(228)
(536)
(574)
(311)
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة النحل، من قوله تعالى:
{إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ كَانَ أُمَّةٗ قَانِتٗا لِّلَّهِ حَنِيفٗا وَلَمۡ يَكُ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ (120) شَاكِرٗا لِّأَنۡعُمِهِۚ ٱجۡتَبَىٰهُ وَهَدَىٰهُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ (121) وَءَاتَيۡنَٰهُ فِي ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٗۖ وَإِنَّهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ (122) ثُمَّ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ أَنِ ٱتَّبِعۡ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۖ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ ٱلسَّبۡتُ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِۚ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحۡكُمُ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ (124) ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِۦ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِينَ (125) وَإِنۡ عَاقَبۡتُمۡ فَعَاقِبُواْ بِمِثۡلِ مَا عُوقِبۡتُم بِهِۦۖ وَلَئِن صَبَرۡتُمۡ لَهُوَ خَيۡرٞ لِّلصَّٰبِرِينَ (126) وَٱصۡبِرۡ وَمَا صَبۡرُكَ إِلَّا بِٱللَّهِۚ وَلَا تَحۡزَنۡ عَلَيۡهِمۡ وَلَا تَكُ فِي ضَيۡقٖ مِّمَّا يَمۡكُرُونَ (127) إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحۡسِنُونَ (128)}
ضمن جلسات الإثنين الأسبوعية
الحمدُلله مكرِمُنا بالوحي والقرآنِ وبيانهِ على لسانِ حبيبهِ المصطفى سيد الأكوان صلى الله وسلم وبارك وكرَّم عليه في كل حينٍ وآن، وعلى آلهِ وأهلِ بيتهِ المطهّرين عن الأدران وعلى أصحابهِ الغرِّ الأعيان وعلى منْ والاهم في الله واتبعهم بإحسان وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين من رفع الله لهم القدْر والمنزلة والشان وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المقربين وعلى جميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعد،، فإنَّا في نعمةِ تأُّملنا لكلام ربِّنا وتدبّرنا لآياته وأحكامه وتعليمه، انتهينا في أواخرِ سورة النحل إلى قولهِ جلّ جلاله: (إنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(120) شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)، يقولُ جلّ جلاله وتعالى في علاه في شأنِ الخليل إبراهيم -على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم وآلهم وصحبهم وتابعيهم-: (إنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) والأمَّة الجماعة ومن جَمعَ من خصالِ الخيرِ ما تفرَّق في الجماعة صار بمفردهِ أمَّة. وقد جمع الخليل إبراهيم -على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام- من الكمالات والفضائل والمنافع الدينية والأخروية ما يُؤَم (يؤتم) به ويُقْصد من كلِّ راغبٍ في الخير فيجدُ عنده ما به يسْعد وما به يستفيد وينتفع؛ فلذلك كان أُمَّة.
فكان في معنى الأمة؛ مقتداً؛ إماماً يُقْتدى به عليه صلوات الله، ونِعْم الإمام إبراهيم الذي قال له الله تعالى (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) [البقرة:124]؛ لما أنْ أحسنَ الصبرَ وأدَّى حق ماأُخْتبر به، (وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا)[البقرة:124]. فكان إماماً يُقْتدى به، ومرّت أيام كان وحده منفرداً بالإيمان والتوحيد وقال لزوجته سارّة عليها رضوان الله: " إنه ليس الآن على ظهر الأرض مؤمنٌ غيري وغيرك"، فكان وحدهُ في مدةٍ من الزمن منفرداً من بين البشر بالإيمان بالله وتوحيدهِ جلَّ جلاله.
(إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) بهذه الاعتبارات صار وهو فرد أُمَّة ، كما أن من اجتمع فيه من خصال الخير ما يصير يُؤَم له في القيامة يصير يُبعث يوم القيامة أمّة وحده؛ كشأن من علِمَ علماً من شرعِ الله فنشره بين عباد الله يُبعث يوم القيامة أمة وحده. (إنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ) القانت : مديم الطاعة على وجه الإحسان. (قَانِتًا لِّلَّهِ): أي دائماً الطاعة محسناً في أدائها فالقانت: هو المديم الملازم للطاعات، (قَانِتًا لِّلَّهِ): في عبادته له وقصده وجهه وحضوره معه وشهود إياه، قانتاً لله.
(حَنِيفًا): والحَنَفُ هو الميل عن الباطل وعن السوء وعن الشر وعن الفساد إلى الحق وإلى الخير وإلى الهدى وإلى التقوى، فهو الحَنَفُ؛ ميلٌ إلى الحق وتمسكٍ وتشبثٍ به والجنفُ مُقابِلهُ، الجنف هو الميل إلى الباطل والرغبة فيه والتشبث به، ففرقٌ بين الحنيف والجنيف وقال تعالى: (فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا) [البقرة:182]، ميلاً إلى الباطل هذا الجَنَف، أما الحَنَف فالميل إلى الحق. (إنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا)على الحنيفية السمحة من التوحيد والإيمان والأدب مع الرحمن.
(حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فيا من يدَّعي الانتماء لإبراهيم ثم يقولون عُزير بن الله، يا من يدَّعي الانتماء إلى إبراهيم ثم يقولون المسيح بن الله ويتخذون أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، أينكم من إبراهيم؟ (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)؛ ليس من الشرك في شيء. أين أنتم الذين تدَّعون تعظيم إبراهيم من مشركي مكة؟ أين أنتم منهم؟ ليس في هذا المسلك الذي أنتم عليه ولا هذه الديانة التي تتشبثون بها من هذا الشرك. (لم يكُ من المشركين)؛ لا الشرك الظاهر الجلي ولا الشرك الدقيق الخفي-صلوات الله وسلامه عليه- بل هو المُطهّر عن قصد غير الله وإرادة غير الله تبارك وتعالى في كل شأن وفي كل حال. (لم يكُ من المشركين) قائم في محراب الشكر.
(شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ)؛ معترفاً بأنْعُم الله عليه صارفاً لها في طاعاته حامداً لربه عليها. (شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ) ومن كان على مثل هذا الحال في جمع صفات الخير والتمسك بالحنيفية والبعد عن الشرك بأنواعه والقيام بشكر الرحمن فتحْصُل له النتائج، مثل ماذا ؟ (اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)؛ اصطفاه سبحانه واختاره، (اجْتَبَاهُ) : انتخبه رب العالمين. قل للذي يفتخرون بأنه انتخبهم الشعب الفلاني أو المجلس الفلاني أو الوزارة الفلانية، بنسبة 95% و 4 من 9..، الله ينتخب! فهل انتخبك؟ الله يصطفي، فهل اصطفاك؟ الله يجتبي فهل اجتباك؟ فإن كان في شيء فخرٌ ففي اجتباءِ الله واصطفائه وانتخابه لك، إذا انتخبك واصطفاك فنِعْم الشرفُ والفخرُ وما عدا ذلك فماذا يساوي؟
قال: (اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)؛ منهجٍ قويم ومسلكٍ صالح طيِّبٍ لا غِشَّ فيه ولا غِلّ ولا ظُلمة ولاجهلَ ولا زيغَ ولا ضلال، باختيار الحكيم العليم الذي أحاط بكل شيء علما، ورعايته وعنايته سبحانه وتعالى، (صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) [الشورى:53]؛ وهو الصراط الذي يهدي إليه سيدنا رسول الله محمد- صلى الله عليه وسلم- فيما خاطبهُ الله فيه بقوله: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) [الشورى:52-53].
فيا معشر المسلمين الذين آمنتم بالنبي محمد وأنهُ رسول الله، ماذا جلبَ لكم أخْذكُم لغير صراطه، واستقاؤكم التعليمات من عند أعدائه، في أفرادكم وأُسرِكم ومجتمعاتكم وفي دُولِكم؟ ماذا جلب لكم الإصغاء لِدعوة أعدائه والذين خالفوه؟ هو الهادي إلى الصراط المستقيم (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) [الشورى:52-53]، فخالفتُم في أفرادكم في أُسَرِكم في مجتمعاتكم في دولكم منهجه، ولم تستقوا منه التعليم والإرشاد ولم تبنوا قراراتكم ولا قوانينكم وأنظمتكم على اتِّباعه واعتبار ما بلَّغ؟ ماذا جنيتم مِن وراء ذلك؟ جميع مشاكلكم في الأفراد والأُسر والمجتمعات والدول، في السياسة والاقتصاد، جميع آفاتكم، جميع ما نازلكم من البلاء من مخالفتكم لهذا المصطفى، أصَغَيتمْ لأعدائي؛ ليُحسِّنوا لكم ما هو قبيح، وليقبِّحوا لكم ما هو حسَنْ، وليتأمَّروا عليكم ويتأَّلهوا عليكم، ويقولوا افعلوا ولا تفعلوا، فماذا جنيتم من ذلك؟
ويا معشر من لم يؤمن بمحمد، ماذا جرَّبتُم من أنواع الأنظمة؟ وتشتكون!! ولم تجدوا الطمأنينة ولم تجدوا السكينة، هذه دعوة الله لكم فيما جاء به محمد عن الله، اصغوا إليها وأنصتوا، وإن شئتم فجرِّبوا شأنها في صلاح معاشكم قبل المعاد، وأحسِنوا النظر فيما أوحى ربُّ العباد. ولِمَ استعبد بعضكم بعضاً وكنتم بهذه المثابة في هذا الانقطاع عن الحق الواضح المبين، ونسيان الخالق الذي خلق وركونِكم إلى بعضكم البعض، لشيء من الأوهام والخيالات والضلالات والتصويرات والتزويرات؟ (أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّه) [الأحقاف:31]، أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّه خيرٌ لكم، وهكذا جعل الله سيدنا إبراهيم الخليل وهو أفضل الخلق بعد نبينا محمد (وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)، وحَصَلت النتيجة أيضاً في الدنيا (وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) ولكن مهما كانت الحسنة في الدنيا فالدنيا مُنقضية وكم عمَّرَ سيدنا الخليل إبراهيم؟ وما مضى قبل وجودهِ في الدُّنيا كثير، وما مضى من بعد خروجه من الدنيا إلى اليوم هذا، كثير، أضعاف أضعاف عمره، فالأمر أكبر من ذلك (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)). وهكذا جزاءُ من أصغى لأمر الله واتبع وحي الله ومشى على منهج الله جلَّ جلاله، يحوز خيرَ الدنيا والآخرة. (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشقَىٰ) [طه:123].
(ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) يا خير خلقنا ويا خاتم رسلنا، (أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) فكمَّلنا تتويجه بالشرف الأفخر، وقلنا للأقرب والأطهر والأنور، اتَّبِع إبراهيم، وعاد يريد إبراهيم شيء أكبر من هذا؟ شيء أعظم من العِز والشرف أو الفخر أكبر من هذا؟ حتى أكرم خلقنا قلنا له أبوك إبراهيم، و (اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ). وكان يعلِّمنا أن نقول في صباحنا ومسائنا لنتخلص من براثن هذا الاستعباد وهذا الاستبداد للأنفس وشهوات الدنيا وشياطين الإنس والجن في الدنيا: "أمسينا على فِطرةِ الإسلامِ، وكَلِمةِ الإخلاصِ، ودِينِ نَبيِّنا محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وعلى مِلَّةِ أبِينا إبراهيمَ"؛ لتتبيَّن هوِّيتنا الإيمانية ولا نضيع في الدخول في هذا الانحطاط وبراثن الاستعباد من قِبَلِ الأنفس والأهواء وشهوات الدنيا والشياطين والإنس والجن، لسنا مع هؤلاء. أمسينا على فِطرةِ الإسلامِ، وعلى كَلِمةِ الإخلاصِ، وعلى دِينِ نَبيِّنا محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وعلى مِلَّةِ أبِينا إبراهيمَ، حَنيفًا مُسلِمًا، وما كان مِنَ المُشرِكينَ، والله يحيينا كذلك ويميتنا كذلك ويبعثنا مع المصطفى وإبراهيم والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم آمين.
قال : (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) يا خاتم أنبيائنا وسيد رسلنا وأكرم الخلق علينا (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) حالة كونك في حنيفيتك لا تميلُ إلا إلى الحق الصريح الواضح وتتمسك به، وحالة كونه هو كان كذلك الخليل إبراهيم حنيفاً، أنت حنيفاً وهو حنيف الحال من إبراهيم والحال من سيد الوجود صلى الله عليه وسلم (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)) صلوات الله وسلامه عليه بأي معنى من المعاني فهم الذين أخلصوا القصد لوجه الرب، وهم الذين ارتقوا عن أن يشهدوا أنفسهم أو يشهدوا شيئا من شؤونهم وأحوالهم؛ بل علموا أنها شؤون له تعالى يُبديها ولا يبتديها (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن:29]، فما أبعدهم عن الشِّركِ بأنواعه! وما أعظم رسوخ أقدامهم في شهودِ الواحد الحقِّ المعبود جلَّ شأنه.
قال سبحانه وتعالى (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) بِعظمتنا وجلالنا وكبريائنا وأُلوهيتِّنا إليك يا سيِّد خلقِنا ويا أكرم رُسُلنا (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)؛ وقُل لهؤلاء الذين يدَّعون الابراهيمية، ويقولون إبراهيم كان يهوديا والثانيين يقولون إبراهيم كان نصرانيّاً (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا) [آل عمران:67]، وجاء اسمُ اليهودية والنصرانية حَدَث من بعد الخليل إبراهيم بمدة، ويقولون كيف يكون؟ (وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [آل عمران:65]، اللي اتبعوا التوراة قالوا يهود، واللي اتبعوا الإنجيل قالوا نصارى؛ وهذا قبل نزول التوراة والإنجيل إيش كان؟ لا يهودي ولا نصراني (كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [آل عمران:67].
قال تعالى: (إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ) يا معشر يهود جُعِلَ السَّبْتُ؛ وحُرِّم عليكم الاصطياد فيه تأديباً وعقوبة لكم على الذين اختلفوا فيه. قال لكم النبي موسى إن الله فضَّل لكم يوم في الاسبوع يوم الجمعة قوموا به، قالوا لا ما نريد، تفرَّغوا فيه للعبادة قالوا ما نريد، نريد يوم السبت وجاءوا باعتقاد باطل أنه اليوم الذي فُرِغ فيه من خلْقِ السماوات والأرض وأننا في هذا اليوم نُخصِّصُه، فجُعل السبت عليهم بسبب ذلك (إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ). وقد ضلُّوا عن اليوم الذي شُرِّف، وجاؤا من بعدهم النصارى وضلُّوا، وأمرهم سيدنا عيسى أن يتفرّغوا للعبادة في يوم الجمعة، قالوا لا الأحد؛ فأضلَّهم الله عنه وهدانا الله إليه كما قال نبينا محمد فَهُم "لَنَا فيه تَبَعٌ اليَهُودُ غَدًا، والنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ" واليوم يوم الجمعة بُيِّن لنا على لسان نبينا وهدانا الله إليه.
(إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) خالقك الذي أرسلك واختارك؛ (لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من جميع ما زاغوا فيه وضلُّوا وكل مااختلفوا فيه من الشؤون والأمور يقضي بينهم الربُّ الذي خلق ربُّ محمد. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) جلّ جلاله وتعالى في عُلاه؛ فلا مكانة هناك لِهوى ولا لِوهم ولا لخيال ولا لضلال (قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) [الأنعام:73]، ولا يبقى مجال لوهمٍ ولا خيالٍ ولا ضلالٍ ولا تصوِّرٍ ولا هوى، ولكن حُكْمُ العالم السرِّ والنجوى بين الجميع، ولا معقِّب لحكمه. (لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) فيا نبيَّنا امضِ في السبيل القويم واستقم على المنهج والصراط المستقيم واتبع إبراهيم.
(وَإِنْ عَاقَبْتُمْ) في هذه الدنيا فيما يجري من أحداث بينكم فاعتدى عليكم مُعتد وظلمكم ظالم وتمكنتم من أخذ حقكم فبالقسط والعدل لا تزيدوا شيئاً، ولا تقولوا لأنه كافر ولأنه خرج سنزيد عليه ونأخذ ما ليس لنا، قال الله: لا كلكم عبادي مَن آمنتم وارتضيتكم هيّأتُ لكم الجنة، ومن عاند وكابر وكفر وهيئتُ لهم النار، كلهم عبادي قد "حرَّمتُ الظُّلمَ على نفسي وجعلتُهُ بينَكم محرَّمًا فلا تَظالموا" لا ظُلم من أحد على أحد. (وإِنْ عَاقَبْتُمْ) آذوكم، ظلموكم اعتدوا عليكم فتمكّنتم منهم؛ فلكم الحق أن تأخذوا مثل الذي اعتدوا عليكم فقط، (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ). ولكن فوق ذلك مقام أعلى إن أحببتم ترتقون إليه، (وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ) ولم تُعاقبوهم على ما يجوز لكم عقابهم فيه.
وهكذا كان من جملة ذلك أنّهم مثَّلُوا بسادتنا الصحابة في يوم أحد تمثيل شنيع، قطعوا الأذان وجدّعوا الأنوف وبقروا البطون، عملوا أشياء كثيرة! وكان ﷺ نظر إلى عمه حمزة قطعوا أذنيه وجدعوا أنفه وبقروا بطنه وأخرجوا كبده، فلم يكن منظر أوجع لبطنه من ذلك المنظر، وقال "لقد عَلِمْتُ أنك كنت فَعُولًا لِلْخَيْرِ"، وذكر بعض أوصاف حمزة على نبينا عليه أفضل قال "وَاللَّهِ لئِنْ ظَفِرْتُ بِقُرَيْشٍ لَأُمَثِّلَنَّ بِسَبْعِينَ"، وقال الصحابة إذا تمكنَّا من قريش بعد اليوم لنُمثّلن بهم أزيَد مما مثلوا بإخواننا، ونمثل بمثل ما سمع بها أحد من العرب فأنزل الله: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ) سبعين بسبعين، لا أحد يزيد، (وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ)، فقرأها ﷺ على أصحابه قال: "أما أنا فأُكفِّر عن يميني ولا أُمثِّل بأحد وأصبِر"، وما أنتم فاعلون؟ قالوا نحن نصبر معك يا رسول الله ولا نمثِّل بأحد، فحرَّم المُثْل وكرّر تحريم المثل في خطبه وحديثه، وقال لا يمكن لاأحد أن يمثِّل بأحد، ملحد زنديق خبيث يهودي نصراني محارب معاند مقاتل قاتلنا فقتلناه.. لا نُمثِّل به، من ذا الذي يدَّعي حقوق الإنسانية وحقوق الإنسان؟ وكلام طويل عريض والواقع تشوفه بعينك، الواقع تشوفه بعينك يفتخرون بالآلات التي تشرشح الإنسان، تخلِّي يده هنا ورجله هنا ورأسه هنا يفتخرون بها ويرعون بها، حقوق الإنسان، ما هو فقط حرَّم التمثيل، حرّم التمثيل ولم يترك من فرَّ عنهم قومهم وتركوا جُثثهم لم يتركها على ظهر الأرض ودفنها ﷺ.
ف(إِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ) فأي منهج للناس يمكن أن يحكمهم أجدى و أندى وأجمل من هذا المنهج الرباني؟ هم منتظرين واحد فرنسي ولا بريطاني ولا أمريكي ولا روسي ولا صيني يجيب شيء أحسن من كلام الله ومنهجه ممكن؟ يخترع لكم نظام أحسن؟ من هو هذا؟ هذا نظام الله هذا منهج الله، ما في أحسن للخلق منه لا للصينيين ولا للروسيين ولا للأمريكيين ولا للبريطانيين ولا للعرب ولا للعجم، لا يوجد أحسن لهم من منهج خالق الكل، العالِم بشؤون الكل على وجه الإحاطة.
(وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ) وخاطب الرأس والإمام، وقال أنت حبيبي (وَاصْبِرْ) أنت القُدوة العُظمى، أنت المَثَل ،وأنت مُميز في شؤونك وأحوالك. (وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ) -الله أكبر- أنت تتّصف بهذه الأوصاف، فانياً فينا ممتلئاً بنا، لا تشهد لنفسك شيئاً وأنت تتحلى وتشهد أننا حلّيناك فتصبر بنا، نُحيطك بعنايتنا ورعايتنا ونقيمك في هذا الشهود الأسنى، لا تصبر بنفسك ولا بِجدك ولا بيدك، ولكن بنا تصبر لأننا أحببناك وراعيناك وأكملنا فيك صفات الكمال، ونزعنا شهود غيرنا عن قلبك فإنما تصبر بنا.
(وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) فإنَّه يعْتلج قلبك رقّة على هؤلاء المعاندين المضادين، أنت في نفس الموقف الذي رأيت عمك فيه بهذا الموقف وتكلمتَ هذا الكلام، قال لك أصحابك ادعُ الله عليهم يا رسول الله فرفعتَ يديك إلينا تقول:" اللَّهُمَّ اهدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ". فأنت مُعرّضٌ لأن تحزن عليهم لدخولهم النار (لَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ)، ما سبق في قضائنا للمعاندين والكافرين وتعذيبهم أنت لم تُقصِّر ولا لوم عليك في ذلك ولا عتاب (لَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ) يقول لهم كم من خطة وكل يومين فكرة وكل يوم يجيبون مصيبة وكل يوم يكلمون ذا، ويوم يروحون هنا ويقولون المسألة ذي. (وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ) فإنهم مهما استعملوا قدراتهم في المكر فأنا لك من ورائهم؛ أنصرك و أؤيدك وأكُفّ شرهم عنك:
يقول: (وَلَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا) [آل عمران:176]، (فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ ۘ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) [يس:76]، (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ).
فكثِّرْ يا رب فينا أهل التقوى والإحسان، حتى تُظهر لنا نصرك للدين والقرآن وسيد الأكوان، وانتصاره على جميع أعدائك في مختلف البلاد في السر والإعلان، يا كريم يا منان يا رحيم يا رحمن، اجعلنا والحاضرين والسامعين وأهالينا أجمعين وأولادنا أجمعين وجيراننا وقراباتنا وطلابنا وأصحابنا من الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ، اجعلنا من الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ، اجعلنا في االَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ، يا رب العالمين يا الله.
ومن كانوا كذلك فالله معهم ومن كان الله معهم؛ من يذلهم؟ من يهزمهم؟ من يقدر عليهم؟ الله معهم (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ)، فيا طالبيّ القوة (اتَّقَوا وَّأَحْسَنُوا) [المائدة:93]، فيكون معكم القوي المتين، ولا قوة تغلب هذه القوة كائنة ما كانت.
اللهم اجعلنا من الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ، بوجاهة الأمين المأمون وثبتنا على الحق في الظهور والبطون، واجعلنا من قوم يهدون بالحق وبه يعدلون، وثبتنا على الاستقامة وأتحفنا بالكرامة في الدنيا والقيامة ودار المقامة، برحمتك يا أرحم الراحمين
بسر الفاتحة إلى حضرة النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم
25 شوّال 1444