شرح كتاب سلم التوفيق - 13- معاصي القلب والبطن والعين

للاستماع إلى الدرس

الدرس الثالث عشر للعلامة الحبيب عمر بن حفيظ في كتاب: سُلّم التوفيق إلى محبة الله على التحقيق، للإمام الحبيب عبدالله بن حسين بن طاهر. ضمن دروس الدورة الصيفية الأولى بمعهد الرحمة بالأردن.

(معاصي القلب، والبطن والعين)

 صباح الأحد 21 صفر 1446هـ 

لتحميل كتاب سلم التوفيق

 pdf: https://omr.to/sullam-pdf 

 

نص الدرس مكتوب:

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين حمدًا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد،

من كتاب سلّم التوفيق إلى محبّة الله على التحقيق للإمام العلّامة سيدنا عبد الله بن حسين بن طاهر باعلوي رحمه الله ونفعنا به وبكم في الدارين آمين، ورضي الله تعالى عنه وعنكم، قال:

فصل

ومن معاصي القلب: 

  • الرياء بأعمال البرِّ؛ وهو: العمل لأجل الناس. ويُحبط ثوابها كالعُجب بطاعة الله تعالى؛ وهو: شهود العبادة صادرة من النفس، غائباً عن المنّة. 
  • والشكُ في الله. 
  • والأمن من مكر الله.
  • والقنوط من رحمة الله.
  • والكبر على عباد الله؛ وهو: ردُّ الحق واستحقار الناس، ورؤيته أنه خير من كثير من خلق الله تعالى.
  • والحقد؛ وهو: إضمار العداوة إذا عمل بمقتضاه ولم يكرهه. 
  • والحسد؛ وهو: كراهية النعمة على المسلم واستثقالها إذا لم يكرهه أو عمل بمقتضاه.
  • والمن بالصدقة ويُبْطِلُ ثوابَها. 
  • والإصرار على الذنب.
  •  وسوء الظن بالله وبعباد الله.
  • والتكذيب بالقدر. 
  • والفرح بالمعصية منه أو من غيره.
  • والغدر ولو بكافر. 
  • والمكر.
  • وبغض الصحابة أو الصالحين.
  • والبخل بما أوجب الله، والشح والحرص.
  • والاستهانة بما عظم الله. والتصغير لما عظم الله: من طاعة أو معصية، أو قرآن أو علم، أو جنةٍ أو نارًا. 

 

الحمد لله رب العالمين، لا إله إلا هو، يقرِّب من شاء ويطهّر ظواهرهم وبواطنهم بخير التّطهير، ونشهد أنه أرسل إلينا عبده، البشير، النذير، والسراج المنير، أطهر الخلائق قلبًا، وأنقاهم جيبًا، وأرفعهم رتبة، وأعظمهم منه  وله محبة، اللهم صلِّ وسلم على سيد الأحبة، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن سار في دربه، وعلى آبائه وإخوانه من أنبيائك ورسلك، وآلهم وصحبهم، وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقربين، وعلى جميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، برحمتك يا أرحم الراحمين.

ويذكّرنا الشيخ - عليه الرحمة - في هذا الفصل بالمعاصي القلبية، معاصي القلوب، وقد قلنا: إن معاصي القلوب أشد وأعظم وأخطر وأظلم من معاصي الجوارح، كما أن طاعات القلوب أنور وأرفع وأعلى درجة عند الله من طاعات الجوارح.

يقولُ: "من معاصي القلب"

  • لنحذر منها
  • لنبتعد عنها
  • لنجتنبها
  • لنتّطهر منها

يقول: "من معاصي القلب الرياء بأعمال البر:؛ أي: الطاعات والعبادات لله -تبارك وتعالى- والرياء بها: ملاحظة الخلق فيها -الالتفات إليهم- لنيل المنزلة عندهم، أو الثناء منهم، أو تحصيل شيء من مالهم أو غير ذلك من الأغراض النفسية والمصالح والمطامع الدنيوية.

وهذا المُرائي -والعياذ بالله تبارك وتعالى- يركع لغير الله، ويسجد لغير الله، ويقرأ لغير الله، ويقوم لغير الله -جل جلاله- ويصوم لغير الله، ويتصدّق لغير الله -والعياذ بالله تبارك وتعالى- فيتعرّض بذلك لِمَقت الله -سبحانه وتعالى-.

والخطرات التي تخطر على الإنسان -إذا كرهها- لم يؤاخذ بها، وإنما إقرار نفسه على قصد الخلق، والوجهة إليهم، وإرادتهم بشيء من أعماله.

 ولما سُئل نبيّنا المصطفى محمد ﷺ كما جاء في الحديث الصحيح عن الرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل للذِّكر، والرجل يقاتل لِيُرى مكانه، والرجل يقاتل للمَغنم، أيهم في سبيل الله؟ فأجاب -وقد نفاهم كلهم إلا واحد- أجاب، فقال: "مَن قَاتَلَ، لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هي العُلْيَا، فَهو في سَبيلِ اللَّهِ".

وقد قلنا لكم أول ما جئنا: إنّ من أهم ما ننويه في طلب العلم أن تكون كلمة الله هي العليا، وقلنا: علّمنا إياه ﷺ بقوله: "من جاءهُ الموتُ وهو يطلبُ العلمَ ليحييَ به الإسلامَ" ، فينبغي أن تكون نيتّنا في مجالسنا هذه أن تكون كلمة الله هي العليا، فأول ما تعلو كلمة الله -تبارك وتعالى- في قلوبنا، فلا نُقدّم على كلامه كلامًا، ولا على أمره أمرًا، ولا على نهيه نهي -جل جلاله وتعالى في علاه- فتكون كلمة الله هي العليا في صدورنا، وقلوبنا، ونفوسنا، وكذلك تكون في جوارحنا، وتكون في مساكننا، وتكون في محيطنا، وأهلينا، وينشر الله تعالى الخير كما يشاء، ويهدي لنوره من يشاء، والله يجعلنا أسبابًا لانتشار النور وظهور الخير، إنّه أكرم الأكرمين. فطوبى لعبدٍ جعله الله مفتاحًا للخير، مِغلاقًا للشر.

فالرياء بأعمال البر والطاعة يُحبطها، العمل لأجل الناس يُحبط ثوابها -والعياذ بالله تعالى- وقد يؤدي إلى العقاب، وهكذا صاحب الإرادة لغير الله -تبارك وتعالى- حسبه أنّه: 

  • يقوم لغيره
  •  ويركع لغيره
  •  ويسجد لغيره.

قال: "العُجب" الذي هو -كما أسلفنا- أشدّ خفاءً من الرياء. وما العجب؟ العجب بأي شيء من الطاعة، والصفات الحسنات، والخصال المحمودات، والعجب بشيء من ذلك شهود العبادة، أو ذلك الوصف الحسن، أو تلك الخلّة الجميلة، كأنها صادرة من نفسه ومن ذاته في غَيبة عن استشعار وشهود المنّة من مُعطيها ومانحها -جل جلاله-، فهذا شهود الإنسان لنفسه خفيٌّ جدًا، نسيانُه المنّة لله -تبارك وتعالى-؛ وهو أيضًا يحبط العمل ويُغيب عن شهود منة الله -تبارك وتعالى-.

قال الله لنبيه: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ۖ قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم ۖ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [الحجرات:17].

فَخَلْقُنَا كلّه من العدم، كان من عنده، وأي شيء أحقر من العدم؟ كنّا في العدم، وحوّلنا إلى موجودين بإيجاده -سبحانه وتعالى-، فكيف ننسى أصلنا؟ ولأجل رحمته بنا أيضًا جعل لنا سبيلًا أن نتوقّى العجب، وما يريده من الكِبَر إبليس على صدورنا، فجعل بداية خلق هذه الأجساد من أمرٍ مهينٍ وحقيرٍ -حتى لا نغْتر- من طين ثم من سلالة من ماء مهين، من نطفة ومن علقة؛ هذا هو أصلك، من هناك جاء، أو من أين جئت؟ أو أحدهم يرى نفسه خُلق من جوهرٍ؟ أو من لؤلؤٍ؟ من أين جاء؟ جاء من نطفة، البداية من طين، ما هذا أصلك؟! لماذا تنسى؟ لماذا تنسى؟

قد أعانك؛ جعل أصلك هكذا من أجل لا تقع في قبضة المُورِّط لك، يورّطك فتزهو، وتخرج عن حدّك، وتخرج عن عبوديتك، هذا أصلك.

   بعض الأمراء لمّا يمشي في الطريق وأمامه الجنود يبعدون الناس، واحد شايب يمشي في الطريق قال له: ابعد، وسّع، قال: لماذا؟ قال: الأمير، قال: واسعة الطريق، ماشاء الله تسع كثير، تركوه، جاء هذا على فرسه، وجد الطريق فاضي إلا هذا الشايب تعجّب فيه! وقف.. قال له: لماذا لم تُوسّع الطريق؟ قال: هي واسعة ليست ضيقة حتى أوسّعها، قال: أظنّك لا تعرفني؟! قال: بلى أعرفك جيدًا، قال: من أنا؟ قال: أنت من أوّلك نطفةٌ مذرةٌ، وآخرك جيفةٌ قذرةٌ، وبينهما تحمل العذرة؛ هذا أنت من أولك إلى  آخرك، أعرفك تمامًا.

طأطأ رأسه ومشى وراح، ترك هذا الشايب، هو أنت هذا؟! أو في أحد ثاني؟! أنت نطفة ونهايتك جيفةٌ، وسطها تحمل العذرة في بطنك، أو ستنْكر؟!

جعل لنا الله هذه الأشياء كلها لئلا نُخدع، لأجل نربح، ونقوم بالعبودية، فننال حقائق الرفعة، حقائق الشرف، حقائق الكرامة، حقائق العزة.

أن عدوّنا يعيّش الناس في وهمٍ وخيالٍ بعيدٍ؛ يطلبون العزة من حيث المهانة، يطلبون الكرامة من حيث الذل، يطلبون الفوز من حيث الهلاك، يُلبّس عليهم ويُريهم كأنه عِزّ وكأنّه شرف؛ ما هناك عزّ، ولا شرف؛ لا في الكِبَر، ولا في العُجْب، ولا في الغرور، ولا في الخروج عن أمر الله، ولا في اتخاذ أرباب من دون الله تعالى، إبدال نظام الله بأنظمة خلق مِثَلنا، بل من شِرَار خلق ربنا تعالى، هذه ضحكة من إبليس.

 وهكذا يقول ابن عباس: ضحك عليهم في الدنيا، يضحك عليهم في الآخرة (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) حقّ خالص، أرسل به رُسُل وأنزل به كُتِب؛ قُمْتم تغفلون وتأمرون، وتُصدِّقون كلامي؟! كلامي كذب! (وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) -هو كذّاب أصلًا - ولا عندي شيء، أنتم تركتم الصدق والحق، وجئتم للباطل والكذب، (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ) [إبراهيم:22].

قال: ضحك عليهم في الدنيا، وضحك عليهم في الآخرة، ولا يغنيهم شيء.. (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا) [الحشر:16-17].

  قال: فيُبعد عن العجب بكل وصفٍ جميلٍ ظاهرٍ، أو باطن، فإنه مُعطَى وموهوب -ليس بذاتي- جميع المحاسن الظاهرة والباطنة، والفضائل الظاهرة والباطنة المعطاة لأيّ مخلوق، مُؤتاه وموهوبة، ليست من ذاته، لا أحد من ذاته!

أطهر ذات كونّها الله ذات حبيبه، ومع ذلك فهو ﷺ مخلوق، وهو عبدٌ، مع أنّ ذاته أطهر جميع الذوَات، وكوّنه من نوره -جلّ جلاله وتعالى-، وخلق نوره قبل خَلق شيءٍ سِواه من السماوات والأرضين، والحس، والمعنى، والأجساد، والأرواح، خَلَق روحه وسقاه، وتجلّى عليه قبل أن يَخلق شيء سِواه ﷺ ومع ذلك، يقول: "إنَّما أنا عبدٌ آكُلُ كما يأكُلُ العبدُ وأجلِسُ كما يجلِسُ العبدُ" رأيت  كيف؟

 هذا الأطهر، هذا الأنوار، هذا الأزكى، هذا الأجلّ، هذا الأكمل، ما جمع مكارم الأخلاق في ذاتٍ كما جمعها في هذه الذات..حتى في الملائكة ما اجتمعت هذه.. ما اجتمعت هذه المكارم والفضائل؛ لا في الملائكة، ولا في من سِواه من الأنبياء، كما اجتمعت في ذاته الكريمة الطاهرة. 

لا كذات العلوم من عالم **  الغيب ومنها لآدم الأسماء

ولماذا ينطوون كلهم تحت لوائه؟ لأنّ الحقيقة معه، والأصل معه، وكلهم تفرّعوا منه ﷺ.

لهذا يقول سيدنا أحمد البدوي: فُهُم منه وإليه؛ لمّا ذكر الأنبياء في صلاتهم؛ من اندرجت النبيّون تحت لوائه فُهُم منه وإليه ﷺ، ومنه شجرة الأصل النورانية، -الأصل في الإيجاد، الأصل في التكّوين، الأصل في الخَلْق، الأصل في التجلّي، الأصل في الرحمة- شجرة الأصل النورانية، ولمعة القبضة الرحمانية، وأفَضْل الخليقة الإنسانيّة، وأشرف الصوّر الجسمانية، ومعدِن الأسرار الربّانية، وخزائن العلوم الاصطفائية، صاحب القبضة الأصليّة، والبهجة السنيّة، والرتّبة العلية، من اندرجت النبيون تحت لوائه فُهم منه وإليه.

هذا لما رأى بعضهم النبي ﷺ وكان قد قرأ كتاب دلائل الخيرات بما فيه من عظيم الصلوات، عدّة مرات، فقال ﷺ: ولو قرأت صيغة أحمد البدوي -هذه صيغة الأصل النورانية- لكان يعْدل بذلك كله -هذا لو قرأتها مرّة- شجرة الأصل النورانية ولمعة القبضة الرحمانية ﷺ.

فهكذا، وبرز ﷺ في هذه العبودية، اللهم صلّ وسلم على هذا العبد الذي وفّى بحق العبودية، وبرز فيها في خلعة الكمال، وقام بحق الربوبية في مواطن خدمة الله، وأقبل عليه غاية الإقبال.. صلِّ ياربِّ عليه صلاة يتّصل بها روح المصلّي عليه به، فينبسط في قلبه نور سرِّ تعلّقه به وحبّه ويُكتب به بعناية الله في حزبه، وعلى آله وصحبه الذين ارتقوا صفوة المجد بقربه، وتفيؤا ظلال شرف الأصل بودِّه وحُبّهِ.

إذًا؛ لا سبيل إلى العُجُب، ولكنّه موهوم ودقيق وخفيّ؛ خلّصنا الله منه وصفّانا (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ): 

  • فضائلك الظاهرة والباطنة 
  • ومحاسنك الظاهرة والباطنة
  •  وجميع ما فيك من حميد الخصال أو القول أو الفعل أو العقل؛ موهوب، مُعطى، مُتكرَّم به عليك، مُؤتى لك من قِبل قوّته وقُدرته وإرادته -سبحانه وتعالى- فالفضل له على الإطلاق -الفضل له والمنّة له- ويقدر في أي لحظة يسلب عنك أي فضيلة، يسلب أي خصلة، يسلب عنك أي جمال، يسلب عنك أي كمال، ومن أين تجيء به؟

(قُلْ فَمَن يَمْلِكُ) أن يردّ على النصارى هؤلاء في تهوّرهم وكلامهم الفارغ؟! (قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) [المائدة:17]، من يملك من الله شيئًا، من سيعمل شيئًا منهم، من سيمنعه؟ إذا أراد أن يهلكهم؟ هو تفضل عليهم، وهو تَكرّم -سبحانه وتعالى-، وعرف المنّةَ ملائكته وأنبياءه وأصفياءه والعقلاء من العباد الذين أحسنوا استخدام عقولهم فعرفوا المنّة له؛ أصبحوا يقولون ما علَّمنا ﷺ في كل صباح: "اللَّهمَّ ما أصبحَ بي من نِعمةٍ أو بأحدٍ من خلقِك"؛ أهل الأرض، وأهل السماء، أهل الدنيا، أهل البرزخ، الأولين، والأخرين؛ كل ما أصبح بنا من نعمةٍ صغيرةٍ، كبيرةٍ، قليلةٍ، كثيرةٍ، ظاهرة وباطنة، "فمنكَ وحدَك، لا شريكَ لَك، فلَك الحمدُ، ولَك الشُّكرُ على ذلك". 

صلى الله عليه وسلم.. كيف يُعلّمنا مراتب الحمد، ومجالات الحمد، لنحمده على كل نعمة أنعم بها علينا وعلى الخلق كُلّهم؛ لنشاركهم في المنّة التي حمدناه عليه، ونتعرّض ونعرّضهم للزيادة، (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) ]إبراهيم:7]. لكن تحقيق هذا أنّك تفرح بنِعَمِ الله على عباده، أنت تقول: لك الحمد، ولك الشكر على ذلك، ثم تقول: لماذا هذا فلان كذا؟ لماذا كذا؟ أنت تقول: لك الحمد، ولك الشكر على ذلك؟! والآن تقول لماذا؟ كذاب في قولك؟! أنت تحمده على كلِّ نِعْمْة أَنْعَم بها على عباده؟ لا تستثقل شيء منها؛ تكذب، ما تحمد عليها! انظر كيف يعلّمنا الحمد؛ "ما أصبحَ بي من نِعمةٍ أو بأحدٍ من خلقِك فمنكَ وحدَك لا شريكَ لَك  فلَك الحمدُ ولَك الشُّكرُ على ذلك". 

يقول: "شهود العبادة صادرة من النفس، غائبًا عن المنّة".

وبعد ذلك من معاصي القلب، ما هو كفر، وهو "الشك في الله"، أو في صفةٍ من صفاته العُلا، أو اسمٍ من أسمائه الحسنى، أو أفعاله في الوجود. "الشك في الله" هذا كفر، "والأمن من مكر الله" (فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) [الأعراف:99] .

ولمَّا بكَيا في بعض مواقفهما؛ سيدنا جبريل وميكائيل-عليهما الرضّوان- فأوحى الله إليهما: ألم أؤمنكما عذابي؟ قالا: نعم يا ربنا، ولكنّا لا نأمنُ مَكْرَكَ، قال: فكذلك فكُونا، فإنه لا يُحيط بعلمي مُحيطٌ.

 كان بعض العارفين يقول أنه يتكرّم الحق عليه بالرّؤية، ويقول: أخذ العهد من ربِّه -لا يدخل أحد من أصحابه النار-، ثاني مرة، وثالث مرة، ورابعة مرة تكررت له، وخامس مرة، وسادس مرة وسابع مرة، إلى أن وصل إلى سبعين، ثم قال: يا رب، أسألك عهدًا من عندك لا تُدخل أصحابي النار، قال: ألم أعاهدك سبعين مرة؟ قال: نعم، ولكنّي لا آمن مكرَك يارب، قال: فكذلك فكُن، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله… اللهم نجّنا من النار وأدخلنا الجنة، ولا تؤمنّا مَكرك، ولا تُنسنا ذكرك، وأعنّا على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك، "الأمن من مكر الله" -والعياذ بالله تبارك وتعالى- 

ومثله "القنوط من رحمة الله"؛ ولهذا الشيطان يجتهد على الإنسان، إنْ قدر يؤمنّه من مكر الله، فهو يُحب منْه هذا ويتمادى في غيّه وطغيانه، وإذا لم يقدر؛ يبليه، يؤُيّسه من رحمة الله، من أجل يعصي الله بقلبه وهو يظن أنه يَعبُده.

واليأس من رحمة الله -تعالى- إثمه مثل الأمن من مكر الله، هذا إثم، وهذا إثم كبير؛ لأن في كِلا الأمرين تعجيز للقدرة الإلهية، في كِلا الأمرين في هذا أو في هذا؛ الأمر أمره، والذي يريده يكون، فلا طريق أن نأمن من مكره، ولا طريق أن نيأس من  رحمته، فالذي يأمن من مكره كأنه يقول: الأمر لي وأنا أفرض على ربي لا يعمل كذا، استغفر الله!.. 

والذي يقنط من رحمة الله كأنه يقول: أنا ذنوبي أكبر من رحمة الرّب، أنا معاصيّ أقوى من جود الإله! يا كذَّاب، ليس فوق جود الإله شيء.

  ولهذا عندما سمع النبي الداعي يدعو: اللهم مغفرتك أوسع من ذنوبي، ورحمتك أرجى عندي من عملي، قال: قد غُفِر له. اللهم إنّ مغفرتك أوسع من ذنوبنا، ورحمتك أرجى عندنا من أعمالنا-، لا إله إلا الله.

"القنوط من رحمة الله" (قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) [الحجر:56]، (وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) ]يوسف:87].

 (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)  فقط، انظروا إلى الطريق (وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ) [الزمر:53-54]، ارجع إليه، والأمر أمره، لا يتعاظمه ذنب -سبحانه وتعالى- ولا يتعاظمه حسنة كذلك،.

 أوحى إلى عبده داود، وقال له: بشّر العاصين، وأنذر الصدّيقين. قال: كيف يا رب أنذر الصدِّيقين، وأبشّر العصاة؟ قال: أنذرْ الصدِّيقين أنّي لو وضعتُ عَدْلِي عليهم؛ تلاشتْ جميع أعمالهم -لم يبقَ عندهم شيء-، وبشّر المذنبين أنه لا يتعاظمني ذنبٌ إذا أقبلوا علِي؛ "لو أتيتني بقُرابِ الأرضِ خطايا ثم لقيتَني لا تُشركُ بى شيئًا؛ لأتيتُك بقُرابِها مغفرةً"، "لو بلغتْ ذنوبُك عنانَ السماءِ ثم استغفرتني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أُبالي".

الله لا يصعب عليه شيءٌ، ولا يعظم عليه شيءٌ، ولا يعجزه شيء، يُعطي ولا يُبالِي ويمنع ولا يُبالِي يرحم ولا يُبالِي يعذّب ولا يُبالِي يقرّب ولا يُبالِي يُبعد ولا يُبالِي؛ أصلًا لا شيء يضره.

 "يا عِبَادِي، إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُمْ؛ ما زَادَ ذلكَ في مُلْكِي شيئًا" -هذه عظمته وجلاله وكبريائه وقدرته؛ لا احد يقدر ينقص منها شيء، ولا يزيد فيها شيء- "يا عِبَادِي، لوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ ما نَقَصَ ذلكَ مِن مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ؛ ما نَقَصَ ذلكَ ممَّا عِندِي إلَّا كما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحْرَ" ما هو النقص على البحر حين ندخل إبرة في مِخْيط، ونضعها في البحر، ونرى كم نقص من البحر؟ ما الذي نقص من البحر ولا يُدرى بها!

 يقولون: على لسان المعنى، يقولون: أن ذباب وقع فوق جبل، ثم قال: يا جبل تماسك، أنا سأطير من عندك، انتبه!! قال الجبل: ما أحسست بك لمّا جئت، كيف عندما ستذهب؟! ما علمت بك.

ما يتعاظم الله شيء، الله هو العظيم، الله هو العظيم، ولا يتعاظمه شيء، إذا عرفت هكذا؛ فاحذر أن تيأس من رحمته، واحذر أن تأمن مَكرَه، واعلم أنه الله لا يتعاظمه شيء، يُقرّب من يشاء، يُعطي من يشاء، وفي لحظة يُحوّل من حالٍ لحال، الملك ملكه، والأمر أمره و لا رادّ لِما قضى، ولا مُعقّب لحكمه، فعّال لِما يريد، هذه شؤون الألوهية، وشؤون الربوبية، ليست لغيره أصلًا، هو وحده هكذا، لا إله إلا هو، له الحمد، له المنّة.

يقول: "والكبر على عباد الله"، يكفي أنّهم عباد الله، ويكفي أنه أخفى خواتيمه، فهذا يكفيك، لا تدري بخاتمتك، ولا بخاتمتهم، ما لك طريق تتكبّر! لا إله إلا الله.

"والكبِر على عباد الله، وهو رد الحق، واستحقار الناس"، لأنهم سألوا النبي ﷺ، قالوا: الرجل يُحب أن يكون ثوبه حسن، ونعله حسن، هل هذا من الكِبر؟ قال: "لا، الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ، وغَمْطُ النَّاسِ". 

  • بطر الحق: ردّ الحق.
  •  وغمط الناس: احتقارهم. 

أن تحتقر أحدًا، ترد الحق لمّا يُلقى إليك هذا الكِبْر و"لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَن كانَ في قَلْبِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِن كِبْرٍ" -اللهم أجرنا، وطهرّنا- وهو الذي عصى الله به إبليس، فلُعن، لُعنٍ للأبد، إلى يوم الدين، (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ) [ص:78]. (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ) -على سيدنا آدم-.

 قال: "ردّ الحق، واستحقار الناس، و رؤيته أنه خيرٌ من كثيرٍ من عباد الله تبَاركَ وتعالى"، والخيّر من هو خيرٌ عند الله، وذلك غيب.

قال: "والحِقْد"؛ الحِقْد "إضمار العداوة" -هذا الحقد- وأصله الغضب، فإذا غضب ولم يستطع أن ينفّذ غضبه تحوّل إلى حقد مُستكِنّ في قلبه، وهذا الحِقْد أيضًا، قال: "إذا عمل بمقتضاه ولم يكرهه"، يُعاقَب عليه، و إلا بالطّبع البشري قد يُطْرَأ على الإنسان، لكن إذا كرهه ولم يعمل بمقتضاه ما يضرّه، مثل الحسد إذا كرهه ولم يعمل بمقتضاه ما يضرّه، لهذا يقول: ثلاثٌ لا يخلو منهن أحدٌ، ولا ينجو منهن أحد:

  •  الحسد 
  • والطيرة
  • والظن

 وسأنبئكم بالمخرج:

  •  "إذا حسدت فلا تبغِ"، أي: لا ترضى بالحسد، ولا تعمل بمقتضاه؛ لا تسبّ، ولا تشتم، ولا تُؤْذِي، ولا تَضرّ، ولا تنقص قدر الذي حسدت، ولا ترضى بالحسد إذا حسدت، إذا حسدت فلا ترضى.
  • "وإذا ظننت فلا تُحَقّقْ"؛ ما تُصَدّقْ الظن. 
  • "وإذا تطيّرت فأمْضِ"، ولا تُبالِي 

تكون أنت خلُصت منها ولا  يضرُّك منها شيء.

"فالحسد إذا لم يكرهه الإنسان كراهية، استثقال النعمة أو كراهية النعمة على المسلم واستثقالها"، بل على أي مخلوق إذا لم يكرهه، أي: الحسد، أو عمل بمقتضاه: سب الإنسان أو تعمّد إهانته، أو حطّ من قدره؛ عمل بمقتضى الحسد، أو سعى لأذاه، راضي بما يصيبه من مصائب؛ هذا عمل بمقتضى الحسد إذا عمل بمقتضاه أثِم، وصار الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، لا إله إلا الله.

  • فإمّا أنْ يتمنّى زوال النعْمة وانتقالها إليه.
  • أو انتقالها إلى آخر، كأنُه هو الذي يقسّم في المملكة الربانية، يُعلّم ربي كيف يقسّم؟! هو بيقسّم أحسن؟! يقول له: أعطِ هذا، لا تعطي هذا، قل له: لا مُكْرِه له أصلًا، هو ما أنعم على أحدٍ من نعمة إلا وهو مُريد له، لا مُكْرِه له، فأنت تُريد غير ما أراد؟! أنت ستقسّم أحسن منه؟! 
  • أو أشد منه حسدا، قال: يتمنّى زوالها فقط، حتى لا تنتقل، لا إليه، ولا إلى غيره، فقط المهم أنّها تزول من هذا؛ من أشد أنواع الحسد، فويل له إنْ رضي بذلك؛ إذا لم يكرهه، أو عمل بمُقتضاه.

 كمثل قوله: "لا تَغْضَبْ" قال: ما المُراد: لا تغضب، وهو بشر، كيف لا يغضب ؟ يعني: لا تُنَفّذ الغضب، لا تعمل بمقتضاه، أمّا تغضب لا تنفّذ الغضب، ولا تعمل بمقتضاه.

 قال: "والمنّ بالصدقة، وهو يُبْطل ثوابها"، ويُعرّض صاحبها لأن يكون ممن لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يُكلّمهم؛ المَنّان بالصدقة -يقول: أعطيناكم، وأعنّاكم، قدّمنا لكم، أحسنّا إليكم… أنت خَلَقْتنا؟! من أين جئت؟ أنت مخلوق ومتفضَّل عليك، ومنعَم عليك وهو الموفِّق لك والمنّان (لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ)  حجر، أملس (عَلَيْهِ تُرَابٌ) نزل فوقه مطر، كم يبقى التراب؟ ولا ذرة (فَأَصَابَهُ وَابِلٌ) مطر غزير، وهو حجر أملس، فوقه التراب، نزل المطر، وما الذي باقي؟!  (فَتَرَكَهُ صَلْدًا) ]البقرة:264]. ولا تبقى ذرة من التراب، ذهبت، يعني: يُحبط العمل نهائيًا؛ الرياء، لا تحصّل شيء فيه، يذهب ولا يبقى منه شيء.

قال: "والإصرار على الذنبِ"، قال: وهو أشدّ إثمًا من فعل الذنبِ، الإصرار عليه أشدّ إثمًا من فعله، وهو عزمه على أن يتمادى فيه، وأن يسترسل فيه، وأن يدوم عليه، فهذا الإصرار إثمه أشد من إثم المعصية، لذا وصف المؤمنين أنّه لو صدر منهم ما صدر منهم، فإنهم لا يصرّون، (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا) ]آل عمران:135] فهذا الفرق بين المؤمن والمنافق؛ استثقال الذنب عند المؤمن، والاستخفاف به عند المنافق:

  • إن المؤمن يرى ذنبه كالجبل فوق رأسه يخشى سقوطه عليه.
  •  وإن المنافق يرى ذنبه كذبابٍ وقع على أنفه، فقال بيده فطار؛ ما يبالي. 

هذا الفرق بين هذا وهذا، اللهم حقّقنا بحقائق الإيمان، واغفر لنا يا واسع الغفران.

قال: "وسوء الظن بالله" -تبارك وتعالى- في شيءٍ من أسمائه، وصفاته، وعظمته -جلّ جلاله-، أو أنّه لا يُعطيه شيئًا من الخير، أو لا يتفضل عليه بشيء من الرحمة؛ سوء الظن بالله.

"وسوء الظن بعباد الله"، وأولى عباد الله ملائكته وأنبيائه ورسله، فهؤلاء وجب الإيمان بهم وهم ركنٌ من أركان الإيمان، فيجب تعظيمهم، وودّهم، ومحبتهم، وسوء الظن بهم أعظم من سوء الظن بغيرهم.

ثم قال ﷺ: "إن كذبًا عليّ ليس ككذبٍ على أحدٍ"، "من كذب علي مُتعمّدًا فليتبّوأ مقعده من النار"، فعباد الله كلهم، وخصوصًا كبارهم، وخيارهم، وخواصهم عند الله، يجب أن يُحسَن الظن بهم، ويُحرَم سوء الظن فيهم.

"والتكذيب بالقدر"، -والعياذ بالله تعالى- وهذا أيضًا من الكفر، لأن كل شيءٍ بقضاءٍ وقدر (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [التكوير:29]. "ما شاء اللهُ كان وما لم يشأْ لم يكن"، فالتكذيب بالقدر، لأن كلٌ شيءٍ بقضاءٍ وقدر، والإيمان بالقدر خيره وشره، من الله تعالى من أركان الإيمان.

 "والفرح بالمعصية منهُ أو من غيره"، صدرت منه، أو من غيره، وهذا أيضًا الفرح مثل الإصرار، الفرح بالمعصية ذنبٌ وأشدّ إثْمًا من المعصية نفسها -الفرح بها-، حتى أن من ذكر معصيةً ففرح بوقوعها منه، يكون إثم فرحه بها أعظم من وقوعه فيها، 

وإنّما المؤمن إذا ذكر ذنبه:

  • يندم 
  • ويستغفر
  •  ويشمئز من ذلك

هذا المؤمن، هذا المؤمن الذي يكون عُرضة لكفّارة ذنوبه، ومغفرتها وتجاوزها.

"الفرح بالمعصية منه أو من غيره"، ولهذا يقولون: أنه لو قُتل رجل ظلمًا بالمشرق، فعلم به رجل في المغرب فرضي بذلك، شارَك القاتل في إثمه؛ برضاه، فكيف بفرحه؟  يقول: ناس سلّمهم الله من الدماء، فشاركوه  فيها بالفرح:

 قالوا: حصل قتل عند ال فلان أو في المكان الفلاني، يقول: يستاهلون! أنت يدك سَلِمَت، لكن الآن ستدخل في القتّالة، إن كان هذا قتلًا بغير حق؛ بقولك: يستاهلون، صرت أنت واحد من القتّالة انت، ستدخل في القتلة يوم القيامة! كيف يستاهلون وهم مسلمون ومؤمنون؟! كيف يستاهلون؟! لا تتمنى قتل أحد مسلم بغير حق.

قال: "والغدر ولو بكافر"، لا يجوز الغدر، عندك كافر جنبك، جارك ذمّي تغدر به؟!  لا يجوز.

  • إنما وقت الحرب، الحرب خدعة نعم، خديعة في الحرب نعم يجوز لك، خادع المحاربين المقاتلين.
  • وأما واحد في بيع، أو في شراء، أو بأي جانب من جوانب الحياة تخدعه و تغدر به؛ لا يجوز ولو كان كافرًا.

 سيدنا خبيب -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- لما أسروه الكفار ليقتلوه، وانتظروا خروج شهر محرّم ليقتلوه في هذا الشهر -في صفر- وبينما قرب الوقت، طلب من البيت الذي هم فيه، مُوس يستحدّ بها، يتزيّن للاستعداد للقاء ربِّه، بينما هو كذلك إذ طفل من أطفالهم جائع، يبكي، فأخذه ووضعه على رجله وسكت، فمرّت أم البيت، وإذ طفلها على رجل خبيب، والمُوس بيده؛ ففزعت لأنّ هذا سيُقتل -وبيصلِّح فيهم أشياء- سيقتل ولدهم، فحس منها أنّها خافت، فقال: أخفتِي على طفلك؟ إنما سكّتُّه رحمة به، إنّا أصحاب محمد لا نغدر، إنّا أصحاب محمد لانغدر -لا نقُتل أطفال، ولا ننتقم منكم بقتل الطفل عليكم، لا- إنّا أصحاب محمد.. نحن ربانا واحد كبير عظيم شريف، لا يجيء الغدر منّا.

 وكانت تذكره بعد ذلك، وتقول: رحم الله خبيب قال لي: كذا، وقد رأيته يأكل بيده قطفة عنب، وما بمكة حبة من عنب، ما هو إلا رزق رزقه الله خبيبًا، قالت: خير أسير، ما رأيت مثل هذا الأسير -في وقت شدة ولا شيء في مكة ولا عنبة واحدة وهو حامل عنب يأكل، من أين جاء به هذ؟- (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّه) ]آل عمران:37]. قالت: ما هو إلا رزقٌ رزقه الله خبيبًا، ولمّا رأيت ابني على حجره، وهو حامل المُوس خفتُ، لأنّه أصلًا سيقتلونه؛ قالت: بيقتل بيصلّح أشياء كثير -سينكّل بهم-، لكن قال لها هذه الكلمة، قال: أخفتِ؟ إنّا أصحاب محمد لا نغدر، ﷺ، هكذا كان. 

والغدر قال: ولو بكافر، غير موجود، هذا عندهم، هم يغدرون، ليس عند أحباب الحبيب ﷺ ولا متّبعيه. 

"بغضُ الصحابة" لأنهم من خصوص الأمة، خصوص المؤمنين، صاحب الّرأس، صاحب الأساس، صاحب خير الناس، وإذا كان المرء مِنْ جليسه، فَمَنْ جليسهم؟ فبغضهم كبغض أهل البيت "والصالحين" على الخصوص، بغض المؤمن العامي من عموم المؤمنين خطر، وبحسب إمرئ يحقر أخاه المسلم، فكيف ببغض صالح؟! فكيف ببغض الصحابة؟! فكيف ببغض أهل البيت؟! لهذا بغض أي نبي من الأنبياء كفر -والعياذ بالله تعالى-.

"والبخل بما أوجب الله" -تبارك وتعالى- علينا من أعمال، وأقوال، ومن إنفاق مال من زكاة وغيرها.

"والشحّ،" قال تعالى: (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر:9]، والحرص على المتاع الفاني، وعلى الجاه، وعلى المظاهر، ويشيب ابن آدم، يشيب؛ يكبر وتضعف قواه من الطعن في السن، وتشب فيه خصلتان؛ خصلتين ما تشيب بل تشب إذا ما تهذّب وتأدب من البداية، هو يكبر وهذه تشب فيه -تتقوّى- الحرص والأمل، يشيب ابن آدم، يهرم ويشيب، وتشب فيه خصلتين: 

  • الحرص
  • والأمل

الحرص على الدنيا، وطول الأمل يزيد، هو يشيب وهذه تشب إلا من هُذّب، من هُذّب وأُدِب، فأمره ثاني، لا إله إلا الله…

"والاستهانة بما عظم الله تعالى" من كتاب، أو من مسجد، أو من مؤمن، أو من طاعة، أو من جنّة، أو من نار، "والتصغير بما عظم الله -تبارك وتعالى-"، وعكسها (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج:32] ما هو؟ إما طاعة أو معصية، عظم الله -سبحانه وتعالى- الطاعات، فلا يجوز الاستهانة بشيء منها، عظّم المعاصي، فلا يجوز التهاون بشيء منها، عظم القرآن، عظم علم الشريعة… 

إذا كان يبحث بعض أهل الفقه أنّ لو مستهزئ قال: عُمِيمَة عالم، -عُمِيمَة، مستهزئًا- قال: إنّه يقع في الكفر، لأنّه استحقر السُنّة، استهان بها، قال على سبيل الاستهزاء: هذه عُمِيمَة عالم، وقع في الكفر -والعياذ بالله تعالى-، لأنه استهزأ بسُنّة رسول الله صلى الله وسلم عليه وعلى آله.

قال: "أو جنة أو نار"، ولما سمعوا كلام بعض العارفين أنّه لم تكن علّة عبادتهم لله وجود الجنّة والنّار، ظنّوا أنّهم يستخفون بالجنّة والنار، والله هم يُعظّمون ما عَظّم الله، ويسألون الجنّة، و يستعيذون بالنار، لكنّهم عبدوه لمّا عرفوا أنّه أهل للعبادة، أترى لو لم يخلق جنّة أو لا نار ألم يكن يُعبد؟! ألم يَكن أهلًا للعبادة؟! -جلّ جلاله-.

 

فصل: في معاصي البطن

ومن معاصي البطن: أكل الربا والمَكْس، والغصب والسرقة، وكل مأخوذ بمعاملة حرَّمها الشّرع، وشرب الخمر، وحدّ الشارب أربعون جلدةً للحُرّ، ونصفها للرقيق، وللإمام الزيادة تعزيراً.

ومنها كلُ مُسْكِر وكل نجس ومستقذر، وأكل مال اليتيم أو الأوقاف على غير شرط الواقف، والمأخوذ بوجه الحياء.

 

يقول: "من معاصي البطن" 

  • أكل الربا، وهو مَلْعُون آكَلَهُ.
  • والمكس ما يؤخذ من غير حق من الضرائب والجمارك.
  • والغصب ما أُخذ إذًا قهرًا.
  • والسرقة ما أُخذ خفيةً.
  •  "وكل مأخوذ بمعاملة حرمها الشارع".
  •  "وشرب الخمر"، وكل مُسْكِر فهو خمر، قال: "وحدِّ الشارب أربعون جلدة للحرّ، ونصفها للرقيق" وعلى "الإمام" أن "يزيد عليها تعزيرًا"، وجاء منها كل مُسْكر، لأنّه قال صلى الله عليه وسلم: كل مُسْكِر خمر، وكل خمر حرام.
  •  "وكل نجس ومستقذَر"، وهي من جملة الذنوب التي هي أُمْ للخبائث، إزالة العقل، وتعمّد إزالة العقل، أُمْ للخبائث، ولهذا لم يزل إبليس وجنده إلى اليوم يحرصون على أَنْ ينشروا بين الناس وبين المسلمين هذه المخدرات، والمُسْكِرات، والمزيلات للعقول، ويتفنّنون فيها، وربّما تعمّدت بعض الجهات ترخيصها في بعض الأماكن، أو نشرها، أو تيسير الوصول إليها لشباب المسلمين، لأجل فسادهم، لأجل لا تقوم بينهم قائمة حق والهدى -والعياذ بالله تعالى- فوجب الحذر والانتباه. "وكل نجس مستقذَر" لا يجوز أكله وإيصاله البطن.
  •  "أكل مال اليتيم"، (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا) [النساء:10]، "أو الأوقاف على غير شرط الواقف"، وهذه الأوقاف نظام عجيب في الإسلام، جاء من أجل استمرارية تغذية وإمداد وجه من أوجه الخير في واقع الأمة، فجاء نظام الوقف، يسبّل فيكون صدقة جارية على ما وُقف عليه، وشرط الواقف كنصّ الشارع لابد يتّبع، فإخراجه عن مراد الواقف وصرفه إلى غيره حرام، وأكله حرام.

وبهذا تعلم أنه هذا النظام البديع العجيب أنّه ضيّعه أكثر المسلمين، وضيّعوا حقه، واستفاد منه إلى اليوم بعض الكفار، وأن الجامعات الكبيرة اليوم الموجودة في بريطانيا، والتي نشأت بعدها حتى في أمريكا، مثل: جامعة كامبريدج، حتى الجامعات التي في أمريكا، سبب بقائها واستمرارها وقوّتها أوقاف، وهم تعلّموا الوقف من المسلمين لمّا وصلوا الأندلس، جاءوا تعلّموا الوقف منهم وأخذوه، ففي أوقاف من ستمئة سَنْة عليها قائمة الآن هي سبب عمارتها وغناها -تغطية جميع مصارفها وزيادة-؛ أوقاف موقوفة عليها.

جاء المسلمون إلى الأوقاف ولعبوا بها، حتى لمّا أسقطوا الخلافة، وجاءوا بالذين يسمّونَهم علمانيين -الجهلانيين الظلمانيين- سمّوهم علمانيين، جاءوا بهم إلى تركيا، وبدأوا يطلبون من العلماء أن يتكلّموا في شيء من المواضيع، ويسكتوا عن شيء، لا يبالون بهم، بسبب أن العلماء مكفيين بالأوقاف، فكّروا أنْ يأخذوا الأوقاف، ويضعوها تحت السياسة، وتحت الدولة، يصرفونها كما شاءوا، لأنّهم رأوا أنهم لا يقدرون أن يتحكّموا على العلماء، لأنه لا يأخذوا منهم مرتّب، ولا يلتفتوا منهم إلى شيء، فرجعوا جاءوا بالنظام، يولّون الدول على الأوقاف، ويلغون النظارات الخاصة، ويصرفونها في غير مصرفها، وصار الآن أكثر الأوقاف في بلاد المسلمين مصروفة في غير محلّها، أو مُنْتهكة حرمتها، أو مغصوبة ومأخوذة ومصروفها لغير الناظر.

 وإلا فمرّت على الناس قرون، كان هذه البلدان التي دخلها الإسلام من القرون الأولى، أعزّ ما يملكون أوقفوه؛ من الأراضي، ومن العقارات؛ فتجد الشام واليمن ومصر والمغرب، فيها أوقاف:

  •  على المساجد 
  • وعلى طلبة العلم
  •  وعلى المدرّسين والعلماء
  •  وعلى الضيوف الوافدين في البلد -الغرباء- 
  • وعلى الأطفال
  • حتى على حَمَام الحرم موقوفة أوقاف، يأخذون غلاتها إلى مكة، من أجل حَمَام الحرم.
  • وعلى المجانين، 
  • وعلى اللقطاء!

أوقاف في بلاد المسلمين، لو قامت على وجهها لغنيَ العلم، وأهل العلم، وغنيتْ المساجد، وغنيتْ حتى المستشفيات، لكن صرفوها في غير محلّها ولعبوا بها، وصاروا إلى الآن أكثر بلاد المسلمين يأخذون أموال الوقف بأجرة غير أجرة المثل، يبيعون مال الوقف بثمن غير ثمن المثل، ثم الذي يستأجرها بأمر زهيد لأنّها أوقاف، كيف؟ لأنها أوقاف استهنت بها؟! والمفروض تعظّمها، أعطها أحسن ثمن، أحسن أجرة!

لكن يعملون العكس الآن، كلّه وقف حرام، ويأخذها ويستأجرها بثمن زهيد لانّها أوقاف، ثم يؤجرها بمثله عشر مرات -أضعاف يؤجّرها على واحد ثاني-؛ حرام في حرام كلّه، لا يجوز تأجيره، قال: الوقف إذا وُجد من يستأجره بأكثر من أجرة المثل، فلا يجوز تأجيره بأجرة المثل، يعطي الذي سيسلّم أكثر، كيف؟! لأنه وقف يتساهلون به، يعطونه بالرخيص! لعبوا بالأوقاف، خرجوا عن نظام الإسلام، فوقعت لهم مشاكل كبيرة. الله يرد ما فات ويحيي ما مات.

قال: "أكل مال اليتيم، أو أكل الأوقاف على غير شرط الواقف"، لا إله إلا الله

  •  والمأخوذ بوجه الحياء، يحرجه أو يسأله أمام الناس أو أمام أحد يستحي منه، من أجل أن يعطيه، وهو يعرف أنه لو سأله بمفرده لن يعطيه هذا، فـ "ما أُخذ بوجه الحياء كما أُخذ بالسيف" حكمه نفسه حرام، إلا ما كان عن طيب نفس.

 

فصل: في معاصي العين

ومن معاصي العين: النظر إلى النساء الأجنبيات وكذا نظرهنَّ إليه، ونظر العورات، فيحرم نظر الرجل إلى شيء من بدن المرأة الأجنبية غير الحليلة ويحرم عليها كشف شيء من بدنها بحضرة من يحرم نظره إليها، ويحرم عليها وعليه كشف شيء مما بين السرة والركبة بحضرة مطّلع على العورات ولو مع جنس ومحرمية غير حليل، ويحرم عليهما كشف السوأتين في الخلوة لغير حاجةٍ إلا لحليل، وحل مع المحرمية أو مع الجنسية أو الصغير الذي لا يشتهى نظرُ ما عدا ما بين السرة والركبة إذا كان بغير شهوة إلا صبي أو صبية دون سنّ التمييز فيَحِلُّ نظره ما عدا فرج الأنثى لغير أمها.

ويحرم النظر بالاستحقار إلى مسلم، والنظر في بيت الغير بغير إذنه أو في شيء أخفاه كذلك، ومشاهدة المنكر إذا لم يُنكر أو يَعذُر أو لم يفارق.

 

وهذه معاصي العين، والعين خلقها الله لنا لفوائد كثيرة في الحياة الدنيا، ولفوائد أكبر وأجلّ وأعظم في البرزخ ويوم القيامة، وهي:

  • رؤيتنا لوجوه الأنبياء، والمقرّبين، والملائكة، والعباد الصالحين
  •  ورؤيتنا عجائب إفضال الله
  •  ثم رؤيتنا الجنّة
  •  ثم النظر إلى وجه الله الكريم

 خُلِقت العين لهذا، فانتبه أن تُصرفها لِمَا يكدّرها، ويوسّخها، ويلطّخها، فتُحْرَم، تُحرم بها النظر إلى وجوه المقربين والصالحين، والنظر إلى وجه الله الكريم.

أنزل الله تعالى في وحيه إلى نبيّه: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ) بلاغ، قال: من عندي، أنا خالقهم، وأعلم بهم ظاهرًا وباطنًا، وبما يصلحهم، بلّغهم يا آمن من ائتمناه على الرسالات، ويا خاتم النبوات (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ) الذين آمنوا بي وبما أنزلت إليك (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) [النور:30-31]، وبعد هذا النصّ عند المؤمن، يقبل كلام من؟ يجيء له أحد غربي أو شرقي، يقول له: تقدّم تطّور، تُصدّق من بعد هذا الكلام؟! (قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ) [لابقرة:140]. لا إله إلا الله.

قال: "نظر للنساء الأجنبيات، وكذا نظرهن إليه"؛ أي: للرجل الأجنبي، "ونظر العورات، فيحرم نظر الرجُل إلى شيء من بدن المرأة الأجنبية غير الحليلة"؛ يعني: الزوجة والمحارم غير ما بين السرة والركبة، "ويحرم عليها كشفُ شيء من بدنها بحضرة من يحرم نظره إليها"، (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ) [الأحزاب:59]. 

قال: "يحرُم عليها وعليه" -على الرجل وعلى المرأة- "كشفُ شيء مما بين السرة والركبة، بحضرة مطّلع على العورات"، وهو كل مُمَيّز، ولو مع الجنس نفسه؛ الذكر مع الذكر، و الأنثى مع الأنثى، "ومحرميه غير الحليل"، فلا يجوز أن يكشف ما بين السرة والركبة، لأجل سباحة مثلًا، ولأجل رياضة ونحوها، ما بين السرة والركبة يجب يكون مستورًا، فلا ينظر إليه أحد ولا يمكّنه، لأنه لعن الله الناظر والمنظور إليه. 

كذلك في الخلوة، قال: "كشفُ السوأتين لغير حاجة"، لغير قضاء الحاجة، لأجل غُسْل ونحوه، فلغير الحاجة لا يجوز، ولو كان في الخلوة وحده، وإذا كان هناك حاجة يجوز، من دون الحاجة لا يجوز، "إلا لحليل" وهو الزوج، وهو يدخل في الحاجة، "وحلّها مع المحْرمية، ومع الجنسية، أو الصغير الذي لا يُشْتهي نظره، ما عدا ما بين السرة والركبة؛ إذا كان بغير شهوة، إلا صبي أو صبية دون سن تمييز" بل دون الأربع السنين يحلّ نظره، "ما عدا في فَرْج أنثى لغير أمها"، من أجل أن تُوضّئها، ومن أجل أن تصلّحها.

"ويحرم النظر بالاستحقار إلى مسلم"، فإنه بحسب امرئ من الشّر أن يحقر أخاه المسلم. 

  • "النظر في بيت الغير بغير إذنه"
  • في صندوق الغير بغير إذنه
  • في متاع الغير بغير إذنه
  • في شنطة الغير بغير إذنه

لا يجوز تنظر فيها، ولهذا حتى جُعل الاستئذان لدخول البيت، حتى لا تنظر شيء في البيت لا يحبون أن تنظر إليه، ولهذا أرشد الذي يستأذن لدخول البيت، أن يصرف وجهه عن البيت، يقول: "إنّما جعل الاستئذان من أجل النظر"، حتى إذا فتحوا الباب ما تسبق عينك إليه، دع عينك إلى غير الباب ودقّ عليهم، حتى إذا أرادوا يبعدوا شيء أو ينيطوه يستطيعون، ف، "النظر في بيت الغير بغير إذنه"؛ في شنطته بغير إذنه، في جوّاله بغير إذنه، اختصاصات الغير وحقه ما تنظر فيها إلا بإذنه، حتى في كتابه بغير إذنه كذلك إذا لم تعلم رضاه لا يمكن.

وقد بات سيدنا الشافعي ليلة عند الإمام أحمد بن حنبل، وتعجبت بنت الإمام أحمد، قالت: هذا الشافعي تُثني عليه هذا الثناء؟ بات مضطجعًا في كثير من الليل، ثم قام ولم يُصلِّ، ونام لغير القبلة، كيف هذا؟!  قال لها: اسمعي أنا سأدخل إليه، وأسأله عن ليلته واسمعي ما يقول، جاءت عند الباب، ودخل، قال: كيف كانت ليلتكم؟ قال: ليلة مباركة عندكم يا أحمد، وضعتُ جنبي فتفكّرت في حديث: "ياأبَا عُمَيْرٍ، ما فَعَلَ النُّغَيْرُ" واستنبطت منه مائة مسألة وكذا وكذا وكذا، وظل يعدّد لي، وإنّي لم أنم فلم احتج إلى الوضوء، وإنّي أردت أن أستقبل القبلة، فوجدت مصحفًا لكم في هذا المكان، أوجّه إليه رجلي إن نمت للاستقبال؛ فانحرفت عن القبلة. قال: لِمَ لم تبعده؟ قال: لم أستأذنك! قال: اسمعي يا بُنْيِّه، بتنا في خدمة أنفسنا، وبات الشافعي يخدم المِلّة والأمّة، ولم ينم طول ليلته، وتحرّز، وتورّع من أن يبعد المصحف من محلّه لأنّه لم يستأذن منّا، ولم يستطع أن يمد رجليه إلى مكان فيها المصحف. ما الآداب هذه؟! وما الأخلاق هذه؟! لاإله إلا الله.. 

يقول: "أو في شيء أخفاه كذلك" ما أخفاه عنك لا تتطلع عليه، "ومشاهدة المنكر إذا لم ينكر، أو يعذر، أو لم يفارق"، فإذا قال: أنا ما قَدرت فيهم، ولم يسمعوا كلامي، فابعد من عندهم واذهب، أمّا تجلس تتفرّج؟! وما عليّ منهم؟! ابعد منهم، فإما تنكر وإما تُفارق المكان الذي يُفعل فيه المُنْكر.

الله ينظر إلينا، وإلى الأمّة، يحيي ما مات ويرد ما فات من جميع الخيرات في الظواهر والخفيات، يا ربّ نور حبيبك الذي أشرق، اجعل لهم بساط في قلوب من يقول: لا إله إلا الله، ولا تمنعهم إشراق هذا النور بأهوية وبتبعية للفجّار، والفساق، والأشرار، اللهمّ يا محوّل الأحوال حوّل حالنا وأمة حبيبك محمد إلى أحسن حال، وعافنا من أحوال أهل الضلال، وفعل الجهال، وارزقنا الأقبال الكلي والقبول التامّ، بلغنا المرام، وادفع عنا جميع الأمراض، والعلل، والأسقام، والهموم، والغموم، وجميع الآفات، وأصلح لنا جميع الظواهر والخفيات، وقنا عليّ المقامات، ونقّنا عن جميع الشائبات، واجمعنا بخير البريات، واختم لنا بأكمل حسن الخاتمات في عافية.

بسرِ الفاتحة 

وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه

 

تاريخ النشر الهجري

01 ربيع الأول 1446

تاريخ النشر الميلادي

02 سبتمبر 2024

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام