تفسير سورة الأنبياء -11- من قوله تعالى: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ.. (82)} إلى الآية 88

للاستماع إلى الدرس

تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الأنبياء  

{ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82) وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)}

مساء الإثنين 30 ربيع الأول 1447هـ

نص الدرس مكتوب:

الحمدلله مُكرِمنا بالوحي والتنزيل، وبيانه على لسان خير داعٍ وهادٍ ودليل، عبده المصطفى محمد صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وصحبه ومن سار في دربه أقوم سبيل، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل التكريم والتبجيل والتفضيل، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكة الله المقربين، وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

أما بعد،، 

فإننا في نعمة تأمُلنا لخطاب ربنا، وكلام ربنا، وتوجيه ربنا، وتعليم ربنا والهنا وخالقنا جلّ جلاله، وتنزُّله لنا في التبيين والإرشاد والهداية، انتهينا في سورة الأنبياء إلى: 

  • ما ذكرَ الله -تبارك وتعالى- النبي أيوب، بعد أن مرّ ذكْر داود وسليمان بن داود. 
  • وما سخّر الله لهم، وما أجرى على أيديهم جلّ جلاله. 
  • وما جعل لهم من الشياطين من يغوصون له ويعملون عملًا دون ذلك، يغوصون له في البحار ويأتون بالجواهر. 

(وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَٰلِكَ)، وعملًا دون ذلك: (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن محَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِي وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ) [سبأ:13]. 

قال: (وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82))

  • قائمين عليهم بتنفيذ هذا الأمر في طاعة النبي سليمان -عليه السلام-. 
  • وحَفظهم الحق تعالى من آفات تنْزل عليهم؛ لكونهم في حالة خدمة لنبيه، وفي حالة أداء مُهمة تتعلق بنبيه. 

وهكذا من كان يَخدم محبوبًا عند الحق -تبارك وتعالى- فإن: 

  • الحق يُحيطه بِحفظ من عنده وبعناية من عناياته جلّ جلاله، (وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ). 
  • حتى وهم شياطين ولكن خدمتهم لهذا النبي؛ صرفنا عنهم كثيرًا من المصائب الظاهرة والآفات والعلل التي تقطعهم عن هذا العمل وهذه الخدمة.

قال جلّ جلاله: (وَأَيُّوبَ.. (83))، (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ) [ص:41]، والحق يُذكِّر سيد أحبابه بأحبابه وبأنبيائه الذين سبقوا من قبله، وذلك: 

  • لما جعل الله في هذه الحياة من عجيب تشابُه بين المُكلفين؛ أخيارهم وأشرارهم. 
  • وبين الأحوال النازلة من رخاء وشدّة، وعُسر ويُسر، ومن ضعف وقوة، ومن مرض وصحة. 
  • ومن مُقابلة الموافقين والمخالفين والمنكرين، ومن وجود أذى المؤذين. 

فهي أمور مُتكررة في العالم من أيام آدم وأولاده، تتكرر تتكرر؛ لأن المُسيِّر واحد؛ والصانع هو الصانع، وهو الفاطر المُبدئ. وهو المكوِّن، وهو المُسيِّر والمدبّر والمقدّر -سبحانه وتعالى-، حتى قال عن أقوال الكفار -في زمن النبي ﷺ- شابهت أقوال الكفار الذين قابلوا بها الأنبياء، قال: 

  • (كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ) [البقرة:118]. 
  • (مَّا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ) [فصلت:43]. 

 هو نفس الكلام يتكرر، ولم يزل أيضًا أمام دعوة الحق والهدى والخير في كل زمان وكل مكان، يُقال نفس الكلام الذي كان قيلَ أمام الأنبياء وعلى الأنبياء؛ من موافقيهم ومن مخالفيهم، يتشابه القول تمامًا.

ولهذا لما قالوا لبعض الصالحين؛ الناس يتكلمون عنك في البلد، قال: ماذا يقولون؟، قالوا: يقولون إنه ساحر، فدخل المسجد فسجد شكرًا لله، قالوا له: ولِمَ؟، قال: تُشبِّهونا بالأنبياء؟ كلما جاء نبي قالوا ساحر، والآن قالوا لي ساحر، فشُبِّهت بالأنبياء، فبشرتموني أني صِرت مُشابهًا للأنبياء فيما يقوله الناس، فَسجدتُ شكرًا لله تبارك وتعالى، لا إله إلا الله، (كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) [الذاريات:52] سبحان الله.

ولكن بالنسبة للأنبياء: 

  • لا يقول عنهم القول السيئ إلا كافر -والعياذ بالله-، لكن أتباعهم ومن بعدهم قد يأتي القول السيئ من بعض أهل المِلة نفسها وأهل الدين نفسه؛ اختبار وابتلاء وتمحيص من الحق تبارك وتعالى: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ) [الفرقان:20]. 
  • وإن في الأنبياء، أقاربهم يكون بعضهم مؤمنين وبعضهم كفار، وبعضهم يُكفُّون عنهم وبعضهم يؤذونهم، وبعضهم يشجعونهم وبعضهم ينصرونهم، وهكذا.

 فتشابهت الأمور من عدة نواحي؛ فلهذا يَذكُر الله لنبيه أخبار الأنبياء: 

  • (وإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ) [فاطر:4]،
  • (فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ) [آل عمران:184].

ويقول سبحانه وتعالى، وأن هذه حكمته البالغة في الوجود: 

  • (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا) [الفرقان:31]. 
  • يقول: (وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ) [الأنعام:35]. 

يعني أنت عبدنا، ورحمتنا  التي جعلناها في قلبك وشفقتك عليهم إلى حد تُريد إنقاذهم؛ شقّ عليك الأمر، لو كان الأمر خارجًا عن حكمتنا وأنت تستطيع أن تدبِّر شيء، تتخذ نفقًا في الأرض أو سُلّمًا في السماء فتأتيهم بآية، ولكن ما لك إلا ما آتيناك من الآيات وفيها الكفاية؛ 

  • قديما قال الرسل لقومهم السابقين: (وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)، (إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَا آذَيْتُمُونَا) [ابراهيم:11-12]. 
  • وقال عن سيدهم: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ) واستبان لك الأمر بوحينا وأمرنا: (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران:159].

يَقصّ الله عليه الأخبار يقول له (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ) [ص:41] دعاه وتضرع إليه وطلبه، بعد مُضي مُدة في شدائد، وابتلاء ابتلاهُ الله به، واختبار اختبرهُ الله به، والأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- محل الصبر، ومحل الشكر، ومحل التسليم لأمر العلي العظيم. 

(نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ..(83)) وذلك لشدائد: 

  • منها هلاك أهله وولده. 
  • ومنها هلاك ماله الذي كان معه. 
  • ومنها أمراض شديدة جاءته. 

أما أكثر ما يُذكر في كتب التفسير وغيرها من أقاويل الإسرائيليات: 

  • فما لها صحة فيما يتعلق بما لا يليق بالأنبياء من الأمراض في جسده الشريف؛ وإنَّه دود وغيره، كل هذا لا يصح ولا يصلُح. 
  • وأن الحق نزّه الأنبياء عن مثل ذلك وأمراضهم من أشد الأمراض، لكن ما فيها شيء يُنفِّر الطبع أصلًا. 
  • حتى أنه معصوم من مثل الجذام والبرص وكل ما ينفر منه الطبع، لا يجيء عند الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم-. 

وإن كانوا أشدّ الناس بلاءً، ولكن بابتلاءات لا تقدَح في مقاماتهم العالية، ولا تَنْحط عن مراتبهم الرفيعة بشيء يُنفر من الطباع: 

  • لأنهم مُكلّفون بِدعوة الناس إلى الحق تعالى وتَقرِيبِهم. 
  • ولا يَتَناسب أن يكون فيهم شيء يُنْفر منه الناس فيصلح لصاحبه أن يدعوهم. 

ولذلك سَلِموا عن كلِّ مُنفّرٍ طبعًا، وعن كُل دناءة، صلوات الله وسلامه عليهم.

 قال تعالى في دعائه؛ (ربِّ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) - الشدائد التي أنزلتها بي - (وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83))؛ في كمال أدبهِ وصبرهِ، يقول؛ الضر مسني، وأنت  (أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) فيه تعريض، لم يقُل اكشف ما بي! ما قال، فقط الضر مسني، وأنت  (أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) ويكفي الكريم التلويح، لو لوَّحتَ لهُ بالفقر يكفيه، وهو الذي يتولاك، ولا أكرم من الحق جلّ جلاله. 

(إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83))، قال

  • (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ) ما يطلبه بقلبه وإن لم يُصرِّح به بلسانه أعطيناه إياه.
  • (فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ)، يعني كل ضُر. 
    • لو قال: كشفنا الضُر الذي يُحتمل، أن يكون أكثره أو بقي منه قليل. 
    • لكن (فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ) هذا في اللغة يُفيد معنى الاستيعاب، فما عاد أبقى شيء من الأضرار قط التي نازلته. 

(فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ) أعطيناه أهله؛ ارجعهم وأحياهم بعد وفاتهم، زوجته وأولاده، نفسهم رجعوا. 

  1. (وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ) أنه رجعت زوجته بإذن الله إلى شبابها وأنجبت من الأولاد مثلهم، مثل الذين من قبل.  
  2. وفي قولٍ: (وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ) أنهم من نسل أولادهم في حياتهم
  3.  والقول الثالث: آتيناه أهله في الآخرة، (وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ): 
    • أرجعنا هؤلاء في الدنيا، ومثلهم معهم في الآخرة. 
    • أو جعلناهم له إلى الآخرة، وأعطيناه مثلهم في الدنيا بأن آتيناه أهلًا وآتيناه أولادًا غيرهم. 

ولكن الذي جاء في الحديث والذي ما قاله ابن عباس وعليه الأكثرون وهو اللائق بظاهر القرآن، ردهم نفسهم الذين قد ماتوا؛ من أولاده وزوجته وعادوا إليه وأعطاهم إياه، (وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا..(84)) ومن ذا الذي يستطيع أن يرد رحمتنا؟ 

  • (ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا) [فاطر:2]، الله أكبر. 
  • (رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا) في ملاطفاتنا لأنبيائنا وأصفيائنا والمُقربين لنا. 

قال: (وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ (84)) عبرة وإيقاظ لقلوب العُبّاد في تقليبنا للأحوال، وخرْقنا لما يعتاده الناس؛ إشارة إلى طلاقة القوة الإلهية، وأن المُعتاد بوضعه كان اعتيد، وأنه سبحانه يُضيف ما يشاء ويحذف ما يشاء.

(رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ (84)) ومن ذلك ما جاء أيضًا في الحديث فيما رواه الحاكم في المستدرك أنه كان له مزرعة قد هلكت؛ إحداها فيها البُر والأخرى فيها الشعير، وكانت المزرعة كبيرة، وكان على الأندر الكبيرة، الذي كان يزرع فيها البُر، أمطر الله سحابة فأمطرت ذهبًا، وجاء في الأخرى فأمطرت سحابة فضة عليه، وكان على شكل جراد من الذهب، وأخذ يحثو. فقيل له: ألستَ في غنى عن هذا؟ قال: لا غِنى لي عن بركتك، لا غنى لي عن بركتك. 

(وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ (84))، كان أيضًا قد حصل من زوجته شيء، وصدَّقت بعض الوسوسة، فقال: لأضربنّك -إن شفاني الله تعالى- لأضربنك مائة ضربة، فقال الله بعدما أحياهم له وردَّهم: (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا)، من عذق النخل، فيه مائة شمروخ، مائة من هذه الشماريخ؛ ضربة واحدة، لكي تخرج من اليمين الذي حلفته، (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) [ص:44]. 

(وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ)، قال: (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ) [ص:41-42] فنبع الماء من تحته، واغتسل فيه وقام وما به أي عِلة ولا مرض. (وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ (84))

يَذكُرُ سبحانه وتعالى هذه الواقعة في سورة (ص)، يقول جلَّ جلاله وتعالى في علاه: (وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ)، هي هذه المئة مرة، مائة شمروخ من شماريخ العِذِق من النخل، ضربة واحدة فيها مائة؛ فقط هذه هي، (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) [ص:43-44] .

وهكذا يُذَكِّرُ الله حبيبه بالأحباب الذين مضوا من المُقَرَّبين والنبيين: (وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) [هود:120]: 

  • إذًا فمِما يحتاجه الناس على ظَهر الأرض ذِكرُ أخبار مُقَرَّبين وصالحين وعارفين؛ فإنه يفيدهم كثيرًا في تنمية إيمانهم وتوسيع أفكارهم، وتثبيت أقدامهم على سواء السبيل. 
  • ولذا كان من اجتهاد الشيطان أنه يحجز الناس ويبعدهم عن قَصَص القرآن وقَصَص الأنبياء وقَصَص النبيين، ويجيء لهم بقِصَص فجار وكفار وأشرار وفاسقين وساقطين ومُمَثلين ومغنين ومصارعين، ويَشغُل بهم، وليس في قصصهم عِبَر، لا تُصاغ على سبيل العبرة ولا على سبيل التذكير والإفادة.

إذًا فيجب أن نَعمُر عقولنا وقلوبنا بقصص الأنبياء وقصص الصالحين وقصص الأخيار، فنحن نحتاج إلى ذلك. 

ولذا كانت الأمم قبلنا، ثم نبينا محمد ﷺ، كان من جملة ما هدى به ودل عليه؛ أن الله قصّ عليه أخبار مَن قبله، وقصّ هو أخبارًا لأمته عن الأنبياء الذين سبقوه، وللأولياء الذين سبقوه.. 

  • ذَكَر لنا أصحاب الكهف، وذَكَر لنا مريم بنت عمران من الأولياء. 
  • ذَكَر لنا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون، وأرسل لهم سيدنا عيسى، وذكر لنا ذا القرنين ومن مَر عليه. 
  • وذكر لنا ﷺ أصحاب الغار الذين آواهم المبيت إلى غار، وطُبِقت عليهم الصخرة فتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم التي قد عملوها من قَبل وكيف فرّج الله عليهم. 
  • وذكر لنا جُرَيج الراهب الذي كان في الصومعة ﷺ، وذَكَر لنا الرضيع الذي تَكَلَم، وفكَّ ثدي أمه وأخذ يتكلم معها، ويدعو الله سبحانه وتعالى.

وهكذا ذَكَر لنا أخبار من أخبار الصالحين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ثم كان هذا دَيدَن الصحابة بينهم، يُذكرون: 

  • وحتى كان سيدنا علي، على المِنبر يَذكُر من مَضى قبله من الصحابة، ويَذكُر أيامه معهم وأحوالهم الرفيعة وما فَقَد بعد ذهاب أولئك، عليه رضوان الله تعالى وسلامه.
  •  وهكذا كان التابِعون وتابعو التابعين وخِيار الأمة، تجدهم إذا تجالسوا تَذاكَروا أخبار مَن قبلهم ومن سبق، وتذاكروا أخبار أخيارهم؛ الصُّبَّر فيهم والشاكرين فيهم، وأخبار الشاكرين وأخبار الصابرين وأخبار المجاهدين والمجتهدين. 

فكلها تنفع الإنسان، قال الله لأكرم خَلقِه عليه: (وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ) [هود:120]، وقال له سبحانه: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ) [يوسف:111].

يقول جلَّ جلاله: (وَإِسْمَاعِيلَ.. (85))، واذكر إسماعيل ابن إبراهيم الذي أمرنا بتركه هو وأمه عند البيت المُحَرَّم، اختبرناه به اختبار، ثم أمرناه بذبحه، وامتثل الأمر، وجاء ليذبحه، والأب ورحمته فرحان بالولد، ما جاءه إلا وهو كبير السِّن، (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) [إبراهيم:39]، ومع ذلك كلّه، أَمَرَهُ بِذَبحهِ، وامتَثَل الأمر ونودي: (وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) [الصافات:104-107]، ووهب له بعد إسماعيل إسحاق، بَشَّره بإسحاق بعد إسماعيل.

وكان أكثر الأنبياء مِن ذرية إسحاق بن إبراهيم، لكن سيدهم وإمامهم من ذرية إسماعيل، قالوا وذلك يناسب التضحية، كيف تضحية؟! 

  • وكانت تضحيته في جانب هاجر وولدها إسماعيل أكثر من تضحيته في جانب سارة وولدها إسحاق. 
  • فلما كانت التضحية أكبر في هذا الجانب، جاء الأكبر من عنده؛ سيد الأنبياء وسيدهم ومُقَدَّمهم جاء من هذه. 

وكل من بَذل لله مخلصًا لوجهه أكثر، النتيجة أكبر تأتي، من أي جانب ومن أي وجه بذل فيه لله أكثر، فالنتيجة تأتي أكبر وأكثر: 

  • (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) [الكهف:30]. 
  • (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) [العنكبوت:69]. 
  • (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ) [المزمل:20].

 قال: (وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ)، إدريس قبله، بل قَبل نوح عليه السلام.

(وَذَا الْكِفْلِ)، أيضًا المعتمد أنه من الأنبياء الذين أُرسلوا، (كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ (85))، إذًا فلا بد لنا من الصبر، والأنبياء صابرون كلهم.

وأنت أردتَ دين بلا صبر؟ أردت جنة بلا صبر؟ تريد قُربة بلا صبر؟  اعقل! هذه سنة الله تعالى، (كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا) واصبر كما صبروا، تدخل في الرحمة كما دخلوا، أي رحمتنا العظمى الكبرى الخاصة. (وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ (86)) بل هم سادة الصالحين وقادة الصالحين، صلوات الله وسلامه عليهم وعلى جميع من تبعهم بإحسان.

وهكذا يواصل الحق جلَّ جلاله ذِكرَ أولئك الأكابر، حتى ذَكَر (وَذَا النُّونِ.. (87))، أي صاحب النون، والنون هو الحوت؛ اذكر صاحب الحوت، ذا النون صاحب الحوت، أي يونس بن متّى عليه السلام، ذَهَب من قريته وبلده مُغاضِبًا لِقَومه لما رَدوا الدعوة وما قبلوها وآذوه، خرج من دون إذن بالخروج، فَعوقب وعوتب على ذلك ورجع، ولما رجع إليهم آمنوا كلهم، (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا) [الصافات:147-148]، (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ) [يونس:98].

(وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا) لقومه، وسط السفينة، حَصَلت عليهم الشدة، فقالوا: واحد منكم آبق- هرب على سَيِّدِه- وكانوا من عادتهم يعملون القُرعة، فمن تخرج عنده يقولون أنت، فخرجت القرعة على النبي يونس، ثاني مرة على النبي يونس، ثالث مرة على النبي يونس، فرموه في البحر، بمجرد ما رموه، كان الحوت منتظرهُ فالتقمهُ (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ) [الصافات:142]، وجاء الليل، والحوت غاص في أعماق البحر، إذا بها؛ ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت، (فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)).

(وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ) -أي لن نُضَيِّق عليه ولن نعاقبه- (فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ) -ظلمة الليل والبحر وبطن الحوت- (لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87))، فهي دعوة النبي يونس: "من أفضل الدعاء، دعاء أخي يونس بن متّى".

(فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)) فكل من وقعوا في شدة ورجعوا إلينا وصَدَقوا معنا: 

  • نُخَلِّصهُم منها.
  • ونُعِد لهم الأجر على ما أصابهم. 
  • ونُعَجِّل لهم فرجًا في الدنيا. 
  • والأجر أمامهم في الآخرة.

وهكذا حُسن مُعامَلِة الخَلاق لِمَن صَدَقَ مِن خَلقِه، يا رب ارزقنا الصدق معك والإقبال الكُلي عليك، والقبول التام لديك، يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين، واجعلنا ممن ترعاهم عين عنايتك في جميع الأطوار، وادفع عنا الشرور والأشرار. 

ولتشتغل الأمة بكثرة الذكر للرحمن ولرسوله ﷺ، وأنواع الطاعات؛ ففي ذلك الفرج لها والخلاص من الشدائد النازلة بها، وينادون ربهم: (لا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87))، اللهم فرِّج عنا وعن المؤمنين، بسر قولك: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)).

وكان بمناسبة شهر ربيع الأول قامت حملة "فاذكروني" للإكثار من الصلاة على النبي ﷺ، متعلقة بقناة الإرث، فصاروا يُرسلون أعدادًا للتناشط عليه وكثرة الصلاة على الحبيب العظيم صلى الله عليه وعلى آله، وهذه السنة الحادية عشر، من أول ليلة من ربيع الأول إلى مساء هذا اليوم، كل من صلى عليه وسلم يمكنه إضافة العدد عن طريق الموقع المُخصص للحملة، وتم ربط العدد الموجود بالموقع  ليظهر على الشاشة، قد كانت النية التشجيع والتذكير بالصلاة على النبي ﷺ، طمعًا في حنانته ﷺ، واستمطارًا لرحمة الله. 

  • "مَن صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرًا"، كُفيت الهموم، غفر الذنوب. 
  • "إذًا أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: إذًا تُكفى همك، ويغفر ذنبك". 

وتم بتوفيق الله خلال هذه الحملة في الشهر الذي مَضى، جَمع أكثر من مائتين وخمسة عشر مليون ومائة وثلاثة ألف، الله يقبل منهم، والذين أيضًا ما ذكروا ذلك ولا نشروا في القناة ولا في غيرها، كثير في الأرض، الله يقبلهم ويقبلنا أجمعين. 

ويجعل من سر هذه الصلاة على النبي تفريج لكروب الأمة، وغِياثًا عاجلًا لأهل غزة ولأهل الضفة الغربية ولأكناف بيت المقدس ولأهل الشام ولأهل اليمن ولأهل العراق ولأهل السودان ولأهل ليبيا ولأهل مصر ولأهل أقطار المسلمين في المشارق والمغارب، الله يكشف الضر عنهم، الله يحول أحوالهم إلى أحسن حال، الله يربطهم بنبيهم ربط لا ينحل، الله يكشف عنهم الشدائد والآفات ويتولاهم في الظواهر والخفيات، ويرد عنهم كيد المعتدين والظالمين والغاصبين والمفترين والفاجرين والمضلين وأعداء الدين. 

اللهم لا تبلّغ أعداءك مرادًا فينا ولا في أحد من أهل لا إله إلا الله، يا حي يا قيوم، نشكو إليك تطاول المعتدين الظالمين المجرمين الغاصبين المؤذين، اللهم اهزمهم وزلزلهم، يا منزل الكتاب، يا سريع الحساب، يا هازم الأحزاب، اهزمهم و زلزلهم، اهزمهم وزلزلهم، اهزمهم وزلزلهم، خالف بين وجوههم وكلمتهم وقلوبهم يا أكرم الأكرمين.

 واكشف الظلم عنا وعن جميع أهل الأرض، وكن لنا بما أنت أهله في الدنيا ويوم العرض، واشفنا من الأمراض والعلل والأسقام، وبلغنا المَرام وفوق المرام في خير وعافية، وعجل بالفرج للأمة أجمعين، وأصلح شؤوننا بما تصلح به شؤون الصالحين، واجعل شهر ربيع الأول الذي انقضى عنا شاهدًا لنا لا شاهدًا على أحد منا، وحجة لنا لا حجة على أحد منا، اللهم ولا تجعله آخر العهد منا وأعِدنا إلى أمثاله في صلاح وفلاح ونجاح وتقوى وغفرٍ ونشر للهدى في البرية ودفع لكل أذية وبلية، يا قاضي الحاجات، يا مفرج الكربات، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فاستجب لنا واكشف ما بنا من غم، ونجنا من كل غم وهم وخطبٍ ألم، وحول الأحوال إلى أحسنها يا حي يا قيوم، يا واحد يا أحد، يا فرد يا صمد، يا أرحم الراحمين.

الفاتحة إلى حضرة 

النبي محمد اللهم صل وسلم عليه وعلى آله

 

 

تاريخ النشر الهجري

02 ربيع الثاني 1447

تاريخ النشر الميلادي

24 سبتمبر 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام