شرح كتاب سلم التوفيق - 10- الصوم - الحج
الدرس العاشر للعلامة الحبيب عمر بن حفيظ في كتاب: سُلّم التوفيق إلى محبة الله على التحقيق، للإمام الحبيب عبدالله بن حسين بن طاهر. ضمن دروس الدورة الصيفية الأولى بمعهد الرحمة بالأردن.
ظهر الخميس 18 صفر 1446هـ
(الصوم - الحج)
لتحميل كتاب سلم التوفيق
pdf: https://omr.to/sullam-pdf
نص الدرس مكتوب:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وفي كتاب سُلَّمُ التَّوفيق إلى مَحَبَّةِ اللهِ على التَّحْقِيق يقول سيدي عبد الله بن حسين بن طاهر باعلوي رحمه الله ونفعنا به وبكم:
[فصْلٌ في فَرائِضِ الصَّوْمِ وشُرُوطِهِ]
ويجب التبييتُ، والتعيين في النية لكل يوم ، والإمساكُ عن:
- الجماع
- و الاستمناء
- والاستقاءة
- وعن الردة
- وعن دخول عين جوفاً، إلا ريقه الخالص الطاهر من معدنه.
و[يشترط لصحة الصوم]:
- أن لا يُجَنَّ ولو لحظةً.
- وألا يُغْمَى عليه كل اليوم.
[فصْلٌ فيما يَحرُمُ صَوْمُهُ]
ولا يصح صوم العيدين، وأيامِ التشريق، وكذا النصف الأخير من شعبان ويوم الشك، إلا أن يصلهُ بما قبلهُ، أو لقضاءٍ أو نذر أو وِرْدٍ.
[فصْلٌ فيمن أفسدَ صومَ يومٍ من رمضانَ بجماعٍ]
ومن أفسد صوم يوم من رمضان -ولا رُخصة له في فِطره- بجماعٍ، فعليه الإثم، والقضاءُ فوراً، وكفارة ظهارٍ.
الحمد لله، يواصل الشيخ -عليه رحمة الله- ما يتعلق بأحكام الصوم، وذكر بعد وجوب تبييت النية لكل يوم من رمضان لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من لم يُبيّتِ الصيامَ من الليل فلا صيامَ له".
وفي تلكُم النية يجب أن تكون مع قصد الصوم لأجل رمضان، لأجل فريضة رمضان، فاستشعارها من وقت غروب الشمس إلى وقت طلوع الفجر، في خلال الليلة يستشعر صومه في اليوم الثاني لأداء الفرض، وهكذا فيما يتعلق بالصوم المفروض، سواءً كان صوم رمضان أو صوم كفارة أو صوم نذر أو صوم قضاء عن رمضان؛ يجب أن تكون النية مُبيتة من الليل قبل طلوع الفجر.
وبعد ذلك، إذا كان صومه صوم نفل؛ فيجوز أن تكون النية ولو بعد طلوع الفجر ما لم يتناول مُفطرًا إلى الزوال، لِمَا جاء في الحديث أنَّه ﷺ كان يرجع من المسجد بعد طلوع الشمس، بعد صلاة الضحى، فيقول: هل عندكم من غداء؟ فإن قالوا: نعم، قال: إني مُفطر، وإن قالوا: ليس عندنا شيء، قال: "إني إذًا صائم"، وقوله: "من غداء"، والغداء في الأصل عند العرب ما يُتناوَل قبل الزوال، فبَقِيَت نية الصوم إلى وقت الزوال في صوم النفل ما لم يتناول مُفَطِّرًا، يجوز أن ينوي ويكمل صوم يومه ويُعدّ له صيام يومٍ كامل.
وتقدَّم معنا في الصباح، أنَّ المالكية اعتبروا صوم رمضان فريضة واحدة، فيكفي لو من أول ليلة نوى صوم الشهر كله كفى، وينبغي أن يعمل بهذا الإنسان احتياطًا، حيث لو نسي ليلة من الليالي كان قد نوى صوم الشهر كله، فإن شاء قضى، وإن شاء اكتفى بقول سيدنا الإمام مالك -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-.
قال غيره من العلماء: أنَّه يتخلل الصوم؛ اليوم الأول، واليوم الثاني فِطرٌ وخروج من الصوم؛ فهو عبادة مستقلّة، فلكل يوم عبادة مستقلة تحتاج تبييتًا من الليل، ولهم اختلاف في النيات فيما يتعلق بالفرض كذلك وبالنفل، واستمرار وقت النية إلى أي الأوقات.
ثم قال: "والإمساكُ عن" المُفطرات الحسية، مثل:
- الجماع
- والاستمناء
- والاستقاءة
والاستقاءة: طلب خروج القيء، بخلاف لو ذرَعهُ القيء كما ورد في الحديث: "ذرعَهُ القيءُ" فلم يرجع منه شيء إلى جوفه بعد وصوله إلى فمه، فلا يُبطل صومه، "من ذرعَهُ القيءُ فلا شيء عليه، ومن استقاءَ فليقضِ"، استقاء؛ أي: خرج منه القيء بطلب منه، بتوسّل بوسيلة حتى أخرج القيء من بطنه، فحينئذٍ يَبطل صومه بالاستقاءة.
- وعن الردة، -أعاذنا الله منها والمسلمين-.
- وعن دخول عينٍ جوفاً، إلا ريقه الخالص الطاهر من معدنه.
عين من الأعيان؛ سواء كان معتادًا؛ مَطعُوم أو غير مُطعَوم لا يدخل إلى جوفه، فلا يدخل إلى جوف الصائم أيُّ عين كانت، إنَّما ريقه الخالص، الذي لم يختلط بغيره؛ من دم من فمه أو بغير ذلك، فالرّيق الخالص الطاهر، بخلاف الذي تنجّس بدم مثلًا.
"الطاهر من معدنه." معدنه وهو: الفم، اللسان، وداخل الشفتين، وبقية موضع الفم؛ هذا معدن -معدن الريق- بخلاف إذا خرج منه الريق عن الفم فردّهُ فابتلعه بطل صومه.
"إلا ريقه الخالص الطاهر من معدنه." بحيث لم يخرج عن الفم، فهذا هو المعلوم الواضح البيِّن، والناس كلهم يبلعون ريقهم، والريق لا يُبطل الصوم.
وإنَّما اختلفوا في النخامة؛
- أيضًا عند المالكية توسّع في ذلك.
- وقال الشافعية -وغيرهم-: إن كانت النخامة قد وصلت إلى حد الظاهر ثم ردّها إلى الباطن، بطل صومه.
وحد الظاهر: ما جاوز حرف الحاء أو الخاء على اختلاف، فأما ما لم يصل إلى هذا الحد، أو كان خرجت من الباطن، من الجوف، من الرأس إلى الباطن، ولم تصل إلى حدّ الظاهر فلا يضر، ولا تُبطل الصوم.
قال: "وأن لا يُجَنَّ" لا يصيبه الجنون، "ولو لحظةً،" فمن أصابه الجنون في أثناء الصوم بطل صومه.
وأمَّا الإغماء؛ الإغماء إن عمّ جميع اليوم، "وألا يُغْمَى عليه كل اليوم." يكون مغمى عليه من الفجر إلى المغرب فما يصح صوم ذلك اليوم، بخلاف إذا أُغمِيَ عليه في بعض النهار وأفاق، وكان قد نوى من الليل، فصوم اليوم صحيح. الإغماء وكمثْله قالوا: "السُّكر" إن تعدّى بهما أبطل، أو عمّا جميع النهار؛ أبطل الصوم، فإن لم يتعدى به ولم يعم جميع النهار فلا يُبطل صومه بالإغماء.
قال: "ولا يصح صوم العيدين،" أيام خمسة في السنة لا تَقبل الصيام، حرّم الله الصيام فيها، بالاتفاق:
- يوم عيد الفطر
- ويوم عيد الأضحى
هذان يومان لا يجوز فيهما الصوم بحال.
- ثم "وأيامِ التشريق،" الثلاثة: الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر من شهر ذي الحجة أيضًا لا تقبل الصوم.
إلا ما قال بعض الأئمة: لمن كان تمتع ولم يُحرِم قبل يوم عرفة، فتكون الثلاثة الأيام في الحج أيام التشريق، وقال الشافعية: لا يجوز ذلك، بل يؤخرها ويصومها بعد الحج، ثم إذا رجع إلى بلده يصوم السبعة الأيام، فإذًا هذه الخمسة الأيام لا يجوز صومها في خلال السنة وهي: يوم عيد الفطر ويوم عيد الأضحى.
ثم "النصف الأخير من شعبان" هذا عند الشافعية وبعض العلماء، وأكثر العلماء أنَّه ما يُحرم صوم النصف الأخير من شعبان، وقد جاءت فيه أحاديث: "إذا انتَصَف شَعْبانُ فلا تَصوموا، إِلَّا فِي صَوْمٍ كَانَ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ"، فقال الشافعية:
- إن وصل النصف الثاني من شعبان وهو من اليوم السادس عشر -وصله بما قبله بأن صام اليوم الخامس عشر- جاز له ما دام مواصلًا أن يواصل الصوم حتى يقطعه، فإذا قطعه فلا يصوم في النصف الأخير.
- وإن كان له "وِرْدٍ" يعتاده، كأن كان يعتاد يصوم يوم الاثنين أو يوم الخميس، فيجوز له أن يصومه، وإن كان في النصف الأخير من شعبان،
- "أو لقضاءٍ" أو كان عليه قضاء من باب أولى يقضي ولو كان في النصف الأخير من شعبان،
أما لغير قضاء ولغير وِرد ولم يصله بالنصف الأول؛ قال الشافعية يحرم عليه أن يصوم في هذه الأيام استعدادًا لصوم رمضان، ولا يصوم قبله.
وكذلك اختلفوا في تقدم رمضان بيومين أو ثلاثة لِما جاء من النهي عن ذلك، فمِمَّن لم يُحَرِّم صيام النصف الأخير من شعبان، منهم من حرَّم أن يُتَقدم رمضان بيوم أو يومين، ومنهم من وسَّع المجال.
كذلك اختلافهم في يوم الشك؛ "يوم الشك" هل يجوز أن يصومه؟ ولا يكون يوم شك إلا أن تُحُدِّثَ برؤية قومٍ للشهر ولم يثبُت عند القاضي فصار يوم الثلاثين من شعبان يوم شك، إذا تُحُدِّثَ أنَّه رُؤيَ الهلال فيه، فهكذا يكون يوم شك عند الشافعية.
وكذلك اختلف الأئمة في صيام يوم الشك، ورؤية الهلال في تلك الليلة، إن كانت ليلة صحو أو كانت ليلة غيم؛ الصحو فبالاتفاق أنَّه يُقبَلُ فيه قبول عند الجمهور؛ ولو عدلٌ واحد رأى الهلال، وقال بعض الائمة لابدَّ من عدلين كبقية الأشهر، أمَّا بقية الأشهر فلا يثبتها القاضي إلا برؤية عدلين للهلال، كشهر شوال وغيره من الأشهر كلها، إلا دخول رمضان، وقال جماعة من أهل العلم؛ يكفي فيه عدل واحد، إذا رأى الهلال، لِمَا جاء في الحديث: "أنَّه جاء أعرابيٌ للنبي ﷺ وأخبره عن رؤيته للهلال، فقال: تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فقال: نعم، فأمر بلال فأذن في الناس بالصوم".
والذين قالوا لابدَّ من عدلين؛ قالوا: إنَّه مضافًا أنَّه غيره قد شَهِدَ عند النبي، وهذا الثاني الذي جاء للاحتمال أنه شاهد، بنَوه على الاحتمال، وكذلك ما قال ابن عمر: أنَّي رأيت الهلال فأخبرت النبي ﷺ فصام وأمر الناس بالصيام.
وقال بعض الأئمة إذا كان اليوم يوم غيم فيكفي رؤية العدل أو العدلين للهلال، وإن كان في يوم صحو فلابدَّ من أن يراه جماعة، يَثبُتُ به دخول الشهر، فإنَّه عند الصحو لن يستقل برؤيته واحد ولا اثنين، سيرونه ناس كثير.
وعلى كل الأحوال فاحتياطًا للصوم قال الشافعية: يكفي ثبوت هلال شهر رمضان بشهادة عدلٍ واحد، بخلاف بقية الأشهر فلا بدَّ فيها من عدلين فأكثر.
قال: "ويوم الشك، إلا أن يصلهُ بما قبلهُ،" بأن يصوم من النصف الأول، والنصف الأول إلى اليوم الخامس عشر، فإذا صام شيء من النصف الأول ووصله بالنصف الثاني جاز.
"أو لقضاءٍ أو نذر أو وِرْدٍ." كان يعتاده.
قال: "ومن أفسد صوم يوم من رمضان -ولا رُخصة له في فِطره- بجماعٍ"؛ يعني: لم يكن مسافرًا، فأفسده بالجماع "فعليه الإثم، والقضاءُ" وعليه إتمام بقية اليوم، ولو عَلِمَ به الحاكم عَزَّرَهُ، "والقضاءُ فوراً"؛ يعني: اليوم الثاني من شوال يقضيه، وعليه "كفارة ظهارٍ." وهي:
- أن يعتق رقبة
- فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين
- فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا
وكذلك جاء في الحديث المشهور أنَّ الذي واقع أهله في رمضان، وجاء ببعض قومه وجماعته وقال لهم: أنا وقعت في مشكلة وأريد أن أذهب إلى النبي ﷺ وأسأله، فلمَّا أخبرهم قالوا تفعل هذه المصيبة وتريدنا أن نذهب معك، ينزل القرآن يفضحنا ويفضحك، لا نذهب معك اذهب وحدك، فاشتدَّ الأمرُ عليه مسكين، وخاف ورجع إلى النبي ﷺ فأخبره، قال: هلكَ الرجل، قال: "ما أهلكك؟"، قال: واقعت أهلي وأنا صائم، قال: "فأعتق رقبة، هل تجد؟" قال: لا أجد رقبة غير رقبتي هذه، -ما عندي رقاب ولا أملك شيء-، قال: "فصم شهرين متتابعين"، قال: لا أستطيع، إنَّما وقعت فيما وقعت فيه من الصوم وما أستطيع، قال: "فأطعم ستين مسكينًا"، قال: ما عندي شيء، فسكت ﷺ وبينما هو جالس، إذ جاء رجل بمكتل فيه ستين مُدّ، قال: "أين المتحرّج هذا، قال: خذه فأنفقه"، قال: على أفقر منَّا يا رسول الله؟ فما أجد في المدينة أهل بيت أفقر منا، قال: فتبسم رسول الله ﷺ وقال: "خذه فأنفقه على أهلك."
فرجع إلى قومه، قال: وجدت عندكم التخويف والتعسير، فزعتونا، وجئت إلى عند النبي ﷺ وجدت عنده التيسير، استغفر لي، وتوَّبنا وأعطانا الصدقة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
ولا يجوز لأحد أن يُخرِجَ الكفارة لأهله ولا لنفسه إلا هذا، هذا خصوصية له ما أعدها كفارة، أعدَّه فقير وأنَّه غير مستطيع فإنَّه يحتاج من ذاك اليوم إلى قوته هو وأهله فتركه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
[بابُ الحَجِّ]
فَصْلٌ [فِيمَن يَجِبُ عليه الحَجُّ والعُمْرَةُ]
يجب الحج والعمرةُ في العمر مرةً على المسلم، الحر، المكلف، المستطيع بما يوصلُهُ ويردُّهُ إلى وطنه، فاضلاً عن دَيْنِهِ، ومسكنه، وكسوته، اللّائِقَيْنِ به، ومُؤْنَةِ مَنْ عليه مُؤْنَتُهُ مدة ذهابه وإيابه.
[فصلٌ في أركان الحَجِّ والعُمْرَةِ]
وأركانُ الحج:
- الإحرام
- والوقوف بعرفة
- والطواف بالبيت
- والسعي بين الصفا والمروة
- والحلق أو التقصير
وهي إلا الوقوف أركان العمرة.
ولهذه الأركان فروضٌ وشروطٌ لا بُدَّ من مُراعاتها.
[فَصْلٌ فِيما يَحْرُمُ على المُحْرِمِ والمُحْرِمَةِ]
وحَرُمَ على من أحرم:
- طِيبٌ
- و دهن رأسٍ
- ولِحيةٍ
- و إزالةُ ظُفْرٍ
- وشعرٍ
- وجماعٌ ومقدماتُهُ
- وعقد نكاحٍ
- واصطيادُ صيدٍ مأكولٍ بريٍّ
- وعلى رجلِ سترُ رأسِهِ ولُبْسُ مُحِيطٍ به
- وعليها سترُ وجهها و قُفازٍ.
[فَصْلٌ فِيما يَجِبُ بِفعْلِ محَرَّماتِ الإحْرام]
فمن فعل شيئاً من هذه المحرَّمات فعليه الإثمُ، والكفارةُ، ويزيد الجِماع بالإفسادِ ووجوب القضاء فوراً، وإتمام الفاسد.
[فَصْلٌ في واجِباتِ الحَجِّ والعُمْرَةِ]
ويجبُ:
- أن يُحرم من الميقات،
و في الحج:
- مبيت مزدلفة
- ومِنى
- ورمي جمرة العقبة يوم النحر
- ورمي الجمرات الثلاث أيام التشريق
- وطواف الوداع.
[فصلٌ في حُكم صَيْدِ الحَرَمَيْنِ ونَباتهِما]
ويحرم صيدُ الحرمين، ونباتهما، على مُحرِم وحلالٍ، وتزيد مكة بوجوب الفدية.
عقد هذا الفصل في الحج والعمرة، وبلَّغَنَا الله حجَّ بيته وزيارة نبيِّهِ على خير الوجوه مرات، في قبول منه وتوفيق، وقَبِل الحجاج والزوَّار والعُمَّار، وأعاد عوائد فضله عليهم وعلى الأمة بالفرج للأمة وصلاح شأنها.
يقول: "يجب الحج والعمرةُ"، على المستطيع، "في العمر مرةً على المسلم، الحر، المكلف، المستطيع بما يوصلُهُ ويردُّهُ إلى وطنه، فاضلاً عن دَيْنِهِ، ومسكنه، وكسوته، اللّائِقَيْنِ به،" مسكن لائق وكسوة لائقة به، "ومُؤْنَةِ مَنْ عليه مُؤْنَتُهُ مدة ذهابه وإيابه"، وهذا معنى الاستطاعة، يقول تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) [آل عمران:97].
ولمَّا قال ﷺ: "إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ فرَضَ عليكمُ الحَجَّ فحُجُّوا،" فقال رجلٌ: أكُلَّ عامٍ يا رسولَ اللهِ؟ فسكتَ ﷺ، فأعاد عليه أكلَّ عامٍ يا رسول الله؟ فسكت ﷺ، الثالثة قال:" لو قلتُ: نعَم، لوجبَتْ ولما استطعتُم، ثم قال: ذَروني ما تركتُكم، فإنَّما هلك من كان قبلَكم بكثرةِ سؤالِهم واختلافِهم على أنبيائِهم"، فهو يكفي في العمر مرة واحدة، ويروى: "مَنْ حَجَّ أولًا أَدَّى فَرْضَهُ، وَمَنْ حَجَّ ثَانِيَةً دَايَنَ رَبَّهُ، وَمَنْ حَجَّ ثَالثًا حَرَّمَ اللَّهُ شَعْرَهُ وَبَشَرَهُ عَلَى النَّارِ".
ويجب الحج؛ فله مراتب، مرتبة الوجوب هذه بالخمسة الشروط وهي:
- أن يكون مسلمًا
- وأن يكون حرًا
- وأن يكون بالغًا
- وأن يكون عاقلًا
- وأن يكون مستطيعًا.
فإذا اجتمعت هذه الخمسة الشروط صار الحج فرضًا عليه -واجب- واختلفوا؛ هل الوجوب على الفور أو على التراخي؟
- قال الشافعية: على التراخي ما لم يغلب على ظنه أنَّه لن يستطيع بعد ذلك، فإذا غلب على ظنه أنَّه بعد هذا العام يمكن ألا يستطيع فوجب عليه أن يكون فورًا.
- وقال بعض الأئمة: بل هو على الفور، ما دام في السنة التي يستطيع فيها يجب أن يذهب مباشرةً ولا يتأخر عن ذلك، لما جاء في الخبر: أن من استطاع الحج فلم يحج فعليه أن يموت يهوديًا أو نصرانيًا -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
حتى كان يقول بعض الصحابة: لو أنَّ رجلًا كان غنيًا ولا يُخْرج الزكاة، وهو مستطيع على الحج ولم يحج، فمات لم أصلِّ عليه. قال: لن أصلي عليه ولن أشهد الصلاة عليه، فهو ركن من أركان دين الله تبارك وتعالى، وفيه ربط الخلائق بالخالق عبر الشعائر المعظمة، (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ) [آل عمران:96-97]، (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ۚ) [المائدة:97] يقوم به أمر دنياهم ودينهم، فهو شعيرة من شعائر الله
ومن شأن المؤمن أن يحب إلهه وأن يعشقه، وليس له في الدنيا الوصول إلى المكالمة من الحق تبارك وتعالى، ولا الرؤية، فجعل الله له هذه الشعائر يصبُّ شوقه فيها، وما يعتلج في ضميره من محبته لإلهه فيذهبون شوقًا وتعظيمًا ومحبةً إلى بيت ربهم، وما نصب من الشعائر المعظمة.
جعل مرتبة الوجوب بالخمسة الشروط، وقبلها مرتبة الوقوع عن حَجَّة الإسلام؛ أي يسقط عليه فرض الإسلام، وذلك بأربعة شروط، وهي:
- الإسلام
- والبلوغ
- والعقل
- والحرية
فقط بدون شرط الاستطاعة، فبهذه الأربعة الشروط إذا توفرت فحجَّ، فقد سقطت عليه فريضة الإسلام.
ودونها الوقوع عن نذرٍ -صحة الوقوع حج عن نذر- فصحة وقوع الحج عن نذر، يشترط لها ثلاثة شروط:
- الإسلام
- والبلوغ
- والعقل
فبهذا يقع صحة الحج عن نذر، إذا نذر الحج فيقع الحج عن نذر.
ودون ذلك صحة المباشرة، المباشرة لها شرطان -أن يباشر عن مال الحج بنفسه- بشرطين، لها شرطان:
- الشرط الأول الإسلام
- والثاني العقل
فكل مسلم عاقل يمكن يباشر أعمال الحج بنفسه، بخلاف المجنون والصبي غير المميز، لا يمكن يباشر بنفسه ولكن يمكن أن يحجَّ عنه وليه، ولكن لا يباشر هو بنفسه.
بقي الصحة المطلقة، الصحة المطلقة شرطها واحد وهو الإسلام، فالحج يصح من كل مسلم وعن كل مسلم.
- فمرتبة الصحة المطلقة شرطها واحد، وهو الإسلام.
- ومرتبة صحة المباشرة -أن يباشر بنفسه- ولها شرطان: الإسلام، والعقل.
- ومرتبة صحة الوقوع عن نذر ثلاث شروط: الإسلام، والعقل، والبلوغ، إذ لا يصح النذر من غير البالغ.
- ومرتبة صحة الوقوع عن حجة الإسلام، أربعة: وهو الإسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، فإن حج وهو صبي أو وهو مملوك ثم عتق ثم بلغ، لا تصح حجته عن حجة الإسلام، ويجب أن يحج حجة أخرى عن حجة الإسلام
- والمرتبة الخامسة مرتبة الوجوب بخمسة شروط: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والاستطاعة، (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا).
قال: "وأركان الحج:
الإحرام"، وهي نية الدخول في الحج، ولا تصح إلا في أشهر الحج، لقوله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ) شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، أي تسعة أيام وليلة عاشرة، إلى طلوع الفجر يوم العاشر -هذا وقت الإحرام بالحج- فإن أحرم في غير هذا الوقت وقعت عمره، إذا أحرم بالحج في غير أشهر الحج، وقعت عليه عمرة، ويجب عليه أن يتحلل بأعمال العمرة، وهذا الإحرام نية الدخول في الحج
"والوقوف بعرفة"؛ وهو من أعظم أركان الحج، قال ﷺ: "الحج عرفة"، والوقوف بعرفة من بعد زوال الشمس في يوم التاسع، مستمرًا إلى طلوع الفجر في اليوم العاشر، فمن حضر في أرض عرفة قبل طلوع الفجر ليلة العشر، صحّ حجّه، واختلفوا في وجوب الجمع بين الليل والنهار، بأن يحضر شيئا من عشية عرفة، ومن أول الليل في ليلة العيد، وسط عرفة.
وانتظر ﷺ حتى غابت الشمس، ثم رحل بعد غروب الشمس، ونادى الناس بالسكينة والوقار، وقال: "ليس البر بالإيضاع -سرعة المشي-، فعليكم بالسكينة"، فلما سمعوا صوته يأمرهم بذلك، جعلوا أَزِمَّة الدواب على رقابها، وما عاد أحد منهم حركها، امتثالا للأمر.
ومشى ﷺ إلى مزدلفة، وصلى هناك المغرب والعشاء -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-، بعد أن خطبهم الخطبة الكبيرة العظيمة في يوم عرفة، ومكث يدعو حتى غربت الشمس -صلوات ربي وسلامه عليه-، كانت خطبته أول الزوال، خطب عندما زالت الشمس، دخل إلى حدود عرفة، وكان جالسًا في أول النهار عندما صبَّح من مِنى إلى نمِرة، قبل الدخول في عرفة، وضُربت له هناك خيمة، فبقي ينتظر الزوال، فلما زالت الشمس دخل إلى عرفة، فخطب ثم صلى بهم الظهر والعصر ﷺ، ثم وقف في آخر جبل الرحمة، عند صخرات مفروشة، وقال: "وقفت هاهنا، وعرفة كلها موقف"، فبقي يلح في الدعاء حتى غربت الشمس.
واختلف الصحابة في بينهم البين، يقولون: هل هو مفطر؟ أو هو صائم؟ لأنهم يعهدون منه في أيام كان في المدينة يصوم يوم عرفة، والآن هو حاج، فلم يعرفوا، وهم حريصون على الاقتداء به، وهابوا أن يسألوه: أمفطر أنت أم صائم؟ فكانت أم الفضل، قالت: أنا آتيكم بالخبر، عندها لبن أرسلته إليه، وهو على ناقته الشريفة، لما جاء الرسول أخذه فشربه، فعلم الناس أنه مفطر ﷺ، ومن هنا قال الجمهور أن الحاج الأفضل له أن يفطر في عرفة، لا يصوم في عرفة، فالأفضل له أن يفطر اتباعًا للرسول ﷺ، وليقوى على التضرع والابتهال وإتقان أعمال الحج.
قال: "والوقوف بعرفة، والطواف بالبيت" العتيق، (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج:29]، في هذا الرمز العظيم يُخاض فيه بالطواف به في رحمة الله تبارك وتعالى. ولما سأل بعضهم ابن عباس أو ابن عمر وهو في الطواف، فسكت عنه ولم يكلمه، فبعد الطواف قال له: تسألني ونحن نطوف! أما تدري أنا نتراءى لله تعالى في طوافنا! أي نستشعر اطلاعه علينا، ووجهتنا إليه، وما تَطْوافُنا بالبيت إلا تَعَرُّض منا لرحمته، وانطراح عليه، وتذلل بين يديه -جل جلاله وتعالى في علاه-، والطواف بالبيت سبعاً من عند الحجر الأسود إلى الحجر الأسود.
"والسعي بين الصفا والمروة"، وهذا يكون بعد طواف، لا يصح السعي إلا بعد طواف؛
- ففي العمرة، بعد طواف العمرة.
- وفي الحج؛ إما بعد طواف القدوم -لمن قدم مكة وهو محرم- قبل أن يذهب إلى عرفة، يجوز أن يقدمه بعد طواف القدوم، وهو الأفضل، أو بعد طواف الإفاضة، إن لم يَطُف بعد طواف القدوم، فيطوف بعد طواف الإفاضة.
فأما إذا طاف طواف القدوم، ولم يسعَ، ثم ذهب إلى عرفة فوقف، وعاد يريد أن يسعى، نقول: لا سعى حتى تطوف طواف الإفاضة، فلا يجوز أن يتخلل بين طواف القدوم والسعي وقوف بعرفة، فإذا وقفتَ بعرفة فلا سبيل إلى السعي حتى تطوف طواف الإفاضة أولاً، ثم تسعى بين الصفا والمروة، لقول الله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ ۖ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ۚ) [البقرة: 185].
وكانت حجة الوداع هي الحجة الواحدة التي حجها بعد الهجرة ﷺ، أما قبل الهجرة فكان يحج كثيراً، من قبل النبوة وبعد النبوة كان يحج، ولكن بعد أن هاجر لم يحج إلا حجة الوداع، حجة الإسلام.
الأصح أن الحج فُرض في السنة السادسة من الهجرة، وكان هناك صُلح بينه وبين قريش، في السنة السابعة اعتمر ولم يحج، في السنة الثامنة فتح مكة ثم عاد إلى المدينة المنورة، وأمر أسيد بن عتّاب أن يحج بالناس، وولاه على مكة، ثم في السنة التاسعة أرسل سيدنا أبو بكر الصديق يحج بالناس فلما كانت السنة العاشرة ذهب بنفسه، وهذا أيضا دليل من يقول: أن الحج وجوبه على التراخي، وكان من الحِكَم؛
- أنه قد لَعِبَ أهل النّسيء بالأيام في التقديم والتأخير، ولما كانت العاشرة رجعت كما هي، ولهذا قال في حجته: "إن الزمان استدار كهيأته يوم خلق الله السماوات الأرض".
- والثاني، الحِكمة أنه كان وسط الحج كثير من المشركين ومن يطوف بالبيت عراة، فنزل في السنة التاسعة، منع المشركين من الاقتراب من المسجد الحرام، وأن لا يطوف بالبيت عريان بعد هذا العام.
فأرسل سيدنا علي مع سيدنا أبي بكر يبلّغ الناس هذا الحُكُم، ولأنه كان عادة العرب في شؤون قضايا الصلح والحرب بينهم، يكون من الرجل نفسه، أو من قريب منه من قرابته، فأرسل سيدنا علي يبلغ الناس هذا الحج، وينفي علاقة العهود لمن له عهد لم يخلفه من المشركين، ويعطيهم فرصة أربعة أشهر، ويأمرهم أن يخرجوا من حدود المسجد الحرام هذا العام، (فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَاۚ) [التوبة:28]، فأعطاهم الفرصة يرتبون أنفسهم للخروج في خلال العام، وكذلك من كان محاربا وليس له عهد، فأعطاه أربعة أشهر-مدة عهد- أما من له عهد (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ ۚ) [التوبة:4].
قالوا، سيدنا أبو بكر في الطريق، لما أقاموا صلاة الفجر فأراد أن يحرم سمع رغاء الناقة، عرفها من رغائها، عرف أن هذه القصواء، ناقة رسول الله ﷺ، فتوقف عن الإحرام، وقال: أجاء رسول الله؟، قالوا: لا، هذا علي بعثه ﷺ، فتأخر، جاء وقال له: بعثك تأمُّنا في الحج؟ تقدم، قال: لا ما بعثني أمير على الحج، أنت أمير الحج، بعثني مبلِّغ عنه، بكذا وكذا، فصلى بهم -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-.
قرْبه من النبي ومحبته، يفرِّق بين صوت ناقته وناقة غيره ﷺ، فعرف صوت الناقة، أن هذه ناقة الرسول ﷺ، تأخر عن الإحرام، التفت واهتز، يقول: أجاء رسول الله؟، قالوا له: لا، ما هذا الصوت؟ أسمع صوت ناقته؟، قالوا: علي أعطاه النبي ناقته، من أجل يبلغ، فجاء إليه قال له: تقدم، أرسلك أمير لنا؟ قال: لا لا، ما أرسلني أمير على الحج، أنت الأمير، أرسلني مبلغ، أبلغ عنه كذا كذا، ونزلت سورة براءة، فمشى معه فأرسل معه جماعة من الصحابة يساعدونه في البلاغ.
كان يدور على الناس في عرفه وفي مِنى، وينادي مناديهم أن الله ورسوله، يقولون كذا وكذا، ويتلوا عليهم الآيات من سورة براءة، ويقول: "ألا، لا يحجنَّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان" فجاء في السنة العاشرة والمكان صافي، والعدد عاد إلى أيامه كما هي من دون نسيء، (يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا) [التوبة:37]، وحج بالناس ﷺ. وأشعر المسلمين بأنه يريد الحج، فتحركت هممهم من هنا ومن هنا، وجاءوا وحرصوا على الحج، حتى أن الذين لم يستطيعوا الحج تلك السنة، كانوا يتحسرون كثيرا، وجاءوا إليه جماعة من الرجال والنساء يقولون: ما قدرنا نحج معك، فما نعمل؟ فقال لهم: "عمرة في رمضان كحجة معي"، عمرة في رمضان كحجة معي -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-.
فاجتمع مئة ألف وأربع وعشرين ألف، وأنه لما جاء في عام صلح الحديبية، كان معه ألف وأربع مئة فقط من الناس، فبعد سنتين انتشر الإسلام، بعد سنتين جاء ودخل لفتح مكة، صار معه عشر آلاف؛ من ألف وخمسمائة، صاروا عشر آلاف معه، دخلوا مكة مجاهدين!
بعد سنتين أخرى جاء إلى الحج وإذا معه مئة ألف وأربع وعشرون ألف، حجوا معه ﷺ، وكلهم مؤمنون ومشتاقون إلى رؤيته وقربه، حتى أن منهم من جاءوا بأطفالهم في ذلك العام، ولم يروا رسول الله ﷺ بعد، فكانوا يقولون: يا أبي أين رسول الله؟ وهم يمشون في الطريق؛ منهم عدد معهم أولادهم، يقولون: أرنا رسول الله، قال: الآن ما نتمكن الوصول إليه، -وهو يمشي- ؛ قُم على الراحلة، قُمْ امسك بكتفي، تنظر إلى تلك الراحلة؟ انظر الى تلك الناقة القصواء؛ رسول الله عليها -يتفرج عليه- يقول له: سنصل إلى عرفة وستراه، قال: الآن أريد أن أراه -أولادهم- قال لهم: قوموا، فقاموا فوق الراحلة وهي تمشي ينظر، يقول لهم: ذاك الجمل الأورق عليه ﷺ، فينظرون إليه ﷺ. حتى أحدقوا به في عرفة، فكان يخطب، فيسمعه من بَعُد كما يسمعه من قَرُب، أنتم كم منكم هنا قاعدين تصلِّحون لنا مايكرفون حتى تسمعون!! هذا مائة ألف وعشرين ألف، وكلهم يسمعون!..
ولما خطب في مِنى كذلك كانوا يسمعون، حتى النساء من وسط الخيام، في خيامهم يسمعنه وهو يخطب على الناقة، والناس حواليه وسط الخيام يسمعون من خيامهم، فيسمعه البعيد كما يسمعه القريب -صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله- وبلَّغ الرسالة وأدى الأمانة.
وكان مما عهد به إلى الأمة، وعظمه في شأنهم: أي يوم هذا، أي شهر هذا، أي بلد هذا، أليس اليوم الحرام، أليس البلد الحرام، فإن دماؤكم وأموالكم، وأعراضكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، ألا هل بلغت؟، قالوا: بلغت يا رسول الله، رفع أصبعه نحو السماء، وردد يقول: "اللهم فاشهد، اللهم فاشهد، اللهم فاشهد، ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب، ألا فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض"، انظر كيف البلاغ بهذه القوة، وهذه الصورة وجاؤوا الأمة من بعده وتقاتلوا ولا بالوا، وما كأنه بلَّغ -صلى الله وسلم عليه وعلى آله-، ولكن حفظ حرمة بلاغ من حفظها، وقام بها من قام بها.
قال: "والسعي بين الصفا والمروة"، وفي عام حجته هذه -حجة الوداع- وهو بين الصفا والمروة، طارت ريشة كانت في لحيته ﷺ، فجاء سيدنا الأنصاري الصحابي خرَّجها من لحيته، وقال: أماط الله عنك ما تكره.
فازدحموا عليه في المسعى، تصعب عليه أن يمشي من تزاحمهم عليه، وما كان يحب يكون أحد بين يديه يبعد الناس منه، قال: هاتوا الناقة، فاستدعى بالناقة، لما صعب عليه المشي، وتزاحم الناس عليه، استدعى الناقة وركب عليها، وكمَّل السعي عليها -صلى الله وسلم عليه وعلى آله- وقالوا: حججنا معه، إن وجد فجوة نص، وإلا مشى العنق، لا ضرب، ولا طرد، ولا إليك إليك.. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
"والحلق أو التقصير"، والحلق أفضل للرجل، والتقصير أفضل للمرأة. والحلق أفضل للرجل، لقوله: "اللهم ارحم المحلقين" وفي رواية: "اغفر للمحلقين"، قالوا: والمقصرين؟، قال: اللهم اغفر للمحلقين، اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين؟، قال: اللهم اغفر للمحلقين، وارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين؟ ففي الثالثة أو الرابعة، قال: والمقصرين، إلا المرأة، فالأفضل لها أن تقصر، وتأخذ من أطراف شعرها كله.
"وهي إلا الوقوف، أركان العمرة"، نفس أركان الحج؛
- الإحرام
- والطواف بالبيت
- والسعي بين الصفا والمروة
- والحلق والتقصير، اختلفوا، هل هو من الأركان؟ أو هو تحلل؟، مجرد تحلل، وعند الشافعية هو ركن من أركان الحج والعمرة؟
وقال: "ولهذه الأركان فروض وشروط لابد من مراعاتها".
وحَرُمَ على المحرم "محرَّمات الإحرام"؛
"طيب"، لا يجوز أن يتطيب، إنما الحاج أشعث أغبر، فلا يمس طيبًا بعد أن يحرم، إلى وقت التحلل الأول
"ودهن رأس ولحية"، شعر الرأس و اللحية، ولهذا قالوا لو كان يأكل شحمًا -دسم- فلا يتركه يخرج قطرات منه على لحيته، فيكون دهن لحيته، هذا يأكل شحم فسال أثر الدهن على اللحية، فصار دهن لحيته، فيأثم وعليه كفارة؛
- إما أن يصوم ثلاثة أيام
- وإما أن يذبح شاة
- وإما أن يتصدق على ستة مساكين؛ كل مسكين نصف صاع -ثلاث آصع-
هذا للدهن، فلا يَدَّهِن في لحيته، ولا رأسه.
"ولا يزيل ظفر، ولا شعر"؛
- فإن أزال ظفرا واحدًا؛ فعليه مد
- فإن أزال اثنين؛ فعليه مدان
- فإن أزال ثلاثة في وقت واحد؛ فعليه دم -إما ذبح شاة، وإما صوم ثلاثة أيام، وإما إطعام ستة مساكين-
وكذلك في الشعر -إزالة الشعر-
- إن أزال شعرة واحدة؛ فعليه مد
- أو شعرتان؛ فعليه مدّان
- أو ثلاث متوالية في وقت واحد؛ فعليه شاة، أو صوم ثلاث أيام، أو إطعام ستة مساكين.
"والجماع ومقدماته"، حرام، "وعقد نكاح"، لا يجوز أن يعقد، بل ولا يجوز لوكيله أن يعقد، إذا وكَّل أحد أن يعقد لابنته مثلا، فذهب هو للحج، قام هذا في بلده يعقد في يوم عرفة، وذاك هناك محرم، العقد باطل، لأن الوكيل نائب عن الموكل، والموكل محْرم، فالعقد باطل؛ ما يصح، لابد أن يكون الوكيل والموكل كلاهما غير محرمين، غير محرمين بحج ولا عمرة، يحرم عليه أن يعقد النكاح، أو أن يقبله، وأما أن يكون شاهداً فيه فلا اختلاف.
"واصطياد صيد مأكول بري"، قال تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ۖ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا ۗ) [المائدة:96]. ويحرم أن يصطاد أي صيد مأكول بري، فإن أصابه وهو محرم فعليه الكفارة، (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا) واحدة من الثلاثة، (لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ۗ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ ۚ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ۗ) ]المائدة:95].
قال: "وعلى رجلٍ، يحرم ستر الرأس"، لأن:
- إحرام الرجل في رأسه.
- وإحرام المرأة في وجهها.
فيحرم عليه ستر رأسه بأي ساتر، بما يعد ساتراً أما أن يضع يده فوق رأسه ما يحرم عليه، وإذا حمل زنبيل كذلك أو شيء، وحمل متاع فوق رأسه ما يحرم، إلا إن كان تدلى عليه حتى غطى رأسه، هذا نعم، وأما حمل معتاد فوق رأسه؛ حمل خشب، أو حمل حجر، وإذا زنبيل لم يتدلّى على رأسه ما يضر، ما يعد ستر رأس، فيحرم عليه "ستر رأسه".
"ولبس المحيط" على الرجل بخصوصه دون المرأة، المرأة يجوز لها بل يجب عليها ستر رأسها، عن الرجال الأجانب، ويجوز لها لبس المحيط، وكل ما أحاط بشيء من البدن مخيطاً أحاط به بخياط، فالمحيط على اليد، أو على الرِّجْل، كله محرَّم، مثل السراويل، ومثل القفازين، ومثل الخفين، كل محيط يحرم عليه، "لبس محيط به".
ويحرم عليها، أي المرأة "ستر وجهها، وقفاز"، واختلفوا إذا كان سترت وجهها من أجل نظر الأجانب إليها
- ويقول المالكية إذا كان سترت الوجه من دون غرْز ولا ربْط فلا شيء عليها.
- ويقول الشافعية عليها الكفارة، ولا إثم عليها أن تستر من الرجال.
وفي الحديث عن أمهات المؤمنين، حج ﷺ بالتسع أمهات المؤمنين، وحج معهم بسيدتنا فاطمة الزهراء -عليهم الرضوان- فكان ابنته فاطمة الزهراء، وأمهات المؤمنين، يقُلْن: إذا أقبل علينا الركبان أسدلنا الستر على وجوهنا، فإذا لم يكن أحد من الرجال الأجانب، كشفن وجوههن لأجل الإحرام، وهذا الذي اختاره ﷺ لزوجاته، ولبنته الزهراء، ولقرابته، فكان إذا أقبل الركبان أسدلن الستر على وجوههن، ولم يفرض ذلك على بقية الناس كلهم، فكان منهم من يفعلن كأمهات المؤمنين، ومنهم من بقين كاشفات وجوههن.
حتى لما سألته الخشعمية عن بعض المسائل، وراكب معه سيدنا الفضل بن العباس، رآها تنظر الى الفضل، أخذ يده الشريفة ولوى رأس الفضل حتى كملت سؤالها ومشت، سيدنا العباس يراقبه يقول: لويت رأس ابن عمك! لويت عنق ابن عمك يا رسول الله! قال: رأيت شاباً وشابة فلم آمن عليهما الشيطان، فلوى برأسه عن المرأة حتى كملت السؤال وذهبت، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
قال: "وقفاز"، يحرم عليها لبس القفازين، والأكياس التي تلبس في اليدين، في الكفين -الأصابع-، "فمن فعل شيء من هذه المحرمات فعليه الإثم" إن كان متعمدًا، وعليه "الكفارة"، إلا إن كان ناسيًا فيما يتعلق بالطيب والدهن، إن نسي فلا شيء عليه، وإن كان متعمدًا فعليه أيضًا الكفارة.
والكفارة في هذه الأشياء مخيّر بين؛
- أن يذبح شاة.
- أو أن يطعم ستة مساكين؛ كل مسكين مُدَّين.
- أو أن يصوم ثلاثة أيام.
قال: "ويزيد الجماع بالإفساد"، إذا كان قبل التحلل الأول؛
- يفسد الحج ويجب عليه المضي في فاسده
- وأن يقضي من العام القابل
- وأن يخرج الكفارة العظمى؛
- بعتق رقبة
- فإن لم يجد بذبح بدَنة، وإلا فبقرة، وإلا فسبع شياه.
- فإن عجز عن ذلك يُقوِّم البدنة، ويصوم بعدد الأمداد؛ يخرج الطعام بقيمتها، أو يصوم بعدد الأمداد؛ إن عجز، يصوم بعدد الأمداد، البدنة بتجيب كم؟ إذا جات قيمتها بألف مد، باعتبار قيمة البدنة كم تجيب من الطعام، فإذا كانت تجيب ألف مد فعليه ألف يوم، تجيب ألف وميتين، عليه ألف وميتين يوم، تجيب سبعمئة مد، عليه سبعمئة يوم يصومها!
وأما إن وقع بين التحلل الأول والثاني؛
- الحج يصح.
- وعليه الكفارة بنفس كفارة الحلق وغيره؛ بأن يصوم ثلاثة أيام، أو يطعم ستة مساكين، أو يذبح شاة.
قال: "وإتمام الفاسد"، إتمام الحج الفاسد، يجب عليه يتمّه كله، ويجب عليه أن يقضي فورًا من العام القادم، ويجب عليه إخراج الكفارة، وعليه التوبة.
ويجب أن يحرم من الميقات.
- فالإحرام ركن.
- وكونه من الميقات واجب.
وهي المواقيت التي وقّتها ﷺ للوافدين على مكة من الجهات المختلفة، وثم اختلفوا في ذات عِرْقٍ، هل كانت بتوقيت منه، أو كان سيدنا عمر بن الخطاب هو الذي وَّقته، مقابل لميقات أهل الشام، ميقات أهل العراق، والعجيب وَقّت لأهل الشام وأهل العراق قبل أن يصل الإسلام في تلك الأيام -لم يدخل إلى البلاد- ولكنه ﷺ أخبر، ووقت لهم المواقيت -صلى الله عليه وعلى آله- وكون الإحرام من الميقات.
وفي الحج واجبات، وهي "مبيتٌ مزدلفة"، مبيت مزدلفة عند الرجوع من عرفة، في قول عند الشافعية: أنه سنة، والمعتمد أنه واجب، وهو أيضًا معتمد المذاهب الأربعة -المبيت بمزدلفة- ولكن مقدار المبيت اختلفوا فيه؛
- فقال المالكية: إذا جلس وسط مزدلفة مقدار ما تحط الرحال وما عليها ثم تحمل، قريبًا من خمس وأربعين دقيقة -ساعة إلا ربع- أو نحوها، فقد حصل له المبيت بمزدلفة، سواء أنه أول الليل، أو وسطه، أو آخره.
- قال الحنفية: لابد يقضي معظم الليل، أو أن يطلع الفجر وهو فيه مزدلفة.
- وقال الشافعية: من نصف الليل الأخير ولو لحظة، إذا مر بمزدلفة فقد حصل المبيت؛ حصوله وسط مزدلفة، ولو لحظة بعد نصف الليل الأخير.
ففي الأمر أيضًا سعة بحسب من تيسر له؛
- أن يقضي معظم الليلة.
- أو أن يطلع عليه الفجر وهو فيه مزدلفة، فذلك أفضل.
ومن شق عليه ذلك، فيأخذ قول واحد من هذه المذاهب ويمشي عليه، ومن صعب عليه الأمر وثقل بأُسْرة ونحوهم، فالقول بسنيّته يحمله.
وكذلك "المبيت بمنى" ليالي التشريق، ويسقط عن السقاة، وعن الرعاة، فلا مبيت عليهم، والمبيت ثلاث ليالي في أيام التشريق بمِنى. قال الشافعية: معناها أن يكون معظم الليل، يعني أكثر من نصفه، وهو موجود بمنى، ثم باقي الوقت عليه أن يخرج من منى، ولكن أكثر الليل يمضي وهو داخل حدود منى.
"رمي جمرة العقبة يوم النحر"؛ أي: يوم العيد، ويدخل وقتها عند الشافعية من منتصف الليل؛ إذا انتصف الليل -ليلة العيد- فهذا؛
- وقت دخول رمي جمرة العقبة.
- والوقت الذي يجوز فيه أيضًا الطواف بالبيت العتيق -طواف الإفاضة-.
- والوقت الذي أيضًا يصح فيه الحلق.
- ويدخل كذلك وقت النحر
فبمنتصف الليل، يدخل الوقت، لهذه الأعمال في الحج.
- وقال بعض أهل العلم: إنما يدخل من الفجر، بعد طلوع الفجر يوم العيد.
- وقال بعضهم: إنما هو من الإشراق، بعد الإشراق.
- فيدخل عند الشافعية ومن وافقهم بنصف الليل، منتصف الليل.
والمعلوم أنه ﷺ صلى الفجر بمزدلفة، ثم نفر بعد الصلاة، ومشى إلى منى، والمعلوم أنه لم يصلها إلا بعد الإشراق، وصلها فابتدأ بالرمي، رمى جمرة العقبة ﷺ، ثم نحر البدن، وكانت مئة بدنة أهداها إلى الحرم، منها ما ساقه من المدينة، ومنها ما أحضره له سيدنا علي من اليمن، فوصل إلى هناك، ولما وصل، يقول له: بماذا أحرمت؟ قال: أهللت بما أهل به رسول الله، قال: سُقت هدي معك؟ قال: نعم، قال: فأبقِ على إحرامك حتى التحليل، فدخل على سيدتنا فاطمة وجدها قد تحلّلت من العمرة، فأنكر عليها، قالت: أبي أمرني بذلك، فرجع النبي قال: نعم، الذين لم يسوقوا الهدي أمرتهم أن يتحللوا، ثم يحرموا بالحج معنا، في يوم الثامن الذي سيطلع فيه ﷺ، فبقي سيدنا علي مُعفى.
نحر ﷺ بيده الشريفة وهو قائم، وأوقف واحد وثلاثة وستين بدَنة، ثم ناول المُدْية لسيدنا علي؛ كمّل الباقي، وأمرهم يأخذوا من كل واحد قطعة قطعة، يطبخوها له ولأهله ﷺ.
ثم أنه بعد أن نحرَ حلقَ؛ دعا الحلاق، فجاء يحلق له، ناوله شقه الأيمن، ثم شقه الأيسر، فأحدق الناس به، فعرف ما يريدون، فلما حلق النصف الأول، ناولهم، يوزعونه عليهم، فأقبل الصحابة عليه، حتى سيدنا أبوبكر، قال: بكيت رأيت خالد بن الوليد، ورأيت سهيل بن عمرو، خالد بن الوليد حصَّل شعره، قال: رأيت سهيل بن عمر، سهيل بن عمر هذا في صلح الحديبية ما رضي يكتب بسم الله الرحمن الرحيم، ما رضي يكتب محمد رسول الله، رأيته قال: يزاحم الناس حتى وقعت في يده شعره، قبّلها واطرحها على عينيه!
بكى سيدنا أبوبكر، قال: هذا لو قتلناه ذاك اليوم كان من أهل النار، ولكن بأخلاق النبي ﷺ، واليوم يزاحم على شعره من شعره، وصار في الإيمان والتوحيد والمحبة؛ خرج من الكفر، فبكى سيدنا أبوبكر، قال: هذا ما رضي نكتب محمد رسول الله، فلو قتلناه ذاك اليوم، لكان من أهل النار، ولكن رسول الله ﷺ تخلّق معه.
سيدنا عمر قال له: هذا خطيب، ويتكلم عليك كثير، تأمرني أُخْرِج الثنيتين منه، حتى يلثغ وما يقوم خطيب عليك، قال: دعه فلعله يقوم مقامًا تحمده عليه، فكان ذلك في يوم وفاته ﷺ، لما وصل الخبر إلى مكة، قام يخطب ويطمئن الناس، ويثبّتهم على الدين، وجاء بنفس الألفاظ التي جاء بها سيدنا أبو بكر في المدينة، وجاء بها لأهل مكة هناك: أيها الناس من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حيٌّ لا يموت؛ ثبّت أهل مكة، وبلغ الخبر سيدنا عمر، قال: صدق رسول الله، قلنا له سننزع منه الثنيتين، قال: دعه، لعله يقف موقفًا تحمده عليه، فقام ذاك المقام. صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
سيدنا أبوبكر بكى عندما رآه يزاحم على الشعرة، قال: ما رضي نكتب محمد رسول الله، قال: لو نعلم أنك رسول الله لاتبعناك، اكتب محمد بن عبد الله، سيدنا علي يكتب، قال له: فامحها، قال: لا أمحوها، أنت رسول الله، قال: إني رسول الله، وإن كذبوني، أريني موضعها؛ وضع إصبعه في الماء ومحاها بيده، اكتب محمد بن عبد الله؛ حتى لا تقع ثغرة يضيعون الصلح، ويرجعون إلى القتال، ورجاه ﷺ انتشار الإسلام.
وفعلاً في سنتي الصلح، دخل إلى الإسلام أكثر مِمَن دخل من أول الدعوة، في خلال الستة عشرة سنة الماضية كلها! صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
ويُروى أنه قال ﷺ لعلي: أنك ستكال بمثلها وتعطيها، ستقع لك مثل هذه، فلما كان يوم الصلح، قال: هذا ما صالح علي، كتب: هذا ما صالح علي، علي أمير المؤمنين، قال: لا لا، قل علي بن أبي طالب، لو نعلم أنك أمير المؤمنين ما قاتلناك، قال: هذا هو الذي قاله ﷺ! اكتب علي بن أبي طالب… صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. وبين هذا وهذا قريب أربعين سنة، لا إله إلا الله! (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ).
قال: "ورمي الجمرات الثلاث أيام التشريق"، رمي جمرة العقبة وحدها يوم النحر، وعند الشافعي يستمر رمي جمرة العقبة، ورمي الجمار كلها إلى ثالث يوم من أيام التشريق، قبل الغروب، وعند بعض الأئمة يخرج رمي جمرة العقبة بغروب الشمس.
ثم رمي جمرات كل يوم، ويبدأ من الزوال إلى آخر يوم من أيام التشريق، وكان ﷺ إذا صلى الظهر، خرج يرمي، وهكذا كان، وكان سيدنا عمر بن الخطاب أيضًا، لما حج في أيام إمارته، يصلي الظهر في مسجد الخيف، ثم يخرج للرمي، فإذا أراده، كَبّر، فيكبر بتكبيره من في المسجد، فيسمعهم أهل السوق، فيكبر بتكبيرهم من في السوق، فترتج مِنى تكبيرًا، حتى أن لجيج التكبير ليُسمع من أطراف مكة، لجيج تكبير الصحابة، قال: فيقول أهل مكة: الآن خرج أمير المؤمنين يرمي، لما يسمعوا صوت اللجيج يقولوا: الآن خرج أمير المؤمنين، سيدنا عمر، الآن خرج يرمي لا اله الا الله!
قال: "رمي الجمرات الثلاثة أيام التشريق"، كل جمرة بسبع حصيات، ومن المعلوم أنه كان الجمرة الأخيرة؛ جمرة العقبة، الجانب منها كان جبل، ولهذا ما تُرمى إلا من جهة واحدة، تكون مكة عن يسارك ومِنى عن يمينك وترميها والآن مع التصليحات هذه هدموا الجبل، وصاروا يرمون من الجهات كلها، فالأولى أن تُرمى من هذه الجهة، بخلاف الجمرتين الأولى والوسطى، فإنها ممكن ترمى من أي جهة.
ويسن بعد أن يرمي الجمرة الأولى أن يدعو الله -تبارك وتعالى-، يستقبل القبلة ويدعو الله مقدار سورة البقرة، ثم يرمي الجمرة الثانية، ويدعو بمقدار سورة البقرة، أما بعد الثالثة فلم يكن يدعو؛ يرمي ويمشي، والاثنتين في داخل حدود مِنى وجمرة العقبة خارج حدود مِنى، وهكذا..
مرة رمى الحبيب إبراهيم بن عقيل، وعندما رجع يسأل الحبيب محمد الهدار، قال له: دعيتم بعد الجمرة الأولى والثانية؟، قال: نعم دَعَوْنا، استقبلنا القبلة ودَعَوْنا، قال بمقدار سورة البقرة؟ قال بمقدار سورة الفيل، الفيل أكبر من البقرة… في أيامه ﷺ يدعو بمقدار سورة البقرة، يقعد يدعو، يدعو، يدعو، الآن وقت الزحمة والشدة والربشة، قال بمقدار سورة الفيل، والفيل أكبر من البقرة.
"وطواف الوداع"، وهذا لا يختص بالحاج، هذا لكل من دخل مكة؛ فقبل أن يغادر مكة، يجعل آخر عهده بالبيت الطواف، "اجعلوا آخر عهدكم بالبيت الطواف"، فكل خارج من مكة في أي وقت كان، يلزمه طواف الوداع، قيل واجب، وقيل سُنّة.
طواف القدوم:
- يقول بسنيّته الأئمة الثلاثة.
- يقول المالكية: هو واجب.
وطواف الوداع:
- يقول الشافعية: بوجوبه.
- ويقول المالكية: بسنيّته.
فالقول بالسنية هذا يحمل كثير من الناس، وهو يسقط عمّن حاضت، من حاضت قبل طواف الوداع، يسقط عنها طواف الوداع، لأنه لما حاضت صفية أم المؤمنين، قال ﷺ: "أحابستنا هي؟"، تحبسنا حتى تطهر وتطوف، قالوا: إنها قد طافت طواف الإفاضة، قال: "فلا إذًا"، فأسقط عنها طواف الوداع، ما دام قد طافت طواف الإفاضة، فالحائض إذا سيسافر قومها، تسافر معهم من دون طواف الوداع، وطواف الوداع لمن أراد أن يفارق مكة، قيل بسنيّته، وقيل بوجوبه.
"ويحرم صيد الحرمين" سواء كان "محرم أو حلال"، داخل حدود الحرم، يمتنع عن أن يصيد الصيد البري، "يحرم صيد الحرمين، ونباتهما على محرم وحلال"، بل يحرم تنفيره وليس صيده فقط، تنفيره ممنوع.
ولذا كانوا يحتاطون إذا الحمام أمامهم يبعد منهن كذا يبعد منهن كذا، خوفاً من أن ينفرهّن، فلا يجوز تنفير الصيد، أمِنت فيه الوحوش، فلا يجوز تنفير الصيد، ولكن الآن قد نفروهن كلهن مسكينات، كنا نشهد حمام كثير، ومختلف أقطار الأرض، فيها أوقاف على حمام الحرم، في الشام هنا كثير، وفي اليمن، وفي المغرب، بعضهم يوقفون زراعات على حمام الحرم، يأخذون الحب إلى مكة من أجل حمام الحرم، وكان كثرة منهن ما شاء الله، وتطوف وكان إذا أقبلت على الكعبة، إذا قاربت الكعبة تفترق، فتمر في أطراف الكعبة، فكل صيد بري ممنوع في حدود الحرم.
ومن العجائب، كان قد يتقاتل بعض الصيد خارج حدود الحرم، صيد بينه البين، فإذا واحد خاف الغلبة، يدخل حدود الحرم، فَيَكُف الثاني عنه، سباع هي سباع، ولكن إذا دخل صاحبه حدود الحرم يتوقف، تعظيمًا للبيت، وهي حيوانات؛ أحسن من كثير من الناس، عظَّمت حرمات البيت العتيق، وكذلك حدود حرم المدينة، الذي حددها ﷺ، أنه قال: "حرّمتها كما حرّم إبراهيم مكة".
إلا أن الفدية تختص بحرم مكة، لمن قتل صيد في الحرم المكي عليه الفدية، من قتل صيد في حرم المدينة ليس عليه فدية، ولكن عليه الإثم، قال: "وتزيد مكة بوجوب الفدية"، والله أعلم.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه
الفاتحة
01 ربيع الأول 1446