(228)
(536)
(574)
(311)
العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ لكتاب شرح الحِكم العطائية للشيخ علي بن عبدالله باراس رحمه الله تعالى، ضمن فعاليات الدورة التعليمية التاسعة والعشرون بدار المصطفى بتريم ، الجمعة: 19 ذو الحجة 1444هـ، من قوله:
وعلى الحقيقة لم يكن ثَمَّ وجودٌ لموجود إلا ما أظهره تأثير اسمه الظاهر، ولا بطون إلا حقيقة اسمه الباطن، ولا أول إلا وهو من نور اسمه الأول، ولا آخر إلاَّ متوجِّه إلى اسمه الآخر؛ لذلك قال المؤلف رضي الله عنه:
أظهر وجود الأكوان، وأبدع صور الأعيان؛ لأنه الباطن، فلا يكون معه بطونٌ لشيء؛ فهويته القائمة وربوبيته الدائمة.. تقتضي ألاَّ يكون معه شريكٌ في اختصاصه برتبة الربوبية.
وطوى وجود كل شيءٍ بنور ظهوره، وسلطان قهره، وعظيم ألوهيته؛ لأنه الظاهر في أعيانها بالحكم والقهر والتصرُّف والاقتدار، فكل الأشياء متصرفةٌّ تحت حيطة اسمه القهَّار الجبَّار، ومشرق وجودها بقيومية الإله الستَّار، الذي ستر وجوده بما أظهر من مخترعات وجوده، وعمَّها بأفضاله وجوده، ولي في ذلك:
أظهرت الأشياء لكيلا أن يكون * سوا بطونك الساري المحجوب في الصورِ
واظهرت قهرك فيها كي يكون لها * رباً وتستوجب التنزيه بالنظرِ
فلذلك دلَّك وأحالك على النظر فيها، وما ذلك لسبب غيريتها، ولكن لتعرف نسبةَ الحقائق فيها، قال المؤلف رضي الله عنه:
أباح لك – أيها الناظر – في تحقيق اسمه الفاطر؛ لتكون إلى وصف قدرته ناظراً، ولتعرف حقيقة اسمه القادر، فقال: (قُلِ) أنت؛ ليفهموا خطابي من وراء سجف مخلوقاتي؛ إذ القوابل البشرية لم تقوَ على مكافحة الخطاب الإلهي من غير ترجمان تأنس به، ولم تقوَ أيضاً على شهود ذلك الجمال من غير مرآة في الظاهر، ومرآة في الباطن؛ لتنظر إلى ظهور كماله، وتتعرف صفة جماله وجلاله.
جعل مرآة اسمه الباطن القلوبَ والأسرار، وجعل مرآة اسمه الظاهر السماواتِ والأرضَ والبحار، والشموس والأقمار، والجنة والنار، فأحب أن تشهد وتنظر إليه في هذه الدار بالاستبصار، وبالأبصار في دار القرار، فخاطب الترجمان بسر الأسرار، ونور الأنوار، القائل عنه خطابه، والمتلقِّي منه الأمر مملاً، والمخبر عنه به مفصَّلاً محمد صلى الله عليه وسلم، الداعي من تشتيت الفَرْقِ إلى موصلات الجَمْعِ، فقال سبحانه: (قُلِ)ودلَّ على شهودنا بما أعطيناك من أسرار خطابنا، وأوضحْ ظهورنا في مسطور كتاب وجودنا، فهي رسائل منا، ووسائل إلينا لمن له عندنا سابقةٌ في علمنا أنه من خواصِّ عبادنا، ومصطنع لخالص ودادنا.
قوله: ( أباح لك) الإباحة لها معان؛ ففي لسان الفقهاء: أنها أمرٌ يستوي فعله وتركه من غير ترجيحٍ لأحد الجانبين.
وفي لسان المحققين: هو الإذن في الدخول في حظائر القرب، والوصول والإغراء على كنزيَّةِ السرِّ المصون، الغائب عن نواظر العيون، ولم تحمْ حول شهوده الظنون، بل أباح وفتح وأذن لك في الدخول؛ وذلك بأن تنظر ما فيها، فلم تجد غير ظهور وإشراق تجليات نوره، سبحانه من غير حلول ولا ملامسة ولا استقرار، بل ظاهرٌ بأوصافه، وحاكمٌ فيها بمقتضى ظهور أسمائه، مباين الأشياء بذاته وصفاته وأفعاله.
وما أذن لك أن تقف مع المكوَّنات دون شهود مكوِّنها، فتكون محجوباً بها دون وجود موجدا، فقال: (انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ) من الأنوار والأطوار والأسرار، والأرض من الانقهار تحت أحكام الواحد القهار، فتفهموا عنه أسرار قدرته، وتشهدوا ثبوت حكمته، فتروا في صفاء سماواته وتمكُّنها ثبوت أمره وتمكُّنه، فتفهم سرَّ قوله: (وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) ، وترى ما استولى على الأرض من أسر قبضته، وأن لا انفلات لموجودٍ من هذه القبضة، فتفهم قوله: (وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ) ، فتلج باب قوله: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) ،(وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ).
وقد أرشدناك إلى بابٍ عظيمٍ من أبواب العلم المكنون، الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ من العلم كهيئة المكنون))، فإن كنت ذا فهم.. فإليه؛ فدونك بحاراً يحار فيها ذوو الألباب، ويتيه فيها ذوو العقول، وينكرها كل مغرورٍ جهول، فلو قال: انظروا السماوات.. لكان دلالته على الأغيار، وهدايته إلى الأجرام والآثار، ولكن دلَّك على ما فيها من ظهور آياته، ودلالات وجوده واقتداره، وما أودع فيها من أنوار وجوده، فلا تزال تسير في بحر الوجود في سفينة الأفكار، الجارية برياح الأذكار، إلى أن تُلقى في باحات المعارف، فتلتقط ثَمَّ من جواهر الأسرار، ودُرَرِ لطائف، ولي في ذلك:
انظر إلى ما في الأكوان من حِكم * ترى الوجود بنور الله موجودا
فذاك من نوره يحكي الوجود كما * يحكي الظلال بنور الله ممدودا
فافتح من القلب أبواباً مقفَّلة * تريك في ذاك سر الله مشهودا
وكل من كان ذا فهمٍ يكون له * في كل شيء دلالات وتمهيدا
19 ذو الحِجّة 1444