصلين المُوصلين إلى الله حبيب الرحمن، وكان كل ليلة يخاطب ربه: "لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ"، يقوله بعد الصلاة، يقوله في الصلاة، يقوله في السجود؛ وهذا مما نَقَلَتُه عنه في واقعة سيدتنا عائشة -رضي الله عنها- تقول: قامت إليه ﷺ ففقدته فالتمسته تقول: فوجدته وقعت يدي على بطن قدمه وهو في المسجد ساجد لله -تعالى- قدماه منصوبتان، أسمعه يقول: "اللهمَّ إني أعوذُ برضاك من سخطِك، وبمعافاتِك من عقوبتِك، وأعوذُ بك منك لا أُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيتَ على نفسِك"؛
لأنه ما يضر غيرك، ولا يقطع غيرك، ولا يُشقي غيرك، ولا يُبعث غيرك ولا يدخل النارَ أحد غيرك، ولا شيءَ إلا منك، "فأعوذُ بك منك، سبحانك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك" لأنه كل ما يخافُه أيُّ مخلوقٍ لا يقدرُ أحدًا يُوقِعُه به إلا بأمرهِ تعالى، ونعوذُ به منه، "سبحانك لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك"، لا إله إلا الله.
قال: "فحينئذ تقول: "سُبْحَانَ مَن لَم يَجْعَلْ طَرِيْقًا إِلَى؛ مَعْرِفَتِهِ.. إِلَّا بِالْعَجْزِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ"، كلما ازدادت معرفتُهم باللهِ ازدادت معرفتُهم بعجزِهم عن معرفةِ الله.
وقالوا:
زدني بفرطِ الحبِّ فيكَ تحيُّرًا ***.........................................
وليسَ لعينِ الكشفِ يا صاحِ منتهى *** سوى حيرةٍ في حيرةٍ ضمنَ حيرةٍ
إيش اللي يحصَل؟ قال:
دخـلنـا بـسـر البـاء فـي بـاب عـالم *** نـرى البـحـر فـي أنـهـاره مثل قطرة
ولو تـرجـمت عـنّا الوجـودات كـلهـا *** لمــا عــبــّرت عـن عـشـر مـعـشـار ذرة
لا إله إلا الله…
يقول: "ولَّما علم الحق -سبحانه و تعالى- عجز خلقه عن أداء حقه في حقيقة الوحدانية، والفردانية.. شهد لنفسه بالحق للحق في قوله: (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) [آل عمران:18] ".شهدَ لنفسه، هو شهد لنفسه به؛ شهادته هي الجامعة، الباقيين على قدرِ معرفتهم، ما يقدرون يقومون بحقها، عجزوا عن حقَّ حمدِه، حمدَ نفسَه، (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ) [الكهف:1]، (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) [الأنعام:1]، (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ) [الفاتحة:1-2]، حمدَ نفسَه بنفسه، يقول سيدنا علي زين العابدين: الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي حمد في الكتابِ نفسه، واستفتحَ بالحمدِ كتابَه، وجعلَ الحمدَ دليلًا على طاعته، ورَضِيَ بالحمدِ شكرًا له من خلقه. وإلا مَن يقدرُ يحمدُه حقّ حمده؟ ما يقدرون يُسبِّحونه حقّ تسبيحه؛ سبِّح نفسَه، (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) [الروم:17] له الحمدُ، وليتكرم على مَن تعلَّق بتسبيحه أو تحميده أو تهليله أو توحيده بما تكرَّم عليهم بحمدِ نفسه، وتحميدِ نفسه، فينالهم نصيبٌ وافي من هذا الخيرِ الضافي.
قال: "وحقيقة التوحيد.. هو البداية، وهو النهاية. والنهاية رجوع إلى البداية"، والنهاية الرجوع إلى البداية، (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ۚ) [الأنبياء:104] فنهايةُ كلُّ مخلوقٍ يرجعُ إلى الحقِّ سبحانه، لأنَّه مبتدأه من الحقِّ ومرجعُه إلى الحقِّ.
والمَجلى في حقيقةِ التوحيدِ: لا إله إلا الله، ولذا منها البدايةُ لكلِّ مؤمنٍ أرادَ أن يسلكَ ويسيرَ إلى الربِّ، قل له: ذكرُك الأفضلُ: لا إله إلا الله، إذا استغرقَ فيها وربما اشتغلَ بعدَها بأذكارٍ وأذكارٍ، لكنْ إذا وصلَ النهايةَ يرجعُ إلى لا إله إلا الله، فهو ذكرُ أهلِ البدايةِ وإليهِ يرجعُ أهلُ النهايةِ، لا إله إلا الله، فهو الكلمةُ الطيبةُ (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [فاطر:10]، وهو الذي أشارَ إليها بقوله: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً)، ولا أطيبَ من كلمةِ: لا إله إلا الله، (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ) [إبراهيم:24 -25] ؛فيا ربِّ لا إله إلا الله، وأهلَ لا إله إلا الله، وسادةَ لا إله إلا الله، وسيد أهل لا إله إلا الله، حقِّقنا بحقائقِ لا إله إلا الله، واغمُرنا بأنوارِ لا إله إلا الله، وارفعنا في مراتبِ حقيقةِ لا إله إلا الله، واجعلها آخرَ كلامِنا من الدنيا، احشرنا في زمرةِ كُمَّل أهلها، وأنتَ راضٍ عنا برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
فصْل
فِي مُكَاشَفَةِ القُلُوْبِ وَالأَرْوَاحِ وَالأَسْرَارِ
مكاشفة القلوب بذكر: "لا إله إلا الله"، ومكاشفات الأرواح بذكر "الله ، الله ، الله" ، ومكاشفات الأسرار بذكر: "هو ، هو، هو" .
و "لا إله إلا الله".. قوت القلوب،
وذكر "الله، الله".. قوت الأرواح ،
وذكر: "هو ، هو".. قوت الأسرار .
فـ "لا إله إلا الله" . . مغناطيس القلوب ، و "الله ، الله" . . مغناطيس الأرواح ، و: "هو ، هو".. مغناطيس الأسرار .
والسِّرُّ في القلب والروح .. بمنزلةِ دُرَّة في صدفة ، في حُقَّةٍ ، أو بمنزلة طائر في قفص ، في بيت .
فالحقة والبيت .. بمنزلة القلب ، والصدفة والقفص.. بمنزلة الروح ، والدَّرَّة والطائر .. بمنزلة السّر.
فمهما لا تصل إلى البيت .. لا تصل إلى القفص، ومهما لا تصل إلى القفص .. لا تصل إلى الطائر، وكذلك مهما لا تصل إلى القلب.. لا تصل إلى الروح ، ومهما لا تصل إلى الروح .. لا تصل إلى السر.
فإذا وصلت إلى البيت .. فقد وصلت إلى عالم القلوب.
وإذا وصلت إلى القفص.. فقد وصلت إلى عالم الأرواح.
وإذا وصلت إلى الطائر .. فقد وصلت إلى عالم الأسرار.
فافتح باب قلبك بمفتاح قولك: "لا إله إلا الله"، وبابَ روحك بمفتاح قولك: "الله، الله"، واستنزل طائر سِرِّكَ بقرطم قولك .. "هو، هو" ؛ فإن قولك: "هو ، هو".. قوت لهذا الطائر، وإليه الإشارة بقوله : يا موسى اجعلني طعامك وشرابك" .
لاإله إلا الله؛ اللهمّ حققنا بحقائقها واجعلنا من خواص أهلها.
قال: "فِي مُكَاشَفَةِ القُلُوْبِ وَالأَرْوَاحِ وَالأَسْرَارِ"، وقد تقدّم كلامه على أن باطن الإنسان القلب وباطن القلب الروح وباطنَ الروحِ السرُّ، وأنَّ القلبَ محلُّ المعرفةِ، وأنَّ الروحَ محلُّ المحبةِ، وأنَّ السرَّ محلُّ المشاهدةِ.
قال: فمكاشفةُ القلوبِ والوصولُ إلى عالمِ القلوبِ بواسطةِ ذكرِ: لا إله إلا الله، فمن أكثرُ منه بالصدقِ والإخلاص والتوجّهِ، بما ذكرنا من الأربعةِ الأركانِ التي ذكرها الإمامُ الحداد:
القلبُ الحاضرِ، والأدبِ الوافرِ، والإقبالُ الصادقُ، والتوجُّهُ الخارقُ؛ فبهذا الحالِ
يقولُ: "مكاشفة القلوب بذكر: "لا إله إلا الله"، ومكاشفات الأرواح بذكر "الله ، الله ، الله" ، ومكاشفات الأسرار بذكر: "هو ، هو، هو" . فقال: "لا إله إلا الله".. قوت القلوب، وذكر "الله، الله".. قوت الأرواح ، وذكر: "هو ، هو".. قوت الأسرار .
فـ "لا إله إلا الله" . . مغناطيس القلوب ، و "الله ، الله" . . مغناطيس الأرواح، و: "هو ، هو".. مغناطيس الأسرار" .
قال: "والسِّرُّ في القلب والروح .. بمنزلةِ دُرَّة في صدفة ، في حُقَّةٍ"؛ أي: وعاء.
درُّة: يُحيطُ بها صدفةٌ، والدرُّة داخلَ الصدفةِ، والصدفةُ وسطِ الوعاءِ، فهل يمكنُ تصلْ إلى الدرِّة من دونِ ما تصلْ للوعاءِ؟ كيفَ هذا؟ كيفَ من أين تدخُلْ على الدرّة؟ لابد تجيء الوعاءَ أول، إذا وصلتَ الوعاءَ افتحه، بتحصَلْ الصدفةِ، إذا وصلتَ الصدفةَ افتحَها، تحصلْ الدرَّة، تصلْ إلى الدرّة. وكذلك إذا جئنا بطائرٍ ووضعناه وسط قَفَصٍ ووضعناه وسط الغرفة، واحد يُريد الطائر، قال: إيش عليّ من الغرفة، وإيش عليّ من القفص.. فلن تَصِلْ إلى الطائر! كيف تَصِلْ إلى الطائر؟ لا بد تمرَّ تدخل الغرفة أولًا، وتجيء للقفص، تفتحه، تحصل الطائر، وسط القفص.
قال: "فالحقة والبيت.. بمنزلة القلب ، والصدفة والقفص.. بمنزلة الروح ، والدَّرَّة والطائر .. بمنزلة السّر.
فمهما لا تصل إلى البيت .. لا تصل إلى القفص، ومهما لا تصل إلى القفص .. لا تصل إلى الطائر، وكذلك مهما لا تصل إلى القلب.. لا تصل إلى الروح ، ومهما لا تصل إلى الروح .. لا تصل إلى السر."
فأولًا القلب، ثم الروح، ثم السر. سمعت؟..
قال: "فإذا وصلت إلى البيت .. فقد وصلت إلى عالم القلوب. وإذا وصلت إلى القفص" الذي وسط البيت وسط الغرفة "فقد وصلت إلى عالم الأرواح. وإذا وصلت إلى الطائر .. فقد وصلت إلى عالم الأسرار.
فافتح باب قلبك بمفتاح قولك: "لا إله إلا الله"، وبابَ روحك بمفتاح قولك: "الله، الله"، واستنزل طائر سِرِّكَ بقرطم" القرطم الحب؛ حب العصفر الذي يقدمونه للطائر يقولون له قرطم "بقولك .. "هو، هو"" (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ) [آل عمران:18]، (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ۖ هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ۖ) هو الله. سمعت؟
قال: "فإن قولك: "هو، هو".. قوت لهذا الطائر، وإليه الإشارة بقوله : يا موسى اجعلني طعامك وشرابك" فيتغذى قلبك وروحك وسرك، هذا هو طعامه وشرابه: لا إله إلا الله، الله الله، هو هو.
وكان مما يُسلِّك به المؤلف السائرين إلى الله والمريدين:
فإذا أكملها، تثبت بعد كل صلاة إن كانوا من المتفرّغين، خالص للعبادة المهيّمين، فبعد كل صلاة يجيبها اثني عشر ألف مرة. وإن كان من المتوسطين من له أشغال: مائة وعشرين مرة، وإن كان من المشتغلين: اثنتي عشرة مرة بعد كل صلاة، اثنتا عشرة مرة، اثنتا عشرة مرة، اثنتا عشرة مرة، يأتي بها بعد كل صلاة.
فهذه من جملة ذكر الله، هذه الأذكار الثلاثة، ولكل طالب منكم راغب الإجازة فيها، يقرؤها.
ينظر الله إلينا ويُقَرّبنا إليه زلفى.
سؤال:
مع الذكر " هو ، هو" ماذا يستحضر الذاكر؟
هو؛ ضمير يعود على مذكور قبله، فيكون المذكور عنده الله، فهو يستحضر الله، كلما أكثر الذكر في النَّفَس الواحد يكون أطيب وأطرب.
كان سيدنا عمر المحضار يأتي بألف مرةٍ من "يا لطيف" في النَّفّس الواحد يُقول: يا لطيف، يا لطيف، يالطيف، يالطيف، يالطيف، يُكمل في النَّفّس الألف. كان عنده خادمه جريدَانِ يأتي بخمسمائة مرة في النَّفّس، خمسمائة مرة يا لطيف، يا لطيف، يا لطيف، يا لطيف. لا إله إلا الله...
اللهم أعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. قال سيدنا الإمام الحداد:
وَإِن رُمتَ أَن تحظى بِقَلبٍ مُنَوَّرٍ *** نَقِيٍّ عَنِ الأَغيارِ فَاِعكِف عَلَيَّ الذِكرِ
وَثابِر عَلَيهِ في الظَلامِ وَفي الضِيا *** وَفي كُلِّ حالٍ بِاللِسانِ وَبِالسِرِّ
فَإِنَّكَ إِن لازَمتَهُ بِتَوَجُّهٍ *** بَدا لَكَ نورٌ لَيسَ كَالشَمسِ وَالبَدرِ
وَلَكِنَّهُ نورٌ مِنَ اللَهِ وارِدٌ *** أَتى ذِكرُهُ في سورَةِ النورِ فَاِستَقرِ
وَصَفِّ مِنَ الأَكدارِ سِرَّكَ إنَّه *** إِذا ما صَفا أولاكَ مَعنى مِنَ الفِكرِ
تَطوفُ بِهِ غَيبُ العَوالِمِ كُلِّها *** وَتَسري بِهِ في ظُلمَةِ اللَيلِ إِذا يَسري
الله يصفّي سرائرنا، ويُنوِّر بصائرنا، ويجعلنا من الذاكرين الله كثيرًا، (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب:35]. أعنِّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واجعلنا من خواصّ أهل الصدق معك في جميع الشؤون في الظهور والبطون، و أثبتنا في ديوان الأمين المأمون، وأدخلنا في زمرته وأنت راضٍ عنا
بسرّ الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
12 صفَر 1447