الكبريت الأحمر - 10 | تكملة أحوال الصوفية

للاستماع إلى الدرس

الدرس العاشر للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الكبريت الأحمر و الأكسير الأكبر في معرفة أسرار السلوك إلى ملك الملوك ، للإمام الحبيب عبد الله بن أبي بكر العيدروس . ضمن دروس الدورة الصيفية الأولى بمعهد الرحمة بالأردن.

فجر الثلاثاء 23 صفر 1446 هـ

 

نص الدرس المكتوب :

بسم الله الرحمن الرحيم

من كتاب الكبريت الأحمر والإكسير الأكبر وبسندكم المتصل إلى صاحب الكتاب الحبيب عبد الله بن أبي بكر العيدروس رضي الله تعالى عنه وعنكم ونفعنا بعلومه وعلومكم وعلوم سائر الصالحين في الدارين آمين إلى أن قال:

فصلٌ

 

  • ومن الأحوال الوائِحُ، والدَّوامِعُ، والطَّوالع.

 "فالأول اللوائح، ثم اللوامع، ثم الطوالع، فَاللوائح كالبرق يظهر ويزول سريعًا،واللوامع أظهرُ من اللوائح، وليس زوالها بتلك السرعة، وهي تبقى وقتين، أو ثلاثة، والطوالع أبقى وقتًا، وأقوى سلطانًا، وأدوم مُكْثًا، وأذهبُ للظلمة.

  • ومن الأحوال: البَوادِه، والهُجُومُ.

والبَوادِه: ما يُفاجأ قلبك من الغيب على سبيل الوهلة؛ إما موجب فرح أو ترح.

والهجوم: ما يرد على القلب بقوة الوقت، من غير تصنُّع منك، ويختلف في الأنواع على حسب قوة الوارد وضعفه.

  • ومن الأحوال: التَّلْوِينُ، والتَّمْكِينُ.

فالتلوين: صفة أرباب الأحوال، والتمكين: صفة أهل الحقائق.

فما دام العبد في الطريق.. فهو صاحب تلوين؛ لأنه يرتقي من حال إلى حال، والتمكين أن يصل السالك إلى المقصد، وإذا وصل المقصد تمكّن، واستقر في حاله؛ لأنه لا حال بعد تلك الحال، وتلك الحال.. هي زوال البشرية، وبقاء الحقيقة".

 

ماشاءالله لا قوة إلا بالله - نظر الله إلينا، ونور قلوبنا ووفر حظنا من الإقبال عليه والقبول لديه، والتوفيق لمرضاته، والظفر بواسع الحظ من هباته وعطِياته ومُنوحاته وفُتوحاته، إنه أكرم الأكرمين. 

 

 

قدَّم البارحة معنا ذِكر بعض ما ينازل قلوب أهل الله تعالى وأهل التوجه إليه، وأهل الوصول إليه وأهل الحضور معه، من الأحوال المختلفة؛ ومنها ما يكون لائحة أو لامعة أو طالعة كما ذكرنا البارحة.

"فاللوائح تزول سريعا كالبرق يظهر ويزول سريعاً".

ولكن أظهر منها وأبقى بعض الشيء: اللوامع اللامعة تلمع في القلب لله.

لِلَهِ بارِقَةٌ لِلقَلبِ قَد لَمَعَت *** مِن عالَمِ الأَمرِ لا مِن عالَمِ الصُوَرِ

أَنسَتكَ إِيّاكَ وَالأَكوانُ أَجمَعُها *** وَأَوقَفَتكَ عَلى المَطلوبِ وَالوَطَرِ

 

يقول: فهذه اللوامع لها تبقى وقتين أو ثلاثة؛ ولكن أقوى منها وأدوم ما يقال له الطالعة، فإذا كان الوارد الذي ورد على القلبِ في بيانِ حقيقة؛ أو إيضاح شأن؛ أو زيادة إيقان؛ أو كشف عن ما كان مغيبًا عنه فإما:

  • أن يلوح سريعاً ويزول فهو من اللوائح.
  • وإما أن يبقى أكثر من ذلك فيكون من اللوامع.
  • أو يكون أقوى وأظهر وأمكن فهو من الطوالع.

 

قال: "والطوالع أبقى وقتاً، وأقوى سلطاناً، وأدوم مُكْثًا، وأذهب للظلمة".

وفر الله حظنا من هذه المنن، وجميع العطايا في السر والعلن.

 

قال وكذلك ما يسمونه: "البَوادِه، والهُجُومُ".

فما يفاجئ القلب أيضاً من واردات أمر الغيب على سبيل الوهلة؛ من دون سابق تفكر ولا تسبب، فهذا إمَا موجب فرح أو موجب حزن. فهذا من "البَوادِه: ما يُفاجأ قلبك من الغيب على سبيل الوهلة"؛ من دون تسبب منه، ولا تفكر فيه، ولا شيء من الاستعداد له.

وأشد منه "ما يرد على القلب بقوة الوقت" قوة التجلي؛ وقوة الورود والوارد، فهذا يُقال له: هجوم؛ وذاك: بادهة من البوادِه، وهذا هجوم لقوته، يحصل "من غير تصنع منك ويختلف في الأنواع على حسب قوة الوارد وضعفه"، فيهجم على البال وعلى الخاطر شيء من تلك المنازلات الربانية.

 

قال: "ومن الأحوال: التَّلْوِينُ، والتَّمْكِينُ".

فالتلوين: ما دام الإنسان في حالة سير وترقي؛ فهو يتلون لأنه يترقىٰ من حال إلى حال؛ حتى يصل إلى غاية وقمة ويرسخ فيقال له: تمكين.

"فالتلوين صفة أرباب الأحوال والتمكين صفة أهل الحقائق.

فما دام العبد في الطريق.. فهو صاحب تلوين؛ لأنه يرتقي من حال إلى حال".

فهو يتلون.

إن العطاء إمداده متنوع *** يا حُسن هذاك العطا المتنوع

 

ثم إنه الغاية التي ينتهي إليها الإنسان في أي مقام من مقامات اليقين: التمكين؛ أن يصير مُمَكَّنًا فيه.

 

وقال: "والتمكين أن يصل السالك إلى المقصد، وإذا وصل المقصد تمكّن، واستقر في حاله؛ لأنه لا حال بعد تلك الحال، وتلك الحال.. هي زوال البشرية، وبقاء الحقيقة".

زوال البشرية: زوال أكدارها، زوال ظلماتها، زوال مقتضيات طبعها، زوال شرورها، زوال غفلتها هذا معنى زوال البشرية؛ وأما هو بشر؛ ما يخرج عن البشرية في حاله ولا يزال كذلك، ولكن ظلمات البشرية وأوهامها وحالاتها وكدراتها تضمحل عنه وتزول؛ فيقال: زالت البشرية؛ وهكذا لمَّا أراد أن يصف الإمام العدني أيضًا جده سيدنا السقاف قال عنه -عليه رضوان الله تعالى:-

أخُصُّ به الإمام القطب حقا *** وجيه الدين تاج العارفينا

رقى في رتبة التمكين مرقى *** وقد جمع الشريعة واليقينا

فجاوز شأن السير في مختلف هذه المقامات والأحوال فصار من أهل التمكين.

رقى في رتبة التمكين مرقى *** وقد جمع الشريعة واليقينا

ويقول في أبيات له أيضًا سيدنا الإمام أبي بكر بن عبد الله العيدروس -وَلَد المؤلف- يقول:

إذا صَفَتْ العبودية *** وصحّ القصد والنّية 

وفَنِيَتْ كلّ بشريّة *** فحينئذ فهنّوني

الله يكرمنا وإيّاكم بنقاء القلوب عن كلّ شوائب، ويرزقنا التمكين في كلّ مقام من مقامات اليقين يا أرحم الرّاحمين.

 

قال تعالى: (وَلَیُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِینَهُمُ ٱلَّذِی ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَیُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنࣰاۚ)[النور: 55]، (وَلَقَدۡ مَكَّنَّـٰكُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَجَعَلۡنَا لَكُمۡ فِیهَا مَعَـٰیِشَۗ قَلِیلࣰا مَّا تَشۡكُرُونَ) [الأعراف: 10]؛ فهكذا فمَن مكَّنه الله في الفهم عنه، ومَن مكَّنه الله في المعرفة به، ومَن مكَّنه الله -سبحانه وتعالى- في القُرب منه، فهذا أعلىٰ ما يحصل فيه التمكين، وأجلّ ما يصل إليه العبد ويتحصّل عليه ويفوز به في الدّارين.

 

وقال -رضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:

 

  • ومن الأحوال: القُرْبُ، وَالبُعْدُ.. 

فالقرب.. قرب العبد من الله تعالى بالطاعات، والترقي من منزل إلى منزل. 

والبعد.. بعد العبد من الله، والتَّدَنُّسُ بمخالفته. 

فالأول البعد عن الطاعات، والثاني البعد عن التحقيق. 

  •     ومن الأحوال: الأَنْفَاسُ.

وهي: أنفاس نورانية، وهي: ترويح القلوب بلطائف الغيوب.

وصاحب الأنفاس أرقُ، وأصفى من صاحب الأحوال، فكأن صاحب الوقتِ مبتدئٌ، وصاحب الأنفاس منتهٍ، وصاحب الأحوال بينهما؛ فالأَحوال وسائط، والأنفاس لأهل السرائر.

قال المشايخ: العارِفُ لا يُسَلَّم له النَفَس؛ لأنه لا مسامحة تجري معه، والمحبُّ لابد له من نَفَس؛ إذ لولا أن يكون له نَفَس؛ لتلاشى؛ لعدم طاقته.

  • ومن الأحوال: عِلْمُ الخَوَاطِر.

والخاطر: خطاب يرد على الضمائر؛ فقد يكون بإلقاء المَلَكِ، وقد يكون بإلقاء الشيطان، وقد يكون أحاديثَ نفس، وقد يكون من قِبَلِ الحق سبحانه وتعالى؛

فإذا كان من قبل المَلَكِ.. فهو إلهام. وإذا كان من قبل الشيطان.. فهو وَسْوَاسُ. وإذا كان من قبل النفس.. فهو هواجس. وإذا كان من قبل الله -سبحانه وتعالى- وإلقائه في القلب.. فهو خاطر."

 

يتحدّث -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- عن القرب والبعد، وهذا راجعٌ أيضًا إلى قرب العبد من الله تبارك وتعالى، والقرب بأنواع الطّاعات والعبادات بعد الإيمان به سبحانه وتعالى، ثمّ الترقّي بالإيمان والطّاعات والصّالحات والحسنات والمحبوب للرّبّ من الأقوال والأفعال والصّفات؛ التّرقي بها من منزل إلى منزل، ولا نهاية لهذا القرب، وكلّ مقرّب ففوقه أقرب إلى الحبيب الأطيب ﷺ، صاحب الجاه الأرحب، ومع ذلك فقربه من الرّحمن يزداد في كلّ نَفَسٍ أبدًا سرمدًا، صلوات ربّي وسلامه عليه وعلى آله وجميع عباد الله المقرّبين.

فبداية القرب: بالإيمان بالله تعالى والعمل الصّالح، ثمّ بالمواظبة على زيادة الإيمان وتقويته، وأنواع الصّالحات من الأقوال والأفعال والصّفات، وبتقويتها يحصل التّرقي في مراقي القرب، "لا يزالُ عبدي يتقَرَّبُ إليَّ بالنَّوافِلِ -بعد الفرائض- حتّى أُحبَّهُ"؛ وهكذا وكما ذكرنا ليس لهذا القرب من غاية لأنّه ليس للحقّ تبارك وتعالى ولا لصفاته نهاية، والأمر راجع إلى هذا العبد، وما يُعبَّر عنه من قرب الرّبّ إلى العبد فهو ما يمده به من انكشاف السّتائر عن حقيقة قرب الحقّ تعالى، فهو كما قال لنا في كتابه: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)[ق:16] من حبل الوريد؛ ما هذا القرب؟! ما هو مثل حبل الوريد، حاشا! (أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق:16]، وبقي البعد راجع للإنسان؛ فإذا تقرّب ورحمه الرّحمن -جلّ جلاله- يتسبّب بتقوية الإيمان والأعمال والصّفات الصّالحات، يتسبّب في القرب، فما يناله بهذا السّبب جزء يسير يقابله من الرب كشف عن حقيقة من حقائق قربه منه، أو رفع بعض السّتارات عن حقائق قربه منه أضعاف ما كان من تسبّب العبد في التقرّب إلى الرّبّ، وهو معنى قوله: "ومَن تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِراعًا"، فهو يتقرّب إلى الله -تعالى- متسبّبًا لزيادة الإيمان والعمل الصّالح، والحضور مع الرّحمن، وتقوية الأوصاف التي يحبّها منه جلّ جلاله، فبهذا التّسبّب يحوز بحكم الفضل الإلهي بنسبة من القرب؛ لكن إذا حاز ذلك قابله الرّبّ بكشف ستائر عن معاني قربه من عبده أضعاف ما حصّله من الاكتساب بهذا العمل: "من تقرَّبَ إليَّ شبرًا تقربْتُ منه ذراعًا، ومن تقرَّبَ إلي ذراعًا تقربتُ منه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيتُه هرولة"؛ فالله يقرّبنا وإيّاكم إليه زُلْفَى، ونعوذ بك من البُعد والحجاب والسخط، ونسألك القربى، وأن نزداد قربًا إليك في كلّ لمحةٍ وفي كلّ نفس أبدًا سرمدًا.

 

قال: "والبعد.. بعد العبد من الله، والتَّدَنُّسُ بمخالفته. فالأول البعد عن الطاعات، والثاني البعد عن التحقيق".

بُعدٌ عن التّحقيق لحقائق الإيمان، ومحبوب الحقّ تعالى، التّحقق بمحبوبات الحقّ من الصّفات والأقوال والأفعال، فهذا أيضًا مراتب في البُعد، والمبعدون -والعياذ بالله تعالى- بعضهم أبعد من بعض، كما أنّ المقرّبين بعضهم أقرب من بعض،(هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ)[آل عمران:163]؛ وهكذا. وكان يقول الحبيب أحمد بن حسن العطّاس: "إنّك ستتعجّب من واحد من آل العزب لشدة قربه المعنوي من النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم"، قيل: تساءلتُ معه هذا اليوم عن الأسباب وكيف وصل إلى هذا، فقال: رأيته  ﷺ يومًا في مجلى من مجالي هذه التّجليّات، قال: فتوضأ فجمعتُ وَضْوءَهُ، فشربتُ وَضُوءَهُ كلّه، فقلتُ: هذا حصل لك ما حصل من شدّة القُرب المعنوي من الجناب الشّريف؛ وقد كان سادتنا الصّحابة وهم من أقرب الأمة إليه يتسابقون إلى وَضُوئِه، حتى يكادوا أن يقتتلوا على وَضُوئِه، ومن لم يُصِبْ منهم شيءٌ أخذ من بللِ صاحبه فتمسح به -رضي الله تعالى عنهم-، يا مَن قرَّبهم وقرَّب المقرَّبين، نسألك بأقرب المقرَّبين أن تّقرّبنا إليك زُلْفَى.

قال: -ثمّ ما يُذكَر من- "الأَنْفَاسُ وهي: أنفاس نورانية -ربّانيّة رحمانيّة-، وهي: ترويح القلوب بلطائف الغيوب". 

فهي كما ذكر لنا سابقًا: شأنُ المقام والحال والنّفَس، فهذه الأنفاس -بهذا المعنى- "أرق وأصفى من صاحب الأحوال.

قال: فالمقامات مكتسَبة، وذكر لنا "صاحب الوقت" مكتسب المقامات -هذا صاحب الوقت- يعني: يشتغل بما ينبغي له، وبما يتوجّه إليه، وبما هو محبوبٌ لله في حاله الذي هو فيه، فهو متقرّب وصاحب مقام؛ وفوقه صاحب الحال، فهي وسائط بينه بين المقامات والأنفاس.

 

قال: "فكأن صاحب الوقتِ مبتدى، وصاحب الأنفاس منتهٍ، وصاحب الأحوال بينهما؛ فالأَحوال وسائط، والأنفاس لأهل السرائر".

"ونَقَل عن الإمام العيدروس نفسه في رسالة له في التّصوّف يقول: صاحب الأنفاس أرقّ وأصفى من صاحب الأحوال، وصاحب الأحوال أرقّ وأصفى من صاحب المقامات، وصاحب المقامات أرقّ وأصفى من العابد -الذي لم يرتقي إلى مقامات اليقين-، والعابد على العلم الظاهر أرق وأصفى من العوام العابدين بالرُّخَص، وصاحب الرُّخَص أرقّ وأصفى من المُهمِل، والكامل من اتصف بالجميع وهم: العلماء بالله، وبأمر الله، الجامعون بين الشريعة والطريقة والحقيقة، أهل الوراثة -الذين قال عنهم ﷺ- العلماء ورثة الأنبياء".

فيرتقون ويبعدون عن الإهمال، وكما يرتقون عن الأخذ بالرُّخَص، ويعبدون على العلم، ويرتقون من العبادة على العلم الظّاهر إلى المقامات؛ إلى مقامات اليقِين، ويرتقون من المقامات إلى ما ينازلهم من الأحوال، وتثمره لهم المقامات من الأحوال، يرتقون في الأحوال إلى الأنفاس، فهؤلاء الذين جمعوا الخيرات.

وبعد ذلك يأتي أيضًا معنى التّنفّس، وقد ينازل أصحاب المقامات العليِّة: ما ظاهره التّنفّس، يظنّه المبتدئون أنّه وقوف أو ركون إلى شيءٍ من المروِّحات للنّفوس وهم أكبر من هذا.

 

ولكن قال: "العارِفُ لا يُسَلَّم له النَفَس؛ لأنه لا مسامحة تجري معه".

فهو شديدٌ الضّبط للأنفاس، وصرفها في طلب النّفَائس أو العطاء الأنفس وهو: رضوان الحقّ -تبارك وتعالى- والقرب منه والمعرفة به سبحانه وتعالى؛ ولكن قال: من غلبت عليه شؤون المحبّة فشؤونها غوالبُ قواهرٌ، "والمحبُّ لابد له من نَفَس؛ إذ لولا أن يكون له نَفَس؛ لتلاشى؛ لعدم طاقته".

فلهذا جاء للمبتدئين وللمُنتهين ترتيبات، ومنها ما جاء عن سيدنا علي يقول: "روِّحوا عن القلوب ساعة بعد ساعة، فإنّ القلوب إذا كلَّت -أكرهت- عَمِيَت"، وقال ﷺ أيضًا لبعض أصحابه: "ولكن ساعةً فساعة"، وقال: "لَو تدومونَ على الحالِ الَّتي تقومونَ بِها من عندي لصافحَتكمُ الملائِكَةُ في مجالسِكُم ، وفي طرقِكُم… ولَكِن ساعةً وساعةً" 

فيحتاج المحبوب إلى نَفَسٍ يتنفس به، ولا يُسامَح العارف في الأنفاس، مع أن المحبة تكون أيضًا على قدر المعرفة، ولكن إذا غَلَبَت شؤون المحبة فهي قواهر قواطع غوالب تغلب الإنسان، فيحتاج إلى نصيب من التنفس والتروّح.

وقال: "لا مسامحة تجري معه" في إضاعة نَفَسٍ من الأنفاس، ما يحق له ولا يصح منه أن يضيّع أي نَفَس من الأنفاس؛ بل يُؤخَذ بالعزايم ودوام الحضور مع الرب.

 

قال: "عِلْمُ الخَوَاطِر. والخاطر: خطاب يرد على الضمائر".

وأنواع ما يَرِد على ضمائر الناس أربعة، أصلها اثنين، والاثنين ما سمَّاه -ﷺ- أحدهما لمَّة الملك، ولمَّة الشيطان، هذا هو الأصل، ويتفرع عن لمَّة الملك ما يبادل الحق -تعالى- به عباده من الخاطر الرباني، وكما أنه يتفرع عن لمَّة الشيطان قوة تدخل النَّفس، وورود الخواطر النفسانية، فصار المجموع أربعة: 

  1. خاطر رباني.
  2. وخاطر ملَكي. 
  3. وخاطر نفساني.
  4. وخاطر شيطاني.

"والخاطر: خطاب يرد على الضمائر؛ فقد يكون بإلقاء المَلَكِ"

والمَلَك ناصح، وذلك أن الله -تعالى- في حكمة خلقه، وكَّل بكل إنسان من حين يولد ملَكًا وشيطانًا، فيصاحبونه في أحواله كلها، ثم إن الله يمده بملائكة بالليل، وملائكة بالنهار يتعاقبون عليه، ثم أن أيضًا المَلَك المُوَكَّل به الذي يكون معه من حين ولادته إلى حين وفاته يُمَدُّ بملائكة آخرين يساعدونه على مهمته في نصح هذا الإنسان، كما أن هذا الشيطان الذي يولد بولادته ويموت بموته -نوع من الشياطين- وقرين كل إنسان واحد من الشياطين، كما أنه يُمَدُّ بصحبة مَلَك، وكذلك للاختبار يُمَدُّ بصحبة شيطان يولد بولادته ويموت بموته، يكون قرينًا له؛ يترقب الفرصة لإلقاء الخواطر عليه في قطعه عن الله -تبارك وتعالى-، ويستعين بالنفَّس، ولكنه يخنس إذا ذكر الله تعالى؛ والمَلَك ناصح أمين يذكِّره بالخير وينهاهُ عن الشر، فلمَّة الملك تأتي معها الطمأنينة، ويأتي معها تصديق -تصديق بالحق والوعد ووعد بالخير كذلك- وأما عامة ما يريده الشياطين على القلوب فهو تكذيب بالحق، وإيعاد بالشر، وتلا -ﷺ- قوله تعالى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ ۖ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 268].

فهذه الخواطر التي تَرِد على بال الإنسان -الله لا إله إلا الله- فإن كانت:

  • بواسطة المَلَك تسمى: الإلهام، وقبولها والعمل بمقتضاها يسمى: التوفيق.
  • وإن كانت بواسطة الشيطان فهو: الوسواس، وقبولها والعمل بمقتضاها يسمى: الخذلان. 

فالتوفيق مقابل الخذلان، والإلهام مقابل الوسوسة.

  • فإن كانت بواسطة النفس، فهذه علامتها أن تتشبث بهوًى لها، والغريب أنها لا يُشاهَد ضعفها بمجرد الذكر إلا بتذَكُّر الموت؛ بخلاف خاطر الشيطان فإنه يظهر ضعفه بمجرد ذكر الله تبارك وتعالى، أما خاطر النفس متشبث؛ حتى تذكر الله وما يتزعزع يتزحزح، إلا يضعف ويخِفّ عند ذكر الموت، واستشعار القبر، هنا يخمد، وإلا ماشي يحركه ثاني؛ هوى والعياذ بالله تعالى.
  • وإن كان الخاطر من دون واسطة؛ لا نفس ولا شيطان ولا ملًك، فهو خاطر ربّاني قوي قاهر، لا يستطاع رده ولا دفعه.

 

قال: "وقد يكون أحاديثَ نفس، وقد يكون من قِبَلِ الحق سبحانه وتعالى -وقد يكون بإلقاء الشيطان، وقد يكون بإلقاء الملك-؛ فإذا كان من قبل المَلَكِ.. فهو إلهام. وإذا كان من قبل الشيطان.. فهو وَسْوَاسُ. وإذا كان من قبل النفس.. فهو هواجس -وأحاديث نفس-. وإذا كان من قبل الله -سبحانه وتعالى- وإلقائه في القلب.. فهو خاطر" -الرباني الذي لا يستطاع دفعه.

 فيجب أن يُدفع خاطر الشيطان بذكر الرحمن، ويجب أن يُدفع خاطر النفس الأمارة بتذكر الموت والمصير والخروج من الدنيا، وقصر الدنيا، والرجوع إلى الله تبارك وتعالى، ويُقَابَل خاطر المَلَك بالسرور والأنس، ويُقوَّى بذكر الله سبحانه وتعالى، وأما الخاطر الرباني فهو قوي، لا يستطاع دفعه بحال.

 

وقال -رضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:

 

  • "ومن الأحوال: عِلْمُ اليَقِيْن، وَعَيْنُ اليَقِيْنِ، وَحَقُّ اليَقِيْن.

فعلم اليقين -على موجب اصطلاح القوم- ما كان بشرط البرهان، وعين اليقين: ما كان بحكم البيان، وحق اليقين: ما كان بنعت العِيان؛ فعلم اليقين لأرباب العقول، وعين اليقين لأصحاب العلوم، وحق اليقين لأصحاب المعارف.

  • ومن الأحوال: الوَارِدُ.

والوارد: ما يرد على القلوب من الخواطر المحمودة؛ مما لا يكون بتعمد العبد، وكذلك ما لا يكون من قبل الخواطر.. فهو أيضا وارد.

ثم يكون وارد من الحق، ووارد من العلم.

فالواردات .. أعمُّ من الخواطر؛ لأن الخواطر تختص بنوع الخطاب، وما يتضمن معناه، والواردات تكون وارد سرور، ووارد حزن، ووارد قبض، ووارد بسط، إلى غير ذلك من المعاني.

  • ومن الأحوال لَفْظُ الشَّاهد.

والشاهد: ما يكون على قلب الإنسان، وهو ما كان الغالب عليه؛ إن كان ذِكْرًا.. فهو يشاهده، وإن كان العلم الغالب عليه.. فهو يشاهده، وإن كان الغالب عليه الوَجْدُ .. فهو يشاهده.

ومعنى الشاهد: الحاضر؛ فكل ما هو حاضر قلبك.. فهو شاهده.

  • ومن الأحوال: مَعْرِفَةُ النَّفْسِ المُطْمَئِنَّةِ، وَالنَّفْسِ اللوامه وَالنَّفْسِ الأَمَّارَةِ بِالسُّوْءِ.

فالنفس المطمئنة، هي: التي اطمأنت بطاعة الله تعالى، ولا تطلب مخالفة أمره.

والنفس اللوامة، هي: التي تلوم الرجلَ على الذنوب، وتحمله على التوبة، والإنابة.

والنفس الأمارة هي التي تأمر بالسوء، وهي المهلكة لصاحبها، وهي من أعظم الحجب التي تكون بين العبد وبين ربه.

سئل المشايخ عن مداواة النفس، فقالوا: "مداواتها.. مخالفتها، وتزكيتها".

ويريدون بالنفس ما في العبد من الأخلاق، والخصال المذمومة، وأقبحها.. إعجابها ، وتوهمها أن لها عند الله قدرًا، وعند الناس.

ويحتمل أن النفس ليست عين الأخلاق، والخصال المذمومة، بل هي لطيفة مودعة في هذا القالب، وهي محل الأخلاق المذمومة، كما أن الروحَ لطيفةٌ في هذا القالَب هي محل الأخلاق المحمودة".

 

 

يقول: "ومن الأحوال: عِلْمُ اليَقِيْن، وَعَيْنُ اليَقِيْنِ، وَحَقُّ اليَقِيْن"، وهذا المذكور بهذه الأسماء في القرآن الكريم. فعلم اليقين: قوة الإيمان ورسوخه وثباته، حتى يصير كالطود الشامخ، كالجبل الراسخ، فهذا علم اليقين فوق عموم الإيمان وما كان بشرط البرهان، فصاحب علم اليقين لا يقبل يقينه التزلزل ولا التضعضع بشيء مما يَرِد من الشُّبَه -علم اليقين-.

 

وفوقه عين اليقين: وهو مشاهدة البصيرة لحقائق ما أُمر بالإيمان به؛ قال: "ما كان بحكم البيان".

ولكن أصفى منه وأقوى حق اليقين: والمثال لذلك إذا قيل أن وسط هذا الكاس ماء، فيُحتمل يكون ماء، يحتمل يكون فارغ، يحتمل يكون طين، يحتمل يكون حجر -يمكن-، يحتمل أن يكون لبن، كله محتمل فيه؛ مع وجود هذه الاحتمالات يبقى شك، فإذا غلب عليه أنه ليس إلا ماء وسط هذا الكأس فهذا إيمان، إيمان بأن وسط الكأس ماء، بأن كان مثلًا أخبره ثقة عن علم يقول له: أنا رَأيتُ وسط الكأس ماء، فيكون تصديقه بأن وسط الكأس ماء إيمان، فإذا أخبره اثنين، ثلاثة، أربعة، يقوى هذا الإيمان، فيصير علم يقين؛ بعد مجرد الإيمان يصير علم يقين، هذا ماء؛ ماء يقين؛ معقول هذولا كلهم يكذبون، وكلهم شافوه وكلهم معروفون وهم ناس ثقات، فهنا ارتقى إلى رتبة علم اليقين، لكن إذا جاء وقال كذا.. شافه ماء رأى بعينه ماء، هذا صاحب عين يقين، فارتقى من رتبة علم اليقين إلى عين اليقين، فإذا جاء وحمل الكأس -وشرب من الكأس- ماء! هذا حق اليقين؛ جاوز الإيمان، وعلم اليقين، وجاوز عين اليقين، وصار حق اليقين، بعد مشاهدته وشرب منه وطعمه، هذا حق اليقين؛ وهكذا فيما أُمِرنا بالإيمان به، نسمع بين مكذب؛ وما بين مُتشكك؛ وما بين مؤمن؛ وما بين صاحب علم يقين؛ وما بين صاحب عين يقين، وما بين أصحاب حق اليقين وهم الأنبياء وخواص ورثتهم من الصديقين المقربين؛ هذا حق اليقين.

الله الله الله ..

 وَالْزَمْ كِتَابَ اللهِ وَاتَّبِعْ سُنَّةً *** وَاقْتَدْ هَدَاكَ اللهُ بِالأَسْلَافِ أهل اليَقِينِ لِعَيْنِهِ وَلِحَقِّهِ *** وَصَلُّوا وَثَمَّ جَوَاهِرُ الأَصْدَافِ   رَاحُ اليَقِينِ أَعَزُّ مَشْرُوبٍ لَنَا ***  فَاشْرَبْ وَطِبْ وَاسْكَرْ بِخَيْرِ سُلَافِ

هَذَا شَرَابُ القَوْمِ سَادَتِنَا وَقَدْ*** أَخَطَا الطَّرِيقَةَ مَنْ يَقُلْ بِخِلَافِ

وفي خير الله في هذه الأمة المحمدية، ما من ليلة تمر علينا إلا والرحمن يسقي بعض الأرواح من علم اليقين، أو من راح اليقين، أو من عين اليقين، أو من حق اليقين، ويكون سُقِي من سُقِي البارحة، وسُقِي من سُقي قبل البارحة، ويُسقَى من يُسقَى الليلة؛ الله لا يحرمنا ويُوفر حظنا من هذه السُّقيَا.

رَاحُ اليَقِينِ أَعَزُّ مَشْرُوبٍ لَنَا ***  فَاشْرَبْ وَطِبْ وَاسْكَرْ بِخَيْرِ سُلَافِ

فما نزل من السماء إلى الأرض أشرف من اليقين، لا ينزل من السماء أشرف من اليقين 

رَاحُ اليَقِينِ أَعَزُّ مَشْرُوبٍ لَنَا *** فَاشْرَبْ وَطِبْ وَاسْكَرْ بِخَيْرِ سُلَافِ 

هَذَا شَرَابُ القَوْمِ سَادَتِنَا وَقَدْ *** أَخَطَا الطَّرِيقَةَ مَنْ يَقُلْ بِخِلَافِ

وفي الإشارة إلى التخصيص من الحق -تعالى- والإكرام بحق اليقين؛ قال الإمام شهاب الدين أحمد بن عبد الرحمن -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- قال: 

 

سُلافةٌ من رحيقٍ فائقٍ أنقٍ *** من ذاقها صار نشواناً بها وَلِهَا

هذا شراب الشيوخ والأصُول لنا *** من لدن خير الورى حتى شربتُ لها

الحمد لله نفسي قد عرفتُ لها *** والقلب مني بِسِرِّ الذكر مُنتبها

وغُصتُ في الفكرِ بعد الذكرِ منغمسًا *** في بحر نور سما سِرِّي بها وزهى

وكنتُ عبد الهوى واليوم مالكهُ *** وصرتُ مولى الورى مُذ ذُقتُ سلسلها

الله! الله!

سُلافةٌ من رحيقٍ فائقٍ أنقٍ *** من ذاقها صار نشواناً بها وَلِهَا

هذا شراب الشيوخ والأصُول لنا *** من لدن خير الورى حتى شربتُ لها

يا ربنا اسقِنا؛ وقالوا: وإنما يدوم السقي بدوام الظمأ، ومن عرف ظمأه وعطشُه يستسقي فيُسقى؛ لا إله إلا الله.

ديروا عليّ كأسكم *** ظمآن يا أحباب بَاشْرَب

هيا اسرعوا في عجل ***وعاد لي في لقائكم 

يا أحبتي مطلب *** هو عندي أعظم أمل

 

 

يقول: "فعلم اليقين لأرباب العقول، وعين اليقين لأصحاب العلوم" -والفهوم- "وحق اليقين لأصحاب المعارف" -واللطائف-. 

 

يقول: "ومن الأحوال: الوَارِدُ". -الوارد يعمُّ هذا كله، ولكن إذا أُطلِق أُريد به الوارد الشريف- "والوارد: ما يرد على القلوب من الخواطر المحمودة؛ مما لا يكون بتعمد العبد -ولا بتفكره-، وكذلك ما لا يكون من قبل الخواطر.. فهو أيضا وارد"، فالوارد أعم من الخاطر. 

"ثم يكون وارد من الحق، ووارد من العلم. فالواردات .. أعمُّ من الخواطر".

فهي تشمل كل ما يرِد على القلب، ولكن إذا أُطلق لفظ الوارد فالمراد به: ما يَرِد من الحق ومن العلم الواردات الشريفة الرفيعة، يقول: وُرَد عليه وارد.

"فالواردات .. أعمُّ من الخواطر؛ لأن الخواطر تختص بنوع الخطاب، وما يتضمن معناه والواردات -أعمّ من ذلك- تكون وارد سرور، ووارد حزن، ووارد قبض، ووارد بسط، -وارد تنبيه، وارد توجيه، وارد تَرقية، وارد تنقيه، وارد بيان، وارد كشف، وارد علم، وارد من أنواع الواردات..- إلى غير ذلك من المعاني - الرفيعات البديعات-".

ولكن قالوا: هذه الواردات من حيث الأوراد، فهي كالروح، والأوراد جسمها، وما ينزل الروح من السماء إلا بجسم، فإذا تكوّن الجسم في بطن الأم نزلت الروح ونُفِخت فيه، فكذلك الواردات ما تَرِد إلا على أهل الأوراد، من ليس له أوراد ويبغى الواردات كماهم! وارداتك من حيث أنت؛أنت أيش بك؟! وردك الغفلة! كما الغفلة شل لك من واردات الغفلة والحجاب؛ أما الواردات الربانية للذين لهم أوراد من ذكره وشكره والحضور معه، فتَرِد عليهم وارداته -جل جلاله-، "فمن لا وِرْدَ له فلا وارد له".

 

قال: "ومن الأحوال لَفْظُ الشَّاهد. والشاهد: ما يكون على قلب الإنسان، وهو ما كان الغالب عليه؛ إن كان ذِكْرًا.. فهو يشاهده، وإن كان العلم الغالب عليه.. فهو يشاهده"، -شاهده الذكر، شاهده العلم- "وإن كان الغالب عليه الوَجْدُ .. فهو يشاهده". -فشاهد الإنسان: ما غلب على قلبه- "ومعنى الشاهد: الحاضر؛ فكل ما هو حاضر قلبك.. فهو شاهده".

(وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) [ق:21]، والشهيد أي: حاضر؛ا لله لا إله إلا الله.

ثم إن هذا المَلك الذي يُوَكّل بالإنسان يبقى معه إلى عند الوفاة، ومعه الحفظة الذين يكتبون الأعمال، ومنهم أيضًا رقيب وعتيد، فهذا اسم لكل ملَكين وُكِّلا بكتابة أعمال المكلفين، فكل واحد معه ملَكين، اسمهم: رقيب وعتيد، وفيه معنى المراقبة والحضور، العتيد: الحاضر أيضًا؛ (مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:18]، فعند الموت يتخاطبون معه، إن كان من أهل الخير يقولون له: جزاك الله عنا خير، هذا الملَك الذي كان معه والحفظة الذين يكتبون، ورقيب وعتيد يقولون: جزاك الله خير، كم مجلس خير أحضرتنا؟ وكم كلام طيب اسمعتنا؟ وكم عمل صالح أشهدتنا؟ فجزاك الله عنا خير، ويقول له الملَكين هؤلاء: نحن ذاهبان إلى قبرك، نصلي عليك إلى يوم القيامة؛ وإن كان من أهل السوء والشر، تقول له الملائكة تخاطب روحه في تلك الساعة والناس عنده لا يسمعون أيش يقولون ولا أيش يقول لهم؛ يقولون له: لا جزاك الله عنا خير، كم مجلس سوء احضرتنا؟ وكم كلام خبيث اسمعتنا؟ وكم عمل سيئ أشهدتنا؟ فلا جزاك الله عنا خير، نحن ذاهبون إلى قبرك نلعنك إلى يوم القيامة"، -والعياذ بالله تبارك وتعالى- 

  • (وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ) -يضربونهم- (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ ۖ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) [الأنعام: 93] 
  • والثانيين: (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) [فصلت: 30].

فما أغرب أحوال الناس عند الوفاة؛ قال سيدنا بلال: "واطرباه غدًا ألقى الأحبة".

 

قال: "ومن الأحوال: مَعْرِفَةُ النَّفْسِ المُطْمَئِنَّةِ، وَالنَّفْسِ اللوامه وَالنَّفْسِ الأَمَّارَةِ بِالسُّوْءِ".

فهذا عند اختصار أحوال النفس يُقال: 

  • أمارة.
  • ولوامة.
  • ومطمئنة، 

وعند التفصيل يُقال: 

  • أمارة. 
  • ولوامة.
  •  ومُلهَمَة.
  •  ومطمئنة.
  •  وراضية.
  • ومرضية.
  • وكاملة.

سبع مراتب للنفس.

فتبدأ عند عموم المكلفين تبدأ الأمارة، إلا أنفس الأنبياء، والمعصومين، والخواص من المقربين، تُخلق وقدّها لوامة ومطمئنة، ما تنزل إلى حضيض الأمارة؛ 

الأمارة تأمر بالسوء وتحرض عليه، وتحرص عليه؛ التي يملكها الهوى والشهوات، هذه نفس الأمارة، تبدأ نفس الأمارة، وهي لعامَّة الناس (وَمَاۤ أُبَرِّئُ نَفۡسِیۤۚ إِنَّ ٱلنَّفۡسَ لَأَمَّارَةُۢ بِٱلسُّوۤءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّیۤۚ) [يوسف:53].

فإذا جُوهدت هذه النفس، وأُخِذ بها ارتقت إلى اللوامة، وهي نفس شريفة، أقسم الله بها القرآن بقوله: (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) [القيامة:1-2]، تلوم صاحبها على ما يفعل من شر، وعلى ما يقصر من خير، وتقول: عيب عليك، ما يصلح هذا ارجع، فهذه نفس لوامة.

فوقها نفس مُلهَمَة، تُلهم الخير إلهامًا، وتنفر عن الشر. 

فوقها مطمئنة، لا تطمئن إلا بالخيرات، فشغلها ودأبها ذكر الله، (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد: 28].

ثم هذه النفس أيضًا المطمئنة إذا قام بحقها ورعاها، وأدى واجبه معها، وأدام لها حُضورها مع ربها، وارتقائها في مراتب الصدق معه، وحسن المعاملة صارت راضية

وتنال شمّ نسيم الرضا وذوق حلاوته، فتصير مرضية، "من رضي فله الرضا"، فتصير النفس مرضية من قِبل الحق تعالى مرضيٍّ عنها.

وإذا واصل أدبه مع الله في صلاح هذه النفس وتقويمها، وإقامتها على ما ينبغي، ارتقى رتبة الكمال الإنساني، فتوصف نفسه بأنها النفس الكاملة.

والنفس رُضِها باعتزال دائمٍ *** والصمت مع سهر الدجى وتجوُّع

         

وبالرياضة من صمتٍ ومخمصةٍ *** مع التخلي عن الأضداد والسهر

لا إله إلا الله.

وكن في طعامٍ ومنام خلطةٍ *** ونطقٍ على حد اقتصارٍ وقلةِ.

اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكّاها أنت خير من زكّاها، أنت وليها ومولاها.

 

قال: "والنفس الأمارة هي التي تأمر بالسوء، وهي المهلكة لصاحبها، وهي من أعظم الحجب التي تكون بين العبد وبين ربه" بل هي أعظم حجاب.

قال:"سئل المشايخ عن مداواة النفس، فقالوا: "مداواتها.. مخالفتها، وتزكيتها".

قال سيدنا الجنيد بن محمد: أرِقْتُ من النوم -ذهب النوم من عيني-، قمت أصلي ما وجدت الحلاوة التي أعتادها، وقال: خرجت من البيت، وإذا بالرجل هناك تحت البيت، قال: إليّ يا جنيد قال: إليّ يا أبا محمد، قال: في هذه الساعة؟ هذ غير موعد؟، قال: بلى، سألت مُقلّب القلوب يحرك قلبك لي، قال: قد فعلتْ؛ هذا أنا خرجتُ -ما أدري إيش بي لا جاني النوم، ولا ذقت الحلاوة في الصلاة،- فخرجتْ، قال: أقول لك: متى يصير داء النفس دواءها؟ قال له: إذا خالفَت النفس هواها، قال: رجع لنفسه، قال: سمعتي؟ أجبتكِ بهذا الجواب سبع مرات ما قنعتِ حتى تسمعي من الجنيد! -سمعتيه ولا ما سمعتيه، خلاص، وقال: مع السلامة- وراح، قال: ما شفته قبلها ولا بعدها ذيك الليلة جاء، وصلح  اتصال معنوي، حرك قلبه، خلّاه يخرج ويكلمه رجع ؛لا إله إلا الله.

 

والنفس كالطفلِ إن تهمله شَبّ *** على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطِمِ

 

قال: "ويريدون بالنفس ما في العبد من الأخلاق، والخصال المذمومة، وأقبحها.. إعجابها" والعجب من أقبح خصال النفس، ومن أخفاها على الإنسان، "وتوهمها أن لها عند الله قدرًا، وعند الناس".

كان جماعة متوجهين إلى شيخهم الإمام عبد الله بن حسين بن طاهر -صاحب الكتاب اللي ختمناه-، فتعرضوا في الطريق لقطاع الطريق، فالحبيب صالح بن عبد الله العطاس معهم فجهر باسم الجلالة "الله"، فيبست أيديهم على بنادقهم، ومعاد قدروا يتحركون القطاع؛ مشوا ولمَّا وصلوا عند شيخهم الحبيب عبد الله، قال: "ودّيت أنهم أخذوا كل ما عندكم، وجئتم إليّ وأنتم مُنكّسرين أحسن لي من أن تظهر لكم هذه الكرامة، و تظنوا لكم قَدِر، وتجون عندي وأنتم تشعرون أن لكم قَدِر عند الله! لا إله إلا الله! شُف أهل التربية إلى فين يرومون ويلاحظون لتقويم العبودية على وجهها للرب، ليحظى هذا العبد من الرب فوق ما يخطر على بال ويتخيّل بخيال، لا إله إلا هو.

 

قال: "ويحتمل أن النفس ليست عين الأخلاق، والخصال المذمومة.."  ولكنها محلها "كما أن الروحَ.."  ليست هي عين الأخلاق الحميدة الطيبة  ولكنها محلها وهكذا.

ويتكلم بعد ذلك عن الروح؛ روَّح الله قلوبنا بنسيم قربه ومحبته، وأدخلنا في أحبته في عافية، وأصلح شؤوننا الظاهرة والخافية بسر سلطان الملأ العيدروس عبدالله بن أبي بكر العيدروس وإلى حضرة النبي محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

 

بسر الفاتحة

إلى حضرة النبي محمد ﷺ 

تاريخ النشر الهجري

11 صفَر 1447

تاريخ النشر الميلادي

05 أغسطس 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام