تفسير سورة الأنبياء -06- من قوله تعالى: {وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا.. (36)} إلى الآية 47
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الأنبياء
{ وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46)}
مساء الإثنين 26 محرم 1447هـ
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله مُكرمِنا بالوحي والتنزيل وبيانِه على لسان عبده الهادي والدليل، سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وصحبه خير جيل، وعلى من والاهم واتَّبعهم بإحسانٍ في النية والقصد والفعل والقيل، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل التكريم والتبجيل، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكة الله المُقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنَّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعدُ،
فإنَّنا في نعمة تأمُّلنا لكلام إلهنا وخالقنا وسيدنا وربنا ومنشئنا ومن إليه مرجعنا جلّ جلاله وتعالى في عُلاه، الرحمن المُنعم علينا بما لا نستطيع إحصاءه، والذي لا يزال يُوالي لنا كرمه وعطائه جلّ جلاله.
وصلنا في سورة الأنبياء إلى قوله جلّ جلاله وتعالى في عُلاه: (وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَٰذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ هُمْ كَافِرُونَ (36)) -نعوذ بالله من غضب الله تعالى-.
يُبَيّنُ أًحوال الناس على ظهر الأرض مع ما آتاهم وأعطاهم من أسماع وأبصار، وعقول وقلوبٍ وأفئدة ومدارك، مهما تغلَّب عليهم الهوى، أو الشهوات، أو العصَبيَّات، فإنهم يَضلّون عن سواء السبيل، ويرون الآيات الواضحات فلا يؤمنون، ويرَون مَن يستحق الإجلال والتكريم والإكبار فلا يجلّونه ولا يحترمونه، بل ربَّما سبُّوه وربَّما آذوه وربَّما استهزأوا به، ولم يزل الاستهزاء بآيات الله سبيل الكافرين والفاجرين، ومن عظيم آيات الله الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم، وما من نبي إلا وقد استُهزِئ به، بل ما من نبي إلا وهَمَّ قومه وأمّته أن يقتلوه، قال تعالى: (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) [غافر:5].
والحق لا يزال بالفضل والإحسان يبسط لهم بُسط الدلالة والإرشاد والهداية، ويرسلُ رسول بعد رسول، ورسول بعد رسول، ولم يقل: كفرتْ أول طائفة منكم، وثاني طائفة، لذلك سأرسل إليكم العذاب أو آخذكم إلى العذاب مباشرة، بل بعد كل مدة رسول، بعد كل مدة: (وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ) [فاطر:24]، حتى جاء الخاتم سيدنا محمد الجامع الكامل صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله، فانبسط نور الله في هذا الوجود، وعمّت رحمة الله العالمين: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107))، وبيّن فأحسن البيان بما لم يُبيّن أحد قبله، ووضّح فأحسن الإيضاح، ويسّر بأمر الله وأحسن التيسير، وكان الأمر كما قال: "تركتُكم على المَحَجَّةِ البيضاءِ ليلِها كنهارِها، لا يزيغُ عنها إلا هالِكٌ".
ومع ذلك فنحن -قرنٌ بعد قرن وجيلٌ بعد جيل-
- فينا الذين يخالفون، وفينا الذين ينكرون، وفينا الذين يُشكِّكون فيه، أو في سنته، أو في الكتاب الوحي الذي أُنزل عليه، وفينا الذين يسبونه.
- ومع ذلك في تعاقب الأجيال هذه كلها فيهم الأصفياء الأتقياء، الأمناء العقلاء الحكماء، الصادقون المخلصون، وتوفّروا في كل جيل من أجيال هذه الأمة ما لم يتوفروا في الأمم السابقة فضلًا من الله تبارك وتعالى، ووعدًا منه لهذا النبي: "لا تزالُ طائفةٌ مِنْ أُمِّتي ظاهرينَ على الحقِّ" ، "يحمِلُ هذا العلمَ من كلِّ خلَفٍ عدولُه ينفونَ عنهُ تحريفَ الغالينَ وانتحالَ المبطلينَ وتأويلَ الجاهلينَ" الحمد لله رب العالمين، والباب مفتوح.
مع ذلك أنواع المضادين والمعاندين له، يعملون أعمالًا وينظمون أنظمة وينصبون أفكارًا، ويقولون للناس: إننا نريد مصلحتكم ونريد خيركم، ثم جميع تلك الأفكار المناوئة المُضادّة من عهده إلى اليوم تفشل، ويُخذَل أهلها، ويهلكون ويتولّون، ويجيء بعدهم وبعد بعدهم، إلى الكفار الموجودين في وقتنا اليوم، ومع كل ما ادَّعَوا، فتنتهي كلماتهم الفضفاضة البرّاقة؛ مِن حقوق الإنسان، ومِن مصلحة الناس، ومن العدل وإلى غير ذلك، إلى الظلم الشنيع الفظيع الواضح البيِّن؛ وأمام المرأى والمسمع من المشارق والمغارب، وما في المسألة مُبرِّر من قريب ولا من بعيد، إلا أنَّ ثلة قالوا: نحن نريد هذا المكان، نحن نريد أن نحكم، نحن نريد أن نتأمّر، ولا حُرمة لطفل، ولا لمرأة، ولا لرجل، ولا لِعُزَّل، ولا لصغار، ولا لكبار، وهكذا وينتهي هؤلاء المعتدون والظالمون طائفةً بعد طائفة، وجيلًا بعد جيل؛ سُنة الله.
ثم يُعرَف ما قال الله تبارك وتعالى في هذا المعنى، وتقدّم معنا، قوله سبحانه وتعالى: (وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا) -هكذا عاملوا نبينا- (وَإِذًا لَّا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا) هم كلما ازدادوا في هذا الطغيان والمكر والأذى نقمعهم، (وَإِذًا لَّا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا * سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا) فواجبك يا نبينا ومن اتبعك في كل زمان أن تستمسكوا بحبلنا في الإقبال علينا والصدق معنا، وتتنقّوا عن ما حرَّمنا عليكم، ولا تبالوا بعد ذلك بشيء، أنا الذي أتولى الأمر، (أقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) واجعل صِلَتك بي مُباشرة (وَقُل رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا) حينئذٍ سأريهم آياتي ويتمّ نصرك: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) [الإسراء:76-81].
وهكذا يقول جلّ جلاله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ) [ابراهيم:13-14]، وهكذا سُنَّة الله التي لا تتخلف، فهؤلاء الجماعة من المشركين يرون نبينا ﷺ يُقبِل ببهجته وهيبته ورَونقه، وجماله وحُسنه، وخُلُقه وتواضعه، ولُطفه وعطفهِ؛ فيتخذونه هزوًا، لا شكَّ أنهم في تلك الساعة متناقضون مع أبصارهم، ومع أسماعهم ومع ضمائرهم الداخلية ومع فِطرهم، ولكن هوى وعصبية تستعبد هذا الإنسان، تخرجه تمامًا عن العقل وعن الإنسانية وعن الإدراك وعن السمع والبصر، فكأنه لا يسمع ولا يبصر: (لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا) [الاعراف:179].
(وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا (36))، مع أنهم في عموم ما طبَعه الله عليه وجبَله عليه، وكسى به طلعته البهية، لا ينظر إليه أحد لأول مرة إلا هابه، ولا يُخالطه أحد إلا أحبَّه، حتى كان جالسًا يومًا في المسجد مُحتبيًا بيديه، ودخل أعرابي، فلما وقع نظره على وجهه ارتعد، فأخذ ﷺ يهدّئه ويقول: "هَوِّن عليك، هَوِّن عليك، فإني لستُ بملِكٍ"، ومن هم الملوك عنده صلى الله عليه وسلم وماذا يساوون؟! ولكن يقول ما أنا من الجبارين وما أنا من المعتدين "فإني لستُ بملِكٍ، إنما أنا ابنُ امرأةٍ من قريش كانت تأكل القَديدَ"؛ يعني أكل الفقراء والمساكين، اللحم المجفف الذي يُجففونه ويخزنونه للزمان المُقبل، قال: أنا ابن امرأة هذه البيوت -اللهم صلِّ عليه وعلى آلهِ-.
وهكذا رجع الذين أُرسلوا الى تبَّع -ملك فارس- وقد قابلهم وأجاب عليهم، وفي اليوم الثاني رجعوا إلى قومهم يقولون للمسؤولين في صنعاء الذين هم تبع لفارس، يقولون لهم: ما رأينا أهْيَب منه، ما شعرنا برعب ولا بهيبة مثلما رأيناه، قالوا لهم: أمعهُ جنود؟ قالوا لهم: ليس معه أحد، إنه يمشي وحده، ولكن القلوب ترتعد ﷺ؛
كَأَنَّهُ وَهْوَ فَرْدٌ مِنْ جَلَالَتِهِ *** فِي عَسْكَرٍ حِينَ تَلْقَاهُ وَفِي حَشَمِ
يا ربّ صلِّ عليه.
ومع ذلك هؤلاء يلزمون أنفسهم أن يستهزئوا، ويتناقضون مع الفطرة، مع البصر؛ انظر أي وجهٍ هذا!
قال عبد الله بن سلام -عالم يهودي هداه الله فصار من المسلمين ومن خيار الصحابة-: أول ما نظرتُ إليه، لمّا وصل إلى قباء من المدينة، ذهبتُ أنظر إليه، فلما وقع نظري عليه أيقنتُ أنه ليس بوجه رجل كذاب، أول نظرة وقع نظري على وجهه علمت أنه ليس بوجه كذاب، ما يجيء الكذب حول الوجه هذا -صلى الله وسلم عليه وآله- قال: فلما نظرت علمت أنه ليس بوجه رجل كذاب، وسمعت أول ما سمعت منه يقول: "أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وواصِلوا الأرحام، وصلّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام" يا رب صلِّ عليه، يا ما أحسنه! يا ما أحسن دعوته! يا ما أحسن خُلُقه! يا رب صلِّ عليه وثبتنا على دربه.
(وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَٰذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) أهذا الذي يعيب آلهتكم ويسب آلهتكم ويتكلم ويقول لا تعبدونها، أهذا الذي يذكر آلهتكم؟
(وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ هُمْ كَافِرُونَ) كيف؟ إذا قلت لهم من خلقكم، ومن خلق هذه الآلهة؟ لا يجدون إلا الرحمن، لكنهم لا يرضون، لا يجدون حُجّة لا يجدون دليل ولكن بذكر الرحمن هم كافرون، لا يريدون الاستسلام والانقياد للإله الذي خلقهم، فباؤا بغضب والعياذ بالله تعالى.
وقد جاء أنّ أبا جهل كان جالسًا وأبو سفيان ومرَّ ﷺ، وثار الغيظ من أبي جهل، ويقول: هذا نبي بني عبد مناف -مُستهزئًا- وأبو سفيان آنذاك في كفره لكن جاءته الحمِيّة، فقال: هل تنكر أن يكون في بني عبد مناف نبي؟ وسمعهم ﷺ وأقبل وجاء إلى أبي جهل يقول له: إنقاذك لنفسك وتوبتك خيرٌ لك من هذا المسلك ومن هذا الضلال، ويقول لأبي سفيان: أنت ما قلت، ما قلت إلا حمية، وأنزل الله، وجاء في رواية أخرى أن أبا جهل وحده مر عليه النبي فقال: هذا نبي بني عبد مناف -مستهزئًا-.
(وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا) والعجب أنَّ هذه الخلافة باقية، وما من زمان إلا وأناس من خُلاصة وخاصة ورثته يقول من يقولوا عنهم، هذا الذي يقولون؟ سبحان الله، سنة الله.
ولكن كما سمعتم، إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا انبَعثت فيه بواعث الهداية، بواعث الخير، (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ) [النور:35]، وإذا أدرك وعلِم، اختفت هذه العصبيات، وهذه الأهواء وهذه الشهوات، وأبصر الحقيقة واتّصل برب الخليقة واستمسك بالعروة الوثيقة.
(اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) [البقرة:257]، (فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 256].
(اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا)، اللهم اجعلنا منهم وتولّنا في كل شأن، وأخرجنا من الظلمات إلى النور في كل يوم، وفي كل ليلة، وفي كل ساعة من ساعات أعمارنا يا أرحم الراحمين.
(يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) [البقرة:257] أدنى نور، أقل نور، بقايا النور؛ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ، ولا يريدون لهم نورًا أصلًا -والعياذ بالله تبارك وتعالى- وكل ساعة يأتون لهم بتشريعات ظُلم وفسق، وفجور ومجون وخلاعات، وفواحش ومسكرات، وأفكار غبراء دبراء ما لها حقيقة وما لها أصل، الحاصل يخرجونهم من النور إلى الظلمات، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) -اللهم أجرنا من النار-
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ) الدنيا هكذا، يحاجّون ويجادلون على باطل (أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) أنت تحيي وتميت؟! غرور، فجور وخيال؛ جاء باثنين وقال: اقتلوا هذا، واتركوا هذا؛ انظروا! أنا أحييت هذا، وأمتُّ هذا! قال له سيدنا إبراهيم: (فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ) هذا ربي الذي أعبده وأدعوك إليه يأتي بالشمس من المشرق، كل يوم تطلع علينا ما دام عندك ألوهية، أنت رب تحيي وتميت، فأتِ بها من المغرب، (فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [البقرة:257-258].
ولا يزال الأمر كذلك، فاحمدوا الله إذا وجهكم إليه، وإذا صبَّ نور الإيمان به في قلوبكم فاسألوه أن يُثبّتكم وأن يزيدكم إيمانًا، حتى يتوفانا مؤمنين؛
ربِّ أحيِنا شاكرين وتوفّنا مسلمين *** نُبعَث من الآمنين في زمرة السابقين
قال: (خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ (37)) قُلْ لهم؛ مهما تكبرتم، ومهما كذبتم، ومهما افتريتم، ومهما غلبتكم أهواءكم، الأمر كما أخبرتكم مُقبلٌ عليّ وعليكم والحاكم سوف يحكم، (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [الرعد:41]، لا تستعجلوا، دعوا العجلة.
(خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ) أي خُلِق في طبعه العجلة؛ وهو إرادة الشيء قبل أوانه، فهذا معجون بطبيعة الإنسان، إلا مَن تزكّى؛ فالأزكياء تجد فيهم السكينة والطمأنينة والوقار، وعدم الاستعجال على الأشياء، (فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) [مريم:84]، (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ) [الأحقاف:35] وبذا يُثبِّت الله من يشاء، وأما أصل الإنسان فخُلِق من عجل.
حتى جاء في الروايات أنَّ الله لما ابتدأ خلق أبانا آدم عليه السلام:
- كَوَّن جسده من تراب، ووضع فيه الماء؛ ماء وتراب فصار حمأ مسنونًا، فتصلَّب فصار صلصالًا كالفخار،
- فَنفَخَ الروح من جهة رأسه وابتدأ يُبصِر،
- حتى وصلت الروح إلى قلبه وابتدأ يعقل،
- ووصلت إلى بطنه فحاول أن يقوم فوقع، لأنه لم يكتمل بعد (خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ)،
ثم في لغة العرب، كل من كان يكثر من شيء ويغلب عليه، يقولون: خُلِق منه، يقولون: هذا خُلق من غضب، يعني دائمًا غضبان، يقولون: فلان هذا خُلِق من ضحك، يعني دائمًا يضحك، يقولون: فلان هذا خُلق من عداوة، يعني يُعادي كل أحد، طول عمرهُ مُعاداة، فيقول العرب: خُلق من كذا، لِمَا يغلب عليه من الطباع والأعمال ويكثر منه، يقولون خُلِق منه.
(خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ) ولكن بالتهذيب والتزكية يتحوّل هؤلاء المستعجلون إلى مُتأنّين مُطمئنين واثقين لا يستفزهم شيء.
(خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ) يقول الله لحبيبه؛ قُل لهم: (سَأُرِيكُمْ آيَاتِي) إن ربي الذي أرسلَني سيُنجِز وعده ويُريكُم آياته بنَصري في الدنيا، ثم الحُكم في الآخرة، وتعذيب كل من مات منكم مُصِرًّا على الكفر.
(سَأُرِيكُمْ آيَاتِي) نِقمتي وما وعدني وما أَوعدَكم به، سيكون بيقين لا ريب فيه، لكن الرب ليس مُستعجلا، لأن الذي يستعجل إنما هو من يخاف الفَوات، واحد يخاف شيئًا يفوته فيستعجل، لكن الرب ماذا يفوت عليه؟ لا شيء يفوته أصلًا -لا إله إلا الله-، أين ستذهب؟ إلى أين؟ ما الذي معك؟ (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ) [الرحمن:33] ولكن أين تنفُذ؟ أنت في قبضته وتحت حُكمِه، ومرجِعُك إليه، فلا يستعجل سبحانه، بل يقول: (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [القلم:45] أعوذ بالله من غضب الله ومن كيده ومن سخطه، نسأله أن يعاملنا بفضله ورحمته وإحسانه في الدنيا والبرزخ والآخرة.
(خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)) ليس في صالحكم أن تستعجلوا.
(وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (38)) كما يقولون في استعجالهم، وذاك قال: (إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال:32]، قُل له: دع العجلة، العذاب ما لك طاقة به أبدًا، فالأفضل أن تراجع نفسك، وإلا هو مُقبل عليك لن يتأخر أبدًا، وخرج يمشي على ناقته، وما يدري إلا وحجارة من السماء تدقُّه ومات في مكانه.
قال: (خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)) فإنّ الأمر حق وواقع كما ذكر الله ورسوله، (فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ) [يونس:102].
(لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) لو أدركوا علم اليقين (حِينَ) الوقت والساعة المقبلة عليهم التي لا يقدرون فيها (لَا يَكُفُّونَ) لا يدفعون (عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمْ) الساعة التي ستأتي وتقبل عليهم جهنم، ولا يستطيعون أن يدفعوها عن وجوههم ولا عن ظهورهم.
(لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ) لا يستطيعون أن يكفوا، يدفعوا ويمنعوا (عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (39)) لا يوجد: يا فلان ولا جيش ولا قبيلة، ولا طائرة بدون طيار، ولا سلاح نووي ولا شيء، لا أحد ينصرك! (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) [آل عمران:192]، (وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) [البقرة:107].
يقول جلّ جلاله: (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِم) الساعة ثم النار (بَغْتَةً) كل واحد يأتيه موته بغتة ثم تأتيه القيامة بغتة (فَتَبْهَتُهُمْ)، يتحيّرون ولا يدرون، (بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ) تحّيرهم (فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ)، لا أحد يقدر أن يُؤخِّرهم ولا يُؤجِّل عذابهم.
(بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ (40) ولَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ (41)) الذين أرسلناهم من قبلك، كانوا يستهزئون بهم جماعتهم -لا إله إلا الله-.
(ولَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ) لهذا أنت بإيمانك مهما عقَلت؛
- لا ينبغي لك أن تتأثّر من كلام أحد، ولا من سبِّ أحد، ولا من استهزاء أحد؛ اثبت، اثبت، اثبُت، اصبر (وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ) [الروم:60].
- لا تكُن مثل الريشة، كل شيء يطيّرك من هنا؟! اعقل، واثبُت، وكُن حليمًا وقورًا،
- وانظر ماذا تقول وماذا تفعل بما تُرضي به الربّ القدير القوي القائم على كل نفس بما كسبت، الذي إليه المرجع والمصير وعليه الحساب -جلّ جلاله-.
- لا تستعجل ولا تقلق من كلام أحد، ولا من هُزوء أحد.
يقول: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41)) ما كذّبوه وما ردّوه وما جحدوا به، حاق بهم وهلكوا وانتهَوا ولم يزالوا في عذاب، كما ذكرنا في أصحاب فرعون: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا) كل صباح ومساء، كم صباحٍ وكم مساء من يوم هلكوا إلى الليلة؟ في الصباح اليوم عُرضِت النار عليهم، والليلة تُعرَض النار عليهم، عذاب في عذاب إلى يوم البعث، ويوم القيامة: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) [غافر:46] -اللهم أجِرنا من عذابك-.
قال في الآية الأخرى: (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) [البقرة:165] -سبحانه-.
(بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ (40)) لا أحد يقدر أن يؤخرهم ولا يؤجل العقاب عنهم (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41)). يقول الله: قل لهم راجِعوا حساباتكم، راجعوا عقولكم، كل ما تعتدّون من دون الله لا يدوم لكم ولا يبقى، وأمثالكم ونظراؤكم قد جاءوا في الأرض وراحوا عِبرة (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) [القمر:51] أنت أول واحد جئت أم ماذا؟ لست الأول ولا الثاني ولا الثالث ولا الألف ولا الألفين، جاء مثلك كثيرون وهلكوا؛ اعقل، اعقل؛ أين ستذهب؟!
(قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَٰنِ (42)) كُل إراداتِنا نفّذناها في الأقوام قبلكم؛ في الأفراد، وفي الجماعات، وفي الآيات؛ نفذناها فمن يقدِر؟ أنتم أيضا في صباحكم ومسائكم؛ ما يصيبكم من قِبَلي لا يقدر أحد منكم أن يردّه، فراجعوا قليلًا، حرِّكوا عقولكم، ارجعوا إلى آذانكم، اشكُروا نعمة العقل ونعمة السمع والبصر، وراجعوا حسابكم.
(قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَٰنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ (42)) لا يريدون أن يعترفوا، لا يُريدون أن يُقِرُّوا، لا يريدون أن يخضعوا، كِبر وعنجهية؛ بباطل.
(بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا (43)) أنا -يقول سبحانه وتعالى- أُمرِض الواحد منهم، فهل تمنعنا آلهتهم؟ أُعمي الواحد منهم، فهل تمنعنا آلهتهم؟ أُفقِر الواحد منهم، أُميت الواحد منهم بمختلف الأسباب، بالسبب هذا أو بهذا أو من دون سبب، لا أحد يمنعنا.
(أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا) آلهة من دوننا تمنعهم وتحفظهم؟! من هو هذا؟! -لا إله إلا الله-.
(أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا) وذلك الذي من أولاد أبي جهل تجرّأ على النبي ﷺ، فقال النبي: "اللهم سلّط عليه كلبًا من كلابك" فصاروا بعدما سمعوا دعوة النبي يوقنون أنه ستقع له مصيبة، لا أحد يقدر أن يمنعه، وإن كان سيسافر، يقول أبوه: لا يسافر إلا مع مجموعة، اسمعوا؛ لا يبيت وحده، ولا يمشي في مكان وحده، وابقوه بينكم، قالوا مرحبا.
فبينما هم يمشون في رحلتهم إلى الشام، وفي ليلة من الليالي، جاءوا إلى مكان فجعلوه في الوسط وناموا، كل واحد نائم في مكانه، فأقبل أسد يتخطّى كل واحد منهم، حتى جاء إلى الوسط فأخذه وذهب، "اللهم سلِّط عليه كلبًا من كلابك" (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا) -لا إله إلا الله-.
(قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَٰنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا) تحفظهم وتحرسهم هؤلاء الذين يدَّعون أنهم سيحرسونهم (لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلَا هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ (43)) لا يقدرون، يقول الله: إن أنا لم أمدهم بنصر ولا بقوة ولا بتأييد، ولا أصحبهم بحفظي ولا بتأييدي، فمن الذي سيحفظهم؟
(لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلَا هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَٰؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّىٰ طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ (44)) أخّرناهم شهرًا بعد شهر، سنة بعد سنة، فظنوا أنهم لن يموتوا.
(أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا (44)) أنا -يقول سبحانه وتعالى- آتي إلى الأماكن والبلدان وأنصر نبيي، أرضًا بعد أرض، بلدًا بعد بلد، يقول: انظروا كيف أفعل بالنبي. وينتشر دينه من بلدة إلى بلدة، ومن أرض إلى أرض، ومن مكان إلى مكان.
يقول: (أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا) إذًا؛ هذا يدل على أنه مَن الذي سينتصر؟ (أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)) هم الذين سيُغلبون؟! قال: أنا راعيت نبيي هذا، إذ اجتمعتم عليه لقتله، واجتمعتم عليه لحبسه، واجتمعتم عليه وخلَّصته منكم، وقمتم أمام الغار الذي اختبأ فيه، ولا أحد منكم قدر أن يقول بعينه هكذا فينظر، فصرفْتكم عنه، واليوم يدخل الناس في دينه من بلدة إلى بلدة، (نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا) (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا) [النصر:2].
(أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ) أنا معي رسالة من الرب أبلغكم إياها (وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ) صُمّ القلوب (الدُّعَاءَ) الدعوة والدلالة (إِذَا مَا يُنذَرُونَ (45)).
(وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ) نفحة: يعني أمر يسير، نفحة يسيرة من عذاب ربك (لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46)) كما يحصل لهم دائمًا لمّا تشتدّ عليهم الرياح والأمواج في البحور، ولا أحد منهم يقول يا هُبَل، ولا يا لات، ولا يا عزى؛ يا الله يا الله، كلهم يقولون يا الله -لا إله إلا الله- هو وحده الذي يُنجّيهم.
(وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ (47)) يقول جلَّ جلاله هذا وعدٌ لنا بحساب دقيق، على قولهم وفعلهم وعلى ما يكتسب هؤلاء المكلفون، وسنحاسبهم ولو بمِقدار حبّة من خردل.
حتى جاءنا في عدد من الأحاديث في الروايات، أنهكما روى الإمام أحمد في مسنده والإمام الترمذي، تقول سيدتنا عائشة: جاء رجل فقال: يا رسول الله، إن لي مَملُوكين -عبيد- أغضب عليهم وأضربهم وأسبهم؛ يؤذونني ويخالفونني، قال ﷺ: "يُحسَب ما آذوكَ وما سبَبتهم وما ضربتهم، فإن كان دون ما آذوك كان لك الفضل" يعني تأخذ باقي حقك "وإن كان مثله، فلا لك ولا عليك، وإن كان ما سببتهم أو ضربتهم أكثر مما قصّروا في حقك وآذوك، كان لهم الفضل عليك فيؤخذ من حسناتك لهم"، قال الرجل: يا رسول الله! قال هو هكذا، أما سمعت قول الله: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ) قال: ما أجد يا رسول الله إلا أن أفارقهم، أشهدك أنهم أحرار.
وهكذا، جاء ﷺ، و أبو قتادة كان معه مملوك، وغضب عليه -لأنه خالفه- فقام يضربه، غضب، فجاء النبي ورآهم من بعيد، من الخلْف، فقال له: "اعلم أبا قتادة، اعلم!" فما سمع حتى حسّ بصوت النبي فوقف، قال له النبي: "اعلَمْ أن الله أقدر عليك منكَ عليه"، فقال: يا رسول الله، فهو حر، أعتقته، قال: "لو لم تفعل للفَحتك النار" "اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود" فلما أحسّ بصوت النبي وقف وكان غضبانًا، قال له النبي: "اعلَمْ أن الله أقدر عليك منك عليه" قال: فهو حر يا رسول الله، قال: "لو لم تفعل للفحتك النار".
إذًا كل شيء بحسابه، سواء كانوا موظفين أو مَملوكين، وجاء في روايات الحديث عند الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" وعند غيره، قالوا: أولادنا يا رسول الله نضربهم، قال: "إنكم لا تُتَّهمون في أولادكم، ولا تطيب أنفسكم أن تُطعَموا ويجوعون، ولا أن تلبسوا ويَعرُون" أي يختلف الوضع، والمعنى أنكم إذا لم تتجاوزوا الحد، وإنما كان ضربُكم لتأديبهم بمقاييس، فما عليكم شيء، ولكنكم مُتّهمون في الآخرين، كل شيء بحسابه وهكذا، حتى الولد إذا زِدت عليه ستحاسب، ولكن إذا بقيت على الفطرة، لا ترضى أن تطعم ويجوع، ولا ترضى أن تلبس ويَعرى؛ فهذه فطرتك لا تجعلك تتمادى في عقابه بما يخرج، ولو حتى في إقامة الحد سواء كان؛ حد قذف، أو حد زنا غير المُحصَن، أو حد السرقة، أو حد شرب الخمر لا يجوز ضرب الوجه، ولا يجوز أن يكون الضرب يكسِر عظمًا ولا يُسيل دمًا، مِن باب أولى تأديب الوالد لولده أو تأديب المعلم لتلاميذه:
- لا يجوز ضرب في الوجه،
- ولا يجوز أن يكسر عظمًا،
- ولا يجوز أن يُسيل دمًا.
الضرب تأديب، ليس سَبُعيّة ولا وَحشية لكن تأديب، وحتى بعض الذين أقاموا عليهم الحدود أيامه ﷺ؛ واحد ضَربه بكُمِّه، أو ضربه بسواكه، المراد فقط النَّهي والزجر، لا الإيلام ولا الوصول إلى تجاوز الحد، وهكذا، وكل شيء بميزانه في حساب شريعة ربك، سترجع له وكل شيء بحسابه.
فالله يرزقنا الأدب والإنابة والاستقامة ويسامحنا ويعفو عنا، اللهم هَب لنا حقّك، وأَرضِ عنا خلقك، واسلك بنا مسالك محبوبيك من عبادك أهل ودادك، في لطف وعافية.
بسر الفاتحة
وإلى حضرة النبي محمد
03 صفَر 1447