الكبريت الأحمر - 11 | تكملة أحوال الصوفية
الدرس الحادي عشر للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الكبريت الأحمر و الأكسير الأكبر في معرفة أسرار السلوك إلى ملك الملوك ، للإمام الحبيب عبد الله بن أبي بكر العيدروس . ضمن دروس الدورة الصيفية الأولى بمعهد الرحمة بالأردن.
ظهر الثلاثاء 23 صفر 1446 هـ
نص الدرس المكتوب :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، من كتاب الكبريت الأحمر والإكسير الأكبر للإمام القطب سلطان الملا سيدي عبد الله بن أبي بكر العيدروس رضي الله عنه وعنكم قال:
"ومن علوم الأحوال: الرُّوحُ، والأرواح مُخْتَلَفٌ فيها عند أهل التحقيق من أهل السنة، فمنهم من يقول: الروح الطبي جسم لطيف بخاري، والروح الرباني أمر من عالم الأمر.
قال المشايخ هي أعيان، لطيفةٌ، مودعة في هذه القوالب، أجرى الله العادة بخلقِ الحياة في القالب ما دامت الأرواح في الأبدان. فالإنسان حيّ بالحياة، ولكن الأرواح مودعة في القوالب، ولها ترقٍّ في حال النوم ومفارقة للبدن ثم الرجوع إليه، وإن الإنسان هو الروح والجسد؛ لأن الله عز وجل سخر هذه الجملة بعضها لبعض، والحشر والثواب والعقاب للجملة.
والأرواح مخلوقة، ومن قال بقدمها فهو مخطئ خطًأ عظيمًا، والروح معدن الخير والنفس معدن الشر، والعقل جيش الروح، والهوى جيش النفس. والتوفيق من الله عز وجل مراد الروح، والخذلان مراد النفس.
ومن علوم الأحوال: مَعْرِفَةُ الأَسْرَار، وهي: السِّرُّ، وسِرُّ السِّرِّ َ؛ فالسِرّ: لطيفة مودعة في القلب كالأرواح وهي محل المشاهدة، كما أن الأرواح محلُّ المحبة، والقلوب محل المعارف. وقال المشايخ العارفون: إن السِّرَّ ما لكَ عليه إشراف، وسِرُّ السر: ما لا اطلاع عليه لغير الحق. والسر أشرف من الروح، والروح أشرف من القلب، وصدور الأحرار قبور الأسرار."
ما شاء الله لا قوة إلا بالله، صلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن والاه.
يذكر -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- لنا مسألة الروح ومسألة السِرّ الذي هو باطن الروح، كما أن باطن الإنسان قلب وراء هذا الجسد، وباطن القلب روح، وباطن الروح سرٌّ. وقد يُطلق الروح والقلب والعقل والنفس على المعنى هذا الشريف وهو اللطيفة الربانية المدركة، وهناك روحٌ حيوانية والتي يُقال عنها: الروح الطبي، والروح الحيوانية موجودة عند سائر الدوابّ؛ عند سائر الحيوانات في البر والبحر، روح حيوانية، مع الإنسان منها، ولكن عنده سرٌّ آخر، وهو الروح الأمرية، الروح الربانية التي هي من أمر ربي، والتي أشار إليها بقوله سبحانه وتعالى في خطابه للملائكة عند خلق أبينا آدم وتكوين جسده: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) [الحجر:29]، فلِشَرفها أضافها إلى نفسه وقال: (مِنْ رُوحِي) تكريماً لها، ليست الروح الحيوانية، هذه الروح الحيوانية الطبية موجودة عند سائر الحيوانات، وعند جميع الأنعام، وعند كل دابة، حتى عند النملة، وعند الحشرة، موجودة هذه الروح؛ حياة يتحرك بها الجسد، ليست هي المرادة.
ولكن المختلف فيه عند أهل التحقيق من أهل السُّنة، فمنهم من نظر إلى هذا الروح الحيواني الطبي، وقال: جسمٌ لطيفٌ بخاري، ينتشر في سائر العروق، وبعضهم تصوّر أنه الدم، وليس بالدم، ولكنه رتّب الله على وجود ذاك الروح تسيير الدم في عروق هذا الإنسان.
ولكن مرادنا الروح الرباني، اللطيفة الإلهية، السرّ الرحماني الذي يَعي ويُدرك من أسرار الخطاب وعظمة الموجد المخاطِب ما لا يُدرك غيره، ويفهم الإشارة وبه يتكوّن التكليف، ويترتب عليه الثواب والعقاب، ولذا ما ترتّب على الحيوانات بمختلف أصنافها، وكلها فيها أرواح ليس عليها ثواب ولا عقاب، ما لها دخل في هذا، وإن كان يقتصّ الرحمن لبعضها من بعض، لكن لا على سبيل التكليف ولا على سبيل التشريع ولا الأمر والنهي، ما هناك شيء، إنما على سبيل إقامة العدل منه سبحانه وتعالى. لكن المكلف مخاطَب، وعنده أوامر، وعنده نواهي، وعنده شريعة، فهي في الحقيقة تشريف من الله لهذا الإنسان، إذا عَقَل هذه المِنّة وهذه النعمة، وما جعله مثل الحيوانات لم يخاطبها ولم يُنزل عليها شريعة ولا وحي ولا أمر ولا نهي، واختصّ هؤلاء العقلاء من الإنس والجن بذلك، فكانت في حقيقتها تشريف وتكريم، ولكن من لم يقبل الكرامة من أهل اللوم فحُقِّ عليه المهانة والخسارة والندامة -والعياذ بالله تعالى- ومن قَبِلَ الكرامة وقد شرّفه ربه وأكرمه فقام بحق التكليف فله التمجيد وله التشريف وله العطاء والقدر المنيف والجود الواسع بغير حدٍّ ولا حصر.
"قال المشايخ: هي أعيان لطيفة مُودعة في هذه القوالب أجرى الله العادة بخلق الحياة في القالب ما دامت الأرواح في الأبدان، فالإنسان حيٌّ بالحياة، ولكن الأرواح مُودعة في القوالب، ولها ترقٍّ في حالة النوم ومفارقة للبدن ثم الرجوع إليه".
قال الله تعالى: (ٱللَّهُ یَتَوَفَّى ٱلۡأَنفُسَ حِینَ مَوۡتِهَا وَٱلَّتِی لَمۡ تَمُتۡ فِی مَنَامِهَاۖ فَیُمۡسِكُ ٱلَّتِی قَضَىٰ عَلَیۡهَا ٱلۡمَوۡتَ وَیُرۡسِلُ ٱلۡأُخۡرَىٰۤ إِلَىٰۤ أَجَلࣲ مُّسَمًّىۚ ) [الزمر:42].
فعلاقة الروح -وقد حُبست في قفص هذا الجسد- علاقتها بالجسد تثقلها عن الطيران وعن الجولان في العوالم التي كانت تسرح فيها وتسبح فيها قبل أن تُجعل في هذا الجسد. وكلما قويت المجاهدة خفّت علاقة الروح بهذا الجسد، فتمكّنت من انطلاق، وتمكّنت من مطالعات للوائح ولوامع وطوالع كانت تطالعها قبل أن تُجعل في هذا الجسد.
وكذلك في وقت المنام تخفّ العلاقة بين الروح والجسد في ساعة النوم، فإنه إنما يحتاج في تلك الساعة ساعة منامه إلى مجرّد الروح الحيواني هذا الذي يبقى في جسده. ولكن هذا الروح الأشرف يجد خِفّةً في اتصاله بهذا الجسد عند نوم هذا الإنسان؛ لأنه في يقظته مشدود إلى الأكوان وكثائفها وما فيها، وحاضرة عنده شهواته وأهوائه، وهذا كله يكبّل الروح الشريف المعنوي؛ ولذا أهل المجاهدات والرياضات تخفّ أرواحهم، فهم في اليقظة مثل النائم في خِفّة الروح وأزيد من ذلك! وهكذا؛ تجد النائم لما يخفّ علاقة الروح بهذا الجسد، يرى أنه طار، يرى أنه سافر إلى أماكن، يرى أنه عمل أعمال كثيرة.. في وقت قصير، كلها لحظات يرى فيها الرؤيا، وربما كان فيها سفر من مكان لمكان، وربما كان فيها زواج وولادة، وربما كان فيها أكثر من ذلك، وهو في لحظات خفيفة، وتدور كلها.. لخفة هذه الروح.
فكذلك أرباب المجاهدات الذين قوّوا القلوب واستجابتها للمعارف، وأخضعوا شهوات الأنفس والأبدان، فما استعملوا منها إلا الحاجات أوالضرورات بمقدار، وصبغوا ذلك بصبغة الآداب والسنن، فتصير الروح خفيفة وعلاقتها بالجسد؛ فما عاد هناك كثائف تشدها إلى العالم الجسماني، فحينئذ تجد انطلاق؛ فتجد صاحب هذه المجاهدة، كما يرى النائم في نومه ما يراه هو أيضًا في يقظته يرى لأن روحه خفيفة وغير مكبلة بهذه القيود وهذه الأثقال، فلذلك يحصل فيها انطلاقة فتشاهد ما تشاهد..
فمنها ما يكون في اليقظة، وإليه الإشارة أيضًا بما جاء في صحيح البخاري: "مَن رَآنِي في المَنامِ فَسَيَرانِي في اليَقَظَةِ". ويحدثنا ﷺ عن مشاهِده في اليقظة ومنها ما كان في ليلة الإسراء والمعراج، وكان يقصّ لنا أنباء المرسلين ولقائه بهم، وقال الحق لنبيه ﷺ: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ ۖ)[السجدة:23]، لقيَه ليلة الإسراء والمعراج، وكان بينه وبينه كلام، لقيَه في بيت المقدس في الأرض، ولقيَه في السماء السادسة عند العروج، وتردّد بينه وبين الحق تعالى في تلك الليلة، فكان لقاء خاص بموسى فيقول: (فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ ۖ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ) [السجدة: 23]. فوصف لنا أشكال الأنبياء وذلك أن الأرواح تتشكّل بشكل الأجساد التي كانت فيها والتي كانت عليها، أما أجسادهم -صلوات الله عليهم- ففي الأماكن التي قُبروا فيها محفوظة، لا يمسّها التراب ولا يأكلها الدّود، محروسة بحراسة الله، ومعظمة عند الله تعالى، أما أرواحهم فتجول. فمنها عند قبره، قال في صحيح مسلم:" مَرَرْتُ- على مُوسى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بي، وَهو قائِمٌ يُصَلِّي في قَبْرِهِ". ولقيه ثاني مرة في بيت المقدس، ولقيه ثالث مرة في السماء السادسة، ورابع مرة أيضا بعد رجوعه من المعراج في السماء السادسة، إلى تسع مرات يتردّد بينه وبين الربّ جل جلاله وتعالى في علاه. فكان يصِف لنا أشكالهم لأن أرواحهم تتشكل في عالم الحسّ والنظر بشكل الأجساد التي كانت عليها فتظهر فيها.
وبقدر خِفّة هذه الأرواح وتخلّصها من أكبال وقيود عالم الحِسّ وعالم الجسمانية وكثائف هذا العالم، كلما تخلصت من هذه القيود صَفَت، وإذا صَفَت قالوا:
كم شخص تنظره حاضرًا *** وروحه في العُلا تجُول
وروحه في العلا تجول… وهكذا.
وقد يسطو سلطانها على الجسد، وإذا سطا سلطانها على الجسد، صار الجسد يتحرك بحركة الروح، فيمكن أن يذهب من مكان إلى مكان في وقت قصير. وقد سطت روح آصف بن برخيا بوجهته وهمّته على عرش بلقيس، وحركته من أرض اليمن من مأرب إلى فلسطين في لحظة! قال الله تعالى: (قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ۚ) [النمل:40]. وهذه من جملة خصائص الروح فيما آتاها الله تعالى من قوة، آتى الأجساد قوة إلى حد معين، ويختلف الواحد عن الثاني فيما يقدروا أن يحملوه، وجعل أيضًا لها اتصال بأجساد أخرى تركب عليها، مثل الحيوانات التي تركب عليها، ثم جاءت الدراجات، وجاءت السيارات، وجاءت الطائرات، ومثل هذه المركبات الفضائية، فيتصّل بهذا الجسد وتأخذه إلى حدود محدودة. لكن قدرات الروح وإمكانياتها أعلى من ذلك وأكبر وأجلّ، فبهذا يصير طيرانها في العوالم أقوى من طيران الأرواح الخبيثة الشريرة، أرواح الجِنّ الماردين، الذين يتحركون من محل إلى محل بسرعة، فأرواح الطاهرين أقوى وأصفى وأقدر على التصرّف وانفعال الأشياء لها. فبهذا قال سيدنا الإمام الحداد:
عشْ بالرّجَاءِ وَالأمل يَا صَاح *** وحَسِّنِ الظَّنَّ بِالْمَعْبُودِ
وزجَّ وقتك بالأفراح *** وَلاَ تَأْسَفْ عَلَى مَفقود
وَارْقَ إِلَى عَالَمِ الأَرْوَاح *** فإنه الأصل والمقصود
ولا تعوّل على الجثمان ***..............................
ستبقى طول عمرك أنت والجسد والعالم الجسماني ذا إلى متى؟!
ولا تعوّل على الجثمان *** فإنما هو إلى التُّربِ
هذا يرجع إلى التراب، ولكن هذه الروح وشأنها.. اهتم بها
نعم عالم الأرواح خيرٌ من الجسم *** وأعلى ولا يخفى على كل ذي علمِ
فمالكَ قد أفنيتَ عمرك جاهدًا *** بخدمة هذا الجسمِ والهيكل الرسمي
ليل ونهار فكرك في الجسد والجسد والجسد، وأكل الجسد ونوم الجسد وشرب الجسد ولبس الجسد، وبعد.. هل شيء معك ثاني وإلا خلاص أنت جسد خالص؟ أنت جسد مفرد مجرّد فقط ما معك شيء ثاني؟.. أنت عندك روح، أين طعام الروح؟ أين لباس الروح؟ أين بهجة الروح؟ أين صفاء الروح؟ أين غذاء الروح؟…
فمالك قد أفنيت عمرك جاهدًا *** بخدمة هذا الجسمِ والهيكل الرسمي
إذا كنت كذا:
ظلمتَ وما إلا لنفسك يا فتى *** ظلمتَ وظلمُ النفس من أقبح الظلْمِ
تَنَبَّه هداك الله من نوم غفلةٍ *** ولهوٍ ولا تعمل على الشكِّ والوهم
وسِرْ في طريق الله…. *** ……………………………..
هناك حياة الروح وهناك رقيّها وهناك انطلاقها
وسِرْ في طريق الله بالجدِّ واستقمِ *** ولازِم وخُذ بالعزمِ يا صاحب العَزْم
وبادِر نزول الموت والقبر والبِلى *** وبعثًا إلى الديّان للفصلِ والحكم
ومن بعده إما مصيرٌ إلى لظى *** أو الجنة العليا ……….
إيش في الجنة العليا؟ قال:
……………………….*** أو الجنة العليا ووُجْدٍ بلا عُدْمِ
حياةٌ بلا موتٍ، نعيمٌ بلا شقا *** ومُلْكٌ بلا عزلٍ ...
ملك عظيم ليس فيه منغصات، لا أحد يعزلك منه، ولا أحد يخرجك منه، ولا يقولون انتهى، لا تموت ولا تُعزل من هذا الملك (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا) [الإنسان:20]، ما تقوم عليك مظاهرات، ولا إنقلاب ولا شيء من هذه الأشياء، ولا أحد يقول ارحل، ولا أحد يقول شيء من كلام الناس هذا كله، هذا مُلك عزيز دائم.
حياةٌ بلا موتٍ، نعيمٌ بلا شقا *** ومُلْكٌ بلا عزلٍ وشبابٌ بلا هُرْم
وإيش فوقه؟
ورؤية رب العالمين تقدسَت *** أساميه والأوصافُ يا لك مِن قِسم
وفوزٌ عظيمٌ لا يُسامى وحظوةٌ ***وغُنمٌ كبيرٌ حبذا لك من غُنم
لمن هذا؟ هذا لمن انتبه من روحه وما حُبس في عالم الأجساد في الدنيا.
لمن ترك الدنيا لمن خالف الهوى *** لمن آثر الأخرى لمن قام بالعِلم
لمن لازم الطاعات والبّرَّ والتقى *** وأخلص للمولى مع الصدق والحزم
وصلِّ إلهي مع سلامٍ مضاعفٍ ***على أحمد الهادي الأنام إلى السِّلم
صلوات ربي وسلامه عليه، فهو المنادي للأرواح وهو قبلتها في توجهّها إلى إلهِهَا الفتاح.
فكما جعل لأجسادنا وجهة لتصحّ صلاتنا قال تعالى: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُۥۗ) [البقرة:144] فإذا قمنا إلى الصلاة وجب علينا التوجّه إلى جهة الكعبة المشرفة؛ فتصح منا صلاتنا ومن انحرف عنها متعمّدًا بطلت صلاته. كذلك وجهة الأرواح في وجهتها إلى الله الملك الفتاح قبلتها محمد ﷺ؛ لهذا قال لنبيَّ ﷺ: "صَلُّوا كما رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي"، وقال تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ)[النساء:65] وقال ﷺ:" لا يؤمنُ أحدُكم حتّى يَكونَ هواهُ تبعًا لمّا جئتُ بِهِ"، يعني: يحسن استقبال القبلة لروحه، "هواه تبعًا لما جئتُ به" يعني: يُحكِم استقبال القبلة تمام، (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، "حتّى يَكونَ هواهُ تبعًا لمّا جئتُ بِهِ"؛ فهو قبلة الأرواح -صلوات ربي وسلامه عليه- في وصولها إلى الرب -جل جلاله-؛ فمن زاغ هنا وهنا.. كمن زاغ عن الكعبة تبطل صلاته، وهذا أيضًا باطل سيره ما يصحّ له سيرٌ إلى الله تعالى إلا باستقبال هذه القبلة صلوات ربي وسلامه عليه.
قال: "ولها ترقٍّ في حال النوم، ومفارقة للبدن، ثم الرجوع إليه، وإن الإنسان هو الروح والجسد؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- سخر هذه الجملة بعضها لبعض".
فيكون الحشر للإثنين معًا، فكيف إذا كان وأكثر الأجساد تتحلل وتصير تراب، وهكذا كما بدأ تكوينها من تراب، ثم وُضِع فيها الماء فصارت حمأ مسنون، فيبسَت فتصلّبت فصارت صلصال كالفخار، ثم نُفِخ فيها الروح فقامت؛ نفس الشيء عندما تُنزَع عنها الروح يرجع الجسد صلصال كالفخار، وترجع إلى التراب فتتحلّل، فترجع حمأ مسنون، فتذهب فترجع إلى التراب كما كانت خلاص صارت تراب، لا إله إلا الله!
فكيف تحشر هذه الأجساد؟ يكوِّنها الله -تبارك وتعالى-، أما الأجساد الكريمة وهي:
- أجساد الأنبياء
- وأجساد الشهداء في سبيل الله
- وأجساد العلماء العاملين بعِلمهم
- وأجساد حفظة القرآن غير الغالين ولا الجافين عنه
- وأجساد من أذّن سبع سنوات محتسب لله في مسجد
هؤلاء خمسة من الأصناف الذين حدثتنا السُّنة عنهم أن أجسادهم لا تأكلها الأرض: الأنبياء، والشهداء، والعلماء العاملون بعلمهم، وحفّاظ القرآن غير الغالين فيه ولا الجافين عنه، والمؤذّن سبع سنوات المحتسب لله تعالى في مسجد من دون أجرة ولا مقابل؛ فهؤلاء أجسادهم تتشرّف، فما تأكلها الأرض، تبقى نفسها نفس الجسد الذي فارقته الروح عند النفخة الثانية تعود الروح إليه ويقوم من قبره، والأجساد الأخرى تتحلل وتأكلها الأرض، يعيدها الله وقت النفخة الأولى، فإذا نفخ إسرافيل النفخة الأولى قال تعالى: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ)[الأنبياء:104]، النفخة الأولى: ينزل الله مطرًا من السماء، فلا يصل إلى عجب الذنب وهو: العظم في آخر العمود الفقري عند العُصعُص، هذا العظم الصغير مثل حبة الذُّرة؛ ما إن يصل إليه هذا الماء فينبت الجسد كما كان، يرجع على الهيئة التي توفي عليها، يُبعث الإنسان على ما ماتَ عليه؛ الهيئة التي توفي عليها يعود نفس الجسد ما بين النفختين، ثم يحيي الله إسرافيل فيأمره بالنفخة الثانية، فإذا نفخ النفخة الثانية طارت الأرواح ودخل كل واحد جسده، وهل يعرف كل واحد الجسد حقه؟ نعم.. أهدى إليها من الشرايح والطائرة بلا طيار، والطيران والطائرات المسيَّرة، وما إلى ذلك؛ تروح إلى أهدافها؟ هذه أهدى إلى أجسادها! كل واحدة تروح إلى عند الجسد حقها، فيقوم الجسد قال تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [الزمر: 68-69].
قال: فالحشر للأجساد أيضًا مع الأرواح، وبهذا يقول أنه كَفَر بعض الفلاسفة الذين أنكروا حشر الأجساد، وقالوا الحشر للأرواح؛ يعني إيش قصدكم الذي كوَّن الجسد من طين في البداية، ثم نطف في أرحام الأمهات، عاجز عن أن يكوِّنها ثاني مرة؟! إيش حصل في قدرته؟ ماذا نقص؟!.. لكن هكذا العقول إذا أضلّها الله ما تهتدي إلى الحق، فأنكروا حشر الأجساد، وكانوا يقولون عن أصناف الفلاسفة الذين شذّوا وخرجوا عن الهدى في العصور الماضية:
بثلاثةٍ كفر الفلاسفة العِدا *** إذ أنكروها وهي حقًّا مثبتة
علمٌ بجزئيٍ، حدوثُ عوالمٍ *** حشرٌ لأجسادٍ وكانت ميتة
علمٌ بجزئي؛ إحاطة علم الله تعالى بالجزئيات قالوا يعلم الأشياء جملةً لا تفصيلا؛ ‘يش؟ محتاج تعطونه معلومات؟! قال تعالى: (أَلَا یَعۡلَمُ مَنۡ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِیفُ ٱلۡخَبِیرُ) [الملك:14]، وقال تعالى: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا)[الطلاق:12].
علمٌ بجزئيٍّ حدوثُ عوالمٍ؛ قالوا إن العالم في أصله قديم ليس بحادث أو الأرواح قديمة كذلك كما ذكر الشيخ، لا قديم إلا واحد، الله وحده هو الموجود بذاته، وبقية الأشياء كلها مخلوقة مكوّنة، لم تكن لا أرض ولا سماء ولا عرش ولا كرسي ولا روح ولا جسد ولا جنة ولا نار ولا إنسان ولا مَلَك ولا جنّي ولا حيوان ولا بَر ولا بحر ولا أي شيء، ما كان أي شيء موجود "كان الله ولم يكن شيءٌ غيره" كما قال ﷺ في صحيح البخاري، فهؤلاء لما قالوا بقدم الأرواح كفروا.
………………… *** حشرٌ لأجسادٍ وكانت ميتة
قال: "والحشر والثواب والعقاب للجملة". الروح والجسد كلها؛ فللروح تألم وللجسد أيضًا تألم. "والأرواح مخلوقة من قال بقدمها فهو مخطئ خطأً عظيماً. والروح معدن الخير، والنفس معدن الشر. والعقل جيش الروح، والهوى جيش النفس، والتوفيق من الله تبارك وتعالى مراد الروح، والخذلان مراد النفس".
فالنّفس الأمارة معدن الشرور، بهواها ومشتهياتها الفانية، ومُرادها الخذلان إلى شهواتها مع الانقطاع عن الله تعالى. ولكن الأرواح معدن الخيرات، والتعلّق بالعالم الأعلى، وإرادة القرب من الرب جل جلاله، ومرادها التوفيق من الله سبحانه وتعالى. وعلمتَ أن:
- قبول لَمّة المَلَك والعمل بمقتضاها توفيق
- وقبول لَمّة الشيطان والعمل بمقتضاها خذلان
- ولمّة المَلَك إلهام
- ولمّة الشيطان وسواس
كما تقدم معنا؛ والهواجس بما يتعلق بشأن النفوس وإراداتها حتى تصفو وتطمئن. فالله يروّح أرواحنا بنسيم قربه، ويجعل لنا النصيب الوافر الوافي المتزايد أبدًا من حبه، قال تعالى: (ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ)[الحديد:21].
والسرّ باطن روح الإنسان. "ومن علوم الأحوال: مَعْرِفَةُ الأَسْرَار، وهي: السِّرُّ، وسِرُّ السِّرِّ َ؛ فالسر: لطيفة مودعة في القلب كالأرواح وهي محل المشاهدة". أي: السر محل المشاهدة، وهي المعاينة القلبية، فهي البصيرة وهي عين القلب المشار إليها في قول الله: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج:46]، فإذا شُفِيَ القلب من العمى انفتحت هذه العين فبالسِّر يُشاهد، يشاهد المعنويات كما تشاهد العين الجسدية الحسيّات والأجسام، فتشاهد أعيننا هذه الأجسام والألوان المختلفة إلى مسافاتٍ معينة. وكذلك إذا انفتحت عين البصيرة، انفتحت عين القلب، انفتح السِّر وصفى، فانفتحت تلك العين فتشاهد المعنويات على مدى أكبر وأوسع من مشاهدة هذه الأبصار، فإن الأبصار ليست لها خطر، لهذا قال تعالى: (لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ)؛ لأن عمى الأبصار لا يترتب عليها شيء من فقدان السعادة الكلية العظيمة الأبدية، لكن المصيبة عمى القلوب هذا، يفوِّت على صاحبه المُلك الكبير والنعيم المقيم والخير العظيم.
الله ينور قلوبنا، ويصفّي أسرارنا، ويفتح عيون قلوبنا، روِّح بصر عيون قلوبنا، بحق الفحول عليك يا مروّح الأرواح.
قال في ذاته ﷺ: له ذات لو شافها الأعمى شُفِيَ من عماه؛ لا إله إلا الله… فيفتح الله -سبحانه وتعالى- عيون القلوب بواسطة الحبيب ﷺ، وما يمتدّ من ذاته الكريمة، وحضرته العظيمة، من القرآن الكريم، ومن السُّنة، وعلى أيدي حملة السر من صحابته وأهل بيته وخلفائه وورثته من العارفين والمقرّبين، وبها يفتح الله تعالى على من شاء.
قال: "لطيفة مودعة في القلب كالأرواح وهي محل المشاهدة، كما أن الأرواح محلُّ المحبة، والقلوب محل المعارف".
- فالمعرفة محلها القلب أي: الباطن العام.
- ووسط الباطن العام: خصوص الروح، هذه محل سقيا المحبة، وانجلاء أسرار المحبة، وحقائق المحبة بواسطة الروح، قال ﷺ:" الأرْواحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَما تَعارَفَ منها ائْتَلَفَ".
- وباطن الروح هذا سِر؛ محل المشاهدة.
قال أيضًا، أو كما يذكر سيدنا المؤلف الإمام العيدروس: أن مفتاح القلب لا إله إلا الله، فبكثرة لا إله إلا الله والاستغراق فيها ينفتح القلب، ويصل هذا الإنسان إلى عالم القلب وهو محل المعرفة؛ قال: وباطن القلب الروح ومفتاحه اسم الجلالة الله الله الله. ولذا ينبغي أيضًا للسائر إلى الله عند إشرافه على مقام الفناء أن يشتغل باسم الجلالة: الله الله الله، ثم السِّر مفتاحه الضمير: هو هو هو.
- فيُستفتح القلب بـ لا إله إلا إلا الله
- ويُستفتح الروح باسم الجلالة: الله
- ويستفتح السِّر بالضمير: هو هو هو، لا إله إلا هو
قال: السِّر الذي هو في باطنك يكون لك عليه شيء من الإشراف؛ فتعلم شيء من سرك ومن باطنك ومما يجول في ضميرك، لكن سِر السر؟! هذا أمر وراء السِّر (یَعْلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخْفَى) [طه: ٧] هذا سر السر، لا أنت ولا غيرك تطلعون عليه.. فجعل الله في بواطن هذه الأرواح من السر ما لا يطلع عليه لا صاحب الروح نفسه ولا غيره إلا هو -جلَ جلاله-، ولهذا يقولون: إن سريرة الولي بينه وبين الله لا يطلع عليها حتى الولي نفسه ما يحيط بها، إلا الله سبحانه وتعالى، سِر السر، وقد ذكر لنا خلعة سر السر، ذكر لنا خلعة الأعضاء -خلع التقوى- خلعة الأعضاء: بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، وذكر لنا خلعة القلوب بالمقامات -مقامات اليقين- وذكر لنا خلعة الأرواح بالأحوال، ثم ذكر لنا خلعة السر في خلاصة الأذواق والمشاهدات، ولكن ذكر خلعة سر السر، هذا الأمر الكبير والخلافة العظمى عن الحق جل جلاله، وما لا يُطاق وصفه.
يقول: "السِّرَّ ما لك عليه إشراف، وسِرُّ السر: ما لا اطلاع عليه لغير الحق. والسر أشرف من الروح، والروح أشرف من القلب، وصدور الأحرار قبور الأسرار".
ثم قال بعض العارفين: بل صدور الأحرار أكتم للسِرّ من القبور للأجساد، فإن القبر ربما يُنبش، لكن أرواح المقربين هؤلاء أسرارهم يحفظونها ويصونونها كما أمرهم الله تبارك وتعالى.
فصلٌ
فتوحات أهل النهايات
"في فتوحات أهل النهايات؛ من الفناء، والبقاء، ودوام اللقاء، فصاحبها يداوم الذكر، بعد أن أفنى أفعال نفسه في أفعال ربه؛ بملازمة الشريعة، وصفاته في صفاته؛ بمزاولة الطريقة؛ حتى تجوهر القلب بنور الذكر، وعرى الذكر عن كسوة الحرف والصوت، وانطبع نوره في مرآة القلب المصفاة عن دنس أوصاف البشرية.
ثم يسري إلى الروح ويتجوهر بجوهر الذكر، ويتحد الذكر والذاكر؛ فيكون الذكر ذكر الذات؛ وحينئذٍ تتنور أجزاء الموجودات بنور ذكره؛ لأنه محيط بها، وتذكر الله معه، ثم (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [فاطر:10].
والذكر الطيب: هو الذي لم يكن معلولًا بعلة دنياوية، ولا أخراوية، ويكون خالصًا لله؛ بأن يذكره ببذل وجوده عليه، وإفنائه فيه بمباشرة الحقيقة، على مقتضى حقيقة قوله (فَاذْكُرُونِي)؛ ليبقيه به على قضية (أَذْكُرْكُمْ) [البقرة:152]، وهو عبارة عن تجلي جماله الموصوف بالمذكورية لذاكريته؛ ليفنيه عنها، ويبقيه بمذكوريته.
ثم يكون المحو عما يذوقه من تجلي صفات الجمال. ثم المحو، والطمس عما يصادفه من تجلي صفات الجلال؛ فمن فني عن أفعال نفسه.. فهو باق بأفعال الله تعالى، ومن فني عن صفاته.. فهو باق بصفات الله، ومن فني عن ذاته.. فهو باق بذات الله، كما قال قائلهم:
وقوم تاهوا في أرض بقفر *** وقوم تاهوا في ميدان حبّه
فأُفنُوا، ثم أُفنُوا، ثم أُفنُوا *** وأُبقُوا بالبقاء بقُرب قُربه
فالأول -كما قالوا- فناء صفاته ببقائه بصفات الحق، ثم فنائه عن صفات الحق بشهود الحق، ثم فنائه عن شهود فنائه باستهلاكه في وجود الحق، وهو فناء الذات في الذات.
وهذا تحقيق قوله تعالى: (قُلِ اللَّهُ ۖ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) [الأنعام:91].
يقول: "في فتوحات أهل النهايات؛ من الفناء، والبقاء، ودوام اللقاء". فشؤون أهل البدايات عظيمة ومحيرة، فكيف بشؤون النهايات! فأهل النهايات كلهم في نهاياتهم، -جميع الصديقين من غير الأنبياء- بالنسبة للأنبياء نهاياتهم بداية الأنبياء، والأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم كلهم- نهاياتهم بداية سيّدهم محمد -ﷺ-، لهذا يقول:
………………………. *** بمبداه حارَ الخلق كيف انتهاؤه
قال في مطلعها:
هو النور يهدي الحائرين ضياؤه *** وفي الحشر ظلّ المرسلين لواؤه
تلقّى من الغيب المجرد حكمةً *** بها أمطرت في الخافقين سماؤه
ومشهودُ أهل الحق منه لطائفٌ *** تخبّر أنّ المجد والشأو شأوه
إلى أن قال: بمبداه حار الخلق كيف انتهاؤه.. اللهم صلّ عليه وعلى آله.
قال: "فصاحبها يداوم الذكر"، ويتعلق بالمذكور -جل جلاله-، ويستلذُّ الذكر، ويستغرق في الذكر، ويمتلئ بالذكر عاشقًا للمذكور، فيغلب عليه الذكر، (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد:28]؛ وبكثرة الذكر يظهر السر ما في الغيوب، (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)[البقرة:152]، قال: يداوم على الذكر ويُقبِل بالكلية على الذكر، ومن هنا طلبوا الخلوات، من أجل جمعية الوجهة على الرب، وجمعية الباطن على الإله سبحانه وتعالى.
قال: "بعد أن أفنى أفعال نفسه" أولًا؛ كيف أفنى أفعال نفسه هذا؟ قال: ضبط أفعاله كلها "بملازمة الشريعة"؛ فأفنى أفعال نفسه بأفعال ربه، أي: بما شرع له من الأحكام الواجب، والمندوب، والمسنون، أقبل عليه، والمباح دخل فيه أيضًا بوصف الحضور مع الله تعالى؛ معتقدًا حِلَّ ما أحلَّ وبالنيات الصالحة، وتَجَنَّب المكروه، وتَجَنَب الحرام، وابتعد عنه في أفعاله كلها وأقواله، فصارت أفعاله فانية، فَنِيَت الأفعال التي تقوم على مُرادات نفسه، وعلى هواه، وعلى شهواته ما بقي إلا الفعل الذي شرع له الرب، فهذا فناء الأفعال، فناء الأفعال في أفعال الله تعالى؛ بانقطاع الفعل عن مخالفةٍ، وعن فعل المكروه فضلًا عن الحرام، فَنِي خلاص.. ما بقي فعل دافعه النفس والهوى، أفعاله إلا إيش أحب منه؟ إيش أباح له؟ إيش أمره به؟ يفعله، فَفَنِيَت أفعاله في أفعال الشريعة؛ ففَنِيَت أفعاله في أفعال الله -تبارك وتعالى-، وهذا بداية الفناء.
ثم تَفنى صفاته في صفاتِ المتجلّي عليه والمُتَكَرّم له، بمزاولة الطريقة والثبات فيها والرسوخ فيها، حتى تنحَلّ صفات نفسه وهواه؛ فلا يبقى له إلا صفة شرعها الربّ وأحبّها الربّ -سبحانه وتعالى-، وندب إليها الربّ على لسان رسولَه، فما تبقى عنده صفةٌ يبغضُها اللهُ، ولا صفةٌ يكرهها اللهُ، ولا صفة مُبعِدةٌ ولا حاجزة حاجبة عن الله تعالى، ما بقي عنده شيءٌ من صفة الكِبْر، ما بقي عنده شيءٌ من صفة الرياء، ما بقي عنده شيءٌ من صفة الغرور، ما بقي عنده شيءٌ من صفة العُجب، ما بقي عنده شيءٌ من صفة إرادة السوء بالعباد، ما بقي عنده شيءٌ من صفات النفاق، ولا من صفات سوء الظن،… كُلُّ وصفٍ مذمومٍ تخلّى عنه؛ ففَنِيَت صفاته، ما عنده إلا الأوصاف التي يحبّها الربّ، والأوصاف التي يحبّها الربّ مستمدةٌ من نور صفات الربّ -جلّ جلاله-: حِلم، وكرم، وإخلاص، ومحبّة، وإِنابة، وخشية؛ وكلها يمدّها الحق -سبحانه وتعالى-، فما يبقى شيء من صفاته الكثيفة، والمُظلمة، والقاطعة.. كلها راحت؛ هذا فَنِيَت صفاته في صفات الربّ، ما تحصّل عنده إلا صفة العبوديّة، صفة العبديّة، وصفة العبودة، صفة الإنابة، صفة الخشية، صفة الصدق، صفة الأمانة، صفة الكرم، صفة الأدب، فهذا فنيت صفاته في صفات الربّ -سبحانه وتعالى-، ولكن بعد فناء الأفعال أول، تفنى الأفعال في الشريعة، وبعدها يأتي فناء الصفات، تضمحل الصفات الذميمة فلا يبقى منها شيء؛ بعد ذلك يأتي فناء الذات.
قال: "حتى تجوهر القلب بنور الذكر" في الطريقة لما فَنيَت الصفات بصفات الله "وعرى" خَلِيَ "الذكر عن كسوة الحرف والصوت" عند الاستغراق، يمتلئ بالذكر لله -تبارك وتعالى-، فيصير ذاكرًا لله، مُهلّلاً، أو مُسبِّحًا، أو حامدًا، أو مُحَوِقلاً، أو رجَّاءًا، أو مُكبّرًا له بباطنه، حتى ما عاد يجد الحاجة إلى التلفّظ والنطق واللسان، فيغتمر كله وأجزاؤه بنور الذكر للحقّ تبارك وتعالى.
وقد كان هذا جدّ المؤلف العيدروس، جدّه عبد الرحمن السقّاف، أحيانًا الباطن ينجلي على الظاهر، فيَدخل الداخل عليه يجده يذكر الله، ويجد الأعضاء كلّها تذكر، والشعر حقّه يحسّ فيه ذكر لله تعالى، والثياب التي عليه، والسجادة التي فوقها، ويحسّ الذكر من كلّ مِحلّ يَسْري منه، وهكذا (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [الإسراء:44]، ولكن إذا غلب سلطان الذكر على العبد، فما بقي حركةٌ للسان ولا لغيرها، وبقي القلب يذكر الله تعالى، ثمّ يسكن القلب تحت هيبة المذكور -سبحانه وتعالى-، فيتجوهر كله بجوهر الذكر، فيصير ذاكرًا لله بكلّ ذرّة من روحه، وقلبه، وجسده، وأجزائه كلها. قال: "وعرى الذكر عن كسوة الحرف والصوت، وانطبع نوره في مرآة القلب المصفّاة عن دنس أوصاف البشرية.
ثم يسري إلى الروح ويتجوهر بجوهر الذكر، ويتحد الذكر والذاكر؛ فيكون الذكر ذكر الذات؛ وحينئذٍ تتنوّر أجزاء الموجودات بنور ذكره؛ لأنه محيط بها، وتذكر الله معه".؛ الأجزاء من حوله هذه الكائنات، قال تعالى للجبال مع سيدنا داود: (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ۖ) [سبأ:10]، فهو سيدنا داود يقرأ ويذكر وإذا الجبال يسبحن معه بتسبيحه، وتسبح الطيور وما حواليه، هكذا كان. يقول بعضهم: لو أحد من المبتدعة شافه بيقول إيش هذه بدعة كبيرة!.. كله الكون معه يظهر تسبيحه معه (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ)، (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ) [ص:18]، فبتسبيحه تسبح الجبال من حواليه، هذا الذكر العظيم، وذا نبي من الأنبياء! لاإله إلا الله..
قال: "وحينئذٍ تتنور أجزاء الموجودات بنور ذكره؛ لأنه محيط بها، وتذكر الله معه، ثم (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [فاطر: 10].
والذكر الطيب: هو الذي لم يكن معلولًا بعلة دنياوية، ولا أخراوية."؛ يعني: يستغرق صاحبه في الله -تبارك وتعالى-، فما يخطر على باله إرادة شيءٍ في الدنيا، ولا إرادة شيءٍ في الآخرة، إذ تعلّق بمالك الدنيا والآخرة، ومُصَرِّف الدنيا والآخرة، وربّ الدنيا والآخرة، والمتحكّم في الدنيا والآخرة، وخالق الدنيا وخالق الآخرة، فإيش يريد بالدنيا وإيش يريد بالآخرة؟ لا إله إلا هو جلّ جلاله..
قال: "ويكون خالصًا لله؛ بأن يذكره ببذل وجوده عليه، وإفنائه فيه بمباشرة الحقيقة، على مقتضى حقيقة قوله (فَاذْكُرُونِي)"؛ فيحصل الفناء "ليُبقيَه به على قضية" ومقتضى وحقيقة "(أَذْكُرْكُمْ) [البقرة:152]، وهو عبارة عن تجلّي جماله الموصوف بالمذكورية لذاكريته؛ ليفنيه عنها، ويبقيه بمذكوريته." بمذكورية الرحمن لا بذاكريته هو "ثم يكون المحو عما يذوقه من تجلّي صفات الجمال"، فيشرق سلطان نور الجميل؛ ثمّ ينال المحو عمَّا يذوقه من صفات الجمال ويشرق له نور الجميل.
"ثم المحو، والطمس عمّا يصادفه من تجلّي صفات الجلال"، فيبقى مع الجليل "فمن فني عن أفعال نفسه.. فهو باقٍ بأفعال الله تعالى، ومن فني عن صفاته.. فهو باقٍ بصفات الله، ومن فني عن ذاته.. فهو باقٍ بذات الله، كما قال قائلهم:
وقومٌ تاهوا في أرض بقفر *** وقومٌ تاهوا في ميدان حبّه
فأُفنُوا، ثم أُفنُوا، ثم أُفنُوا *** وأُبقُوا بالبقاء بقُرب قُربه
فقوله: فأُفنُوا ثم أُفنُوا ثم أُفنُوا--ثلاث مرات-
- "فالأول -كما قالوا- فناء صفاته ببقائه بصفات الحق"،
- ثم أُفنُوا "ثم فنائه عن صفات الحق بشهود الحق".
- ثم أُفنُوا ثالث مرة: "ثم فنائه عن شهود فنائه"
فنائه عن شهود فنائه؛ أن يشهد أنّه هو فاني، فما يشهد إلا المتجلّي، بس مَن أَنَا؟ وأنا… لا فاني ولا باقي، ولكن هو -سبحانه وتعالى- الباقي؛ فيفنى عن فناء شهود فنائه "باستهلاكه في وجود الحق" -جلّ جلاله-، وإذا برز سلطان وجود الحقّ ما عاد بقي معه موجود أصلًا، "وهو فناء الذات في الذات. وهذا تحقيق قوله تعالى: (قُلِ اللَّهُ ۖ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ)".
(قُلِ اللَّهُ ۖ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ)، (قُلِ اللَّهُ ۖ ثُمَّ ذَرْهُمْ) ذر كل شيء، واترك كلّ شيءٍ وكن مع الله -جلّ جلاله-؛ فهكذا يفعل الذكر بأصحابه، وهذه مشارق فتوحات أهل النّهايات، رّزقنا الله محبّتهم، ومودّتهم، وموالاتهم، وأعاد علينا عوائدهم وبركاتهم، ولا حرمنا النصيب من خيراتهم، اللهمّ آمين.
أيضًا مهمّة الذكر أن يوصلك إلى هذا، فأكثر من الذكر حتى تمتلئ به، وتمتلئ من ذكر اللسان إلى ذكر القلب إلى ذكر الروح إلى ذكر الذات، وحينئذٍ تجده أنه هو الذي خَلَق، وهو الذي رَزَق، وهو الذي قرَّب، وهو الذي حبَّب، وهو الذي أوجَد، وهو الذي تجلَّى؛ الشأن كله شأنه، والأمر كله أمره، والحُكم كله حُكمه؛ ما عاد بقي لشيءٍ وجود معه أصلا؛ لاإله إلا هو.
فصل
في الوصول إلى عالم الفناء
"قال العلماء بالله: إذا وصل الذاكر إلى عالم الفناء.. اتصل به تصرف الحقِّ فيه ، فصار حَجَرُ الذاكر إكْسِيرًا عزيزًا، وانقلب نحاسُهُ ذهبًا إبريزًا، وأُودع فيه من أنوار التنزيه، والتوحيد.. ما ينتفي معه كلُّ شركٍ، وتشبيهٍ، وتعطيلٍ ، وتمويهٍ؛ فيصفو بصفاء التوحيد عن كدوراتِ صفاته الذميمة، ويتقدَّسُ به عن دنس المخالفات؛ فحينئذ يدخل في زمرة السالكين، ويسير في منازل السائرين، إلى أن يبلغ منازل الطائرين بروح القلب إلى الطمأنينة والتسكين (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد:28]".
قال: إذا وصل الذاكر لله إلى عالم الفناء في الله -سبحانه وتعالى- اتصل به تصرف الحق فيه، فصار مرْعِيًّا في حقائق: (وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي) [طه:39]، (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) [طه:41] الله أكبر! (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي)، (وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي)، قال لسيّدهم وإمامهم المخصوص: (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ) [الطور:48]، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله، لاإله إلا الله..
يقول: "فصار حَجَرُ الذاكر إكْسِيرًا".
- الإكسير: يتحوّل به النحاس إلى ذهب، وتتحول به الأحجار إلى فضة في عالم الحس، كذلك في الباطن.
"وانقلب نحاسُهُ ذهبًا إبريزًا".
- أي: خالصاً، الإبريز: الذهب الذي الذي أذهبوا عنه الكدورات، وما يلعق به فصَفَى.
يقول ولد المؤلف هذا:
حتى صفى إبريز تِبْرهم *** فما يساويه قطّ مال
قال فيها:
هـــذه عـــلومٌ مــحــقــقــة *** رجـالهـا نِعمَ من الرجال
يـقـينهم لا ارتياب فيه *** وهـَدْيـهـم ليـس بـه ضـلال
قـد اقـتـدوا ثـم جاهدوا *** وشاهدوا فانتفى المحال
علم اليقين ثم عينه *** بل حقّه ما بقي احتمال
فـنـوا عـن الكـون جـمـلةً *** لمَّـا بـدا طـالع الجـلال
وأحـيـاهـم بـعـد مـوتـهـم *** بالجمع في مشهد الجمال
حـتـى صـفـا إبريز تبرهم *** فــما يــسـاويـه قـط مـال
فالكون قد صار طوعهم *** ولا يخالف في الانفعال
هـذا هـو الملك بلا مرا *** بلا انعزال ولا اختلال
تـمّـت وصـلوا عـلى النبي *** مــهـذّب القـول والفِـعـال
قال الإمام الحداد: إنما رجع ختم بالصلاة على النبي لأنه كل ماشَرَحه وذَكَره؛ ما سبب الوصول إليه إلا اتباع هذا النبي، والاقتداء به، والانطواء فيه، فما معه إلا يختم بذكره.
تـمّـت وصـلوا عـلى النبي*** مــهـذّب القـول والفِـعـال
وأصــحــابـه سـادة الورى *** وآله خـــــيـــــر كــــلّ آل
وكان مطلع القصيدة:
هــبـَّت نـسـيـم المـواصـلة *** بـلا اتـصال ولا انفصال
بــمــقــتـضـى مـطـلع خـفـي *** وليــس للعـلم فيه مـجـال
لأنــه ثــمــرة اليــقـيـن *** ومـرتـقـى رتـبـة الكـمال
فـالاقـتـدا ثـم الاهتدا *** والاصـطـفا، حال فوق حال
فــمــن لزم مــا أمـر بـه *** مـن العـمل واليقين نال
حـــلول جـــنــّـات أُنـــســه *** يــجـتـنـي ثـمـرة الوصـال
وهذه القصيدة شرحها الإمام الحداد في آخر كتابه: (إتحاف السائل بأجوبة المسائل)، شرح لطيف عجيب بديع، وفيها شرح السير إلى الله تبارك وتعالى، لا إله إلا الله..
يقول: "وأُودع فيه" في القلب "من أنوار التنزيه"، للرحمن "والتوحيد.. ما ينتفي معه كلُّ شركٍ، وتشبيهٍ، وتعطيلٍ ، وتمويهٍ ؛ فيصفو بصفاء التوحيد عن كدوراتِ صفاته الذميمة"، فيفيد فيها في حقائق ثبوت "كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها" ولسانه الذي ينطق به، فبي ينطق، وبي يبصر، وبي يمشي؛ الله الله!
يقول: "ويتقدَّسُ به عن دنس المخالفات؛ فحينئذٍ يدخل في زمرة السالكين، ويسير في منازل السائرين"؛ فيتحوَّل بعد السير إلى طائر يطير في أَوْج العُلا، "إلى أن يبلغ منازل الطائرين بروح القلب إلى الطمأنينة والتسكين (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد:28]".
فيبدأ الإنسان بالسير، فيصير سائر، فإذا قَوِيَ شأنه وحاله مع الرحمن، تحوَّل إلى طائر، يصير يطير، ولكن الطير بعد السير؛ ونجد هذه الطائرات العادية الموجودة عندنا ما تطير إلا بعد ما تسير مدة في الأرض وتجري ثم تطير… وقبل ما تقدر تطير مباشرة! فيقول قائلهم من أهل النهايات يُذَكِّر أهل البدايات بوجوب انتهاض هِمَمَهُم وأنهم يعرفون السير، قال: إني سبقتُ مطاياكم بأطياري، مطايا تمشون عليها جِمال، سَبَق بالطير، إني سبقتُ مطاياكم بأطياري.. يقول في المتأخرين الشيخ محمد أمين كتبي -عليه رحمة الله- في الحرم يقول:
تلك الطريق قطعتُها في ليلةٍ *** وسوايَ يقطع بعضها في أشهر
في أشهر..الطائر ما هو مثل السائر، هذا يسير برجله وهذا يطير، فرق بين هذا وهذا! ولكن ما يطير إلا بعد ما يحسن السير، فيتحوَّل من سائر إلى طائر.
قال: "إلى أن يبلغ منازل الطائرين".سبحان الله. . وقد ظهر ذا في عالم الحس على لسان النبي ﷺ في سيدنا جعفر، وسُمِّي: الطيّار، وعاد ما أحد في الدنيا يُسمَّى الطيار قبله، الطيران ذي ماعُرِفت ولا ظهرت.. هذا طيار؛ لكن هذا طيار ماهو إلى ثلاثين ألف قَدَم ولا خمسين ألف قَدَم، هذا طيار فوق السماوات السبع كلها، هذا الطيّار يطير بجناحيه! قال: أبدله الله جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء" -جعفر الطيار عليه رضوان الله تعالى- ورزقنا الله زيارته ومحبته، وتعود عوائد طيرانه على أرواحنا لتطير في منازل القرب والمعرفة الخاصة، اللهم آمين.
حنّن الله روح الحبيب ﷺ علينا، وعطّف قلبه علينا، ووفّر حظنا منه وبه وفيه، ويدفع به عنّا الآفات، ويصلح لنا الظواهر والخفيّات، ويرفعنا عليّ المقامات، وينظمنا في سلك أهل العنايات والرعايات، ويُعلي درجات المنتقلين إلى رحمة الله: عيدروس بن يوسف بن يحيى، وسالم بن علي بن طالب ابن الشيخ أبوبكر بن سالم، وأحمد بن محمد الحداد، أن الله يجمعنا بهم في دار الكرامة وهو راضٍ عنّا، ويجعل قبورهم رياضًا من رياض الجنة، ويجعل لهم من عذابه وقايةً وجُنّة، ويدفع الآفات عنّا والأسواء وكل بلوى، ويصلح السر والنجوى، ويغمرنا بفائضات إحسانه، وعجيب امتنانه، ويصلح الكل منا جميع شأنه، بما أصلح به شؤون الصالحين من عباده وأهل محبته ووداده، في ألطاف وعوافي ظواهر وخوافي، وصلاح أحوال الأمة أجمعين وكشف الغمة عن الأمة أجمعين، وأصلح شؤوننا بما أصلحت به شؤون الصالحين، وخَتَم بأكمل حسنى وأتم اليقين وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
12 صفَر 1447