تفسير سورة الأنبياء -10- من قوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوم.. (78)} إلى الآية 82

للاستماع إلى الدرس

تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الأنبياء  

{ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ۚ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ۚ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82) }

مساء الإثنين 16 ربيع الأول 1447هـ

تضمن تفسير الآيات الكريمة مشاهد من سيرة نبي الله داوود وسليمان عليهما السلام، وبيان ما خصّهما الله به من: القضاء بين الناس، العدل في الحكم، تسخير الجبال والطير، صنعة اللبوس (الدروع)، تمكين سليمان من الريح، تسخير الشياطين..

نص الدرس مكتوب:

الحمدلله مُكرمنا بأنوار التنزيل، وبيانها على لسان خير هادٍ ودليل، عبده المصطفى محمد صلى الله وسلم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وصحبه، ومَن والاهم واتَّبعهم في النية والقصد والفعل والقِيل، وعلى آبائه وإخوانهم من الأنبياء والمرسلين أهل التكريم والتبجيل والتفضيل، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المُقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

وبعد،،،

فإننا في نِعمة تأمُّلنا لكلام إلهنا الخلَّاق، وما أوحى إلى عظيم الأخلاق، سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، من العلوم والمفاهيم والأذواق، والبيان للمنهج القويم والصراط المستقيم. 

وصلنا في سورة الأنبياء إلى ذكر ساداتنا؛ داوود وسليمان عليهما السلام، بعد أن ذكر الله النبي نوح، قال: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ) -فِي الْحَرْثِ- الزرع (إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78))، فيه بيان:

  • أن الناس على ظهر الأرض يحتاجون إلى مَن يحكم فيما يصدر منهم لبعضهم البعض.
  • وما يكون بينهم من خصام ونزاع.

ومن هنا كان في الشريعة: 

  • وجوبُ نصب الحاكم الذي يلي الأمر، إذا لم يكن هناك حاكم. 
  • فإن كان هناك حاكم، وجبَ طاعته في غير معصية الله. 
  • ولا يجوز أن يتّبع أحدٌ حاكمٌ ولا غيره، في معصية الله ومخالفة أمره -جلَّ جلاله-.

ثم جاءت الشريعة أنه؛ تجد الأمة من الحُكام ما تعرف منهم وتنكر، وأُمِروا أن يؤدوا جهدهم في تقويمهم ما استطاعوا، وألاَّ يُحدثوا فتنة تؤدي إلى فساد كبير وضُرٍّ كثير. 

كما تسمع فيما يُذكر من هذه الثورات والانقلابات وما إليها: 

  • فأكثرها يقال: أنه يراد منها ردُّ وردع ظلم؛ فيحصل بعدها أضعاف مضاعفة من الظلم الذي كان.
  • وبعضها يقال: أنها من أجل إنعاش الحياة وتوفير العيش الطيب، وبعد أن تقوم تسوء الحالة فيصيرون أتعب وأفقر مما كانوا قبل أن تندلع هذه الفوضى والثورات، فما يأتون بخير. 

ومن غير شكٍّ أن كل حركة في الحياة لا تستند إلى أمر الله وأمر رسوله وتمضي على بيِّنة مِن نور الكتاب والسنة؛ فإنها لا تأتي للناس بخير.

وبعد ذلك: 

  • فَرض على الناس إمامٌ يُنصَب. 
  • فإذا اختاروه وجب أن تجتمع فيه شروط الإمامة العظمى. 
  • فإن تُسلَّط عليهم كما هو الحال في مدة الجبرية بعد مدة المُلك العضوض:
    • وكانت مدة المُلك العضوض: بدأت من بعد خلافة الحَسن ابن علي واستمرت إلى أن جاء وقت الجبرية. 

فقامت مع كلِّ ما يُدَّعى مما يسمونه في اصطلاحهم بالديمقراطية، وما يدَّعون أنه يقوم على انتخابات، وما إلى ذلك، مع أن هذه الانتخابات تقوم على الغوغاء والفوضى، وعلى عموم الناس، يستوي فيها صوت العالِم، وصوت الجاهل، وصوت الصالح، وصوت الطالح، وصوت التقي، وصوت الفاجر.. كله سواء، وما بهذا تصلح البلاد ولا العباد.

وكان أهل العقد والحل من خيار الناس العقلاء، هم الذين يُميِّزون، وهم الذين تُرجِّح أصواتهم وكلماتهم وهم مَن يُختار، ومع كل هذه الدعاوى: 

  • فإن الأمر قائم على هيمنةٍ وظلم تسمعونها اليوم صريحةً في هذا التسابق على أسلحة الدمار الشامل - كما يسمونه - 
  • فما أمْرهم قائم إلاَّ بالعنجهية والجبرية، ولا شيء مما يسمونه من حُكم الناس إلى أنفسهم، ولا شيء من هذه الأشياء التي تجري، إنما هي فقاقيع وصور يُلعب بها على العقول.

وجاء حُكم الجبرية، وها نحن إلى الآن ما يُظن أنه أواخر مدة ذلك الحكم الذي ذكره ﷺ -الجبرية- ثم تتهيأ الأحوال للناس بعده إلى العَودِ إلى نور الوحي والتنزيل فتقوم خلافة على منهاج النبوة، ويتصل ذلك:

  • بما وعد الله على لسان رسوله من بعْث الإمام المهدي. 
  • ومن نزول عيسى ابن مريم عليهما السلام. 
  • وقبل ذلك تحصل التمهيدات

وهناك إشارات في الحديث إلى ما يحصل من جهاد صحيح، ويعود الجهاد في آخر الزمان إلى الوجه الصحيح، وإن كان الجهاد في حد ذاته بأنواعه: 

  • من الكلمة الطيبة، ومن النصح، ومن العلم. 
  • ومن الدعوة إلى الله. 
  • ومن السعي على الأرملة واليتيم. 
  • ومن القتال أيضًا في سبيل الله. 

كلٌّ بأنواعه لا يبطل، لا يبطله عدل عادل، ولا جور جائر إلى أن تقوم الساعة، ولكن يبطله الكذب، والخداع، والإرادات الفانية وقصد غير وجه الله هو الذي يبطل الجهاد.

أو أن يقوم "تحت راية عُمِّيَّة" كما يقول ﷺ، لا تدري تبع مَن، ومرجعها إلى مَن، يثير هذا وهذا وبعد ذلك إلى مَن؟! وأين المآل؟! ولكن الجهاد بالنية الصالحة وعلى وجهه الصحيح لا يبطل؛ ولكن أشارت الأحاديث إلى أنَّ أكثر ما يحصل من القتال في تلك الحُقَب من الزمن:

  • قتال فتن، لا قتال جهاد.
  • قتال تنافس على السلطة.
  • تنافس على مِلك الرقاب والثروات.

هو الذي ساق أكثر هذه الأعمال التي مضت علينا في السنين الماضية، وما هناك من جهاد يعتبر صحيحًا إلاَّ: 

  • ما خلصت فيه نية القائمين عليه لأن تكون كلمة الله هي العليا. 
  • وكان تحت إمارة معلومة حازمة يؤول الأمر إليها. 

هذا هو الجهاد الصحيح في أي زمان كان، أشارت الأحاديث: 

  • أنه بعد أن ينصرف القتالُ إلى الفتن، قد ينفتح باب جهاد. 
  • وأشارت فيه إلى الرباط، وأن خير الرباط في عسقلان، في إشارة في الأحاديث: 
    • إلى أنه يقوم هناك مواجهة بين كفر وظلم وجرم، وبين دين وإسلام وحقٍّ. 

ولكن مع ذلك كله فالحكم يرجع إلى المقاصد، وإلى النيات، وإلى الغايات...

  • وكُلُّ معتَدٍ عليه من قِبَل أي مجرم وظالم، فهو مُعطى له الإذن والحق بأن يدفعه ويرده بما استطاع.
  • وإن قُتل دون عرْضه، أو ماله، أو دينه، أو مكانه وبلده  فهو شهيد؛
    • فهو شهيد في سبيل الله -تبارك وتعالى-. 
    • كالمقتول ظلمًا في أي واقعة من الوقائع، شهيد عند الله -تبارك وتعالى-. 
  • فإن كان بسبب القتال والاقتتال: 
    • فيكون شهيد دنيا وآخرة، إذا صح قصده. 
    • فلا يغسل ولا يُصلَّى عليه. 
  • وأما إن كان غير مقاتل ولم يجاهد ولكنه في داره، أو في مكانه في مأمنه واعتُدي عليه: 
    • فهو شهيد عند الله تعالى في الآخرة. 
    • ولكن نغسله ونكفنه ونُصلي عليه في الدنيا.
  • وأما ما كان بسبب المواجهة في القتال، فهذا الذي يكون صاحبه شهيدًا في حكم الدنيا: 
    • بألاَّ يُغسَّل، ولا يزال عنه الدم الذي أصابه، ولا يُصلّى عليه. 
    • ويدفن في ثيابه التي مات فيها، وما احتيج إليه من تغطية بقية بدنه، إن لم تكفِ لتغطية بدنه.
  • وأما المقتول في غير الجهاد، في غير المحاربة، ومُعتدى عليه: 
    • فهو شهيد في الآخرة، له حُكم الشهداء وفضلهم ومنازلهم. 
    • وليس له في الدنيا حُكم عدم تغسيله وعدم تكفينه. 
    • فمن وُجد تحت الأنقاض وغيرهم وقُدر على تغسيله وجب تغسيله وتكفينه، ووجبت الصلاة عليهم كذلك.

هذا فيما يتعلق بالحُكم؛ لأن الناس يتنازعون ويختلفون، فحصل أيضًا هذه القضية: 

  • أنَّ قومًا أصحاب زرع، وقوم أصحاب ماشية وغنم، وأنه قد مرّت الماشية على زرع القوم وكان قد استوى ليُقتطف ويُحصَّل منه محصول كبير، فأكلته فلم تُبقِ فيه شيء، فجاء أصحاب الزرع إلى سيدنا داؤود؛ يحتكمون إليه: 
  • فرأى أن قيمة ما أكلت هذه المواشي من الزرع يساوي قيمة المواشي -قيمة الغنم-، فحكم بأن يأخذ أهل الزرع غنم هؤلاء مقابل ما أُكلت عليهم. 
  • ثم قال له ابنه سليمان: أوَ غير هذا يا نبي الله. قال له: ما ذاك؟ قال: 
    • يستلم أهل الزرع مواشي هؤلاء وأغنامهم ويستفيدون من ألبانها، وتُسلِّم المزرعة لأصحاب المواشي يعيدون عمارتها ويغرسون الأشجار التي كانت فيها. 
    • حتى إذا كانت في السنة الآتية مثل ما كانت وقت اعتداء الغنم عليها، يرُد هؤلاء الغنم لأصحابها، ويرُد هؤلاء المزرعة لأصحابها.

قال: أصبتَ، وحكمَ بذلك، قال تعالى: (إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78))، حاضرين بعنايتنا، بأنبيائنا ورسلنا وما يجري على أيديهم.

(فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ)، وهي الطريقة، القصد في الحُكم، فكان أوفَق، أخذ به أبوه داود -عليه السلام-. جاءوا إلى داود فحكم بالحُكم الأول، وابنه سليمان قال هذا الحكم.

قال (وَكُلًّا) -من سليمان وأبيه داوود- (آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا..(79)):

  • فصلًا في القضايا.
  • ونبوة.
  • وفهمًا في الأحكام.

(وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) -أكلته- (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ).

وكان من جملة ما ورد في السُنة في بديع الأحكام: 

  • أن امرأتين ولدتا ابنين، لكل واحدة منهما ابن، كل واحدة منهما ولدت ابنًا، ثم جاء الذئب فعدا على أحد الإبنين وأخذه، فقالت هذه: أخذ ابنك، هذا ابني. قالت: أبدًا، بل هذا ابني، والذي أخذه الذئب هو ابنك.
  • وحملت الكبرى الولد، وجاءتا إلى داود يطلبان الحُكم، فوجده بيد الكبيرة، وليس مع الصغرى بيِّنة تُقيمها على أنه ولدها. فقال؛ هو للكبرى، هي التي بيدها الولد، فلو كان ولد لتلك، لِمَ أخذته عليها؟! ولماذا لم تمسكه هي؟
  • فجاءتا إلى سليمان ومعهما الولد، فأخبرتاه، قال: المسألة سهلة الحكم ليس كذا. ماذا عندك؟ قال: هاتوا السكين، هاتوا السكين! سنشقه بينكم، أنتِ نصف وهي نصف.
  • سكتت الكبرى، والصغرى قالت: لا تفعل يا نبي الله، لا تفعل، هو ابنها، متأثرة بعطفها، تبكي على ابنها،. 
  • علِم ورجع إلى أبيه قال: يا أبي، الكبرى كذبت على الصغرى وأخذت الولد عليها وهو ولدها، لما قلنا سنشُقه سكتت، ماعندها قلب الأم، ولا رحمة الأم، والثانية لما أنه ابنها وقلنا كذا. فقال: أصبت. 

ولكن هذا استدراج للوصول إلى علامة، وأصل الحُكم صحيح؛ لأن ذاك بيدها وهذه ليس لديها بيّنة؛ ولكن استدراج استدرجهم النبي سليمان حتى أظهر العلامة أنه ابن هذه، وليس ابن هذه، فعلِم أن الرحيمة التي أبت أن يُشق، أما الثانية سكتت حتى يقع ابن هذه مثل ابنها، ابنها قد أكله الذئب، وهذا يُشق وانتهى، وكلهم ماتوا ابناؤهم، فتوصَّل بهذه الوسيلة ليعرف إبن مَن هو.

قال: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا..(79))، وأُعطي سليمان الحُكم من الصِغر، كما أُعطي سيدنا يحيى، وعلمناه (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) [مريم:12].

(وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ):

  • سخّرنا مع النّبيّ داوود الجبال؛ ذلّلناها له. 
  • وسخرناها، ألهَمناها، وأمرنَاها أن تكون معه في التّسبيح. 

والطّيور كذلك، تُسبّح بتسبيحه، وتشاركه في التسبيح..

  • فإذا سبّح: سبّحت الجبال وسبّحت الطيور. 
  • وإذا كبّر: كبّرت الجبال والطيور. 
  • وإذا هلل: هللت الجبال والطيور. 
  • وإذا دعا: أمَّنت معه الجبال والطيور. 

(يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ)، (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ..(79)) فكان هذا ما ذكره في الآيات، يقول: (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ): رددي الذكر معه. (أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) [سبأ:10]. فكان أوحى الله إلى الجبال أن تذكر بذكر النبي داود، فإذا ذكرَ، ذكرت الجبال معه، وذكرت الطيور معه، فلو كان أحد موجود من أهل الفهم الخاطئ في الدين لقال: بدعة بدعة، ترفع أصواتها، حتى الجبال والطير، وليس بني آدم وحده، كلهم يرفعون أصواتهم. 

وما شأن الأصوات بالذكر إلا قُربة إلى الربّ تبارك وتعالى، مضت عليها حياة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في الأحوال المختلفة. 

  • وهذا سيدنا المصطفى عليه الصلاة والسلام يقول: "وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ". 
  • ويرفع صوته بأبيات الدعاء مع الصحابة في حفر الخندق وغيره من الغزوات ويقولون: 

اللَّهمَّ لولا أنتَ ما اهْتَدَيْنا *** ولا تَصَدَّقْنا ولا صَلَّيْنا

ويشاركهم ﷺ، ويقول: 

إنَّ الْأُلى قد بَغَوْا عَلَيْنا *** وإنْ أَرادوا فِتْنةً أبَيْنَا 

وكان يرفع صوته يقول: أبَينا، أبَينا ﷺ، فهذا تسبيح الجبال والطير مع النبي داود عليه السلام. 

(وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ..) 

ثم حملوا التسبيح على تسييرها معه، وإلانَتها له، وفيه ضعف، لأن الآية واضحة وأيَّدتها الآية الأخرى: "يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ" ردِّدي الذكر معه.

يقول "وَكُنَّا فَاعِلِينَ" نحن الذين أمَرنا بذلك، وأنْطقنا الطيور وأنطقنا الجبال، غير ما عُلِّم أيضاً سيدنا سليمان منطق الطير من دون الكلام المعهود بين الناس. 

(… يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ..)

يقول (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) كان ذلك بأمرنا وترتيبنا فلا يكون إلا ما أراد الله (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)، قال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَٰنُ).

يقول: (وَكُنَّا فَاعِلِينَ) (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ)، أنواع الأسلحة التي تلبسونها للحرب، وخصوصًا الدروع، فإنه ألانَ الله له الحديد: (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ): 

  • يمشي معه الحديد، يلتوي إلى أي جهة أراد، وإلى أي تشكيلة أراد. 
  • فكان يُشكِّل، فكأن الحديد لُبان يشكِّله كما يشاء، فيلينه بيده -عليه السلام-. 

فيصنع من ذلك دروعًا لا ينفُذ منها السيف، ولا شيء من الرماح، ولا السهم؛ ترده عن الجسد، فتكون خفيقة وحصينة، ما يشقها لا سيف ولا شيء من الرماح أو من السهام.

(وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم) - يحميكم - (مِّن بَأْسِكُمْ) من الشدة بينكم؛ السلاح الذي تستعملونه

  • فيحمي الأجساد بهذه الصَّنعة، بهذا اللبوس الذي يصنعه النبي داود، فكان أول من صنع الدروع للقتال على هذه الهيئة. 

(فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ (80)) ما نُجري لكم من النِّعم من حيث تعلمون ومن حيث لا تعلمون، وعلى أيدي من نشاء (فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ)؟

  • (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ) أي: وسخّرنا لسليمان الريح، فملّكه الريح وذلّلها له، فقام قال: (تَجْرِي بِأَمْرِهِ).
  •  (عَاصِفَةً) يعني بقوّتها وشِدّتها تجري تحت أمره.
  • (تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) وهي أرض الشام.
  • ما كان أشأم الكعبة، أي على يسار الكعبة من أرض الشام التي تشمل فلسطين وهي رأس الشام، ولبنان وسوريا والأردن، فهذه هي أرض الشام -أرض مباركة-. 

قال تعالى: (تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا): 

  • كما قال فيما سبق عن سيدنا الخليل إبراهيم أنه أَخرجه من أرض العِراق إلى أرض الشام، فقال سبحانه: (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:71]. 
  • وقال هنا: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا).
  •  وقال في إسراء نبينا: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) [الإسراء:1]. 

فهي أرض مباركة ؛ 

  • بما حَوَتْ من النبيين أولًا
  • ثم الصدِّيقين والصالِحين 
  • ثم الزروع والمياه والأنهار وتيسير أنواع النبات والحاجة والغذاء فيها
  • وألطاف جوّها وما إلى ذلك، فكانت مظهرًا للبركة.

قال: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) فكان يأمُرها تَحْمِل هذا فتَحْمِله وحده، وتجري وتمشي بسرعة من دون أن تثير غبارًا، ومن دون أن تؤثر على شيء، ويُبسَط له بساط واسِع، وقد يجتمع عليه جماعة من أصحابه وقومه، ويأمر الريح أن تَحْمِلهم من البلد الفلاني للبلد الفلاني.

يتنقَّلون في الجو؛ يمشون، طائرات بلا مُحركات، ولا بترول، بأمْره تسير من دون جهاز ولا تكنولوجيا.. قِفي؛ تقف، أسرعي تسرُع، أبطئي؛ تُْبطئ، انزلي هنا تنزِل هنا، وهكذا. 

(تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) أي ترجع إلى حيث مسكن سليمان عليه السلام كلما أوصلت شيئًا، قال الله:

(وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)) عبادنا، وخلْقُهم وخواطِرهم ونيّاتهم وتصرُّفاتهم وأقوالهم وأفعالهم وحركاتهم وسكناتهم، والجمادات والنباتات والحيوانات، وما يزيد وما ينقص، وما يكبُر وما يصغُر، وما يبقى. 

(وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ) فكيف لا يتوكّل عليه المؤمن؟! كيف لا يثق به المؤمن؟! أحاط علمًا بكل شيء. 

أرباب الأغراض في الدنيا يُنفِقون على مخابراتهم واستخباراتهم وجواسيسهم أموالًا كبيرة.. طويلة.. عريضة، لن يتوصلوا إلى شيء من الأغراض، ولا يقدِرون أن يُحيطوا علمًا بالأشياء، شيء يعْلمونه وشيء لا يعْلمونه، وشيء يأتيهم مُفاجأة.

لكن العالِم بكلِّ شيء: الله، هو العالم بكل شيء (وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)) من أعظم المُهمات لنا في الحياة أن نعلم: (أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الطلاق:12]، فنعتمِد عليه ونستنِد إليه...

قدْ كفاني عِلْم ربّي *** مِن سُؤالي واخْتِياري

فَدُعائي وابْتِهَالي *** شَاهِدٌ لي بافْتِقاري 

فلِهذا السَّرُّ ادْعو*** في يَساري وعَساري

لمّا عرف الله قال:

أنا عبْد صار فَخْري *** ضِمْنَ فقْري واضْطِراري

 شرّفني؛ لا أفتقِر لغيْره ولا أضْطر لغيْره ولا أخْضع لغيْره ولا أعبد غيره، ولكن إليه؛ أعبده وأوحّده وأعتمِد عليه وأتوكّل عليه واستنِد إليه و أتذلل له وأخضع..

أنا عبْد صار فَخْري *** ضِمْنَ فقْري واضْطِراري

 (وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ):

  • الذين سخّرناهم لسليمان؛ (مَن يَغُوصُونَ لَهُ) إلى أعماق البحار ويستخرجون له ما شاء من الجواهر والدرر، ويُطلّعون ويعطون، فيُنْفقها حيث أراد في سبيل الله. 
  • (وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَٰلِكَ) (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ) [سبأ:13]. 

قال: (وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَٰلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)) حاضرين على أعمالهم، لا يستطيعون الخروج عن طاعة سليمان (وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ) [سبأ:12].

  • يقول: (وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ)، قالوا أيضًا من معانيه: حفظناهم من كثير من الشرور، لماذا؟ لأنهم في خدمة نبيّنا، ومن يخْدُم الأنبياء والصالحين يُحفظ بهم، قال: أنا حفظتهم لأنهم قائمون في خدمة نبي.
  • (وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ)، ولماذا تحفظهم هؤلاء وهم شياطين؟ لأنهم خُدّام للنبي، فمن يخْدُم الأنبياء والأولياء يتولى الله حفظه إكرامًا لهم -جلّ جلاله-. 

وهكذا أنت إذا أحببت أي أحد، ثم من يساعده ويقوم معه؛ أنت تتولاه.. أنت تحبه! 

  • وهذا ربّك -سبحانه وتعالى- يرعى من يَخْدُم أولياءه خاصة. 
  • بل جعل ثواب الخير في نفع العباد عامة وحتى الحيوانات، فكيف بأوليائه وأنبيائه؟

 وإذا كان خادِم الكلب بسقْيه له من شِدّة العطش، بتوصُّله إلى ذلك، بجهد وحيلة ونزول إلى البئر وإملاء الخُفّ ومَسْكه بفمه ثم طُلوعه حتى يسقي الكلب، غفر الله له بخِدِمة هذا الحيوان، فكيف بخدمة إنسان؟ فكيف بخدمة نبي؟ فكيف بخِدِمة ولي؟ أما يغفر؟ 

وبذا سابقَ الصالحون إلى خدِمِة الصالحين، سارع الأخيار إلى خدِمِة الأنبياء والصالحين، ورأوا أن ذلك من أقرب القُرُبات إلى الله، هذا وهم شياطين، ولكن قال: (وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)) بالمعاني كلها يُحصي أعمالهم ويُرتّبهم ولا يستطيعون الخروج عن أمر سيدنا سليمان.

 ولمّا فُرِض عليهم ذلك مضوا، حتى سأل النبي سليمان مِن ربّه أن يُظهِرعلامة يذهب بها توهُّم كثير من الإنس أن الجن يعلمون الغيب؛ لا جن ولا إنس يعلمون الغيب ولا يحيط بعلم الغيب إلا الله، ويُطلع الله من غيبه من شاء من ملائكته أو من رسله أو من عباده الصالحين، (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَسُولٍ) [الجن:26-27]  

فقال له الله -تبارك وتعالى-: إنه دنا أجلك، فاتَّخِذْ لك عصاً وقُم عليها في صلاتِك، فتُقْبض روحك وأنت قائم فيحسِبونك على قيد الحياة الدنيا، فيعملون ويشتغلون ما بقِيتَ قائمًا، ثم يعلمون أنّك متّ من زمان.

 (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ) أي عصاه؛

  • جاءت دابة الأرض تأكل.. تأكل.. تأكل حتى تخشخشت العصا فسقط، وهم يرونه قائمًا يظنون أنه حيّ، سنة كاملة وهو قائم، والأنبياء أجسادهم لا تتغير.. ماسك العصا.
  • والسنة الثانية عرفوا أنه مرت سنة وأقاموها فما وصلت إليها الأرَضَة وأثّرت فيها إلا بعد سنة، فعلموا أنه كان سنة قائمًا وهم يروحون  يعملون في البحار والأرض. 
  • قال: (دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ) سقط بسبب خراب العصا بالدود هذا الذي يأكل، (تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ) أي تبيّن للإنس أنّ الجن (لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ) [سبأ:14]. 

سنة كاملة وهم خائفون يمشون، وقد ارتفع الأمر عنهم بقبْض الله روح عبده سليمان على نبينا وعليهم أفضل الصلاة والسلام.

اللهم أحسِن رابِطتنا بالأنبياء وبسيّد الأنبياء واجعلها تقوى أبدًا سرمدًا، وأعِذنا من الانْقِطاع عنهم، ولا تجعل في قلوبنا مودّة لفاجِر ولا كافر ولا طاغٍ ولا باغٍ ولا من حَرّمتَ علينا مودّته كائنًا من كان يا حي يا قيوم. اجعل قلوبنا لك وحدك، تُوالي من والاك وتُعادي من عاداك، تُحِب من تُحِب وتَبْغض من تَبْغض.

واجعل هوانا تبعًا لِمَا جاء به حبيبك المحْبوب في جميع شؤوننا، ووفّر حظّ أمّتِه مِن اتّباعه والاهتِداء بِهديه، ومَن ذكرى ميلاده، أمدّهم بالاستِقامة على منْهجه وجِهاده، واحفظنا وإيّاهم من جميع الشرور، وادفع عنّا وعنهم جميع الآفات وكلّ محْذور في البُطون والظُهور. 

بسرِ الفاتحة 

وإلى حضرةِ النَّبي محمد صلى عليه وعلى آله وصحبه، 

الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

30 ربيع الأول 1447

تاريخ النشر الميلادي

22 سبتمبر 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام