الكبريت الأحمر - 1 | فيما يكون به سلوك الطريق

للاستماع إلى الدرس

الدرس الأول للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الكبريت الأحمر و الأكسير الأكبر في معرفة أسرار السلوك إلى ملك الملوك ، للإمام الحبيب عبد الله بن أبي بكر العيدروس . ضمن دروس الدورة الصيفية الأولى بمعهد الرحمة بالأردن. 

الأحد 14 صفر 1446هـ

 

نص الدرس المكتوب :

بسم الله الرحمن الرحيم 

المقدمة

"وبه نستعين.

الحمد لله الذي أبرز من كينونية "كُن" لطائف الأرواح الكليات، وأخرجَ من خُدور الغيوبِ أنوار شموس المعارف لذوي الحقائقِ الإلهيَّات، وأطلع من بحار النور الأعلى جواهر نفائس العقول النورانيَّات، وأحكم إحكام دوائر الكائنات بأسرار بركات معاني محاورات حروفِ الأسماء الربانيات، وأبدع بدائع صنائع المصنوعات في معاني ألواح النفوس الكليات، ورسمها بأقلام الأرواح الكليات، المصوّر الذي رَسَمَ كُنْهَ معانيها في روح نفس العارفِ بالكليات والجزئيات، المشاهِدِ لسر روحِ عزيزِ النفس الواحدةِ الكليَّةِ الحاوية لذواتِ أنفس أرواح الكائنات، المتخلق بأخلاق تنبيهات الأسماء الربانيات، المستهلك في معاني أسماء الذات، وأسماء الصفات، المستغرق في بحارِ معاني معنويِّ بركاتِ الآي والآياتِ الربانيات.

فسبحان الله الذي عَدِمَتْ العقولُ ما تصفه به؛ فبقيت كليلةً عن نيل إدراكِ الذات والصفاتِ، وافتقرت إلى الإقرار بالعجز؛ فخضعت لكبريائه ذليلةً ذل الكائنات المحدثات. 

اخترع العقول والأرواحَ الكُلِّيَّات، وأبدع الصور والأشباح وجميعَ الموجودات؛ روحانیات، وبرزخيات، وجسمانيات.

 

وصلِّ يا رب على محمدٍ روح الكائنات، وأفضل المخلوقات، صلَّى الله عليه، وعلى آله، وصحبه؛ أفضل الصلوات الدائمات الباقيات الصالحات.

 

وبعد:

فهذا أُنمُوذَج لطيف، وجوهرٌ شريف، مشتمل على أصول ومقاماتٍ، ومبيّن لطرق أهل البدايات والنهايات، وكاشف لحقائق الغوامض العَلِيَّاتِ، ويشير إلى معاني أهل التصوف في الرموز والاصطلاحات، وسميته: " الكِبْرِيْتَ الأَحْمَرَ، وَالإِكْسِيْرَ الأَكْبَرَ".

والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب، وبنعمته تَتُمّ ُ الصالحات."

 

الحمد لله، هذه خطبة الكتاب للإمام عبدالله بن أبي بكر العيدروس -عليه رحمة الله تعالى ورضوانه- من خواصّ أئمة أهل البيت الطاهر العارفين الدّاعين إلى الله على بصيرة، وارث الأسرار وحاوي الأسانيد عن الأكابر الأجاويد إلى سيد الوجود محمد صلّى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله، في مقدمة هذا الكتاب بعد البسملة:

"الحمد لله الذي أبرز من كينونة (كُنْ)"

و"كُنْ" هو اللفظ الذي عبّر الله تعالى به في القرآن عن أسرار إراداته، وقال: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[يس:82]، فعبّر عن أسرار الإرادة بلفظة "كُنْ"، والمعنى: أنه ما يُريد شيئًا إلا كان كما أراد، على ما أراد، كيف أراد -سبحانه وتعالى- لا محالة، فهو الفعّال لما يُريد، فقد "أبرز من كينونية "كُن" لطائف الأرواح الكليات" وخصّص روح الآدميين، وأرواح الملائكة المُقربين، ثم أرواح الجنّ بعقل ووعي وتمييز؛ ينفكّ عنه بقيّة الكائنات من مثل الحيوانات التي فيها الروح الحيوانية، وليست فيها هذه الروح المعنوية اللطيفة السرّيّة، التي لشرفها أضافها الرّحمن إلى نفسه في القرآن في قوله تعالى عن آدم يقول للملائكة: (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي)؛ (مِنْ رُوحِي)؛ إضافة تشريف وتعظيم لمكانتها ولخصوصيتها، ولتأهّلها أن تعرف عن الله تعالى ما لا يعرفه غيرها، أضافها إلى نفسه تشريفًا، وقال: (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) [الحجر:29].

أبرز -سبحانه وتعالى- "لطائف الأرواح الكليات"، بخصائصها، "وأخرجَ من خُدور الغيوبِ" جمع خدر، "أنوار شموس المعارف"، لا إله إلا هو، فيتعرّف إلى من شاء، فيعرفونه بقدر ما تعرّف لهم، وما سبق لهم في إرادته الأزلية من المُستوى، والدرجة، والنصيب في المعرفة، وهذا يخرج من خدور الغيوب، أنوار شموس المعارف لأصحاب الحقائق الإلهية.

الحقائق: جمع حقيقة؛ وأُخذت من اسم "الحقّ"؛ لأنّ حقيقة العلم لله -تبارك وتعالى- (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) [البقرة: 255]، وإدراك كل شيء على الوجه الذي هو عليه حقيقة؛ ولكنّ هذه الحقائق الإلهيات في إدراك حقائق معاني الأسماء والصفات للرحمن -جلّ جلاله- وعظمة ذاته، تخرج من خدور الغيوب أنوار شموسها، فتصيب قلب من شاء الله -تبارك وتعالى-، فيعرف من العظمة ومعاني أسرار الآيات والأسماء والصفات ما هُيِّأ له، وما قُدّر له، وهو المستوى الذي يكون على حسبه الدرجة عند الله، والنعيم في الدار الآخرة، والذّوق من لذائد الجنان، كُلٌّ يُلتذّ من نعيم الجنان بمقدار معرفته بالرّحمن، سواءٌ اللذائد المُتصلة بالحسّ، من مثل شؤون الأنهار، والأشجار، والحور العين، والطعام والشراب، أو في الأذواق المُجرّدة، واللذائد المُجرّدة الروحانية من القرب، والرضا، والنظر إلى وجه الله، فكُلٌّ لذّته على قدر ما أُعطيَ وحظي به أيام كان في الدنيا من معرفة هذا الإله، خالق الجنة وخالق النار، كما أن ألم العذاب في النار على قدر البُعد عن الله، والحجاب عن الله -سبحانه وتعالى-.

وهكذا، وأنت تعرف في عالم الحسّ، لو عرفت في إنسان صفة من صفات الكمال، تُحبه لذلك، وعلى قدر ذلك تلتذّ بالجلوس معه، والحديث والنظر إليه، لكن إذا كان غيرك يعرف فيه أربع صفات من صفات الكمال، أنت تجلس وهو يجلس معه، لكن هو لذّته أكثر؛ لأنّ الذي عرفه من كماله أكثر ممّا عرفت أنت، فهو يلتذّ بالجلوس معه أكثر، ولكن في واحد عرف عشر خصال فيه من خصال الكمال، يفوق لذّته عند مُقابلته، أو رؤيته، أو مُحادثته لذّة الاثنين الأولين، وإن جلسوا في مجلس واحد، لكن لذّة هذا ليست كلذّة هذا، وعلى قدر المعرفة تتفاوت اللذّات، كذلك اللذّة في أعلى شيء وهي النظر إلى وجهه الكريم، ثم في لذّة الرضوان، ولذّة القرب، ولذّة المحبّة، على قدر ما كان من المعرفة! لذا لا يوجد في هذا العالم أشرف من المعرفة بالله، ولا أمجد، ولا أسعد، ولا أذوق، ولا أحلى، لذا رثى بعض العارفين لأهل الدنيا يمضون، وهذه العطية الكبيرة ما ينالون شيء منها، وهم مغترّون بما نالو من المتاع الفاني، وقال: مساكين أهل الدنيا يخرجون من الدنيا ولم يذوقوا ألذّ شيء فيها، قالوا: وما ألذّ شيء فيها؟ قال: معرفة الله؛ أي: هذه المعرفة الخاصة لا ينالون منها شيئًا.

"وأخرجَ من خُدور الغيوبِ أنوار شموس المعارف -فتنال القلوب- لذوي الحقائقِ الإلهيَّات، وأطلع -الحق سبحانه وتعالى- من بحار النور الأعلى"، (اللهُ نُورُ السَّمَّاوَاتِ وَالْأَرْضِ)[النور:35]، "جواهر نفائس العقول النورانيَّات"، فالعقل هو الذي يعقل عن الله خطابه، ويفهم إشارته، وعموم العقل، قالوا: ما سُمّي عقلاً إلا لأنه يعقِل، أي: يحبس صاحبه ويحجزه عن ارتكاب القبيح، هذا حقائق العقل، ولها درجات.

ويُروى أن الله لمّا خلق هذا العقل وهو أشرف ما خلق، جزّأه مائة جزء، فقسّم جزءًا بين محبوبيه من الملائكة، والأنبياء، والمُرسلين، والعباد الصالحين، والمؤمنين، وجعل تسعة وتسعين جزءًا لعبده مُحمّد ﷺ، فلا ينال مرتبة معرفته بالله أحد ﷺ، وهذا العقل الذي جاء عنه في بعض ما يُروى أن أوّل ما خلق الله العقل، فقال: أقبِل، فأقبل، قال: أدبِر، فأدبر، فقال: "لأجعلنّك فيمن أحبّ من عبادي"، فهو الأكرم على الله.

قال: "وأطلع من بحار النور الأعلى جواهر نفائس العقول النورانيَّات، وأحكم إحكام دوائر الكائنات بأسرار بركات معاني محاورات حروفِ الأسماء الربانيات"، مُقتضى أسمائه -سبحانه وتعالى- تتصل من أسرار إرادته بما يحدث مُقابل كُلّ اسم؛ فاسمه الرّحمن، واسمه الرّحيم؛ تحدث به عجائب من أسرار الرحمة في الملك والملكوت، واسمه الملك -سبحانه وتعالى- يحدث به عجائب ممّا يكون في الخلق من معاني المُلك الصغير والكبير، والقليل والكثير، والملك الشخصي، والملك الذي يكون بالسلطة، والملك الكبير الذي يكون في الجنة.

القدوس كذلك، كُلّ ما يتقدّس ويتطهّر بحسب ما يليق به من الطهارة، ما ينال نصيبه من ذلك القدس والطهارة إلا من أسرار اسم الله القدّوس، فسراية سرّ هذا الاسم حتّى يتقدّس، تتقدّس العين، وتتقدّس الأذن، تتقدّس الأعضاء، ويتقدّس القلب، وتتقدّس الروح، وكُلّ مُقدّس ما حصل له شيء من القدسية إلا بسراية اسم الله القدّوس، والسلام، والمؤمن، وغير ذلك، فكُلّ ما في الوجود منوطٌ بأسرار أسمائه -سبحانه وتعالى-.

فبمحاورات هذه الأسماء، -وفي لفظ بـ: "مُجاوراتها"-؛ لأنّها أسماء لإله واحد -جلّ جلاله-، أحكمت دوائر الكائنات، وسرى كُلٌّ بما رُتّب وقُدّرَ له وجودًا وحدًّا وشكلًا وزمنًا ووقتًا وحياةً وموتًا؛ إلى غير ذلك ممّا يتعلق بهذه الكائنات، وكلّها تحت أسرار أسماء الفعّال، الفعال لما يريد، الملك، الجليل، -جلّ جلاله وتعالى في علاه-.

(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) [الحجر:21]، بهذا القدر المعلوم ينال صاحب العلم علمه، وينال صاحب الصدق صدقه، ينال صاحب الإنابة إنابته، ينال صاحب الإقبال إقباله، ينال صاحب الإدبار -والعياذ بالله- إدباره، على حسب القدر الذي جاء من فوق، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.

يقول: "وأبدع بدائع صنائع المصنوعات" العلوية والسفلية "في معاني ألواح النفوس الكليات"، فإنّ النفوس المُشرّفة، والروح المُطهّرة، انطوت فيها أسرار الموجودات والكائنات الأخرى، يقول سيدنا عليّ في بعض أبياته: 

وتحسب أنك جرمٌ صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبر

"ورسمها بأقلام الأرواح الكليات"، فهو -سبحانه وتعالى- "المصوّر الذي رَسَمَ كُنْهَ"؛ أي: حقيقة "معانيها في روح نفس العارفِ بالكليات والجزئيات، المشاهِدِ لسر روحِ عزيزِ النفس الواحدةِ الكليَّةِ الحاوية لذواتِ أنفس أرواح الكائنات"، وسيأتي في الصلاة النبي مُحمّد قوله: "وصلّ يا ربّي على روح الكائنات"؛ فالكائنات بالنسبة له كجسم وهو الرّوح، يقول:

مُحمّد المبعوث بالهداية *** والحقّ والتحقيق والولاية

إنسان عين الكشف والعناية *** وروح معنى جملة المظاهر

صلى الله عليه وسلم عليه وعلى آله.

قال: "المتخلق بأخلاق تنبيهات الأسماء الربانيات"؛ فالتخلّق بأخلاق أسماء الله الحسنى هو المقرّب للعبد من الرّب. والأسماء الحسنى للعبد نصيب من معنى ما يليق به من معنى التخلّق بها إلا اسم (الله) فهو للتعلّق المحض، التعلّق والتولّه فقط والولع.

  • أما من الرّحمن الرّحيم لك نصيب منها؛ مما خلق لك من الرحمة، ومما أمكنك من الرحمة.
  •  الملك كذلك؛ لك نصيب تملك أعضائك، تملك ما ملّكك من الأشياء الحسية، وتصريفها فيما تملك.
  • والقدوس كذلك لك مجال أن تتطهّر وأن تتقدس وأن تتصفى، بالطهارات الحسية والمعنوية، بالوضوء وبالغسل وبإزالة النجاسات، وبتطهير القلب عن الرذائل، إلى غير ذلك.
  • والسلام كذلك لك نصيب من أن تكون سلاماً على ما سواك، وتبث السلام بين عباد الله -تبارك وتعالى-، وأن تكون سِلمًا لمن سالم الله -تبارك وتعالى-، وحربًا لمن حارب.
  • المؤمن، المهيمن، إلى غير ذلك من الأسماء.

قال: فهذا "المتخلّق بأخُلاق تنبيهات الأسماء الربانيات، المستهلك" يُستهلك بمعنى: يُستغرق "في معاني أسماء الذات، وأسماء الصفات، المستغرق في بحارِ معاني معنوي بركاتِ الآي والآياتِ الربانيات"، فيمتلئ بما في الآيات والدلالات في وحي الله وخبر رسوله ﷺ، حتى يغيب عن جميع الوهم، ويغيب عن جميع الظن بإثبات نور الحقيقة، ويعلم أنه لا قوام لشيءٍ من الخليقة إلا بالرب -جل جلاله-.

"فسبحان الله الذي عَدِمَتْ العقولُ ما تصفه به"، عدمت العقول ما تصفه به وصفًا إحاطيًا، فما تقدر.. ايش تقول؟ ما معها إلا تقدسه وتنزّهه، وتقول: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)[الشورى: 11]، واحد أحد فرد، فقط..ما تقدر، بماذا تصفه بعد ذلك؟ 

"عَدِمَتْ العقولُ ما تصفه به؛ فبقيت كليلةً عن نيل إدراكِ الذات والصفاتِ"، فهي حسيرة الطرف عن إدراك الحقيقة، وحسبها أن تزداد حيرة كلما ازدادت معرفةً، فهناك حيرة تكون بسبب الجهل؛ هذا حيرة مذمومة، ويجب أن يتخلص الإنسان منها، لكن الإدراك القوي للمعاني العظمى يُورث الحيرة؛ وهي اليقين بعدم إمكانية الإحاطة، هذه الحيرة محمودة وهي حيرة العلم!

زدني بفرط الحب فيك تحيّرا *** ………….

 أي: تحير المعرفة، تحيّر العلم.

وليس لعين الكشف يا صاح منتهى *** سوى حيرةٍ في حيرةٍ ضمن حيرة

فتحارُ العقول، تحارُ العقول في ما وهب عباده من شريف الصفات، من المقرّبين عنده، فكيف بصفاته هو وذاته هو؟! لهذا لما ذكر الحبيب علي الحبشي النبي ﷺ قال:

هو النّور يهدي الحائرين ضياؤه *** وفي الحشر ظل المرسلين لواؤه

تلقّى من الغيب المجرّد حكمةً *** بها أمطرت في الخافقين سماؤه

ومشهود أهل الحق منه لطائف *** تخبر أن المجد والشأو شاؤه

فلله ما للعين من مشهد اجتلا *** يعزّ على أهل الحجاب اجتلاؤه

 إلى أن قال:

………………. ***  بمبداه حارَ الخلق كيف انتهاؤه

ولكن المتأمل بمعرفة ويقين، يحار في شأن هذا النبي لكن حيرة معرفة، يحار عقله في عجائب الخصوصيات والمزايا التي أُوتيها، والمنح التي أُعطيها، يتحيّر وحُقَّ.. وحُقَّ له أن يحتار

………………. ***  بمبداه حارَ الخلق كيف انتهاؤه

صلّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله.

ولذا لما قال بعض الصحابة لسيدتنا عائشة: أخبرينا عن أعجب ما رأيتِ من أحوال رسول الله ﷺ؟ قالت: وبمَ أخبركم! كان كلّ حاله عجب، كل واحد أعجب من الثاني، كلامه وفعله؛ وأخذه وعطاؤه؛ ونومه ويقظته؛ وهديه وعدله؛ وسنّته؛ وأكله وشربه؛ كله عجب، صلّى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله، قالت: بمَ أحدثكم؟ كان كل أمره عجبًا! اللهم صلّ عليه.

"فسبحان الله الذي عَدِمَتْ العقولُ ما تصفه به؛ فبقيت كليلةً عن نيل إدراكِ الذات والصفاتِ، وافتقرت إلى الإقرار بالعجز؛ فخضعت لكبريائه ذليلةً ذل الكائنات المحدثات."  فقال أعرف الخلق به: "أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت". "اللهمّ أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي - أقرّ وأعترف-، وأبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" -سبحانه-.

قال: "اخترع العقول والأرواحَ الكُلِّيَّات، وأبدع الصور والأشباح وجميعَ الموجودات؛ روحانيات" خالصة، "وبرزخيات" بين الجسم والروح؛ كحال النفس، "وجسمانيات"، فعندنا هذه النفس والروح الحيوانية بين الروح المجردة، الرّوح العلية القربية الربانية، وبين هذا الجسد.

وإن غلبت عليه دواعي العلو ارتقى إلى عالم الروح، وصار النفس مغناطيس لأمر الإلهام، والروح مغناطيس كون الأجسام، فيحصل من أسرار الإلهام للنفس ما يرفعها فكأنها روح، وكذلك الجسد تجاذبه الروح فيتحوّل وهو جسد كأنّه روح من الأرواح، بما يسطع عليه من نور سنا هذه الروح، وغلبة وسلطانها على مقتضيات هذا الجسد في كثافته.

 يقول: "وصلِّ يا رب على محمدٍ روح الكائنات، وأفضل المخلوقات صلَّى الله عليه، وعلى آله، وصحبه ؛ أفضل الصلوات الدائمات الباقيات الصالحات."، وذكر هذا أن هذا أنموذج يُستدل به على السير إلى الله -تبارك وتعالى-، ويُتبين به طرق أهل البدايات، وأهل النهايات، ويكشف بعض حقائق الغوامض، وسمّاه: "الكبريت الأحمر والإكسير الأكبر".

"والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب، وبنعمته تَتُمُّ الصالحات"، اللهم أتمّ النعمة علينا.

 

وقال -رضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:

فصل

فِيْمَا يَكُوْنُ بِهِ سُلُوْكُ الطَّرِيقِ

"سُلُوكُ الطريق على الحقيقة.. بالعبادات، أو بالمقامات، أو بالأحوال، أو بالأنفاس، أو بالمعارف، أو بضرب الأمثال، أو بالامتثال وحفظ القلوب، أو بالمقابلات، أو بالقابليات، أو بالمناظرات، أو بالمجالسات والمَحَبَّات، أو بالمخالطات والمودّات، مع حسن الظن؛ وهو من الأخلاق المحمديات، أو بالمذاكرات، أو بالتصديق والاعتقادات، أو بالانقطاع والخدمة، أو بالتربية بالعلوم اللدنّيات.

 

فَصل

 فِي تَعَيُّنِ الشَّيْخ للسُّلُوكِ

وهذا لا يُمْكِنُ إلا بقصد شيخ، عالم، عارف، سالك، مجذوب، واصل، محبوب، واصل ، موصول، عارف بالنقل والعقل، عارف بالله وبنفسه، حاضر غائب في الخلوات والجلوات بقلبه؛ في عالم الشهادة والغيوب".

 

يتكلم عن سلوك الطريق، وسلوك الطريق له سلوك، سلوك: جمع سلك، في واحد من الأسلاك هذه تتمسك ويحصل لك السلوك، تتمسك بواحد من هذه الأسلاك، كما أنه تنبثّ الكهرباء في السراج وتشتغل، وتُشغّل الجهاز وغيره، إذا كان بينها وبينه رابط، إما سلكي محسوس، أو لا سلكي برابطة معنوية روحانية، بواحد من هذه الأشياء يكون سلوك الطريق.

أولها "بالعبادات" أن تقوم على وجهها في تبعية وإخلاص وصدق.

كذلك تُورث هذه العبادات شؤون المقامات، بدايةً من التوبة؛ أول مقام من مقامات اليقين، إلى الورع، إلى الزّهد، إلى الخوف، إلى الرّجاء، إلى الصبر، إلى الشكر،… إلى آخر المقامات.

"أو بالأحوال" التي هي نتائج هذه المقامات، من المحبة ومن الأنس ومن الشوق… إلى آخرها.

"أو بالأنفاس أو بالمعارف أو بضرب الأمثال" فيعقله الذي ضُرب له المثل، فينقدح في قلبه نور وجهة وإقبال وبصيرة في الطريق.

"أو بالامتثال وحفظ القلوب" عن ما يقطعها عن الرب.

"أو بالمقابلات" لأرباب الخير والنّور، والنظر إليهم والنظر منهم والأخذ عنهم. قال: "أو بالمقابلات"، "والمرء من جليسه" يقول ﷺ.

"والقابليات" التي تكون في باطن العبد تهيئة لاستقبال الخير والنور، فعند وجود القابلية القول يؤثر، النظر يؤثر، المجاورة تؤثر. 

"أو بالمناظرات" المراد بها: النظر بعين التعظيم والمحبّة والمودّة، ليست المناظرات لأجل الإفحام وإقامة الحجة، لكن النظر بعين المحبة والتعظيم.

"أو بالمجالسات والمحبات"، والمُرء مع من أحب، "أو بالمخالطات والمودّات، مع حسن الظن؛ وهو من الأخلاق المحمّديات، أو بالمذاكرات، أو بالتصديق والاعتقادات، أو بالانقطاع والخدمة، أو بالتربية بالعلوم اللدنّيات"، كل هذه أسباب ووسائل توصّل إلى الحق -جل جلاله-، فيصل العبد من باب منها، ومن خلال التمسّك بحبلٍ من هذه الحبال.

قال: ولكن ما يتمّ له هذا بحكمة الله تعالى "إلا بقصد شيخ، عالم، عارف، سالك"، يعني: بقصد من صحّت صلته بالنّبوة، فإن الله اختار الأنبياء والمرسلين لإنقاذ عباده، ولإرشادهم ولإيصالهم إليه، (رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)[النساء:165].

 فما يمكن للعباد أن يكتفوا، ولا أن يغتنوا بعقولهم ولا بمفاهيمهم؛ ليعرفوا الله ولِيصلوا إليه؛ ولكن بتفضله عليهم، فصارت عقولهم لإدراك المعنى كالأبصار بالنسبة لإدراك الحسّيات أو الجسمانيات، ولكن الأبصار من دون نور لا تبصر، والعقول من دون الوحي ما تهتدي ولا تدرك الحقيقة، فاختار الله الأنبياء.

ولكن ما كل الناس يلقون الأنبياء! والنبي بعد النبي ينتقلون إلى البرزخ والرفيق الأعلى، ويبقون بعدهم. "شيخ عالم عارف" يعني: واحد متصل بهذه النّبوة، ممن أدرك النبيّ من الصحابة، أو ممّن أدرك من أدرك النّبي، أو ممّن أدرك من أدرك من أدرك النّبي؛ وهكذا حتى سرت فيه هذه السراية من هذا النور.

يقول: "شيخ، عالم، عارف، سالك، مجذوب، واصل، محبوب، واصل ، موصول، عارف بالنقل والعقل، عارف بالله وبنفسه، حاضر" -مع الحق تبارك وتعالى وبجسده مع الخلق- "غائب" -بروحه عن الخلق بالله تبارك وتعالى- "في الخلوات والجلوات بقلبه؛ في عالم الشهادة والغيوب" .

يقول:

وصفِّ من الأكدار سرّك إنه *** إذا ما صفا أولاك معنىً من الفِكر

تطوف به غيب العوالم كلها *** وتسري به في ظلمة الليل إذ يسري

ولابد من شيخ تسير بسيره *** إلى الله من أهل النفوس الزكية

 من العلماء العارفين بربّهم *** فإن لم تجد فالصدق خير مطية

 فإذا صدقت جمعك الله بمن يجمعك عليه، ودلّك على من يدلّك عليه، ولذا قالوا: لو صدق المريدون، لوجدوا المشايخ على الأبواب! 

…………………… *** فإن لم تجد فالصدق خير مطية

اللهم ارزقنا الصدق في الإقبال عليك، والوجهة إليك.

 

وقال -رضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:

 

فَصلْ

فِي أَكْثَفِ الحُجُبِ، وَالخِصالِ الذَّمِيمَةِ،

وَأَظْلَمِ الظُّلُمَاتِ، وَالخِلْطَةِ

"وأجمعوا مشايخ الصوفية على أن أكثف الحجب بين العبد وبين الله النّفسُ الأَمارة بالسوء، وهي محل الخصال الذميمة .

وأكثفُ الخصال الذميمة .. العُجب، مع محبة الدنيا.

وأظلم الظلمات .. الحسد، والغيبة، والنميمة.

واتفقوا مشايخ الصوفية على النّهي عن مخالطة الأشرار، وصحبة الفسقة، ومعاشرة النسوان.

 

فصل 

فِي مَبْنَى التَّصَوُّفِ، وَعَدَمِ صَلَاحِ الأَمْرِ بِغَيْرِ شَيْخٍ

 

واتفقوا مشايخ الصوفية على أن بناء أمرهم على: قلة الطعام، وقلة الكلام، وقلة المنام، واعتزال الأنام.

وما تصلح الرياضات، والخلوات، وجميع المطالب، والمقامات … إلا بالشيخ العارف المعبّر عنه بـ "الإنسان الكامل".

 

يقول: "وأجمعوا مشايخ الصوفية على أن أكثف الحجب بين العبد وبين الله"، ما هو الذي يصدّك؟ ما الذي يقطعك؟ ما الذي يحجبك عن المعرفة الخاصة؟ وعن نيل المحبة الخالصة؟ عن نيل القرب من الله؟

أشد شيء يحجبك من جميع الحجب: نفسك! نفسك! فإنّها القاطع الكبير لك عن العلي الكبير -جل جلاله وتعالى في علاه- تُغالط وتكذب وتفتري، وتصوّر الأمر على غير ما هو عليه، وتتشبث بهواها، وتتعذّر وتخادع،… فهي أقوى وسيلة لعدوّك إبليس، نفسك.. حتى إذا زكت هو ما عاد يقدر عليك، هو العدو الكبير نفسه يصعب عليه الوصول إليك إذا زكت نفسك، فما دامت نفسك ملطّخة وموسّخة فهو قوي عليك، وهي وكيلة قوية لإبليس ينال مقصوده بواسطة هذه النّفس.

قال: "أكثف الحجب بين العبد وبين الله النّفسُ الأَمارة بالسوء"، وجاء في الأثر: "أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك". "وهي محل الخصال الذميمة"؛ يعني: تكون حاجبة بواسطة ما يعلق بها من ذميم الخصال، ذميم الخصال: حب الدنيا، حب الفخر والرئاسة والجاه والشهرة، والحرص على المال، والكبر والغرور والرياء، والعجب بالنفس، والحسد والحقد، وأنواع الخبائث هذه الخصال الذميمة التي تتعلق بالنفس، فتكون النفس حاجب بينك وبين الله تعالى.

يقول: وهذه الخصال الذميمة مع كثرتها، فأكثفها حجاباً "العُجب، مع محبة الدنيا."؛ العجب لأنه دقيق، فالنفس تعجب في نفسها، أي: تثبت لها وجودًا مع الله -تبارك وتعالى-، وكأنها مستقلة في شيء من الأمر، وكأن لها منّة وفضل، وتنسى مِنّة الله تعالى.

  • وهذا العجب أخفى من الرياء. 
  • والرياء أخفى من دبيب النمل.

 ولكن العجب أخفى من الرياء، وقد يتخلص من يتخلّص من الرياء لكن لا يتخلص من العجب، يرى نفسه مع الله، فيتصّل بصاحب مدرسة أنا، (أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ) [الأعراف:12]، أنت!! الله خلقه واصطفاه، وأمرك تسجد له، وتتفلسف وتقول: أنا؟! ايش، ايش أنا!؟ الملائكة كلهم خُلقوا قبلك وسجدوا، وأنت ليش ما تسجد! النفس ارتكزت، قال: أنا! فهلك، هلك للأبد -والعياذ بالله تعالى- ﴿وَإِنَّ عَلَیۡكَ لَعۡنَتِیۤ إِلَىٰ یَوۡمِ ٱلدِّینِ﴾ [ص ٧٨].

فالنفس هذه مُصيبة كبيرة، "وأكثفُ الخصال الذميمة .. العُجب، مع محبة الدنيا"، "حب الدنيا رأس كل خطيئة"، والدنيا كل ما قطعك عن الله، وكل ما ألهاك عنه، وكل ما أوقعك في معصيته، وكل ما حال بينك وبين الخير في القرب منه تعالى، هذه الدنيا المذمومة، فمحبّتها من أكثف الخصال، العُجُب مع محبة الدنيا.

ووسط هذه الصفات الذميمة، كثيرة الإظلام، ذكر ثلاثة: "الحسد، والغيبة، والنميمة".

  • "الحسد": استثقال نعمة الله على أحد من عباده، تمنّي زوالها، كأن الحق ما يعرف يقسم، وكأن هذا الإنسان هو من يُحسن التقسيم!

 اعتبر (نحن قسمنا بينهم) *** تلقَه حقًا، (وبالحقّ نزَل) 

 ما ينعم على أحد بنعمة إلا وهو مريد لذلك، إذ لا مُكره له، فأنت تتّهمه أنه ما يعرف! ولهذا يقول الحسد معاداة لله، لأنه ما رضي بقسمة الله، وليش تعطي ذا كذا، وليش تعطي ذاك كذا، بدّل هذا لهذا، انزع هذا من هذا… يعني أنت تدبّر الكون أم هو!؟ أنت تسيّر الخلائق أم هو؟! أنت تعطي وتمنع أم هو!؟ -جل جلاله-، ولهذا يقول: "أظلم الظلمات .. الحسد،" استثقال النعمة على أحد من خلق الله.

  • "والغيبة": وكان يتنزّه الصادقون عنها لفظًا وظنًّا، واعتقادًا وخاطرًا، ما يغتابون أحد، لا إله إلا الله..
  • "والنميمة": الفتنة بين الناس، يثير البغضاء والعداوة والشحناء، ينقل كلام هذا ليُوغر به صدر الثاني.

هذه هي القواطع التي بيننا وبين سيرنا إلى الله تعالى، أزاحها الله عنّا، وزحزحها وأزالها.

قال: "واتفقوا مشايخ الصوفية على النّهي عن مخالطة الأشرار"؛ لأنها مُوجبة للشر، والحق تعالى في القرآن يصرّح: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ)[النساء:140]، إذا رضيتم القعود معهم وهم يستهزؤون بآيات الله، فأنتم مثلهم، في البعد والتردّي والحجاب -والعياذ بالله تعالى- "مخالطة الأشرار".

وإياكم وصحبة ضدِّ فإني *** رأيت  فساد المرء صحبة أضدادِ

من جالس الأخيار حظي بالخير والأسرار، ومن جالس الأشرار حظي بالعار والنار، أو استحق العار والنار. "مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كبائع المسك الجليس الصالح، ونافخ الكير الجليس السوء".

 "مخالطة الأشرار" وتوسّعت هذه المخالطة الآن بواسطة هذه الأجهزة، ووسائل التواصل، الذي يخالط الأشرار ليله ونهاره ويريد القرب من الملك الغفّار، فكيف يكون هذا؟! خالط المقربين، انظر في سير المقربين، وصور المقربين تقرُب، تروح عند المبعودين والمطرودين، وتسمع أقوالهم، وتسمع أفكارهم، وتشوف صورهم، وتريد تقرب، بالمبعدين تُقرب!؟ ما يتأتّى تُقرب بالمبعدين… رُح للمقربين تقرب، وأما تنحط إلى المبعدين وتريد تقرب؟!! هذا كلام متناقض، ما يتأتى.

 لذا يقول: "مخالطة الأشرار، وصحبة الفسقة" الذين يتجاهرون بالذنوب والمعاصي. "ومعاشرة النسوان" الاختلاط بالنساء الأجانب، بالمباشرة وعبر الصور، فإن الميل إلى هذا، والجنوح إليه، يقيم الحواجب الشديدة بينك وبين القُرب من إلهك وإدراك الحقيقة، يحول بينك وبين إدراك الحقيقة. من هنا عبّر  ﷺ قال: "النظرة سهمٌ مسمومٌ من سهام إبليس".

ومن هنا جاء في هديه أنه ﷺ لم يكن يصافح أحدًا من النساء الأجنبيات، وكان يبايعهن كلامًا، لم تمس يده يد امرأةٍ لا تحل له.

يقول أيضًا: "واتفقوا مشايخ الصوفية على أن بناء أمرهم على" أربع أشياء، هذه التي يُعبر عنها أهل السلوك والسير والصوفية بالرياضة، يسمونها الرياضة، في القرون الأولى ما كانت مشهورة الرياضة إلا بهذا، إذا أطلقت الرياضة في القرون السابقة معناها: ترويض النفس وقهرها وتزكيتها، بقلة الطعام، و قلة الكلام، وقلة المنام، وقلة الاختلاط بالأنام، هذه هي  الرياضة عندهم.

ما هي كرة سلة ولا كرة طائرة،  الآن إذا أحد قال الرياضة، ما يروح فكره بالرياضة على أنها تصفية النفس أبدًا، رياضة.. لعب مُعظّم، عُظّم وأُنشئت له وزارات، وشُغل به خلائق كثير، حتى صار كاد أن يكون مثل المقدسات عند بعض الخلق، ومع الضروريات عند بعض الناس! الرياضة للبدن مطلوبة، ليتقوى البدن ويقوم بمهمته في الحياة، لا مقصود لنفسه، وما مراد البدن إلا أن يكون مَركبًا للروح ترقى به في مراقي الفتوح، يؤدي دوره في هذا الوجود في إقامة الخيرات، وفي نفع العباد، وفي الهداية والرشاد، وفي خدمة المسلمين.

يقول: اتفقوا "على أن بناء أمرهم على: قلة الطعام، وقلة الكلام"، فيتكلمون بما يرجون به الثواب عند الله تعالى، ويتركون الفضول والخوض فيما لا يعني، "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ".

"وقلة المنام"، فينامون بقدر الحاجة، وكما أنهم رأوا أن قلة النوم المعتاد إذا كان من دون تدريج قد يضر على الصحة، فكذلك الآن يثبتون أن من أسباب الوفاة المبكرة كثرة النوم! يزيد على ثمان ساعات في اليوم والليلة قالوا من أسباب تبكير الوفاة، يتقرب للموت، النوم أخو الموت، النوم إذا كثّرت منه أخوه بيجيك.. فـيعتدل الإنسان ما بين الست ساعات والسبع ساعات وخلال اليوم والليلة كفاية. ورأينا غير أهل الدين، وغير أهل المجاهدة في الله تعالى من أهل الدنيا قللوا نومهم من أجل أعمال الدنيا، ووصلوا حتى في زماننا، وصل بعضهم إلى ثلاث ساعات في اليوم والليلة، ساعتين في اليوم والليلة نام خلاص، شغل، يتحرك ما يضيع الوقت عليه،… وأهل الدين هم أولى بالاجتهاد، ففيهم وفيهم، فيتوسّط الإنسان.

فإذًا، إذا كثر كلام الإنسان، ومنامه، وطعامه، فإن إرادته جسد لا روح له، ما معه من الإرادة إلا الصورة.

يقول: "واعتزال الأنام" إلا في نفع وانتفاع وهداية وإصلاح، وما يُحتاج إليه مما يُعين على مرضاة الله تعالى.

قال: والرياضات هذه كلها،  والخلوات والمقامات ما تصلح "إلا بالشيخ العارف المعبّر عنه بـ "الإنسان الكامل" "، أي: بسندٍ إلى النبوة؛ لأن الله فتح لنا باب النبوة للوصول إليه.

 

وقال -رضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:

 

فصل

فِي اعْتِقَادِ أهْل السُّنَّةِ

اعتقاد أهل السُّنَّةِ ما نظمه الإمام عبد الله بن أسعد اليافعي، وهي هذه الأبيات:

عَلَا رَبُّنَا عَنْ كَيْفَ أَوْ أَيْنَ أَوْ مَتَى

             وَعَنْ كُلِّ مَا فِي بَالِنَا يُتَصَوَّرُ

وَنَقْصٍ وَشِبْهِ أَوْ شَرِيكَ وَوَالِد

              وَوُلْدِ وَزَوْجَاتٍ ، هُوَ اللهُ أَكْبَرُ

قَدِيْمُ كَلَامِ ؛ حِيْنَ لَا حَرْفَ كَائِنُ -

        وَلَا عَرَضَ - حَاشَا - وَجِسْمُ ، وَجَوْهَرُ

مُرِيدٌ، وَحَيٌّ ، عَالِمٌ ، مُتَكَلِّمْ

     قَدِيرٌ عَلَى مَا شَاء سَمِيعٌ، وَمُبْصِرُ

بِسَمْعِ وَعِلْمٍ مَعْ حَيَاةٍ وَقُدْرَةِ

                كَذَلِكَ بَاقِيْهَا إِلَى الكُلِّ، مَصْدَر

وَلَيْسَ عَلَيْهِ وَاجِبٌ، بَلْ عِقَابُهُ

 بِعَدْلٍ، وَعَنْ فَضْلٍ يُثِيبُ وَيَغْفِرُ

بِمُحْكَمِ شَرْعٍ، دُوْنَ عَقْلٍ، وَقَدْ قَضَا

                 بِخَيْرٍ وَشَرٌ لِلْجَمِيع مُقَدَّرُ

وَرُؤيَتُهُ حَقٌّ، كَذَاكَ شَفَاعَةٌ

     وَحَوْضَ ، وَتَعْذِيْبٌ، وَقَبْرٌ، وَمُنْكَرُ

وَبَعْثٌ، وَمِيْزَانٌ ، وَنَارٌ، وَجَنَّةٌ

   وَقَدْ خُلِقَا ، ثُمَّ الصِّرَاطُ، وَتَصْدُرُ

عَظِيْمُ كَرَامَاتٍ عَنِ الأَوْلِيَا، وَقَدْ

        مَحَا شَرْعُنَا العَالِي، الزَّكِيُّ، المُطَهَّرُ

شَرَائِعَ كُلِّ المُرْسَلِينَ، وَأَحْمَدُ

خِيَارُ الوَرَى المَوْلَى الشَّفِيعُ المُصَدِّرُ

وَأَصْحَابُهُ خَيْرُ القُرُونِ، وخَيْرُهُمْ

      عَلَى وِفْقِ مَا قَدْ قُدِّمُوا، ثُمَّ أُخُرُوا

نُجُومُ الهُدَى، كُلّ عُدُولٌ، أُولُوا النَّدَا

   فَضَائِلُهُمْ مَشْهُورَةٌ لَيْسَ تُنْكَرُ

وَأَفْضَلُهُم صِدِّيقُهُمْ صَاحِبُ العُلا

            وَرَابِعُهُم فِي الفَضْل ذُو الفَضْل حَيْدَرُ

وَتَخْلِيْـــد نـــــارٍ لَيْسَ إِلَّا لِكَـــــافِرٍ

وَقِبْلَتُنَا مَنْ أَمَّهَا لَا يُكَفَّرُ

 

ذكر هذا الفصل في الاعتقاد؛ لأنه لا يَصِحّ السير إلى الله تعالى إلا بتصحيح الإيمان، وتصحيح العقيدة، فلابد من ذلك، وإلا كيف يتم السير إلى الله تعالى! وهذا من أعمال وصفات القلوب. 

فلابد أن يَعتَقِدَ القلب عقيدةً صحيحةً فيما جاء عن الله وعن رسوله ﷺ؛ فيما يتعلق بالإلهيات، والنبويات، والسمعيات؛ بصفات الحق -تبارك وتعالى- الواجبة في حَقِّهِ والمستحيلة والجائزة. وكذلك في الأنبياء ما يجب في حق الأنبياء وما يجوز وما يستحيل في حقهم. كذلك ما أُمِرنا بالإيمان به من الغيب، الذي طريقه السماع؛ من الملائكة والقضاء والقدر، واليوم الآخر، وأخبار البرزخ والقيامة، والجنة والنار وما فيها.. وما إلى ذلك. كل هذه يجب أن يكون الاعتقاد فيها صحيحًا، وعلى ما بيَّنه ﷺ ومضى عليه، وما تلقَّاه عنه أصحابه وأهل بيته الكرام، وما تلقَّاه عنهم من بعدهم.

ولمَّا بدأ الاختلاط واتسعت رقعة الإسلام هيَّأ الله تعالى للمحافظة على ما أُثِرَ عن رسول الله ﷺ  وما تلقَّاه عنه الصحابة والتابعون: الإمام أبو الحسن الأشعري، والإمام أبو منصور الماتريدي، عند ظهور الابتداع والزيغ في الاعتقاد، فبيَّنوا هذا الموروث عن الرعيل الأول من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين -عليهم رضوان الله تعالى- وردّوا على شُبَه المخالفين والمبتدعين، فحُفِظَت بهم حقائق الإيمان في المؤمنين.

 يعني: أبرزهم الله -تبارك وتعالى، والعلماء في وقتهم كثير- ولكن الذين تصدوا للأمر ونُسِب إليهم هذا البيان هؤلاء، في بلاد ما وراء النهر كان أبو منصور الماتريدي الحنفي، وفي بلاد العرب والجزيرة العربية كان الإمام أبو الحسن الأشعري، حفيد سيدنا أبي موسى الصحابي، الذي قَدِمَ على النبي ﷺ  في وفد تهامة، ولمَّا وفدوا عليه، هم الذين قال عنهم ما جاء في البخاري: "أتاكم أهل اليمن، هُمْ أرَقُّ أَفْئِدَةً وَأَلْيَنُ قُلُوبًا، الْإِيمَانُ يَمَانِيٌّ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ".

وكان ﷺ يُثني على الأشعريين جماعة سيدنا أبي موسى الأشعري ويقول: إني أعرف أماكن الأشعريين أين نزلوا وإن لم أرهم من قبل، بأصواتهم بالقرآن. يعني: في الليل أسمع أصواتهم وأعرف أنهم نزلوا في المحل الفلاني ولم يكونوا معه في السفر وفي الغزوات ﷺ، قال أعرف مواطن الأشعريين.

كما قال: "إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو.." أصابهم الفقر أو كانوا في سفر فقلّت أزوادهم، "جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم".

ثم جاء حفيده أبو الحسن الأشعري، وكان قد تأثر بكلام بعض المعتزلة، وأراد الله تعالى أن يكون على الهدى وأن يحمي الهدى، فرأى النبي ﷺ  يقول له: أين سُنَّتِي؟.. فأصبح وقد ترك أبو علي الجُبائي والمنحرفين ورجع إلى السُّنة والمَسْلَك، وحافظ على الموروث عن النبي والصحابة والتابعين، وبيَّن ذلك -عليه رضوان الله تعالى-.

ولهذا يقول:

"عَلَا رَبُّنَا .." أي: تعالى وتنزَّه وتقدَّس وتعاظَم "..عَنْ كَيْفَ أَوْ أَيْنَ أَوْ مَتَى" إنما كيف هذه يُقال للصور، وأين يُقال للمكان، ومتى يُقال للزمان؛ وهو خالق الصور والمكان والزمان -جَلَّ جلاله- لا كيف ولا أين ولا متى، هذه الأوصاف للكائنات والمخلوقات، لا للمكوِّن. 

".. وَعَنْ كُلِّ مَا فِي بَالِنَا يَتَصَوَّرُ" كل ما خطر ببالك فالله بخِلَاف ذلك (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)[الشورى:11].

"وَنَقْصٍ وَشِبْهِ أَوْ شَرِيكَ وَوَالِد

وَوُلْدِ وَزَوْجَاتٍ ، هُوَ اللهُ أَكْبَرُ"

(لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ)[الإخلاص:3-4]. (أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ ۖ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ)[الأنعام:101].

"قَدِيْمُ كَلَامِ ؛ حِيْنَ لَا حَرْفَ كَائِنُ -.. "

وكلامه القديم: القرآن -كما تقدَّمت معنا الإشارة في سُلَّم التوفيق- أنه إذا أردنا كلام الله والقرآن الوصف القائم به؛ فهذا قديم أزليّ، وليس بحرف، وكيف نحن نقرأ؟ نعم نقرأ باللسان العربي كما يقرأ كل أُمَّةٍ أُرسِل إليها رسولهم بلسانهم، يُبيّن لهم كلام الله. فمعاني كلام الله هي التي تُترجَم للخلائق بألسنتهم، فتَكتَسِب بذلك شرفًا وكرامة ومكانة هذه الألفاظ التي تُرجم بها عن كلام الله؛ عن وصفه القديم بذاته -سبحانه وتعالى- وأعظمها القرآن المحفوظ لنا.

".. وَلَا عَرَضَ - حَاشَا - وَجِسْمُ ، وَجَوْهَرُ

مُرِيدٌ، وَحَيٌّ ، عَالِمٌ ، مُتَكَلِّمْ

قَدِيرٌ عَلَى مَا شَاء سَمِيعٌ ، وَمُبْصِرُ

بِسَمْعِ وَعِلْمٍ مَعْ حَيَاةٍ وَقُدْرَةِ

كَذَلِكَ بَاقِيْهَا إِلَى الكُلِّ ، مَصْدَر"

-وهذه الصفات كان ألَّف فيها الدكتور إبراهيم ما هو مُقرَّر في مَسْلَكِ أهل السنة والجماعة في علم التوحيد ذكر هذه الأوصاف- فوَجَبَ تصحيح الاعتقاد لكل من أراد السير إلى الله الجواد -جَلَّ جلاله- واتباع خير العباد.

"وَلَيْسَ عَلَيْهِ وَاجِبٌ.." لأن الواجب إلزام، والإلزام يكون من أعلى لأدنى، وليس أعلى من الله، فلا يجب عليه شيء، الواجب على خلقه، هو الذي يوجِب على خلقه، ومن يوجِب عليه؟ في أحد فوقه حتى يوجِب عليه شيء؟! حاشاه -جَلَّ جلاله- فلا يجب عليه شيء، وهو يوجِب ما شاء على عباده.

قال: "بَلْ عِقَابُهُ ** بِعَدْلٍ،" يُعَاقِب مَن شاء بالعدل، ويُثِيب من شاء بالفضل. ولا يَسْتَقِل العقل بمعرفة الشرع أو المنهج..أبداً، بل العقل حاسَّة وآلة أعطانا الله إياها كالبصر، ولابد لها من نور وهو الشرع وهو الوحي نتنوَّر به، أمَّّا مجرد عقولنا وحدها ما تكفي.

"بِمُحْكَمِ شَرْعٍ ، دُوْنَ عَقْلٍ، وَقَدْ قَضَا *** بِخَيْرٍ وَشَرٌ لِلْجَمِيع مُقَدَّرُ"

وكلُّ شيءٍ بقضاءٍ وقدَرٍ.

"وَرُؤيَتُهُ حَقٌّ،.." كما أخبر ﷺ "كَذَاكَ شَفَاعَةٌ" وهي: للأنبياء وللعلماء والشهداء "وَحَوْضَ، وَتَعْذِيْبٌ، وَقَبْرٌ، وَمُنْكَرُ" ونكير؛ أي: للسؤال في القبر "وَبَعْثٌ ، وَمِيْزَانٌ ، وَنَارٌ، وَجَنَّةٌ ** وَقَدْ خُلِقَا.." أي:  هما مخلوقتان لا يتكوَّنان بعد، ولكن من الآن قد خلق الله الجنة وقد خلق الله النار.

قال:  "… ** ثُمَّ الصِّرَاطُ ، وَتَصْدُرُ

عَظِيْمُ كَرَامَاتٍ عَنِ الأَوْلِيَا،"

كما قال الله تعالى في الولية سيدتنا مريم، النبي زكريا يتعَجَّب: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ)؟ مُقفَّلٌ! والمفتاح معه، والفاكهة داخل موجودة، والرزق موجود! من أين جاء؟ (قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[آل عمران:37]. هذه كرامة لسيدتنا مريم.

وسيدنا النبي سليمان يقول لقومه: (قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) العرش في اليمن وسيدنا سليمان في فلسطين، وعرش بلقيس في مأرب في اليمن! (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) واحد من العفاريت من الجن قال أنا بروح أحمله لك، مدة الصبح إلى الظهر حين تقوم من مقامك أكون أحضرته (قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ ۖ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ* قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ  ) آصف بن برخيا واحد ولي من أولياء أمة سيدنا سليمان، قال له: (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ۚ) في لحظة واحد يصل، وقَع العرش عنده (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي)[النمل:38-40]. -جَلَّ جلاله- سبحان الله!

وهكذا يذكر لنا القرآن حكايات وكرامات الأولياء، وجاءت السنة الشريفة بها.

فهذا الذي يتعلَّق بما يُخَالِفُ المعتاد، يسمونه: خوارق العادات. خوارق العادات تأتي على أوجه: إرهاص، ومعجزة، وكرامة، ومعونة، وإهانة، وسحر، وشعوذة. فبواحد من هذه الأسباب يحصل خلاف المعتاد في المقاييس الكونية التي رتبها الله -تبارك وتعالى-

  • الإرهاص: 

وهو ما يحصل للأنبياء قبل نزول الوحي عليهم.

  • مثل سيدنا عيسى يتكلَّم وهو في المهد. هل هذا أمر معتاد؟ خارق للعادة. 
  • وهي نفسها مريم تهز بجذع النخلة، جذع النخل تهتز هي؟ إيش من جذع هذا يهتز؟ بتسقط عليها النخلة! (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ..)[مريم:25-26]، (فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا)[مريم:24]. ظهر لها النهر تحتها مباشرة؛ كرامات.
  • وبعدين سيدنا عيسى إرهاص، قالوا: من أين ذا يا مريم؟! (مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) صَلَّح خطبة! (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ..) أووه! عاده بركة وغيره وكلام عظيم! (وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ)[مريم:28-31]. وهو في المَهْد!

وهكذا إرهاصات الأنبياء، وكثُرت لنبينا محمد ﷺ من أيام حمله وأيام وضعه وأيام رضاعه وأيام نشأته ﷺ، كثير حصلت خوارق للعادات.

  • المعجزة:
    أما المعجزات ما يُبدِيِه الله تعالى من خوارق العادات على أيدي الأنبياء مقرونةً بالتحدي.
  • الكرامة:
    وأمَّا الكرامات فما يُظهره الله على أيدي أتباع الأنبياء من صلحائهم المقتدين بهم من دون تحدي.
  • المعونة:
    وأمَّا المعونات فما يحصل لعموم المؤمنين على خلاف العادة فضلاً ولطفًا من الله بهم.
  • الاستدراج أو الإهانة:
    فهو ما يحصل على أيدي الكفار والفجار والأشرار.
    • إن وافق مرادهم فهو استدراج؛ مثل ما يحصل للدجال، يقول للسماء: أمطري فتُمطر، قفي فتقف، هذا خلاف العادة، ولكنه استدراج من الله، ويقول للأرض: ازرعي فتزرع، فهذا من جملة الخوارق لكنها استدراج.
    • أو إهانة إذا كان يخالف مرادهم؛ كما قالوا لمسيلمة الكذاب: إنَّ محمدًا -ﷺ- تَفَل في بئر ماءها قليل ففاض ماؤها حتى غرفوا منه، وعندنا هذه البئر فيها ماء قليل نريدك تتفل فيها، فلمَّا جاء تفل يَبْسَت نشَفَت! وهذا خلاف العادة، البئر ما تيبس من تفلة، ولكنه أهانه الله. وجاءوا له بواحد أعور على عين واحدة قالوا: إنَّ محمد خرجت عين قتادة وردَّها، والآن هذا أعمى نريدك تقرأ عليه لأجل تفتّح عينه، فلما جاء يقرأ عَمِيَت الصحيحة وصار أعمى بدل أعور! وهذا أيضا خارق للعادة، ولكنها خلاف المراد؛ فهي إهانة.
  • السحر والشعوذة:

ما يكون بواسطة العَقْد والنَفْث والاستغاثة بالشياطين؛ سحر وشعوذة، كما قال الله: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ)[البقرة:102].

فهذا تقسيم خوارق العادات، وهذا بالنسبة لمألوف الخَلْق، أمَّا بالنسبة للحق تعالى لا عادة ولا خرق للعادة! حتى هم الخَلْق إذا فكروا: هذا الذي يعتادونه أصلاً أمر مُعجِز! وكلامنا ذا كيف يجيء؟ كيف نتكلم؟ وبالألفاظ والحروف هذه تخرج.. هو أمر غريب أصلاً.. مُعجِز! لكن ألِفناهُ فنراه عادي! والهواء الذي فوقنا والسماء التي فوقنا والأرض التي تحتنا وتَسِير عليها.. ايش هي؟!

كل الذي نألفه آيات بديعة! لكن الذي ما نألفه نستغربه ونقول كيف؟ ما يتأتى! والذي ألفته أكبر وأغرب من الذي لم تألفه.. ولكن الإنسان هكذا! والناس كانوا إذا قلت لواحد: جهاز كما ذا صغير يأخذ صوركم ويلقطها ويُبَعِّدها إلى كل محل. بيقول أنت مجنون أنت؟ّ! ما يصدق بهذا؛ لأنهم مَا ألفوه. والآن حتى الطفل الصغير يعرف وصدّقه.. صار شيء بديهي!

والطيران هذه الطائرات التي نطير عليها.. لو أحد قبل قرنين ثلاثة قرون قال الناس بيطيرون في الهواء ويحملون حمولهم معهم، بيقول كيف؟ سليمان ثاني جاء ولا إيش بتصلِّح أنت؟! ذاك سليمان والريح تحمله.. بيقول هذا جنون! والآن ما عاد هو جنون، عاده جنون؟ هو نفسه.. كان مجنون والآن ما صار جنون!.. إلا الكون كله مُبدَع بآيات ربانية!

وهذا واحد بريطاني اسمه وليام جونز، كافر مستشرق ولكن بتأمل العقل في الكون، قال: الذي يتأمل في الكون وما فيه من عجائب يجد كلها معجزات.. كلها عجائب، قال والعاقل يُدرك أنَّ القدرة التي خلقت هذا الكون ليست عاجزة أن تُضيف إليه شيء أو تَحذِف منه شيء. تستغرب من إيش؟ هو كله بديع عجيب غريب، فيضيف شيء أو يحذف منه شيء.. فيه غرابة؟! ما فيه غرابة.. ولكن الذين ما عرفوا قدرة الله…!!

 يقول: "... ** ...  وَتَصْدُرُ

عَظِيْمُ كَرَامَاتٍ عَنِ الأَوْلِيَا ، وَقَدْ

مَحَا شَرْعُنَا العَالِي، الزَّكِيُّ، المُطَهَّرُ

شَرَائِعَ كُلِّ المُرْسَلِينَ،.." من قبل ".. وَأَحْمَدُ

خِيَارُ الوَرَى المَوْلَى الشَّفِيعُ المُصَدِّرُ"

المُقَدَّم على الخلائق..

" وَأَصْحَابُهُ خَيْرُ القُرُونِ، وخَيْرُهُمْ

عَلَى وِفْقِ مَا قَدْ قُدِّمُوا، ثُمَّ أُخُرُوا"

فالسابقون الأوّلون نَصَّ الله على تفضيلهم على من بعدهم من الصحابة (لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)[الحديد:10].

"نُجُومُ الهُدَى ، كُلّ عُدُولٌ ، أُولُوا النَّدَا

فَضَائِلُهُمْ مَشْهُورَةٌ لَيْسَ تُنْكَرُ

وَأَفْضَلُهُم صِدِّيقُهُمْ صَاحِبُ العُلا" أبو بكر -رضي الله عنه- 

"وَرَابِعُهُم فِي الفَضْل ذُو الفَضْل حَيْدَرُ" علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-

أبوبكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم-. 

"وَتَخْلِيْـــد نـــارٍ لَيْسَ إِلَّا لِكَـــــافِرٍ" مَن مات على الكفر -أجارنا الله وأحسن لنا الخواتيم-.

 "وَقِبْلَتُنَا مَنْ أَمَّهَا لَا يُكَفَّرُ" مَن أمَّ القبلة، يعني: كما جاء في الحديث: "مَن صَلّى صَلاتَنا واسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنا، وأَكَلَ ذَبِيحَتَنا فَذلكَ المُسْلِمُ الذي له ذِمَّةُ اللَّهِ وذِمَّةُ رَسولِهِ". خلاص.. ما يمكن نكفِّره، إلا أن يصدر منه أمر لا يَحتمِل التأويل من المُكَفِّرات -التي سمعنا الحديث عنها بالردة- وإلا فلا يُكَفَّر المؤمن المسلم قط!

وقد عاب الله تعالى على مَن قَتَلَ إنسانًا لم يظهر من إسلامه إلا السلام، أنه سَلَّم فقط.. لا علامة على أنه مسلم إلا أنه سَلَّم، واتهمه بأنه سَلَّم خوفاً فقتله، فغضب النبي لذلك! وحَذَّر الله في القرآن: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا)[النساء:94].

هو ما عرف من إيمانه شيء، لا سمعه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ولا رآه يصلي، ولا رآه يصوم.. بس سمعه يقول: السلام عليكم! خلاص أميرهم وقَف، قال مُحَلِّمُ بن جثامة: أنتم يضحك عليكم هذا خائف على غنمه. وهو من قبيلة كفار محاربين، قال هذا إلا منهم، إنما سَلَّم علينا حتى يوهمنا أنه مسلم فما نأخذ عليه الغنم، وقام قتله وأخذ الغنم! تبرءوا منه باقي الصحابة، ولمَّا وصل الخبر للنبيِ غَضِب ﷺ، ونزلت الآية: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ۚ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا)[النساء:94].

وحتى جاء بعدين في الحديث أنه جاءه، قالوا له اذهب إلى رسول الله قل له يستغفر لك! قال: قتلته بعد ما سلَّم! اذهب لا غفر الله لك! قال له ثاني مرة، ثالث مرة، أعرض عنه.. وسمعه بعضهم، قالوا بعد ما قام سمعوه يستغفر له ﷺ، لكن أمام الملأ ما استغفر له، ثم مات بعد ثلاث أيام، وقبروه فلفظته الأرض، حفروا قبر ثاني ولفظته، وثالث مرة، جاءوا إلى النبي ﷺ قال: إن الأرض تقبَل مَن هو شر من صاحبكم، ولكن الله أراد أن يريكم حُرْمَة الرجل المسلم. اجعلوا أحجارًا وارموها عليه، وتركوه.. لا إله إلا الله!

فهذا ما ظهر من علامة إسلامه إلا السلام. وسُئل ﷺ: أقاتل الرجل المشرك -محارب يعني- يقطع يدي ثم يلوذ بالشجر يقول: "لا إله إلا الله" أأقتله؟ قال: لا تقتله. قال: قد قطع يدي يا رسول الله؟ قال: لا تقتله. قال: قطع يدي يا رسول الله؟! قال: فلا تقتله، فإنك إن قتلته كنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته، وصار بمنزلتك قبل أن تقتله؛ يرجع هو المسلم كحالك قبل ما تقتله، وترجع أنت كحاله قبل ما يقول "لا إله إلا الله"! لا إله إلا الله..

ولهذا اشتدّ على سيدنا أسامة بن زيد -مع أنه حِبّه وابن حِبّه- : أقتلته بعدما قال "لا إله إلا الله"؟ قال: قال: قالها ليأذَن يا رسول الله؟ قال: هلَّا شقَقْتَ عن قلبه؟! فالتكفير أمره خطير -أعاذنا الله من ذلك- ورزقنا حرمة المسلمين، ومعرفة قدرهم عند الله تعالى أجمعين.

وليس علينا حساب أحد، ولكن من حارب واعتدى وعاند هو الذي يجب أن يُقاتَل (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا * سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا ۚ فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ۚ وَأُولَٰئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا)[النساء:90-91]. موازين ما أعظمها.. ثابتة قوية قويمة، ولا يصلح للبشر إلا هي.

الله يملأنا بالإيمان، الله يملأنا باليقين، الله يجعلنا في الهداة المهتدين، الله يرقينا مراقي القُرب مع عباده الصالحين.. اللهم آمين.

وصلِّح اللهم لنا وجهاتنا ونياتنا وعقائدنا، وارزقنا كمال الإسلام، وكمال الإيمان، وكمال الإحسان. اللهم كما أنعمت علينا بالإسلام فزدنا منه، وكما أنعمت علينا بالإيمان فزدنا منه، كما أنعمت علينا بالعافية فزدنا منها، وكما أنعمتَ علينا بالعُمرِ فبارك لنا فيه، كما أنعمتَ علينا بالعُمرِ فبارك لنا فيه، كما أنعمتَ علينا بالعُمرِ فبارك لنا فيه، يا أكرم الأكرمين. 

واجعل كل واحد من هؤلاء وأحبابنا وأصحابنا مبارك له في عمره، واجعل في عمره رقيًا في القرب منك، والمعرفة بك، والفهم عنك، والصدق معك، والإخلاص لوجهك، والوصول إليك، والدلالة عليك، والنصرة لك ولرسولك ﷺ، واستعملنا لذلك، سالكين أشرف المسالك، وأعذنا من جميع الزيغ، وعجّل بتفريج كروب المسلمين، وتدارك أخواننا في أكناف بيت المقدس وفي رفح وفي الضفة الغربية وفي غزة وفي السودان وفي الصومال وفي ليبيا وفي الشام وفي اليمن، وفي الشرق وفي الغرب، يا كاشف كل كرب، تدارك الأمة، ورُد كيد أهل العدوان، وأهل الطغيان، وأهل البغي، وأهل الظلم، وأهل الفساد، ولا تبلّغهم مراد فينا ولا في أحد من أهل "لا إله إلا الله". 

وبحق "لا إله إلا الله" احرسنا وأهل "لا إله إلا إلا الله"، وحققنا بحقائق "لا إله إلا الله"، واجعلنا يا مولانا ممّن يقوم بحقها وممّن يعرف قدر أهلها، وأعذنا من كل سوء أحاط به علمك في الدنيا والآخرة.

 

بسرِّ الفاتحة 

إلى حضرة النّبيّ محمّد ﷺ.

تاريخ النشر الهجري

14 صفَر 1447

تاريخ النشر الميلادي

07 أغسطس 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام