(535)
(339)
(363)
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الأنبياء
{ أم اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)}
مساء الإثنين 12 محرم 1447هـ
الحمد لله مُكرِمنا بالوحي والتّنزيل، على لِسان خير هادٍ ومُعلّم ودليل، سيّدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وصحبه خير جِيل، وعلى مَن تبعهم بإحسان في النّية والقصْد والفعل والقِيل، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين أهل التّكريم والتّبجيل والتّفضيل، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقرّبين، وعلى جميع عباد الله الصّالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
أما بعد،،،
فإنّنا في نعمة تأمّلنا لكلام ربّنا وخالِقنا وإلهنا الواحد الحقّ -جلّ جلاله وتعالى في علاه- انتهينا في سورة الأنبياء إلى قوله جلّ جلاله وتعالى في علاه: (أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَٰذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ (24))، الحقُّ -جلّ جلاله- خلقنا على هذه الهيئات، أخْرَجَ كلّا منّا من بطن أمّه لا يعلم شيئًا، وما طريق اكتساب العلم إلا حُسن النّظر واستعمال ما آتانا الله من طاقة عقل، وما يترتّب عليه من إدراك وفهم ووَعْي، وآلاتٍ من أسماع وأبصار مُعِينات على الوصول إلى إدراك الحقائق، وكلّ الدلائل لكلّ مُنصِف وعاقل تُحتّم بما أوتي من عقل -إذا أحسن استعمال هذا العقل- أنّه:
فهذا أمر يُدرَك بالعقل ويُدرَك لكلّ مَن أحسن استعمال العقل؛ ومع ذلك، فعزّز الله تعالى بإنزال الكُتب وإرسال الرُّسل، ولا يَجِد مَن اتّخذ له إلهًا سوى الله، مِن حجّة ولا برهان ولا دليل قط.
(أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ.. (24))، كيف عرفتم أنَّ هذا إله؟ ما معنى الألوهيّة عندكم؟ ماذا خَلَق من الأرض؟ ماذا خَلَق من السماء؟ متى شارك في إِيجَادكم وخَلْقِكم؟ -أيّ شيء كان- سواء صنمًا أو شمسًا أو قمرًا أو بقرة أو عِلمًا أو إنسانًا، يكون ما يكون، كيف يُثبَت أنّه إله؟ كيف؟! كلّ مَن ادُّعِيَت له الألوهية؛ آثار الإيجاد والإحداث عليه بادية، وآثار العَجْز عنده عن أشياء كثيرة يُريدها لا يستطيع عليها واضحة، وفيها ممّا اتُّخِذ لهم ممّا لا يَسمع ولا يُبصر ولا يَتكلم، فما معنى إله؟ هذا لُعبة، هذه ضُحكة، هذه مسخرة! ما معناه؟ لا إله إلا الله جلّ جلاله وتعالى في علاه.
(قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَٰذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي.. (24))
هل في شيء منها أنّ مع الله إلهًا؟ أنّ مع الله شريكًا آخر؟
(هَٰذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي.. (24)).
(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ (24))، وكان الواجب على مَن لا يعلم أن يبحث عن العلم ويتّصل بمَن يعلم ليأخذ منه العلم؛ ولكن لا يعلم وهو في نفس الوقت مُعْرِض، لا يريد أن يتعلم، فكيف يُعلَّم؟!
تَعَلَّمْ فَلَيْسَ الْمَرْءُ يُولَدُ عَالِمًا *** وَلَيْسَ أَخُو عِلْمٍ كَمَنْ هُوَ جَاهِلُ
(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [الزمر:9]
يأتون للقضايا الصّغيرة في حياتهم الدّنيا: هندسة وصِحّة وبناء وزراعة، يقولون هذا علم، وما يمكن من نفسك أن تتلقاها، لا بدّ أن ترجع إلى أسس وترجع إلى علماء تتلقّى منهم، ولا أحد يأتي من نفسه إلى وسط بيته ويقول: "أنا مهندس ويصلّح، لي فكري وعندي عقل، وأنا مهندس، تعال سأصلّح لكم الأجهزة"؛ لا بد أن تذهب إلى المختصين.
في الأمور الحقيرة القصيرة، يحترمون العلم و يرجعون إليه، والقضايا الكبرى: مَن خلقنا؟ ولماذا؟ وإلى أين نرجع؟ لُعبة، كيف لُعبة؟! هذا الأحقّ بأن يُهتم به، وأن يُرجع فيه إلى مَن يعلمه، ونجد أنّ الإله الحقّ بنفسه أنزل الكتب وأرسل رسلًا، ويُخاطبنا: "أنا الله ربكم الذي خَلَقْتُ".
فهل عند مَن ادُّعِي أنه إله مع الله، أرسل رسول؟! الذي يقول الطبيعة، والذي يقول لا أعلم -هو الذي قال الطبيعة لو ناقشوه فيها لتلعثم وتخربط- والذي يقول صنم، والذي يقول شمس، والذي يقول بقرة، والذي يقول قمر، والذي يقول العلم.. قُل له: أرسل إليك مَن إنّه ربّك؟ أُرسل إليك مَن؟ ما تكلّم؛ هذا الله أَرسل، من أيّام آدم قال: أنا الله، (رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام:164]، أين هذا لمّا الله أرسل؟! قال: "أنا رب كل شيء"، ما باله ساكت؟! أهو أخرس؟ أو هو لا يعرف؟ ليس بإله هذا!
و بينما صمت الوجود كله، الله وحده أرسل يقول: "أنا الله رب كل شيء"؛ فلو كان غيره أرسل، سنقول له؛ قم! ما لك؟ يَسلب منك كل شيء وأنت أبلَه!
ما في إله غيره أصلا، ما في إله غيره، لو في إله غيره، سنقول له: كيف هذا يأخذ منك كلّ شيء وأنت ساكت؟! يرسل يقول: أنا خَلَقتكم وخلقت كلّ شيء؛ ولو واحد ثانٍ قال:" لا لا، أنا الذي خلقت"، لا يوجد واحد قال هكذا، ولا يوجد رسول جاء من عند أحد إلّا من عند الله، الله الذي أرسل الرّسل وأنزل كتبه قال: "أنا ربّ كلّ شيء".
وهذا الإله الحقّ يُحَدِّثنا عن خلقه وعن إيجاده وعن حكمته في الخلق ومُراده، وعن مَردّهم ومَآلهم؛ فمن أين نأخذ العلم بهذا إن لم نأخذه من عند المُكوِّن الخالق نفسه -جل جلاله وتعالى في علاه- لكن مُشكلتهم لا يعلمون الحقّ، والمشكلة الكبيرة مُعرِضُون.. تعالوا اسمعوا! الحق يُبيَّن، يوضَّح من قِبل الحقّ على أَلْسِنَة الرُّسل؟ اسمعوا وأنصتوا:
المسألة إن الدلائل كلها تدل على أنه الواحد جلّ جلاله لكل عاقل، (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ ..(25))، أيّ رسول كان، وهم كثير من فضل الله تعالى،
(إِلَّا يُوحَي إِلَيْهِ)-وفي قراءة (إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)). هذا كلام المرسلين كلّهم، من آدم إلى النبي الخاتم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم؛ (إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) قوموا بِحَقِّ العبادة لهذا الخالق المُنعِم المُتفضِّل الذي آتاكم الأسماع والأبصار والأفئدة لعلّكم تشكرون، وبسط لكم الأرض ومهّدها لكم.
قولوا لي: هي حكوماتكم مهّدتها أو أحزابكم مهّدتها أو جِنُّكم مهّدوها؟ مَن مهَّد الأرض لكم؟ ومَن رفع السّماء من فوقكم؟ الله أكبر!
قال: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا.. (26))، الرَّحْمَٰنُ، الإله الحقّ، الخالق، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى:11]، يَتّخِذ ولدًا؟ ما هذا الكلام؟ كيف يجيء؟ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) [الإخلاص:1-4]؛ اتخاذ الأولاد هذا شُغل الأجسام المخلوقة المُكوَّنة بهذه الصورة من بني آدم ومن الجانّ ومن الحيوانات، كيف الألوهية تأتي من الولادة؟! كيف تجيء؟! هذه لا تتركب مع أحد.
(وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ (26))، جلّ وتقدّس وتطهّر عن أن يَلِد أو أن يُولَد، (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) [الإخلاص:3-4]،
(سُبْحَانَهُ) بل قال بعض اليهود وبعض قبائل من العرب إن الله صاهر الجن وبناته هم الملائكة -نعوذ بالله-؛ وجاءت جماعة من النّصارى قالوا: عيسى ولد الله، وابن الله، وإنّهم ثلاثة: الأب والابن والرّوح القدس؛ كلام ما يُمكن للعقل السليم أن يقبله.
يقول: (بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ (26)) الملائكة الذين تتكلّمون عنهم، هؤلاء ليسوا أولادًا، هم أنفسهم لا يَتَوَالَدون، هم أنفسهم لا يَتَناكحون، هم أنفسهم مخلوقون من نور، لا يأكلون ولا يشربون ولا ينامون ولا يتناكحون و (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم:6].
(بَلْ عِبَادٌ .. (26))، خلق الله عبادا، عيسى عبدٌ لله،
قال: (بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ (26))، أُكرموا بقربٍ من الله، ومعرفة بالله، ومحبّة من الله ومحبة لله، ورضوان من الله، ورضوان عن الله، (مُكْرَمُونَ)، تنزهوا عن المعاصي وعن الذّنوب.
(بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ)، لا يتقدّمون عليه في شيء ولا يقولون إلّا ما شَرَع لهم وما علّمهم، (قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا) [البقرة:32].
هكذا شأن الملائكة، ومن دونهم (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27))، معصومون، لا يُخالفون أمر خالقهم قط.
(يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ.. (28)) ، الله مُحيط بهم، بِخَلقهم وتَكْوِينهم، وما كان قبل ذلك وما كان بعد الخَلْق، ما بين أيديهم، يعلم بهم وبكلّ شيء قبل خلقهم ومن بعد خلقهم، وما خلفهم، (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ)، وما أمامهم من المُستقبل وما مَضى قبلهم (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ).
((يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ.. (28))، قال: لهم وَجَاهة عندي ومكانة، وقد شفّعهم في أحد منكم، معشر بني آدم والجنّ العصاة، فأغْفِر لهم بسببهم وبشفاعتهم، لكن بارتضائي؛ لا مَلَك ولا نبيّ ولا عالم ولا شهيد يشفع من دون إذن الله، من دون ارتضائه؛ فكيف الكلام؟
ولهذا فالله لا يقبل شفاعة الشّفعاء في الكفّار الذين ماتوا على الكفر؛ مَن مات على الكفر قال تعالى: (فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر:48]؛ إذن؛ إلّا لِمَن ارْتَضى؟ مَن مات على لا إله إلا الله.
(وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ.. (28))، يعني يشفعون لمَن أذن الله لهم، يشفعون فيهم ممّن مات على التّوحيد، ممّن مات على لا إله إلا الله، هذا الذي ارتضاهم، مَن مات على غير لا إله إلا الله، لا يقبل الله فيه شفاعة، لا يقدر أحد يشفع فيه.
وهكذا، إلا ما جاء من التّبع في خصوصية الشفاعة العظمى لمحمّد ميَّزهُ الله بها، ينتفع بها أهل الموقف كلهم؛ مؤمنهم وكافرهم، لكنّ هؤلاء تبع للمؤمنين؛ ولكن لا يشفع لهم أن لا يدخلوا النار، ولا أن يُخفَّف عنهم عذاب النار، لا يشفع لهم في هذا ﷺ، ولكن في المقام المحمود، نعم، شفاعة تشمل الكلّ، سبحان الله الذي أعطاه: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) [الإسراء:79] يحمده الأولّون والآخرون، ترتفع الشمس من فوق الكل، المسلمون والكفار، كلهم يتمنّون رفع الشمس فترتفع، ولكن ينتقلون إلى أرض الحساب، لكن خلود مَن مات على الكفر في النّار لا أحد يشفع فيه، لا سيّد الشّفعاء محمد ولا غيره من الشفعاء، صلى الله عليه وعليهم أجمعين.
فهنا في الآيات والنّصوص إثبات الشّفاعة لمن يُشفّعهم الله بإذنه، فلا يتأتّى إنكار الشّفاعة، فإنكار الشّفاعة كُفر، وفيها أنّ كل تلك الشّفاعات ما تكون إلا بإذنه.
لا يجيئون بعد ذلك أناس مِن أنفسهم يتّخذون لهم آلهة من دونه ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله؛ هل أخبرنا الله أن هؤلاء الأصنام المعبودة من دونه تشفع؟! ويأذن لها في الشّفاعة؟! لا هي محلّ شفاعة، ولا يُؤذن لها في الشفاعة، وإنّما الشّفعاء بحسب ما يأذن الله لهم يشفعون، الشهيد يشفع في سبعين من أهل بيته؛ الشهيد إذا مات قُتل في سبيل الله ولم تكن له قصد ولا نيّة إلا أن تكون كلمة الله هي العليا، وهذا الذي يجب أن يتعلّمه المؤمنون في كل وقت، وفي وقتنا خاصة، حروب وكروب واعتداءات وظُلم باسط اليد فيه، ولن يكون المَخرج إلا بالرّجوع إلى الله، وأن يُوجد على ظهر الأرض مَن يُقاتلون ولا قصد لهم إلا أن تكون كلمة الله هي العليا. ومتى وُجِدوا هؤلاء فمِفتاح الفرج عندهم، وبسببهم يفرّج الله تعالى عن المؤمنين، أن لا يكون لهم قصد؛ لا سلطة، ولا جاه، ولا مال، ولا شهوات، ولا شيء في العالم إلّا أن تكون كلمة الله هي العليا.
فالله يُلهم مَن يقاتل المعتدين من الكفّار والفجّار، يُلهم جميع المقاتلين من المسلمين أن يُخلِصوا نيّاتهم ومقاصدهم، ولا يكون لهم قصْد إلا أن تكون كلمة الله هي العُليا؛ إذا وُجد هذا، فالنصر موجود ورفع البلاء يكون بإذن الله تبارك وتعالى، ولا يكون شيء إلا بإذنه، كما لا تكون الشّفاعة إلا بإذنه.
"فمَن قُتل في سبيل الله وهو يُريد إعلاء كلمة الله، يُشفَّع في سبعين من أهل بيته" -يعني من قبيلته-"كلهم قد وجبتهم" -يعني استحقّ دخول النار بذنوبه ومعاصيه- "وهو مؤمن"، يعني مات على الإيمان وعنده ولو ذرة من إيمان، فبشفاعة هذا الشّهيد يعفُو الله عنهم فلا يدخلون النار، واحد، اثنين، ثلاثة... سبعين للشهيد الواحد، هذا الأقل.
فإن كان شهيدًا من المقربين والصديقين: النّبي ّيقول في سيدنا أُوَيْس إنه يشفع في عدد كربيعة ومُضَر، من أكبر قبائل العرب، ملايين، ربيعة ومضر، أكثر قبائل العرب هُم، أكثر عدد العرب، هذا واحد يشفع فيهم -أُوَيْس- وجاهة له عند الله تبارك وتعالى، وهكذا يشفّع.
فكيف شفاعة الأنبياء، فكيف شفاعة سيد الأنبياء؟ ولكن كلّهم بإذنه من غير شك، فلا يمكن إنكار الشفاعة، ولا يمكن لأحد أن يخترع من رأسه ويفرض الشفاعة على الرّبّ، يا مجنون! لا أحد يقدر يشفع إلا بإذنه، وهؤلاء الشفعاء، (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ.. (28))، ويقبل الشفاعة فيمن مات على لا إله إلا الله، هذا الذي ارتضاهم، أما مَن مات على الكفر، قال سبحانه وتعالى: (فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر:48].
يقول جلّ جلاله في سورة المدثر، حين يسألون المشركين: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ)- ما الذي أدخلكم وأوصلكم للنّار؟ انتم جماعة كان فيكم ناس يُسمّون عباقرة، كان فيكم ناس متقدّمين، ما الذي أوصلكم إلى هنا؟ (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ) لنا كلام! ويكذبون ويخدعون، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ)- ما نحن مصدقين أصلا، لا بالقيامة ولا بالآخرة -يعني كفّار- فما تنفعهم شفاعة، (حَتَّىٰ أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر:42-47]، موت، ورأينا الحقائق، وماهي إلّا التي قالها محمد و التي قالوها الأنبياء.
وفي القيامة إذا أُغشي عليهم في النفخة الأولى، بُعثوا في النفخة الثانية، ويقومون من قبورهم ويقولون: (يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا) -تقول الملائكة- (هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) [يس:52]؛ مخطّطونكم كلامهم كذب كله ؛ الكلام كلام الأنبياء، ما الذي قال لكم الأنبياء؟ (هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)، صلوات الله وسلامه عليهم.
فهؤلاء وحدهم أتباع الأنبياء؛ والمؤمنون، يقول ﷺ: بقدر وجاهته عند الله، الرجل يشفع في الرهط، والرجل يُشفع في القوم، والرجل يُشفّع في قبيلة، والرجل يشفّع في الرجل الواحد، والرجل يُشفع في نفسه؛ والشفاعة العظمى لمحمّد ﷺ. حتّى كل هذه الشفاعات ما يأذن الله بفتحها حتى يسلِّم المفتاح لمحمد ويقول: "أنا لها"، وبعد ذلك تجيء الشفاعات كلها من بعده، يا رب صلِّ عليه وارزقنا حسن المتابعة.
يقول: (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُم) -أي الملائكة- (مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28))، يبكون ويخافون لأنهم عرفوه، وكل من عرف الله لا بد أن يخشاه، وكلّ مَن عرف الله لا بد أن يرجوه، وكلّ مَن عرف الله يطمع فيه، وكلّ مَن عرف الله يعلم أنه لا شيء أخوَف عليه في الدنيا والآخرة منه، هو؛ لأن الأمر أمره، والحكم حكمه، وهو الذي إذا رضي عليك يا فوزك، الفوز الأكبر الأبدي، وإذا غضب عليك فيا خَيْبتك، خيبة الأبد، وما أشقاك! فالأمر أمره، فمَن عرفه لا بد أن يخافه، ومَن عرفه لا بد أن يرجوه، جل جلاله، ويطمع فيه سبحانه وتعالى.
(وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ)-سواء -على فرض- من الملائكة وهم معصومون لن يقولوه، أو من غيرهم من جميع الخلق مثل إبليس وغيره-(إِنِّي إِلَٰهٌ مِّن دُونِهِ فَذَٰلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29))، الذين صَرَفوا الألوهيّة والرّبوبيّة لغير أهلها، وهو الله وحده؛ فمَن ظلم وصرف الألوهيّة لغير الله تعالى، فيستحِقّ جهنّم ويَخلُد في جهنّم كائنًا مَن كان؛ وإنّما يكون هذا من المُكلّفين من الإنس والجنّ، أمّا الملائكة فمعصومون، وأمّا مَن وفّق الله من المؤمنين ومات على الإيمان فمآله الجنّة، والله يُدخِلنا جنّته بغير حساب.
(وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَٰهٌ مِّن دُونِهِ فَذَٰلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)) وهذا أكبر ظُلم، أن تَصرِف الألوهية عن مَن يستحقها إلى مَن لا يستحقها، أن تَتّخِذ إلهًا دون الله سبحانه وتعالى، هذا أعظم ظلم، (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان:13] كما قال الله -جلّ جلاله-.
(كَذَٰلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا .. (30)) فَكِّروا؛ مَن الذي رفع السّماء بغير عمد؟ مَن الذي سطّح لنا الأرض وهيّأها بهذه التّهيئة؟ (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا) -هل شيء من شركاتهم تعمل صيانة للسماء؟ في صيانة؟! وهذه القرون كلّها وألوف السنين كيف ثابتة؟! ثبات! (سَبْعًا شِدَادًا * وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا) -والسنين هذه كلّها، ما حصل له شيء ولا نقص ضوءه، ولا نقص- (سِرَاجًا وَهَّاجًا * وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا) [النبإ:6-16] آيات بديعة، هو الذي رتّبها أو شركة رتّبتها أو حكومة رتّبتها؛ هو في أحد غيره؟!
قال: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا.. (30))؛ أي بدأنا خلقها بشيء مُتلاصِق، سماوات وأرض، بعد ذلك فصل بينها رفع السماوات وشقق الأرض جلّ جلاله وجعل فيها بحارًا وجعل فيها أنهارًا وجعل فيها عيونًا وجعل فيها نباتًا، والسماوات كذلك، فيما بينها البين، وجعل منها ملائكة ينزلون ويطلعون، تصعد فيها الأعمال.
(كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا .. (30)).. يتحدّثون المُتعلّقون بما يسمّونه العلم والشؤون العلميّة، وأنّ الذين بحثوا في الكون وتكوينه يقولون إنّه: كان في تلاحم بين الكائنات وحصل انفجار هائل فتوزّعت هذه الكواكب والنجوم، يقولون هكذا.. وهذا ما فيه لا رفض له ولا إيجاب له، ولكن القرآن أيضًا لا يتناقض معه.
يقول: (كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا .. (30)).. فيحتمل ذلك معاني كثيرة من الرّتق والفتْق، لكن الذين حرّفوا الإنجيل، وضعوا كلامًا عن الخلق غير متطابق مع اكتشافاتهم؛ الكلام الذي في القرآن، مهما اكتشفوا مِن أي حقيقة كونيّة أو علميّة، يجدون القرآن قد أشار إليها وهي مطابقة له، لكن هؤلاء لمّا أنّهم حرفوا كلام الله، فما عاد عندهم إنجيل، بل من عندهم، وأدخلوا بعقولهم كلامًا عن التكوين صار يتناقض مع الاستكشافات هذه والأشياء التي تحدث، ويرجعون إذا أحد يكلمهم يقولون: العقل قاصر.
ولكنّ كتاب الله هذا المحفوظ، سبحان الله، ما مِن حقيقة كونية مثبتة إلا وهي متطابقة معه، بل عامة ما يُكتشَف أشار إليه إشارة وسط الكتاب العزيز، فالحمد لله الذي خصنا بمحمد وحفظ لنا الذكر، له الحمد (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9].
(كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ .. (30))، جعلنا الحياة بالماء، وكان عرشه على الماء، وشؤون مَن شؤون الماء، تكوّن منها الأحياء؛ وإن كان خُلِق الجن من نار، نعم، ولكن مع ذلك كله، فهُم أيضًا في شؤون حياتهم بعد التكوين مُتّصلون بالماء، ما يُنفَخ فيهم الروح إلا باتّصال بشيء من الماء. مثلما نحن خُلقنا من طين، نعم، خُلقنا من طين، لكن طيننا عُجِن بالماء وتصلّب وتغيّر، صار حمأً مسنونًا، بعد ذلك صلب فصار صلصالًا كالفخّار، وبعد ذلك جاءت الروح وخُلق فيه، وكذلك الملائكة مكوَّنون من النور، والجنّ مكوَّنون من النار، ومع ذلك كلّه فعنصر الماء أثر عند تكوينهم وخلقهم وإيجادهم، جلّ الخالق سبحانه وتعالى، (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30))، كما يقول سبحانه وتعالى.
الله يُكرِمنا بفهم القرآن، والمعاني والبيان، وما بلّغ سيّد الأكوان، ويرزقنا كمال الإيمان وكمال الإيقان، نحيا ونموت موقنين، محبّين للرّحمن، محبوبين عنده، نُحِبّ لقاءه ويُحِبّ لقاءنا.
اللهم اجعل مآلنا رضوانك الأكبر والفردوس الأعلى، ولا تُعَرِّضنا للفتنة ولا للفساد ولا للضُّرِّ ولا للعذاب، يا حي يا قيوم! هَب لنا الملك الكبير الذي ما له من نفاد، وعجِّل بتفريج كروب الأمة وكشف الغمة، واجعلنا من المتواصين بالصّبر والحقّ والمُتواصين بالصّبروالمرحمة، وأنت راضٍ عنا في لطف وعافية.
15 مُحرَّم 1447