تفسير سورة الأنبياء -05- من قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا.. (30)} إلى الآية 35

للاستماع إلى الدرس

تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الأنبياء  

{ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) }

مساء الإثنين 19 محرم 1447هـ 

نص الدرس مكتوب:

الحمد لله، مُكرِمنا بالوحي والتنزيل، وبيانه على لسان خير هادٍ ومُعلم ودليل، سيدنا محمد الهادي إلى سواء السبيل، صلى الله وسلم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله خير آلٍ وصحبه خير جيل، وعلى مَن والاهم واتَّبعهم بإحسان إلى يوم الهول المُهيل، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل التكريم والتفضيل والتبجيل، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكة الله المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنَّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

أمَّا بعد،،

فإننا في نعمة تأمّلنا وتدبُّرنا لكلام إلهنا وخالقنا ومولانا -جلَّ جلاله-، انتهينا في سورة الأنبياء إلى قوله سبحانه وتعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30))، يعرِض الحق تعالى الآيات التي بإمكان كل من أُوتي السمع والبصر والفؤاد، من كل مَن أُوتي العقل من المكلَّفين أن يهتدي بها؛ إلى الإيمان بالمكوِّن الخالق البارئ المصور الفاطر المبدع -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-.

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا) كانتا عدمًا لا شيء، ثم ابتدأ -سبحانه وتعالى- بالتكوين فجعلهما ملتصقتين مُتّصلتين كتلة، ثم فصَّل هذه الكتلة إلى سبعِ أَرَضين وسبع سماوات بقدرته -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-، وكان من الرتق الذي تحدّثوا عنه؛ رتق الأرض بالزرع والنبات، والرتق من السماء بإنزال هذا المطر من السحاب المُسخر بين السماء والأرض، وأشرنا إلى أن ما يذكرون من تتبع تكوين الكون وكيف تكوَّن، وأنه كانت كتلة ثم جاء الإنفجار الكبير الهائل فتكوّنت به السماوات والأرض، تشير الآية أيضًا إلى صحة شيء من ذلك، وقلنا إنَّ الذين غيروا كتب الله وبدلوها كمثل النصارى؛ تكلموا عن خلق السماوات والأرض بما لا يتفق مع ذلك، وأنَّ السماوات والأرض وما فيهما آيات ودلالات واضحات على عظمة المكوِّن المُنْشِئ لهما بقدرته -جلَّ جلاله-.

(وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)، قال تعالى في الآية الأخرى: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ) [النور:45]، فجعل الماء أصلًا في التكوين، ثم جعل به حياة النبات والزروع والأرض، ثم جعل -سبحانه وتعالى- بداية خلق بني آدم من ماء وطين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، وجعل ذلك أيضًا في بقية الحيوانات، فجعل الأصل -سبحانه وتعالى- الذي يكوِّن منه الأجسام الحية التي يُراد حياها هو الماء (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ).

يقول تبارك وتعالى: (أَفَلَا يُؤْمِنُونَ)، كما قال في الآية: (نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ * أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ* أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ) [الواقعة:57-61]، فهو القادر على أن يهلكنا وينشئ غيرنا، كما أنشأنا من ذرية قوم آخرين -جلَّ جلاله- وله البقاء -سبحانه وتعالى- وحده، وكل من عليها فان.

(أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) أفلا يكفيهم ما بثثنا أمامهم من الآيات في السماوات والأرض وما بينهما وفي أنفسهم؟ كما يقول جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [البقرة:164]، ويقول سبحانه وتعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ) [آل عمران:190]

ويقول -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه- في ذكر هذه الحِكمة العظيمة، والبدائع الجسيمة التي برأ بها الكائنات: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ) [الذاريات:7]، الحَبك الذي به تم إتقانُها وبقوة، كما يقول سبحانه وتعالى: (وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا) [النبأ:12]، متينة الصنع والحَبك، (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ * قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) [الذاريات:8-10]، ثم يقول -جلَّ جلاله-: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ) [الذاريات:20]، ففي السماء آيات وفي الأرض آيات (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) [الذاريات: 21- 22].

يقول: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) ومع ذلك فهم بمختلف قدراتهم على مختلف الأوقات إلى آخر الزمان لا يستقلُّون بإيجاد نملة، ولا نحلة، ولا ذرّة، ولا ذباب، كما قال سبحانه وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) [الحج:73] -جلَّ جلاله-.

نقول اخلقوا ذبابة! قالوا: ذكاء اصطناعي! -ذكاء اصطناعي- عبارة عن برمجة؛ الإنسان يبرمج ويقيم البرنامج فيتحدث البرنامج؛ لكن نريد ذرة فقط، اترك هذا، أريدك أن تحضر لي ذرة فقط، أحيها، ومع ذلك أنت أصلك خلق من خلق الله، لم أقل لك من دون أن تأخذ شيء من الكائنات الأخرى، خذ الكائنات الأخرى كلها معك، فقط هات لي ذرة، هات لي ذبابة، أنت متقدِّم إنت متطور وصلتَ الى القمر، نريد ذبابة واحدة، حشرة واحدة هات، كوِّن، كوِّن، كوِّن هات آلاتك هات مصانعك، كوّن! (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) [الحج:73].

والأغرب: (وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ) [الحج:73]، لو أخذ عليهم حبة سكّر، ثم ذَهَبَ، قل له: هاتها، أخرجها منه! يفتت الذبابة ولا يجد شيء، وكان من خصوصية الذباب أنه بسرعة ريقه يقْلب المادة التي يأخذها فتذوب (وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) فسبحان القوي الواحد، (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) [البقرة:165].

يقول تبارك وتعالى: (وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ (31))، (جَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ) أي جبال راسيات ثابتات راسخات، (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا) [النبأ:6-7]، والوتد هو عندما يُضرَب في الأرض من أجل أن يمسك طرف الخيمة ونحوها، يغوص أكثره في الأرض، وكذلك تجد هذه الجبال التي على ظهر الأرض، في باطن الأرض منها مثل الذي فوقها مرتين، (وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا) -سبحان الخالق المُكوّن-، ويتحدث ﷺ عن هذه الحقائق قبل وصول الإنسان إلى الجيولوجيا ومعرفة طبقات الأرض وأنَّ الجبال هذه مثل الأوتاد تمامًا، سبحان من علمه، سبحان من أنزل الوحي عليه.

(وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ)، جبال (أَن تَمِيدَ بِهِمْ)، يعني لئلا تميد بهم، حتى لا تميد وتتحرك بهم وتضطرب.

رسل بلاد بأوتاد لها فرست ***

(وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ)، (أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) [الغاشية:17-19]، من الذي نصبها؟ ومن الذي جعلها بهذه الصورة وبهذه الطريقة وبهذا التركيب؟ ووزعها على الأرض هنا وهناك بحكمة! 

قال جل جلاله: (وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ)، أي جبالٍ راسيات.

(أَن تَمِيدَ بِهِمْ)، لئلا تميد بهم فلا تضطرب، ومُهِّدَت تمهيداً (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا) [النبأ:6]، (لِّتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا) [نوح:20].

قال: (وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا (31))، في الأرض وفي الجبال خصوصًا وفي بقية الأرض.

(فِجَاجًا)، جمع فج أي: طُرق واسعة، وعلامات وممرات بها يمرون ويسهُل عبورهم.

(وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا) طرقًا.

(لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ)، يهتدون إلى مقاصدهم في الدنيا وذهابهم من المنطقة هذه إلى المنطقة هذه، والبلدة هذه إلى البلدة هذه (لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) إلى أن هذا التكوين البديع لا يكون إلاَّ من مُكوّن عظيم قدير حكيم؛ (لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ).

(وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ) -أي لئلا تميد بهم- (وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا (32))، يأتي محفوظ بمعنى مرفوع، محفوظًا عن السقوط، كم سنوات له منذ خُلِق وهو سقف السماء؟ وهل تعلمون شركات تقوم بالمحافظة عليه وتقوم بصيانته؟ لا يوجد!

إذا ابتكروا لهم هذه السقوف الصغيرة على ظهر الأرض -بأي نوع من أنواعها- لا تمر السنين إلاَّ ولا بد لها من تغيير، ولا بد لها من صيانة وإلاّ تنشق وتسقط، وهذه كم لها؟ آلاف، مئات الآلاف، ملايين السنين!، أين صيانتها؟!

(وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا)، ومحفوظًا أيضًا بعد ذلك في وقت بروزه صلى الله عليه وسلم من استراق السمع من قِبَل الشياطين (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا) [الجن:9]، (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا)، (وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) [الغاشية:18].

(وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32))، بما في جهة السماء، أو بكل ما علا فوقهم من سُحب، ومن كواكب، ومن نجوم وآيات الفضاء وما فيه (وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) [يوسف:105]، لا يحسنون التأمُّل والتدبُّر؛ لأنهم مشغولون بمرادٍ وأغراضٍ وشهواتٍ قطعتهم عن إدراك الحقيقة، بل عن أن يتفهَّموا في الأهم لهم مَنْ خلقهم، ولماذا خلقهم، وإلى أين مصيرهم؟

قال: (وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ (33)) -جلَّ جلاله- (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً) [الإسراء:12]، (وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) [ال عمران: 190]، (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً) [الفرقان:62]، هذا يخلُف هذا، وهذا يخلُف هذا، (لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) [الفرقان:62].

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ) في دائرة واحدة (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)، (لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس:40]؛ يعني أمر:

  • مضبوط
  • مُرتب
  • مُنظم

لا النجم هذا يدق هذا، ولا هذا يدق هذا، كُلٌّ له مسار، (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [يس:38] -جلَّ جلاله-، ونسمع في هذه السنوات القريبة التي مضت، يقولون: هناك حركة في النجم الفلاني هذا، يمكن أن يرتطم في الأرض، يمكن أن يسقط، هناك خطر سيقع على أهل الأرض (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ) [فاطر:41]، وسيجيء يوم وستتناثر كلها الكواكب، وتُدكّ الأرض والجبال وينتهي كل شيء، وأما ما دام القرآن لازال موجودًا، ولازالت المدة التي أبقاها الله فلا تخافوا، لن يدق فينا نجم ولا نُدقّ في نجم، وأرضنا فوقها رَب يُسيِّرها من قبْل خلقك وخلق أبيك، وجدَّك، وجدْ جدَّك، وجدْ جدْ جدَّك، و لن يتغير شيء، اذهب أنت وادعاءك للعلم، هات لك كلام صحيح، اعرف قدر نفسك من أنت.

أحيانا ينشرون ويقولون؛ الآن خطر كبير، النجم الفلاني سيدق في جنب الأرض.(لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس:40]، بتقدير، بترتيب، لا يرتطم هذا بهذا، ولا يدق هذا في هذا، اذهبوا وصحّحوا واهتموا بقوانين المرور عندكم؛ من سيارات وطائرات، أمَّا الجذر الربانية التي أحكمت هذا الخلق، لا تحتاج شيء منكم، ولا تقدرون أن تبعدوا شيء ولا تقرِّبون شيء -لا إله إلاَّ الله-.

(وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا ۖ وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)) في دائرة مُرتّبة مُنظّمة لا يخرُجون عنها، يدور حيث رتّب له المُكوّن سبحانه وتعالى -جلّ جلاله-.

(وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ (34)) فإنهم يقولون: (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) سيموت محمد ونرتاح منه.. قال الله: قُل لهم: الموت آتٍ لكل واحد منّا ومنكم، وليس على أحد دون أحد، نحن وإياكم، المُكوِّن جعل فينا الموت ولابُدّ منه، وكل واحد لا يدري من يموت أولًا، ذا أو ذا، فلا تُفكِّروا أنه سيموت فلان، (أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) [الطور:30-31] أنا مُنتظِر ما يُدبِّر ربي -جلّ جلاله- وما يُكوّن، وما يحفظ من بعدي، شريعتي وديني الذي أنزله عليّ، وقرآنه الذي أوحاه إليّ، وأنتم تربصوا وانظروا ماسيحصل لكم -لا إله إلا الله- (وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ) [هود:122].

فهكذا تأتي التقديرات، وكثير من الناس، وحتى كثيرًا منهم قد يظُن أنَّه إذا تخلّص من فلان هذا الذي يُسبِّب له مشكلة في الحياة، وأنَّه لو تخلّص منه سيستقِر حاله، فالذي يحصل أنَّ الذي رتّب أن يتخلص منه يسبق هو إليه الموت قبل موت الثاني، وإمَّا يتحمّل جريمة الفتك بالآخر ثم كل ما رامَهُ من الاستِقرار للأمر له لا يستقِرّ له بعده.

ولهذا يتلو الله علينا الآيات والقصص؛ فكَّر إخوة يوسف أنه ما دام يوسف موجود فإنّ وجه أبينا سيبقى مُلتفِت إليه ولن ينتبه منا إلا إذا أبعدناه، وإذا أبعدناه..؟! (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ) [يوسف:9] ومن يوم ما تصرّفوا في يوسف فألقوه في غيابة الجُب وهم في مشاكِل، وفي تعب ولا وجدوا من أبيهم شيئًا مما كانوا يرتجونه، بل في حُزنِه وبكائه على يوسف، وهم في تعب إلى أن رجع إليه بعد ذلك والكل سَعِد.

فالمسألة ليست على تقدير الخلِق، هل فلان سيموت؟ فلان سيموت؟! ولماذا فلان يموت؟ وسمعنا أيضًا في الأوقات الأخيرة بعض الذين -إمّا لهم إرادة فساد أو انحراف في الفكر في الدين- ويرون ويقولون: في البلدة بقي هذا فلان وفلان شيبة سيموت الآن، ونحن سنتصرف في البلد كما نريد، ورأيناهم هم الذين تفرّقوا، هم الذين ذهبوا، والذي كانوا يُريدون تغييره لم يتغّير، بل رُبّما تقوّى، (أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) يقولون: سيموت هذا محمد وسينتهي الكلام هذا كله، لا والله لن ينتهي، أنتم ستنتهون، وذكر محمد سيبقى مرفوعًا ﷺ، وتحيا به قلوب تتّصِل بالحي القيوم -جلّ جلاله- على مدى القرون. -الله أكبر-.

(وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ) أمَّا مسألة الموت، أنا سأموت وأنتم كلكم ستموتون، لكن نُحدِّثكم عن دين، عن حِكْمة في الخلق والإيجاد، عن إرادة للإله الذي خلق -تأتي تقول: سيموت!- متَّ أم لم تمت، أين ستذهب؟! (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) [غافر:77] هم كلهم سيرجعون إلينا، والتسيير لي ليس لهم، -جلّ العلي العظيم-.

وإلا كم من عقل لأفراد ولجماعات مِن أيام بِعثته ﷺ إلى اليوم، رتّبوا أنَّه سنعمل كذا وكذا وسينتهي هذا الدين، وذكر محمد، ولا عاد يبقى شيء، فكّروا.. في مكة فكّروا، أيام كان في المدينة فكّروا، بعد وفاته فكّروا، في القرن الثاني فكّروا، في القرن الثالث فكّروا، والرابع والخامس والسادس، والقرن هذا فكّروا أيضًا؛ أنهم سيقضون على الدين نهائي، يا آدميين.. يا أناس، اعقلوا! المكوّن الخالق أعظم مما تتصوّرون! ويُحدِّثكم خاتم النبوة عن هداية من عند الله جاءت، وعن دين ثابت يرعاه -جلّ جلاله وتعالى في علاه-، وأنَّ مَلِك المُلك لم يسُلِّم مُلكه لكم.

  • (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ) [آل عمران:26].
  • (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) [الصافات:171-173] فيا فوز من صدق مع الله وأراد نصر الله ورُسله وتحرّك في الحياة لتكون كلمة الله هي العُليا، فهو الذي يُعلى بذلك:
  • (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران:139].
  • (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) [محمد:35].

فهذه إرادة الله في إعلاء كلمته وفي نصر رُسله، فالله يجعلنا من أنصاره وأنصار رسله، وممن يقول ويفعل ويتحرّك ويسكُن، وقصده أن تكون كلمة الله هي العُليا فيُعليَنا الله بذلك، اللهم آمين.

يقول: (أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34)) يقول: أنتم ستبقون؟! كثير منكم أمامي سيموتون، وأنا لازلت في الحياة القصيرة وما تجاوز ﷺ الثالثة والستين من عمره على أصح الأقوال -صلوات ربي وسلامه عليه-، والذين يبقون منكم بعدي؛ منهم من سيرجع ويتبع ويسلم، ومنهم من سيرى انتشار ديني هذا في الشرق وفي الغرب: "والله ليُتِمّنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه" صدق ﷺ.

يقول: (أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ) قل لهم: الموت مثل الحياة، أمرها بيد واحد اسمه الله، (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك:1-2].

(وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ) والذين مضوا قبلك كلهم، مَن أبقينا منهم؟ سواءً من الأنبياء، سواءً من الكفار، سواءً من المُلوك، سواءً من التجار، سواءً من الزراع، أبقينا مَن؟! مَن الذين أبقيناهم؟ كلّهم يهلكون، وأنت وهم كذلك (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَيِّتُونَ) [الزمر:30] والأعمار بيده -سبحانه وتعالى- والآجال قد كتبها، لا أحد يُقدِّم ولا يؤخِّر -الله، لا إله إلا الله-.

وجاء حُرّاس يحرُسون سيدنا علي -أيام خِلافته- فقال لهم: ممّن تحرِسونني؟ من أهل الأرض أم من أهل السماء؟ قالوا: أهل السماء ما لنا بهم طاقة، بل من أهل الأرض. قال: فاذهبوا فإنه لا يحصل من أهل الأرض شيء حتى يتخلّى حرس السماء، -لا يقدرون أهل الأرض يصلّحون شيء إلا إذا كان شيء مُرتب من عند الله مكتوب، وتخلّى حرس السماء -ولا ملائكة يحرسون- يحصل، وإلا من دون هذا لا يقدِرون.

ومضى -عليه الرحمة- ورجع بما أخبره ﷺ يقول: أين هذا الذي يضرِب منّي هذه -أشار إلى جبهته- فيخضُب منّي هذه -أشار إلى لحيته-، بُقْعة قد عيَّنها للضّربة قال له: "وأشقى الآخرين الذي يضربك على هذه" ووضع يده الشريفة فوق محل الضربة، وجاء عبدالرحمن بن ملجم في نفس المكان يضرب سيدنا علي، قبله بأيام يقول: أين هذا الذي يضرِب منّي هذه فيخضُب منّي هذه؟ يعني يُخضّب اللحية بالدّم، وقال: أراه قد أبطأ، ما يُبطيه؟ اشتاق للقاء الحق ورسوله والخروج للدار الآخرة -عليه الرضوان- وجاء الوقت الذي رتّبهُ الله -سبحانه وتعالى.

(وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) نحن حكمنا على الكل.

(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)) نبلوكم بالغِنى والفقر، نبلوكم بالصحة والمرض، نبلوكم بتسيير الأسباب وبشدِّتها.

(نَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ) أنواع ما تُحِبون وما تكرهون، نختبركم به؛ فِتنة: اختِبارًا وابتِلاءً.

(وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) مرجِع الأولين والآخرين إلى الربّ، (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ) [الواقعة:49-50]، (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم) [الغاشية:25-26] ويقول لأهل النار: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون:115] فالمرجع للجميع إليه.

فنسأله أن يكتب لنا السعادة في الرُجعى والمآب، والسعادة في الحياة والذهاب، وينظِمُنا في سلِك أهل الصدق ممن أناب، اللهم واربُطنا بعالي الجناب ربطًا لا ينحل أبدًا، يا حي ياقيوم ياوهاب، اللهم واربط هذه القُلوب بنور الإيمان واليقين، وارزقها في أعمارها فهمًا عنك ومعرفة بك وقيامًا بالوفاء بعهدك وحسن لقاء لك يا حي يا قيوم، يلقاك كل منا وأنت تحب لقاءه وهو يحب لقاءك، وأنت تحب لقاءه يا أكرم الأكرمين، يا أرحم الراحمين.

فيا ربِّ واجمعنا وأحبابًا لنا *** في دارك الفردوسِ أطيب موضعِ

فضلًا وإحسانًا ومنًّا منك يا *** ذا الجود والفضل الأتمّ الأوسعِ

يا أرحم الراحمين.

 بسر الفاتحة

 وإلى حضرة النبي محمد

صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلم

الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

22 مُحرَّم 1447

تاريخ النشر الميلادي

17 يوليو 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام