خاتمة تفسير سورة الكهف -16- من قوله تعالى: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا} الآية 100 إلى 110 آخر السورة

للاستماع إلى الدرس

تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الكهف:  

وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاءَ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَٰلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)

مساء الإثنين 22 صفر الخير 1446 هـ

نص الدرس:

الحمد لله مُكرمنا بالكتاب الحكيم وتنزيله، وبيانه على لسان عبده وحبيبه ورسوله، خير خلقه سيدنا محمد بن عبد الله، صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه وعلى آله وأصحابه وأهل ولائه ومحبته ومُتابعته الثّابتين على سبيله، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، خيرةِ خلق الله تبارك وتعالى وصفوته من جميع بريّته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكته المُقربين وعباده الصّالحين أهل محبّته ومعرفته.

وبعد؛

فإنّنا في نِعمة التأمّل لِكلام ربّنا -جل جلاله وتعالى في علاه- وصلنا إلى خواتيم سورة الكهف، ومررنا على قوله تبارك وتعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)) أوّلهم وآخرهم، ذلك يَوم الجمع يَوم التّغابن، لا والله! لا يبقى فيه روح ملك ولا إنسيّ ولا جنيّ ولا دابّة من دوابّ البرّ والبحر إلا وحَضرت، إلا وأُحضرت، إلا وشَهِدت هذا الجمع العظيم، (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ) [الواقعة:49-50] (فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)) (فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)).

(وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100)) أجارنا الله من جهنّم، أجارنا الله من النّار و سلاسلها و أغلالها وزَقُّومها وسعيرها وجميع عذابها، وجَعلنا من (الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ أُولَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ) [الأنبياء:101-102] هذا العرض القويّ الشديد؛ عرض المُعاينة وعرض المُشاهدة وفيه حصول الهَول؛ ولقد تقدم معنا أنّ من الفجرة الكفرة من يُدخَل النار -والعياذ بالله- بغير حساب، كما يَدخل من يَدخل من المقربين الجنة بغير حساب، قال: (وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100))، (إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُّقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لَّا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا) [الفرقان:12-14] -ثبورًا أي هلاكًا-.

قال تعالى: في وصف هؤلاء الكافرين (الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَن ذِكْرِي (101)) 

  • كانت أعينهم في غطاء عن القرآن 

  • كانت أعينهم في غطاء عن المصطفى محمد ﷺ

  •  كانت أعينهم في غطاء عن أن تتذكر بدايتها ونهايتها، وحكمة خلقها وإيجادها 

(كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَن ذِكْرِي) تعاميًا منهم وانصرافًا عن الحقّ وقَبوله؛ فكانت شدّة الرّغبة في الفانيات وقوّة العِناد للحق واستقباله غطاءًا؛ غطّى على عيونهم؛ فلا يرون الله، ولا آياته ولا قرآنه، ولا بلاغ رُسله صلوات الله و سلامه عليهم.

قال: (الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101))، لايستطيعون سمعًا:

  •  لِما تحلّوا به من العناد والجحود 

  • ولِما سكن في قلوبهم من البغضاء؛

فلا يستمعون إلى حبيب الله وهو يُبيّن لهم، كما يقول البَاغض لمن يبغضه: ما أستطيع سماع قول فلان! أنا ما أستطيع سماع قول فلان!

(وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا) رضوا بتَحاملاتهم وغُبَارات وظُلمات الكَدَر في قلوبهم من الإعراض عن الله والتَّولّي؛ فكانوا لا يستطيعون السّماع من رسول الله ﷺ، ولا من أصحابه، ولا من خلفائه الذين يُبلّغون عنه ﷺ.

(وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا) إن كان فيما يقول رسول الله وما يقول خلفاء الرُّسل الحُجّة الواضحة والبرهان القاطع والدّليل الذي لا ريب فيه ولكن ما يستطيعون سماعه؛ ما عندهم استعداد لقبوله ولسماعه أصلا -والعياذ بالله تعالى- (وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا) 

يقول هؤلاء الذين يُعرضون عنّي وعن ذكري و آياتي ورُسلي، يظنّون أنّهم يتّخذون أنفسهم أو غيرهم من هذه الكائنات أولياء من دوني ويعاندون ويجحدون ربوبيّتي وألوهيّتي، أنّهم يفوزون ويسعدون ويَفلتون من قبضتي، ما الذّي يظنّ هؤلاء؟ ماذا يظنّ هؤلاء؟ ما أقل عقول الكفار! ما أقل عقول العصاة والفاسقين على ظهر الأرض! ما أبعد الناس عن العقل!

(أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاءَ (102)) انتهت المسألة! اعمل لك الذي تشتهي من فكر، واعمل لك من حزب والذي ما شئت من الجماعات أو الهيئات أو دول وتهدّد الناس بالقوّة العسكرية أو القنبلة الذريّة ووو.. وانتهت المسألة! تذهب أين؟ أين تذهب؟ ما النهاية؟ ما الغاية؟ ما النتيجة من وراء هذا يا مغفل! يا جهول! 

(أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاءَ) المسألة أكبر من ذلك! انظروا المكان قد أعددناه لكم (إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)) انظروا الى محل الضّيافة، نتيجة هذا العناد والكفر، انظروا الى أين ستصيرون؟ رأيتم مستقبلكم يا ضامنين المستقبل! يا مُفكرين! يا حضاريين! يا مُتقدمين! وصول إلى نار موقدة تطلع على الأفئدة، ما هذه المصيبة! هذه الغاية وهذه النهاية! وهم حسبوا أنّهم بس يعملوا مَا شاءوا ويذهبوا؟ هل أنا خلقت عبثًا! (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) [ص:27]، (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاءَ) لا إله إلا الله! ظنّوا هكذا ويفعلوا ما يشاؤوا؟ والخلق هكذا عبث! وإرسالي للرسل وإنزالي للكُتب لَعب أو هُزُؤ، الله! الله! الله! (ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) [ص:27] لا إله إلا الله!

ويُعرضون عليها وهي أمامهم، (أَفَسِحْرٌ هَٰذَا)؟ انظروا النّار!؛ (أَفَسِحْرٌ هَٰذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ) [الطور:15] أنتم الذين تَعاميتم وتَصامَمتم وأَصررتم على الكُفر وعلى العِناد للأنبيَاء والمرسلين وأتباعهم (أَفَسِحْرٌ هَٰذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الطور:15]، ليست المملكة مملكتكم، ولا الأرض أرضكم، ولا السّماء سمَاؤكم، ولا الخلق خَلقكم؛ هذا الخلّاق الذي جعل هذه النهاية وهذا المصير لخلقه ولا مخرج لهم من ذلك ولا فرار، لا إله إلا هو!

(أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاءَ) الأمر أكبر، (إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)) ما النزل هذا؟، محلّ الضيافة! النزل هذا؛ نزل الهُون والحَسرة والنّدامة والعذاب الشّديد والأغلال والسّعير والزّقوم -لا حول و لا قوّة إلا بالله-؛ (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) [النساء:138]، وهذا نزلهم، لا إله إلا الله! لا إله إلا الله! (هَٰذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ * نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ) [الواقعة:56-57

 (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ* فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ) [الواقعة:49-54]، قيح وصَديد يخرج من فروج الزُّناة والزّانيات، يجيء يفور ويُسقَون منه، والعياذ بالله (فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) [الواقعة:55] الإبل العطاش (هَٰذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) [الواقعة:56يوم الجزاء (نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ) [الواقعة:57]، تنسون خالقكم هكذا وراء شهوات، وراء سلطة، ووراء ذا.. وتقول نحن ونحن في الدنيا هذا (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ) [النازعات:24]، (أُحْيِي وَأُمِيتُ) [البقرة:258]، (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) [فصلت:15]…، هو كلام الكفّار قبل قرون طويلة، هو كلام الكفار في زمانكم، لا شيء غيْره، هو الكلام نفسه، (كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) [البقرة:118]، وكلام الأنبياء واحد من عهد آدم إلى سيدنا محمد إلى أتباعه اليوم؛ لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ 

  • (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف:23] 

  • (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [ال عمران:53]  هذا كلامهم واحد 

والكفار كلامهم هذا واحد

  •  (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) [فصلت:15]

  •  (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) [البقرة:258] 

  • وقالوا من قديم مثل النّمرود: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ) [الزخرف:51-52] هو هذا الكلام نفسه، في ثاني غيره؟

  • (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ) [النازعات:24] كرّروا نفس الكلام.

ويقول سبحانه وتعالى: (إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102))؛ نُزُلْهُمْ جَهَنَّم، هذا محلّ ضّيافتهم؛ ضيافة الكفر والفسوق، والجُحود والاعتداء، وردّ دعوة الحق سبحانه وتعالى. 

قل لهم يا محمد؛ ميزان الخسران والربح من عند الرّبّ الذي خلقكم، لا أفكاركم ولا أهواءكم ولا أقاويل من قبلكم ولا أقَاويلكم، تعرفون حقيقة الربح كيف! والخسران كيف! (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر:1-3].

(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103)) تريدون منّي خبر يقين، صدق واقع، من هو الذي يَخسر من المكلفين على ظهر الأرض، عربهم وعجمهم، إنسهم وجِنُّهم، من الخاسر؟

(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)) قال هؤلاء المغفلين المغرورين الذين يقولون هذه الأقاويل (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَٰهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) [الشعراء:29] يعملون ما يعملون، بعد ذلك يقول هؤلاء الأخسرين أعمالًا، ومنهم يهود ونصارى يبقون بعد بعثة النبي محمد على رهبانيتهم ونصرانيتهم وقد عُهِد عليهم أن يؤمنوا به ويتّبعوه؛ فيكونوا يعملون في غير معمل، ومنهم منافقون، ومنهم مُغترّون مبتدعون من الأمّة يعملون على غير صدق مع الله وعلى حقيقة، ويحسبون أنّهم يحسنون صنعًا، أوائلهم من قاتلوا سادتنا الصحابة، من قاتلوا السّابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وادّعوا أنهم أعلم بالقرآن منهم، وادّعوا أنهم يقاتلونهم بفهم القرآن، والقرآن هم هؤلاء تلقوه من الفم الكريم مباشرة، وفهموا معانيه من على يدي المُنزل عليه، فجاءوا هؤلاء من بعدهم يقولون هؤلاء خلقوا القرآن، وجاءوا بالآيات التي نزلت في المشركين والكفّار وأنزلوها على السابقين الأوّلين من المهاجرين الذين أَثنى الله عليهم في القرآن، وقالوا أنهم يتقرّبون إلى الله بقتلهم، ما المصائب هذه؟!

الأخسرين أعمالًا؛ ودخلوا المدينة وانتهكوا الحرمات دماءً وأنفسًا وأعراضًا وأموالًا، وقال بعض هؤلاء عند خروجه من المدينة: ما عاد أظن يعذبني الله بعد هذا! انتهك حرمة النبيّ ومدينته وصحابته وأعراض المسلمين وأموال المسلمين، ويقول: لم يعد في عذاب عليّ بعد ذلك، ما هذا الدين؟ ما هذا؟

الأخسرين أعمالًا؛ وكل من كان على هذا المِنوال من بعدهم حتى يُقاتل آخرهم مع الدّجال، ناس كانوا يحفظون من القرآن ويصلّون ويروحون مع الدجال يُقاتلون المهدي، لأن المهدي مبتدع في نظرهم، هم يعرفون أحسن منه؟ والدجال ماذا يكون؟ قد صار ربهم! حتى يقاتل آخرهم مع الدّجال،

كان النّبيّ يُحدّث سيدنا علي بعجائب من أخبارهم، حتى في صِفّين قال لهم: في هذا اليوم قتلوا رجل فيه علَامة من علامات القوم، حدّثني عنه رسول الله، قالوا: ذو الثنيّة، له عضُد كثدي المرأة، ابحثوا عنه، فبحثوا عنه فلم يجدوه، قال لهم بلى، قام، عند القتلى فوجده تحت، في محل منخفض، فوقه بعض القتلى، رفعوه، قال: انظروا، فقد حدثني من لا يكذب، فقالوا: انتهى الأمر، قُتلوا وذهبوا يا أميرالمؤمنين، قال: لا، لا، لا ، لايزال في الأمّة مِن أتباعهم ونُظرَاءهم، كلما قُطِع منهم قرن بدأ قرن، حتى يقاتل آخرهم مع الدجال، حتى يقاتل آخرهم مع الدّجال، -أعوذ بالله من غضب الله-!

(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103)) لهذا سيدنا علي وغيره من الصحابة لما ظهرت هذه الفرق قال: هم منهم، كما يدخل فيهم النصارى واليهود الذين ظنوا أنفسهم على عبادة وترهبنوا، قالوا: هم منهم، الآية شاملة، الآية نزلت بمكة قبل خطاب اليهود والنصارى وقبل ما يجيء الحروريين أو غيرهم من الخوارج.. الآية نزلت في مكة المكرمة؛ فَتنطبق على كل من يكون مصيره هكذا؛ من المخالفين للأنبياء والمرسلين ومن المُغترين.

 فيقول: حتى اجتمع ثلاثة منهم، وقالوا سنخلص الأمّة من المشاكل والمظالم، فقتلوا علي بن أبي طالب وعمرو بن العاص، وتعاهدوا وتقاتلوا، ومعاوية لم يخرج، وخرج عمرو بن العاص خارجة فوقعت فيه، ومعاوية لم يخرج ذاك اليوم، وسيدنا علي كان منتظر الساعة في الليل كان نظر نحو السماء، قال: إنها لَليلة التي وُعِدت، كان قبل أيّام يقول: أين هذا الذّي يضربني على هذه فيخضب منّي هذه، أراهُ قد أبطأوا، فأصبح الصباح واستقبله عدو الله "ابن ملجم" ضربه في بقعة، علَمَها النبي، وقد وضع أصبعه فيها، قال: يضربك على هذه، يقول: "أتدري من أشقى الأولين ومن أشقى الآخرين،" قال: الله ورسوله أعلم، "قال أشقى الأوّلين عن الأمم السّابقة عاقر ناقة نبي الله صالح،" قال تعالى (إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا) [الشمس:12]، "وأشقى الآخرين، أشقى الأشقياء في أمّتي الذي يضربك على هذه، ووضع أصبعه في محلّ الضّربة، فيَخضب منك هذه" قال: سيَخضب لحيتك بالدّمّ عندما يخرج من رأسك الدم، هذا أشقى هذه الأمة -والعياذ بالله تعالى-، كان يقوم في الليل كثير، يقرأ القرآن، يترنّم، ولكن الباطن أين؟ (بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا).

(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ) وفي قراءة (يَحْسِبُونَ) يعني يظنون ويتوهّمون (أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)) قالوا: أتقنا تمام، خطة محكمة، ترتيب ونظام.

وبعد قال: (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ) الحقيقة (وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ (105)) لم يعد هناك صلاة ولا صوم، يقول النبي للصحابة: في طائفة منهم يظهرون من بعده "يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ عند صَلَاتِهِمْ، وقراءته عند قراءتهم، يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ" وفي رواية "يُجَوِّدونه" " لا يُجَاوِزُ حناجرهم" وفي رواية "تَرَاقِيَهُمْ،" يعني القرآن فقط من عند الحنجرة إلى عند الشَّفَه، ما يدخل للقلب منه شيء، ولا من نوره شيء، -الله- "لو أدركتهم لقتلتهم " ﷺ.

يقول: (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105))  معنى (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) لا اعتبار، لا مكانة، لا منزلة لمن لم يَصدُق مع الله تعالى، هذه الاعتبارات والألقاب والمظاهر تروح هباء منثور، لا تساوي شيء لا رئاسة ولا سلطة، ولا ملك ولا وزارة، ولا شهادة ملكية ولا أمرية، ولا لمع نجوم ولا شهرة، ما وراءها شيء، الوزن في القيامة والمنزلة لمن صدق مع الرحمن، لمن طهّر الجَنان، غيرهم لا وزن له، لا قدر له، "يَأْتي الرَّجُلُ السَّمِينُ العَظِيمُ يَومَ القِيامَةِ، لا وزنَ لَه" عند الله.

قال: (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)) ما لهم اعتبار، انظروا كثير من المتكبرين في الأرض وراءهم قوى، وراءهم جيوش وبعضهم وراءهم مصائب وخطط كبيرة في زمنكم ومن قبل، يُحشرون على صُور الذَّر، نملة تمشي على الأرض في مهانة، يطؤهم الناس بأقدامهم، جزاء الكِبر الذي كانوا فيه، والمتكبرون يُحشرون في وادي يقال له (بُولَس) في القيامة كصور النمل يطؤهم الناس بأقدامهم، مدة الموقف خمسين ألف سنة، وبعد ذلك إلى النار -والعياذ بالله تعالى-.

 قال: (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)) أتعرف الوزن أين؟! "يَشْفَعُ يومَ القيامةِ ثلاثةٌ : الأنبياءُ ثم العلماءُ ثم الشهداءُ." الوزن هنا، الاعتبار هنا، إن أحد شريف، إن أحد كريم، إن أحد رفيع، إن أحد عظيم، إن أحد جليل، إن أحد كبير، هم هؤلاء؛ غيرهم ماله وزن، يُطاع إلى الذروة وفي القيامة يقول: أنا لها، رأيت كيف وزنه؟! أنا لها، اللهم صلِّ عليه وعلى آله، وإذا سجد، يناديه رب العالمين، حاكم يوم الدين: "ارْفَعْ رَأْسَكَ، يا مُحَمَّدُ،" "يا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وسَلْ تُعْطَهْ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ" -يا سلام- هؤلاء لهم الميزة والوزن الكبير، والقدر العظيم عند الرب العظيم -جلَّ جلاله-، (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ الْأَرْضُ..) [النساء:42] يُمسخون يكونوا مع الأرض سواء -لا اله الا الله-. 

(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا) [الفرقان:27]، فمع الرسول وأهل دائرته من آله وصحابته والصالحين من أمته، يتمنى أن يكون الإنسان معهم في القيامة، لا أحد في القيامة يقول: ليتني كنت مع الحزب الفلاني ولا مع الهيئة الفلانية، ولا مع الوزارة الفلانية، ولا مع الدولة الفلانية لا أحد يقول هكذا، يقول: مع الرسول (يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا) [الفرقان:27] صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله، فالعظمة هنا والشرف هنا والعزة هنا والكرامة هنا، كلها على الحقيقة (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [المنافقون:8].

فالحمد لله على نعمة الإسلام، ثبتنا عليها يا رب، وقوِِّ الإسلام في كل مسلم؛ ذكر وأنثى، إنسي وجني في شرق الأرض وغربها، يا رب قوِّ لهم الإسلام، كما أنعمت علينا الإسلام فزدنا منهم والإيمان يا رب، في قلب كل مؤمن قوِّه، ومن كتبت لهم أن يؤمن، واكتب ذلك لكثير من خلقك في الشرق والغرب، واكتب لهم أن يؤمنوا، وزدهم إيمانًا وزدنا إيمان في كل لمحة ونفس، وكما أنعمت علينا بالإيمان فزدنا منه يا الله، وكما أنعمت علينا بالعافية فزدنا منها، وكما أنعمت علينا بالعمر فبارك لنا فيه.

يقول: (ذَٰلِكَ جَزَاؤُهُمْ) نهايتهم (جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا (106)) بسبب كفرهم، وما هي حقيقة المصيبة عليهم؟

(وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106))؛ (وَاتَّخَذُوا آيَاتِي) ما أنزلتُ من الكتب، (وَرُسُلِي) المرسلين، (هُزُوًا) وكل من معنا على ظهر الأرض يتخذ آيات الله وما يتلى عليه من آيات الله، وما يبلغه أتباع رسول الله ﷺ هزوًا، فمات على ذلك فهذا مصيره وهذه نهايته، خسروا -والعياذ بالله تعالى-.

لكن من الرابحين؟ من الفائزين؟ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)) -الله أكبر- يا رب اجعلنا منهم وفيهم ومعهم، يا أرحم الراحمين.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)) أولئك جهنم نُزُلًا (إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)).

لكن هؤلاء أين نُزُلهم؟ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا (108)) جنات الفردوس، وأعلى الجنة الفردوس، وقد جاءنا في الصحيحين "إذا سَأَلتُم اللهَ فاسأَلوه الفِردَوسَ، فإنَّه أوْسَطُ الجَنَّةِ وأَعْلَى الجَنَّةِ، سَقفُه عَرْشُ الرَّحْمَنِ، ومِنْهُ تَفَجَّرُ أنْهارُ الجَنَّةِ" نسألك الدرجات العلى من الجنة، نسألك الفردوس الأعلى. 

هذا الذي وصلت إليه روح سيدنا حارث كما في صحيح البخاري، قالت أمه: أين ابني يا رسول الله؟ أفي الجنة هو فاصبر؟ أم في النار؟ ولتريَنَّ ما أصنع! قال: "يا أُمَّ حارِثَةَ إنها جِنَانٌ كَثيرة وإنَّ ابْنَكِ أصاب الفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى"، "وإنَّ ابْنَكِ أصاب الفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى" الله يرضى عن حارثة ويرينا وجهه في الفردوس الأعلى إن شاء الله، ثماني عشرة سنة توفي، قُتل في بدر وهو ابن  ثماني عشرة سنة، لكن أصاب الفردوس الأعلى، ولا يُغبط أهل أعمار السبعين ولا المئة ولا الأقل ولا الأكبر، -الله أكبر- عليه رضوان الله.

يقول: (كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)) من لذاذةِ ما هم فيه وحلاوة ما هم فيه، وسعادة ما هم فيه ونعيم ماهم فيه؛ ما يرضون أن يتحوّلوا إلى مكان ثاني (لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا) لا يبغون انتقال، لا يحبون الانتقال من هذا المكان، يحلُّون حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، (لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا) تحولًا وانتقالًا إلى مكان آخر.

 وبلِّغ يا حبيبي محمد أمتك، وكل من يفقه عني أن رحمتي بهم؛ أرسلتك إليهم لتنقذهم، وأنَّه باليسير منهم أقبله، وأدخلهم جناتي، وأجعل نُزُلَهم الفردوس، وشؤون فوق الوصف (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السجدة:17] فإن أبوا إلا أن يعاندوا ويصّروا ويجحدوا ويكبروا ويؤثروا الفانيات، والدنيا وشهواتها ورئاستها وبقاءها وسلطتها وما فيها، ويكذبون بي وبرسلي! فأعددت لهم ما لا يطاق من العذاب الأليم، قل لهم. 

وقل لهم هذا مِنّة من الله وصلتكم في تقريب الأمر، وأمّا علم الله وأحكامه وآياته وحِكَمه فأكبر من أن يحيط بها أحد وأعظم من أن تنحصر، (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي (109)) آياته العظيمة، أحكامه الجليلة، علمه المحيط.

(قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)) بحر ثاني، وبحر ثالث، وبحر رابع، ولو جئنا بمثله دواليك فهكذا لا ينفذ (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) [لقمان:27] فهذا عظمة إلهنا، لا يحيط به محيط، لا بأوصافه، ولا بأسمائه، ولا بعظمته، ولا بجلاله ولا بكبرياءه، لا يُحيط به محيط، إنما كلٌّ ينُعم بقدر المعرفة التي سبقت لهم من الله تعالى، وبها يتنعمون ويتلذذون في الجنة وإلى الأبد، يا ربِّ تعرف إلينا وزدنا بك معرفة.

(قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)) بحر ثاني وثالث ورابع وهكذا ما تنفد كلمات الله.

(قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ (110)) وجئتكم بهذه الدلائل والحجج، هاتوا مثلها، أنا بشر مثلكم فمن أين جاءتني هذه؟ لولا أنَّ رب العرش اختارني وانتخبني واصطفاني وجعلني الحجة الكبرى على عباده، ما أظهرتُ لكم شيء، انشقّ القمر وجئت لكم بقرآن ما تقدرون تأتون بمثله، والماء ينبع من بين أصابعي، وآيات أمامكم، أنا بشر من أين جئت بهذا؟ أنتم بشر! هاتوا مثل هذا! أعندكم شيء؟! إذًا فآمن، حجة أمامكم واضحة.

(قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إليه (110)) بوحيٍ عظيم ختم الله به وحي السماء فيما يتعلق بالأديان والشرائع، وحي خاتمة للشرائع والأديان، لم يعد بعده شريعة، شريعة ناسخة لجميع الشرائع ولا بعدها شريعة، يا نعم المُوحي، ويا نعم الوحي، ويا نعم المُوحى إليه.

(إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ)  فأبرزني الله لكم في قالب بشرية من أم آمنة، وأب عبد الله بن عبد المطلب ونشأت بينكم طفلًا سميتموني الأمين في أيام شبابي، والآن تنكرون ماذا؟! تكذبون ماذا؟

وعندي وحي عظيم من الله، يوحى إلي (أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ (110)) لا مجال لهذا الوهم والظن والخيال، ليس مع الله غيره، ولا يُشرِك الله أحد من خلقه، كل ما سواه مملوك، كل ما سواه مصنوع، كل ما سواه مخلوق (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا * لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) [مريم:95-93].

يقول: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ (110)) 

  • (يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ) يعني يؤمن بلقاء الله،

  • (يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ) يرجو ثوابه وعفوه ومغفرته ورضاه.

(فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا ولا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110))  لا يقوم يصوم لله ولغيره، لا يقوم يسجد ويركع لغير الله، (وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) الله يقول في الحديث القدسي: "أنا أغْنَى الشُّرَكاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَن عَمِلَ عَمَلًا أشْرَكَ فيه مَعِي غيرِي، تَرَكْتُهُ وشِرْكَهُ" ، وأنا أغنى الأغنياء عن الشرك -لا إله إلا الله- قالوا: 

  • فواضح الرياء وجليله: أن يُنشئ العمل من الطاعات من أجل الناس،

  • وأخفى منه: أن ينشئ العمل لأجل الله في الأصل، ولكن أيضاً يشرك معه الناس؛ الرَّجلُ يُقاتِلٌ شجاعةً وحميَّةً وَلِيُرَى مَكَانَه فأي ذلك في سبيلِ اللهِ؟ قال: "مَن قاتَل لتكونَ كلمةُ اللهِ هي العليا فهو في سبيلِ اللهِ"، وتلا الآية: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110))،

  • قالوا وأخفى منه: أن يعمل العمل لأجل الله تعالى، ولكن يحب أن يطلع عليه الناس، لأن له قصد فيهم،

  • قالوا وأخفى منه: أن يعمل العمل لأجل الله ولا يشرك معه غيره ولا يحب أن يطلع عليه الناس؛ لكن إذا أحد أطلع صدفة يفرح، وجود الفرح دليل الالتفات في القلب إلى الخلق وإرادة له،

  • وقالوا أخفى من ذلك أن يعمل العمل لأجل الله ولا يشرك معه غيره ولا يحب أن يطلع عليه الناس إذا أحد اطلع عليه ما يفرح، لكن يتوقع في قرارة نفسه أن بسبب العمل هذا يجب آن يكرمونه، يقدمونه في المجالس، يوسعون له الطريق.

 أنت تعمل لمن؟ أنت تعبد من؟ لهم؟! فوجود هذا في قرارة نفسه دليل انصراف إرادته لغير الله تبارك وتعالى؛ ولكن قال الله عن الصادقين المخلصين: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) [الإنسان:8-9] ما الذي رقَّاكم هذا المراقي؟! قالوا (إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا) فكيف النتيجة (فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا) [الانسان:10-12] اللهم اجعلنا منهم واسلك بنا مسلكهم.

(فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110))

يقول صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَفِظَ سُورَة الكَهْفِ" وفي رواية "عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الكَهْفِ"، وفي رواية "عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الكَهْفِ وعَشْرَ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الكَهْف، وُقِيَ فتنة الدَّجَّالِ". يعني أكبر الفتن التي ستأتي لن تضره، بحفظه لهذه الآيات، فما أعظم سورة الكهف! وما أعظم حفظها! ورواية "في عشر من أولها وعشر من آخرها"، لكن إذا حفظها الإنسان وقرأها ولو في كل جمعة مرة كانت حفظًا له وحراسةً، حتى من أشد الفتن وأكبرها.

ومُقبل على الأمة فتنة؛ اليوم الأول مقدار سنة، لا تغرب الشمس إلا وأكثر الذين كانوا مسلمين على ظهر الأرض دخلوا مع الدجال، -يا لطيف يا لطيف يا لطيف-، يبقى إلا الصادقون القليل، فلمَّا ينزل سيدنا عيسى لاحقًا يخبرهم بدرجاتهم بالجنة، هؤلاء الثابتين، جماعات منهم يفرون إلى الجبال، فطوائف منهم يرسل الله لهم الظباء يحلبون لبنها ويكتفون به، وطوائف منهم أعلى يجعل الذكر لهم غذاء، يغذيهم، يغذي أجسادهم بالذكر فلا يحتاجون شيء، إلى أن ينزل سيدنا عيسى يقتل الدجال يرجعون مع سيدنا عيسى، قال صلى الله عليه وسلم: فيخبرهم بمنازلهم في الجنة، قال: فلان، فلان نزلت كذا، أيام كذا، جزاء ما صبر، وأيام الفتن هذه الكبيرة التي مرت على الناس، وسحبت ملايين إلى النار -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.

فالله يبارك لنا في القرآن وفي تنزيله وفي سوره، وينعم علينا وعليكم بصدق الإقبال وكمال القبول، ويصلح أحوال الأمة في المشارق والمغارب، يا عاصم من الفتن والبلايا والمحن اعصمنا وقلوبنا وقلوب أهلينا وأولادنا وطلابنا وذرياتنا وذوينا ومن يوالينا، وكل المسلمين والمسلمات من كل فتنة، ومن كل مصيبة ومن كل قاطع يقطعنا عنك، ومن كل خديعة يخدع بها عدوك عبادك، اللهم اجعلنا في حصنك الحصين وحرزك المتين من شر فتنة المسيح الدجال، ومن شر من يتقدم الدجال من الدجاجلة، ومن شر كل قاطع عن الطريق، ومن شر كل معوِّق عن خير فريق، فيا رب الحقنا بخير فريق وأكرمنا بأعلى رفيق، وتولنا بما توليت به أهل المحبة على التحقيق، وزدنا من نوالك ما أنت أهله.

بسرِ الفاتحة 

وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه، 

الفاتحة

 

تاريخ النشر الهجري

05 ربيع الأول 1446

تاريخ النشر الميلادي

08 سبتمبر 2024

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام