تفسير سورة مريم - 4 - من قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ } الآية 35 إلى 41

للاستماع إلى الدرس

تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة مريم:  

مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) نَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) 

مساء الإثنين 20 ربيع الأول 1446 هـ

نص الدرس:

الحمد لله ربّ العالمين، مُنوِّرنا بأنوار تنزيله ووَحيِه، وبيانها على لسان حبيبه ونبيِّه، سيدنا محمد صلى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وصحبه والمُهتدين بهديه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، الذين قابلوا ما أوحى إليهم الرحمن بِحُسن معرفته ووعيِه، وبلَّغوا أقوامهم فَوَعوا عنهم كلًّا ما قسَمه الله له من فضله سبحانه وتعالى وتمكينهِ في معرفة تنزيله ووحيه، وعلى جميع آلهم وصحبهم وتابعيهم وملائكة الله المقربين، وعباد الله الصالحين مِن الذين أحسنوا الامتثال لأمره والاجتناب لنهيهِ، وعلينا معهم وفيهم إنَّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

وبعدُ،،

فإنَّنا في نعمة تأمّلنا لكلام إلهنا الحق، ودلالته إيّانا على مُوجب المعرفة به وبأحكامه وما يُوجب السعادة الأبدية، مَرَرنا على آياتٍ في سورة سيدتنا مريم، حتى مَرَرنا على قوله -جلّ جلاله- في شأن عيسى بن مريم ونداء قومه بلسان الحق والهدى (مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (35)) فالكائنات مُنفعلةٌ لإرادته -جلّ جلاله- وهو (فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ) [البروج:16]، وما كان شأن نسبة الزوجية والابنيِّة والوَلدية والأُبوّة إلا شؤون الحوادث المخلوقات والكائنات المصنوعات، والحقُّ مُنزّهٌ عن ذلك.

يقول: قال سيدنا عيسى بن مريم (وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ (36)) هذا الذي أدعوكم إليه وأدلكم (هَٰذَا صِرَاطٌ (36))؛ طريق (مُّسْتَقِيمٌ)؛ قويم صحيح لا عِوَج فيه، وهكذا تأتي دعوات الأنبياء بالحقِّ الواضح البيِّن، وكان كلُّ مُستجيبٍ ومُلبٍّ بصدقٍ وإنصافٍ، يطمئن إلى ما جاءوا به ولا يَعدِل عنه ولا ينحرف فيه، فيجتمع مع كل مُنصِف مُخلِصٍ صادق كذلك؛ فيكون جميع الذين استمعوا إلى قول الحق على أُلفَةٍ وأخوّةٍ ومحبة ووحدة في فهم الحق، فتعجَّب مِن أنَّه ما تأتي دعوة حقٍ وهُدى تجمع القلوب، إلا وكان بالنسبة للمستمعين أحوالٌ معها؛ وذلك بسبب فَقد الإنصاف وفَقد الصِّدق، وإلا فدعوات الله جامعةٌ لكل من سمعها، فلو اجتمعوا على الإنصاف والصدق لاتَّحدوا؛ وكذلك اتَّحدَ المُنصِفون الصادقون من آدم وأولاده إلى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان؛ اتَّحدوا وتحابوا وتآلفوا واجتمعوا، بل بعضهم لبعضٍ مُحِبٌّ كمحبة نفسه وزيادة على محبته لنفسه؛ ولكن مَن داخلهم الأهواء مِن أتباع الأنبياء اختلفوا وتنازعوا وتقاتلوا. 

قال تعالى: (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ (37)) من بين أتباع سيدنا عيسى عليه السلام؛ اختلف الأحزاب الذين تحزَّبوا بالأهواء وتفرّقوا بالآراء الشاذة، وأخذوا يقولون عن سيدنا عيسى ما قالوا:

  • فمنهم من قال: إنَّه هو الله، وأنَّه نزل إلى الأرض، وأنَّه رجع ثانيةً إلى السماء -استغفر الله-، كذّبه الآخرون،

  • قال الثاني: إنَّه ابن الله فكذّبه من بقي منهم،

  • فقال الثالث: إنَّه إله، والله إله، ومريم إله -ثالث ثلاثة-، 

كل واحد منهم تبعه مَن تبعه وكذّبه آخرون،

وقال المنصفون الصادقون: (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ) [النساء:171] وهذا هو الحق، بَقيَ عليه أهل الحق فناوأهم أهل الباطل وقاتلوهم حتى انتشر الباطل والضلال، وبَقي أهل الحق متوارثين للحق حتى جاء جامع الحق بالحق عن الحق محمد ﷺ، واجتمعت القلوب التي كانت مُتفرقة بالباطل على الحق من قلوب السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار -رضي الله تعالى عنهم- والذين اتَّبعوهم بإحسان.

قال: (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ (37)) يقول الله: كل من خرج عن مسلك الأنبياء وهديهم وما جاء به، فويلٌ له، (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا (37)) بأنَّ الله رب كل شيء وأنَّه تجب عبادته وحده.

(فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)) من مشهد؛ مشاهدة وحضور يومٍ سماه العظيمُ عظيمًا، ذلك يوم جمع الأولين والآخرين؛ يوم القيامة.

(فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)) وهذه دعوة الله تعالى العقلاء من المُكلفين من الإنس والجن، أن يُحسنوا النظر لأنفسهم في مستقبلهم الكبير الخطير؛ المستقبل مُستقبل الأبد والخلود، يجب علينا أن نحرص على أن نكون فيه من الفائزين ومن الناعمين ومن المُنعَّمين، ومن الظافرين بالمُلك الكبير والرضوان من العلي الكبير -جلّ جلاله- و "ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ".

(فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)) كل الذين كذّبوا الأنبياء وخالفوهم، ولقد خُتم الأنبياء بسيدهم نبيّنا الذي به تشرفنا وكنَّا به خير أمة؛ فمن يعيش على ظهر الأرض من المُكلَّفين مُكذبًا بهذا النبي وكافرًا به فويلٌ له من مشهد يوم عظيم، أفرادًا وجماعات وأحزاب وهيئات وشعوب ودول؛ كل من كفر بنبينا ويلٌ له من مشهد يوم عظيم؛ أولئك الذين ضيعوا مستقبلهم، كل من بلغته منهم الدعوة فأبى وكفر ويلٌ لهم من مشهد يوم عظيم، مستقبل كبير مُقبل علينا يشاهدون فيه ويحضرون ويشاهدون أمور الحُكم فيه للحاكم الواحد -جلّ جلاله- الذي يحكم بين عباده (فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [السجدة:25] -جلّ جلاله- فهم الخاسرون في ذاك اليوم وويلٌ لهم من مشهد يوم عظيم.

(فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا) من يعيش في زماننا ومن مضى قبلنا أو يأتي بعدنا -بلغته دعوة محمد فكذّب وخالف- فويل لهم من مشهد يوم عظيم، واليوم العظيم: واسع الأطراف يجتمع فيه الأولون والآخرون، عظيمةٌ أحواله، كم عسى أن يُدرك هؤلاء من عظمة ذاك اليوم وأهواله وشدائده مع اتساعه.

قال: (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا (38)) ولا تتخيل أنَّهم لا يشعرون إلا بمثل ما كان يحيط بسمعهم وبصرهم أيام كانوا في الدنيا، ما بَعُد عنهم لم يعد يدرون به، وإذا غلبهم صوت لم يعد يدرون بالصوت الذي بعده، لكن في القيامة قال الله أنا أُمكّنهم من إسماعٍ وإبصارٍ لمختلف أهوال القيامة في وقت واحد، ويسمعون جميع أهوال القيامة ويُبصرون جميع شدائدها 

(أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ..) يعني ما أسمعهم! وما أبصرهم! وما أوعاهم لهذه الحقيقة وانجلائها وظهورها، ولكن ماذا يُفيد هنا الإدراك؟ ماذا يُفيد هنا السمع والبصر لمن كان في الدنيا له عين لا يُبصر بها وأذن لا يسمع بها وقلب لا يفقه به؟ ما يُفيده، يُبصر ولكن ما يُفيد هذا الإبصار ولو كان أبصر في الدنيا (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا) [الأنعام:104] تعاموا عن قبول الحق في الدنيا؛ فاتضح الحق لهم وضوحًا جليّاً ورجعوا صدّقوا وآمنوا، ولكن حيث لا ينفع التصديق ولا الإيمان، حيث لا ينفع الإدراك الآن للحقيقة ولا ينفع الندم.

قال تعالى: (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا (38)) فهم على اطّلاعٍ عندئذٍ على الحقيقة (لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [ق:22] إذًا فالخلَّاق يُمِدُنا في الآخرة بسمعٍ وبصرٍ أقوى من هذا السمع الذي معنا في الدنيا، ومن هذا البصر الذي معنا في الدنيا لنستوعب به شؤون القيامة -لا إله إلا الله-.

(أَسْمِعْ بِهِمْ) يعني ما أسمعَهم، ما أقوى سمعهم في ذاك اليوم.

(وَأَبْصِرْ) يعني ما أقوى بصرهم، وأحدّ بصرهم في ذاك اليوم (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [ق:22].

(أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا (38)) في يوم المجيء والمرجع، لكن المشكلة عندهم في هذا العمر القصير؛ عمر الاغترار وعُمر الزور.

(لَٰكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (38))، (لَٰكِنِ الظَّالِمُونَ) أشار من أوصافهم إلى ما به حُرموا السمع والبصر، السمع المُفيد لأخبار الحق وما أوحاه إلى نبيه، والبصر المُفيد للهدى والنور الذي بَعث به صفيه ﷺ، فهو نور (قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ) [المائدة:15]؛ 

  • نور: محمد

  • وكتابٌ مبين: القرآن 

(قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ) [المائدة:15]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا) [النساء:174] حتى برز نوره إلى عالم الحِس، وعند ولادته أشرقت الأرض بنوره، قال له العباس

وأنت لما ولدت أشرقتِ *** الأرضُ وضاءَتْ بنوركَ الأفقُ

صلى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم، فكان نورًا.

وتقول مرضعته حليمة: لم يكن لنا مصباح في الليالي المُظلمة في البادية عندنا، قالت أنَّه كنَّا في البادية نكتفي بضوء القمر أيام البدر ونتخذ لنا مصابيح لغير أيام القمر، لكن الأيام التي كنت أُرضع فيها محمدًا، لم يكن لنا مصباح في الليالي المُظلمة إلا نور وجههِ ﷺ، إلا نور وجهه ﷺ! فكانوا يُشاهدون الأشياء بنور وجهه الكريم.

كيف وقد جاء أن السيدة عائشة شاهدت بنور وجهه المِخيَط الذي سقط من يدها، وكانت تخيط ثوبًا في وقت السَّحَر، بينما تخيط انطفأ المصباح وسقطت الإبرة من يدها، فأخذت تبحث، تبحث أين هنا، هنا، هنا، تتلمس؛ ما جاءت عليها، صادف أن جاء ﷺ، لمَّا فتح الستارة أشرق نور وجهه فرأت الإبرة، رأت الإبرة فحملتها والتفتت إليه، سلّم فترد السلام عليه، قالت: "ما أضوأ وجهك يا رسول الله" قال: ماذاك؟ قالت: كنتُ أبحث عن المِخيَط وقد انطفأ السراج فلم أهتدي إليه، فلمَّا فتحت الستارة أشرق نور وجهك فرأيت الإبرة من نور وجهك".

قال: "الويل لمن لا يراني يوم القيامة يا عائشة"، الويل لمن لا يراني يوم القيامة يا عائشة.

(فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَٰكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (38)) قالت: ومن لا يراك يوم القيامة، قال: "من ذُكِرْتُ عندَه فلم يُصَلِّ عليَّ"، يا رب صلِّ عليه وعلى آله وأصحابه وأهل حضرة اقترابه من أحبابه -صلى الله وسلم عليه وعلى آله -يعني مَن لم يكن يَحمِلُ قلبه مشاعرَ نحو خُصوصيتي ومَزِيَتي ومَحَبتي ومَودتي؛ يَسمعني أُذكَر ولا يَهتز لِلصلاة عَلي، يارب صلِّ على سيدنا المصطفى محمد واجعلنا من أكثر أمته صلاةً عليه، واجعل صلواتنا عليه مقبولةً عندك وبارك لنا فيما تُصَلي على من صلى عليه.

(لَٰكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ (38)) قال: بسبب ظلمهم لا يبصرون الآن، فَهُم (فِي ضَلَالٍ) خطأ واضح بَيّن؛ مُبين.

(فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (38)) دُعاة الإلحاد، دُعاة الإفساد، دُعاة المخدرات ونشرها، دُعاة الشذوذ الجنسي، دُعاة تبرج المرأة وإبراز زينتها لِفتنة المجتمعات (فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)؛ لأنهم لا يَسمعون ولا يُبصرون، لا يَسمعون الهدى ولا يُبصرون الحقيقة؛ لأنهم عَبيد شهواتٍ وأهواء، استحوذ عليهم إبليس وأنساهم ذكر الله، وظنوا أن المقصودَ هي الدنيا وحدها ولا يؤمنون بما سوى ذلك.

قال تعالى: (لَٰكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) في حياتهم الدنيا في ضلال؛ في خطأ مبين، لا يُبصرون الحقيقة.

(أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَٰكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (38)) فالظالمون على ظَهرِ الأرضِ ظلموا أنفسهم ودَعوا إلى الضلال، ودعوا إلى الخبال، ودعوا إلى الجراءة على الموجِد ذي الجلال -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-، ودعوا إلى التكذيب بالإِنباء والإرسال (لَٰكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ).

(وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ (39)) قُل لهم سينكشف الغطاء وتدركون الحقيقة، وتَعظُم حسرتكم في ذاكم اليوم (إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ (39))، وحُكِمَ للمصدقين المؤمنين بدخول الجنة والخلود فيها، والمكذبين الكافرين بدخول النار والخلود فيها (قُضِيَ الْأَمْرُ).

(وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) ما قال: إذا يُقضى الأمر، قال: (إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) لأنه مُتَيَقَّن وواقع حقيقة فكأنه قد كان، فَعَبَّر عنه بالماضي (إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ)، (أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل:1]، (إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) يعني ساعة ولحظة الأمر بالدخول إلى الجنة والنار مُتَيَقَّنة وواقعة فكأنَّها قد حَصَلَت، فيا رب اجعلنا من أهل جنتك.

(إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ)، (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ)؛ في هذه الحياة الدنيا ذا مُغتَر بِصِناعَته، وذا مُغتَر بأسلِحَته، وذا مطامِعُهُ كَسب الأموال والثروات بِكَيف ما أَمكَن، وذا مطامعه أنْ يَقود الناس وليس أهلًا للقيادة، ويفرض نفسه ليقود الناس ويدَّعي أنَّه يَعرِف مَصالِحَهُم ويَعرف فوائدهم وهو بِنفسه ما صَلُح في نفسه، هو بنفسه غير صالح في نفسه، فكيف سيصلح سواه؟ هو صاحب هُموم وصاحب غُموم وصاحب أكدار وصاحب مشاكل، بعضها أسرية وبعضها اجتماعية، ويَدَّعي على الناس أن يَقتَدوا به ويَقبَلون نِظامه الذي يَفرِضُهُ، ماعرفتَ تُصْلِّح نفسك، فتُصَلِّح غيرك كيف؟! كيف الأمر يكون؟

وهكذا (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ (39)) في غَفلَةٍ عن حَقيقَةِ مُستَقبَلِهم، بل عن حقيقة وضعهم الحالي؛ مَن خالِقُهُم، ولماذا خلقهم، ولماذا أَحلَّ هذا وحَرَّمَ هذا،؟ ضَرَرَ المُحَرَّمات لا يفقهونه، لا يعرفونه، فوائد الواجبات والمَفروضات لا يَفقَهونها؛ جُهَّال (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ)

 (وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)) بالحقيقة المُقبِلة ولا باليوم الآخر ولا بالنبي المُرسَل (إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) )

(إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا (40)) عَبَّرَ الحَقُ بالإرث؛ لأنَّ الوارِث يحتوي ما كان للمَوروثِ بعد فَنائه، قال: وَهَؤلاء كُلهمْ سَيَفْنُونَ، ولا يبقى لأحد نصيب في الأرض، هي مُلكُنا من قَبل ومِن بَعد، وإذ بانتهاء صورة المُلك لِغَيرِنا وَرِثناها، (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا) وَهُم نَفسهم الذين عليها.

(نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا) مِن صَغيرٍ وكَبير، وغَنيٍ وفقير، ومأمورٍ وأمير، ومَلِكٍ ومَملوك (نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا) كُلُهُم يَرجِعون إلينا، كُلُهُم يَنتَهون، كُلُهُم يَفنون، كُلُهُم يَموتون.

(وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ)، لا أحد منهم سيرجع لا إلى الدُّنيا، ولا إلى المُلوك الذين فيها، ولا إلى حُكوماتِها، ولا إلى الأحزاب، لا أحد يرجع إلا إليه، مَرجِعهُم إلينا (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم) [الغاشية:25-26]، (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) [المؤمنون:115-116] ما خَلَقَ الوجُود هكذا عَبَثَ؛ لِيَعْبَثَ أهلُ الشَّهَوَاتِ بِشَهَوَاتِهِمْ وَيَعصونَ اللَّه -تباركُ وَتَعَالَى- وَ تَمْضِي الْأُمُورِ، بل وراء كل ذرةٍ حساب (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة:7-8]، (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ)، (وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ) لماذا عند ربهم؟ لأنَّه لا يوجد مرجع ثانٍ أصلًا، (رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ) [السجدة:12]، (أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا) ولماذا من البداية لا تُبصرون؟

  • فَسَح لكم الإِبصار،

  •  وأرسلَ الأنبياء الأخيار،

  •  ووضَّح لكم خَير توضيحٍ للمسار،

  •  وأخبركم عن الحقيقة وعن المَصير.

فلماذا لم تُبصِروا؟ الآن أبصرتم! كان معكم:

  •  فُرصة الإبصار التي تَنفع.

  •  فُرصة الإبصار التي تُنجي.

  •  فُرصة الإبصار التي يَفوز أصحابها.

فَضَيَّعتموها، أمَّا اليوم فالكُل يُبصر، لم يعد أحد لا يُبصر، نحن في القيامة خلاص، إنَّما يحاسَبون على ما كانوا عليه في الدنيا، وإلا لا أحد في ذاك الوقت مُشرك ولا أحد مُلحد ولا أحد كافر، أمام أعينهم كل شيء، الله الحاكِم ورُسُله الصادقون -الله أكبر-، (قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا) [يس:52] ، تقول الملائكة (هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) هل أحد باقي ملحد فيهم؟! أحد باقي مشرك فيهم؟! أحد باقي فيهم منكر للدين؟! لكن لم يعد ينفع إيمانهم (فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا) [غافر:85] لم يعد ينفع الإيمان، كان ينفع الإيمان في الفرصة التي أعطاهم الله إياها.

فهذه الحقيقة التي يجب أن يُدركها كل عاقل، مكوّننا ورافع السماء من فوقنا وماهد الأرض لنا، ما تركنا في العمى، (قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ) [المائدة:15]، (قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا) [الأنعام:104] -الله أكبر-.

اللهم اهدنا وبَصِّرنا، واجعلنا مِمَّن يؤمن الإيمان القويَّ النافع، ومِمَّن يُبصِر الإبصار القويَّ النافع، ومِمَّن يسمع السماع القويَّ النافع، يا أرحم الراحمين.

(إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ (41)) قل لهم قد جاء أنبياء من قبلي، وناس قد تَشَبَّثوا بِكُفرهم، وناس تشبّثوا بِآرائهم الضالة وخالفوا الأنبياء وانتهوا، وأنا واحد من الأنبياء خاتمهم -جِئتكم- وسيَّدهم ﷺ.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا (41))، (صِدِّيقًا)، (صِدِّيقًا) عظيم الصدق، عظيم التصديق لكل ما أوحيناه، عظيم الصدق في أقواله وأفعاله وأحواله ونياته ومقاصده، خَير الخَلق بعد نبينا محمد؛  إبراهيم الخليل.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا) كل الأنبياء صِدِّيقون ولكن مَراتِبهم تَختَلِف، وليس كُل صِدِّيق نبي، بل الصدِّيقون من الأولياء أفضلُ الخَلق بعد الأنبياء، قال تعالى: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ) [النساء:69]، عموم الصالحين والشهداء بعد الصدِّيقين، والصدِّيقين فوقهم،

الأنبياء كلهم صالحون وكلهم صدِّيقون، والصدِّيقون كلهم صالحون، والشهداء كلهم صالحون، لا يكون شهيد إلا وهو صالح؛ لأنَّه ليس من شهيد إلا من مات وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهذا صالح، إذًا كلهم صالحون،

  • ولكن عموم الصلاح ما يُوصِل إلى رتبة الصلاح مع الشهادة

  • وعموم الصلاح مع رتبة الشهادة ما تُوصِل إلى رُتبة الصدِّيقية، الصدِّيقية فوق، ولَيَوَدَّنَ رجالٌ قُتِلوا في سبيل الله شهداء أن يبعثهم الله علماء؛ لِمَا يرون من مكانة العُلماء والصدِّيقين؛ مكانتهم فوق! 

  • ورُتب الصلاح مع خصوص الشهادة ومع الصدِّيقية لا تُوصِل إلى رتبة النُّبوة، النُّبوة فوق؛ ولهذا صدِّيقية الأنبياء غير صدِّيقية الصدِّيقين من غير الأنبياء، كلُّهم صدِّيقون.

والصدِّيقون غير الأنبياء مختلفون في مراتب الصدِّيقية؛ ولهذا يقولون الصدِّيقية الكبرى، أعاليهم وأكابرهم من الأولياء: أهل الصدِّيقية الكبرى، وصدِّيقون دونهم، ولكن أهل الصدِّيقية الكبرى من الأولياء دون الأنبياء، فصدِّيقية الأنبياء فوق -عليهم صلوات الله وتسليماته-، وكل نبيّ صِدِّيق (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) [يوسف:46].

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا (41)) من خِيار الأنبياء، بل هو أفضل الأنبياء بعد نبينا محمد، جاء بِمُهمته في الحياة وما قام به من الدعوة لقومه، إلى آخر ما ذَكَرَ الرحمن من الأمر العظيم الذي هو زبدة ما في هذه الحياة من خير ومن شر، ومن إيمان وكفر، ومن ضلال وهدى.

فيا ربِّ ثبتنا على الحق والهدى ** ويا ربِّ اقبضنا على خير ملةِ

يا أرحم الراحمين، اللهم أعِذنا من الحسرة يوم القيامة، قالوا: والحسرة تَبلُغُ ذَروَتَها في ساعة ذبح الموت، تَبلُغُ الحَسرَةُ ذروتها بالنسبة للمُتَحسرين، كما تَبلُغُ الفرحة ذِروتها في تلك الساعة؛ وذلك أنَّهُ كما جاءتنا الأخبار في الصحيحين وغيرها عن ذبح الموت أي: عن إعلام الله أهل الجنة وأهل النار أنَّه لا يُريدُ إماتة أحد منهم أبدًا، فهم يَخلُدون بإبقائه -جلَّ جلاله-، هذا معنى ذبح الموت، فتتصوَّر لهم هذه الإرادة والموت المعنوي بصورة الكبش الذي يأمر الله -سبحانه وتعالى- عبده يحيى أن يذبحه، فبعد أن يُنادي المُنادي، ويقول: يا أهل الجنة، فلا يبقى أحد من أعلى الدرجات في الفردوس الأعلى إلى أقل أهل الجنة منزلًا إلا نَظَر وإلا استمع، وينادي المُنادي: يا أهلَ النار، فلا يبقى أحد من أهل النار مِن أَخَفِّها من جهنم إلى أبعدها قعرًا إلا نَظَر واستمع، "هذا هو الموت"، فينظرون إليه وهو بصورة الكبش، أتعرفون ما هذا؟ هذا هو الموت، فَيُذبَح إعلانًا أنَّ الله أرادَ أن لا يُميت أحدًا من أهل الجنة ولا يُميت أحدًا من أهل النار، بل يُبقيهم بإبقائه -جلَّ جلاله-. 

قال: فيزداد أهل الجنة فرحًا إلى فرحهم، وأهل النار حُزنًا إلى حُزنِهم، قال: فلولا أنَّ الله كتب لأهل الجنة الحياة والبقاء لماتوا فرحًا -من الفرح-، ولولا أنَّ الله كتب لأهل النار الحياة والبقاء لماتوا حزنًا من قوله: لا موت، اخلُدوا؛ يقول لهؤلاء اخلدوا مُنَّعَمين، ولهؤلاء اخلدوا مُعَذَبين، قال: لو كان أحد ممكن يموت في الآخرة، فأهل الجنة يموتون من شدة الفرح، وأهل النار يموتون من شدة الحزن، ولكن لا لهؤلاء موت ولا لهؤلاء موت، لا موت بعد ذلك؛ فرح ما له حد وسرور ما له غاية.

اللهم لا تحرمنا هذا الخير وهذا النعيم الكبير يا كبير، يا من يُعطي ولا يُبالي، يا أرحم الرحمن، وكما جمعتنا وأحبابنا والمستمعين إلينا في هذه الدار على تأمل كتابك وخطابك فاجمعنا في زمرة سيد أحبابك، في دار اقترابك ودار إكرامك وعطائك بلا حساب، ولا تُفارِق بيننا في ذلك المآب، يا ربّ الأرباب يا الله، يا كريم يا وهّاب يا الله، يا خير من أجاب وأعظم من استجاب، يا الله.

إنَّا ندعوك، فإذا جَمَعتَ أهل الجنة (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) [الطور:25-28] فإنَّا ندعوك يا برُّ يا رحيم، أنْ تَمُنَّ علينا وتَقينا عذاب السموم، اللهم مُنَّ علينا وقِنا عذاب السموم، ندعوك فاجمعنا في دار كرامتك واجعل ذلك من غير سابقة عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا حساب ولا توبيخ ولا عقاب، يا رب الأرباب، ويا أرحم الراحمين.

بسرِ الفاتحة

وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه،

الفاتحة

 

تاريخ النشر الهجري

26 ربيع الأول 1446

تاريخ النشر الميلادي

29 سبتمبر 2024

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام