(536)
(239)
(576)
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الكهف:
{ وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58)}
مساء الإثنين 16 محرم 1446 هـ
الحمدلله مُكرمنا بالقرآن وتنزيله على لسان عبده وحبيبه ورسوله، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى من والاهم في الله واتبعهم بإحسان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، من رفع الله لهم القدر والمكانة والشأن، وعلى آلهم وأصحابهم وتابعيهم، وعلى ملائكة الله المقربين وجميع عباد الله الصالحين ذوي العرفان، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين الكريم المنان.
وبعد،،
فإنَّنا في نعمة تأملنا لكلام إلهنا وخالقنا وربنا -جلَّ جلاله وتعالى في علاه- انتهينا في سورة الكهف إلى قول الله -جلَّ جلاله-: (وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا (52)) وهذا نصيب كل من نسي الله، وأعرض عن الله، واعتمد على غير الله، والتجأ إلى غير الله، واتخذ له شريكًا مع الله، فألقى نفسه وزمامه إليه، فإنَّه في الموقف العظيم يُنادى: أين الشريك الذي جعلته لك إلهًا في الدنيا واتبعتَ فكره وسلوكه، مخالفًا لأمر ربك، معرضًا عمّا أرسل به أنبيائه؟ هاتوا شركاءكم في مختلف سواء كانوا أصنامًا أو كان شمسًا أو قمرًا أو كان بقرًا، أو كما يُسمّى علمًا أو كما يُسمّى حزبًا أو كما يُسمّى هيئة أو كما يُسمّى حكومة ودولة، كل من انقطع بشيء من هذا عن الله سلّم زِمامه لها مخالفًا لأمر الله وأمر رسوله، يقول: هات شريكك هذا، هات الذي كنت تعتمد عليه وتستند إليه واتّبعته في الدنيا.
(نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ (52)) ادّعيتم أنَّ لهم الحقّ في أن يُحّرموا ويُحلّلوا وأن يأمروا وينهوا دون الله -تبارك وتعالى-، هاتوهم (فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) لا تُلبيهم شمس ولا قمر ولا بقر ولا صنم ولا مُجرمين ولا مُشركين ولا دولة ولا حكومة ولا رئاسة ولا حزب، لا أحد منهم ينفع، لا أحد منهم يشفع، لا أحد منهم يقدر يتكلم.
(فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا (52)) مهلك يهلكون فيه بين هؤلاء وبين من دعوهم شركاء مهلكة النار ووديانها، وبين هؤلاء الضالين هم شركاؤهم وبين المؤمنين موبق، مسافة بعيدة.
إنما يُبرز الله في بعض الأوقات جوانب من الجنة للكفار ولأهل النار تبكيتًا لهم، وليخاطبوا المؤمنين، قال سبحانه وتعالى: (وَنَادَىٰ أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) [الأعراف:50]، (وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ ..) [الأعراف:44] (.. فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) [الأعراف:44] فقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا، (قَالُوا نَعَمْ) [الأعراف:44] ما وعد الحق هو هذا الكلام، كلام الله وما قاله رسوله هو الصدق، والأفكار التي كانت عندكم والفلسفات والنظرات إلى الحياة أين ذهبت؟ لا شيء الكلام الحق ما قال الله وقال رسوله، كله كلام فارغ هذا -لا إله إلا الله-، ( فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [الأعراف:44].
(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ) أهل الجنة (يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ) واحد مكذّب بالآخرة، مكذّب بالحشر والنشر، يقول لك: أنت وأقاويلك هذه، وأراجيف وكلام الأولين! (قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) يقول له ملك: (هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ) سترى صاحبك هذا الذي كان معك في الدنيا يضحك عليك، وعلى دينك، وعلى إسلامك، وعلى خوفك من ربك، وعلى تصديقك بالآخرة؟ ستراه؟ قال: (هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ) انكَشف الحجاب، وشاهده وهو يتقلّب في العذاب والحيات والعقارب والسلاسل والأغلال، ضرب وسياط النار، فلان! سمع صوت؛ فتح عينك، يجعله الله يقدر أن يدرك لأجل الحسرة والندم، (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ) قال له: فلان (قَالَ تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ) كدتَ بأن تُدخلنا معك، وسأصل إلى المكان هذا الخبيث! لو سمعت كلامك في الدنيا! (إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي) بالإيمان والتوفيق، والدخول مع الصالحين، ووصول الجنة (لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) [الصافات:50-57] عندك، في هذه السياط والأغلال والسلاسل والسعير والزقوم والحميم والعقارب والحيات -نعوذ بالله-، (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ) [النساء:56]، (وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) [الصافات:57-59] قال الله: (إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [الصافات:60] الوصول إلى الجنة، وأن يكون مآل الإنسان، ومصيره، ومستقبله الأكبر، خلودًا في النعيم الأبدي، (إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَٰذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ) [الصافات:60-61].
يقول -جلّ جلاله-: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ (53)) شاهدوها الملحدون والظالمون والمعتدون والمستهزؤن، أصناف هؤلاء الناس الذين كانوا يبطرون في هذه الحياة الدنيا، ويتكبّرون و يفعلون ما شاءوا، يذهبون وراء الشهوات والذنوب والمخالفات، ومعصية جبار الأرض والسماوات، ويظنّون أنهم على شيء.
(وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ)، (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) [الأحقاف:20] -لا إله إلا الله- يقول -سبحانه وتعالى- أيضًا في هذا الوصف: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ * يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا * فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ * يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَٰذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَٰذَا) تقول ساحر أنظر أمامك أدخل، تقول سحر، تقول أساطير أوّلين، تقول كلام فارغ، أدخل شوف النار، هذا الذي كنتم به تكذّبون؟! (أَفَسِحْرٌ هَٰذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [ الطور:7-16].
يقول سبحانه وتعالى: (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا (53)) شاهدوها (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ) [النازعات:36]، كل من تتأتى منه الرؤية، كلهم يبصرون في القيامة، يرون النار.
(وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا (53)) أيقنوا (أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا (53)) هذا الآن وقت الجزاء الكبير، ذهب خيالنا، ذهب ضلالنا، ذهب إفكنا، ذهب افتراؤنا، ذهبت عنجهيتنا، ذهبت عصبيتنا، ذهب مُلكنا، ذهب سلطاننا، ذهب تخطيطنا، ذهب مكرنا، ما عندنا شيء ولا عاد معنا شيء، ولا عاد أحد ينقذنا، هذه النار التي كان يقولون عنها الأنبياء والرسل ونحن نضحك ونستهزئ.
(فَظَنُّوا) أيقنوا (أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا) الآن وقت الدخول، -أعوذ بالله من غضب الله-.
(فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)) ما في طريق، ما في إنقاذ، ما في موئل، ما في مَعدِل، ما في معقل، ما في خلاص، ما في خلاص، مافي طريقة للتخلص، ما يمكن، ماذا يعمل؟!
والزبانية يأخذ أحدهم بمقدمة رأسه، واليد الثانية بقدميه يلويه من الوراء، يُقمطه ويُدخله في النار، (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ) [الرحمن:41] وتبادرهم الزبانية، وما يقدر أمامهم يفعل أي شيء، (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) [القمر:48].
(وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)) لا يوجد حيلة! لا يوجد خلاص! لا يوجد طريقة للانفكاك منها، نار نار خلاص!
(فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا (53)) أيقَنوا أنهم مواقعوها، (وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)).
نعوذ بالله من غضب الله، اللهم أجرنا من النار، اللهم أجرنا من النار، اللهم أجرنا من النار، وأدخلنا الجنة مع السابقين من غير سابقة عذاب، ولا عتاب، ولا فتنة، ولا حساب، ولا توبيخ، ولا عقاب، كما جمعتنا هنا على الإيمان بك، وتذاكر ما أنزلت على نبيك، فأجمعنا في جنتك من غير سابقة عذاب يا كريم يا رب الأرباب.
يقول الله: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ (54)) -الله- الحجج والبراهين والأدلة، والآيات والإيضاح وضعته في القرآن، وصرّفته ولونته ونوّعته لكم، وأخبرتكم عمَّن قبلكم، وأخبرتكم عن خلقي السماوات والأرض، وأخبرتكم عن أحوالكم وما تجدون، وأخبرتكم عن معادكم ومرجعكم إلي، وجئتكم بكل حجة، وبكل دليل، وبكل برهان، وبكل حقيقة، وأنتم مُصرّون مُعَانِدون مُجَادون!
(وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ (54))، كل إنسان يعقل في الأرض أمامه الهدى، أمامه الهدى، أمامه النور، أمامه الحجة، أمامه الدليل، أمامه الوضوح.
هذا الذي خرج من النصرانية إلى الإلحاد وبعد مدة وقع ترجمة للقرآن في يده، أخذ يتأمل في البداية يظنّ هذا أحد كاتب قوي مُتقن يُصوّر الأشياء تصويرًا، إلى أن عرف أنّ المسألة، ذهبت الإشكالات التي عنده، عرف الإلحاد باطلًا، وتحريف المسيحين للدين باطل وكذبهم على المسيح وكذبهم على الباطل و لا حق إلا هذا، وهداه الله وآمن وعرف أنَّه كلام الله تبارك وتعالى، وكان سبب لهدايته، أخذ بفطرته وبعقله فعلم أنَّ لا حق غير هذا، هذا هو الحق، كل إنسان عاقل لو تأمل ما في القرآن من دلالات وبيانات وحجج وبراهين، لا شيء حق غير هذا فهذا هو الحق.
يكفيك هذا نطق به ﷺ قبل ألف وأربعمائة وستين سنة هو ينطق بهذا الكلام، ها؟ والآن كما هو لا أحد قدر يغيره من أعداء الإسلام في الشرق والغرب، هذه حجة وحدها وكم من حجج في القرآن -الله أكبر-، أنظر تكلم عندك في القرآن عن تكوين الجنين في بطن الأم متى اكتشفتم هذا بألآتكم؟ قل لي سنة كم ؟ في هذا القرن الماضي! طيب وذي ألف وثلاثمائة سنة والنبي يتكلم بهذا الكلام من أين جاء بالكلام هذا؟ من أين جاء بهذا الكلام؟ بأي أجهزة اكتشف؟، وترتيب من النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى العظام (فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) [المؤمنون:14] والآن ما تكتشفون إلا كما قال محمد، كما قال القرآن، طيب هذه قبل مئات السنين لا أحد يدري ولا أحد يرى ماذا في البطون، من أين جاء بهذا الكلام؟ حجج واضحات ودلائل قاطعات.
(وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ (54)) ضربنا لهم الأمثال، وآتيناهم بالحجج، وبالأدلة، وبالبراهين، وببيّنات أحوالهم وفي أنفسهم وفي السموات وفي الأرض، ومن قبلهم بيّنّا لهم أتم التبيين.
(وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)) هات كذا، واستعجل كذا، وقل كذا، واعمل، َبعد ذلك؟ وهذا الدليل أمامك، جاءت اجتمعت جماعةٌ من كبار المشركين في مكة قالوا: تريد أن نؤمن بك؟ نعرف صدقَ أنك رسولٌ من الله جئت؟ شقّ القمر، ودعا ربَّه فانشقَّ القمر، وما آمنوا، ما آمنوا! -سبحان الله-، أنتَ اللي تقول شقَّ القمر وأنا أتبعك؟ لكن هذا هو الإنسان (أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)) كذاب أفّاك يمشى وراء الهوى، كلما وقع رجزٌ على قوم فرعون واشتدّ عليهم، رجعوا إلى عند موسى: يا موسى ادعُ لنا ربَّك، أنتم تكذبون وتقولون ساحرٌ، والآن يا موسى ادعُ لنا ربَّك مؤمنين بأنَّه هو الربّ، الحقيقة هذه لا شيء غيرها!، (لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ) [الأعراف:134-135] ماذا؟ أنتم قلتم كذا، وأنتم احتججتم بكذا، وأنتم التزمتم بهذا.
وقال تعالى: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) [القمر:1-3]، قال الله: خُلّوا (وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ) [القمر:3]، أنا أعرف أحوالهم، وأعرف أغلاطهم، أعرف عنادهم، وسأجازي كل واحد، مرجعهم إلي، إلى أَيْنَ يَرْجُعونَ؟ أَيْنَ يَذْهَبُونَ؟ لا يخرجون من قبضتي أصلًا، لا تستعجل لهم ويكون الجزاء، (وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّنَ الْأَنبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ) [القمر:3-4].
يقول: (وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54))، يُجادل: هات كذا، والدليل كذا، ومنهم قالوا: هات لنا خبر فتيه الذين مشوا في سابق الدهر، وجاءت لهم سورة الكهف، وأخبرهم بـها وَلَا يُؤْمِنُوا، قالوا: شقّ القمر، هات لنا آية! بعضهم يقول: خلِّ الضبّ يتكلم، خلِّ الشجرة تتكلم، ووقعت مُعجزاتٌ كثيرةٌ لنبينا ﷺ وما آمن إلا من سبقت له السعادة.
قال: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا (55)) أكثر الناس في إصرارهم على الكفر، إصرارهم على تكذيب الأنبياء وعنادهم، ما هو السبب؟
(وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا (55)) والحجج واضحة أمامهم، والأدلة والبراهين، وعقولهم تقضي بأنَّ هذا هو الحق!
(وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَىٰ (55)) بدلائله وبيّناته؟ وما منعهم أن يستغفروا ربّهم وينقذوا أنفسهم، مادام فَسح لهم الفرصة وقُبِل منهم التوبة؟ (قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ) [الأنفال:38].
ما منعهم أن يؤمنوا (إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (55))، قاعدين كما أهلكنا الذين من قبلهم، يهلكون، يشاهدون العذاب أمامهم، وبس منتظرين هذا، لكن لا شيء عندهم ثاني، ما الذي يؤخرهم؟ -لا إله إلا الله-، (مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ * أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنتُم بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) [يونس:50-51].
(وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَىٰ وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55)) من أمامهم، أو قِبلَا من أمامهم، أو قُبُلًا مقابلًا لهم فيقعون فيه، (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55)) إذًا (فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ) [يونس:102]، لن يحصل إلا هذا، فجميع أهل الطغيان على ظهر الأرض، تمر أحيانًا سنوات يملي الحق للظالم، ويمهله، لكن ما يهمله، لكن ما يهمله أبدًا! يمهل ولا يهمل، وليغتر إلى أن يشبع غرور ويذهب كل شيء، وهذه سنة الله، (فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) [فاطر:43].
ونقول لهؤلاء الموجودين من بقي فيه أدنى عقل، زعماءكم الذين من قريب، الذين كانوا قبل ثلاثين سنة، الذين كانوا قبل خمسين سنة، نبِّئوني عنهم؟ زعماءكم الذين كانوا قبل ثمانين سنة، هاتوا لي خبرهم، ماذا حصل لهم؟ أنتم أردتم نتيجة غيره هذه؟ هذه النتيجة من عهد آدم إلى اليوم إلى أن تقوم الساعة، -لا إله إلا الله-.
(وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا) [الإسراء:58].
يقول: (إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قِبَلًا (55))، وفي قراءة: (قُبُلًا)؛ أي من أمامهم.
(وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ (56))، هو يقول: (الْعَذَابُ قِبَلًا (55)) و (قُبُلًا)، لأنَّه بِهَيمنة المُهيمن وجلاله ما يجيء من ورائه يبحث عنك، انظر أمامك تجده! كما قال في الموت، يقول: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ) [الجمعة:8]، ما قال: لاحقكم، لا، يجيء من ورائكم؟ أين تريد، هذا هو أمامك! (فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ) [الجمعة:8]، أنت تفر منه كذا؟ هو أمامك تراه، أين ستذهب؟ تهرب إلا إلى عنده؟ أين ستفرّ منه؟ -لا إله إلا الله-، يقول: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ) [الجمعة:8]، ليس لاحقكم، أنت تفرّ ويجيء من ورائك، ليس وراءك! هو أمامك، ما يرجع وراءه أصلًا، أمامك هو، اذهب اهرب يدق فيك، (فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ) [الجمعة:8]، وهذه سنة الله.
قال تعالى: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ (56))، يعني القضية ليست قضية بشر ولا مخلوقين، ولا حتى ملائكة، القضية قضية مِلك، جبار عالي عظيم، خالق مكوّن، أنشأ الوجود من العدم، الأمر له، قال: أنا من رحْمتي أرسلتُ الرُّسُلَ وبيَّنْتُ لكم، وأنزلتُ الكتبَ، وهَدَيتكُمْ لما في صلاحِكُمْ، وسعادتكُمْ في الدارين، وتدخلون بأهوائكم وشَهواتِكم، وتخالفون وتظنون أن شيئًا سيفلت علي؟ أنا ما أرسلت المرسلين إلا رحمةً مني مبشرين ومنذرين.
(وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ (56))، يقولوا: هذا ما يصلح، هذا كان في الزمان القديم، والآن نحن في عصر الذرة، والآن وصلنا إلى القمر، وبعد ذلك؟ يعني يتحول القبيح حسن؟ يعني يتحول الظلم خير؟ وظلموا وأفكوا! وبعد أن طلعتوا القمر؛ ورب القمر ذهب؟! وإلا أنتم أوجدتموها من زمان؟ أوجدتموها من قبل وإلا زعماؤكم أوجدوها، في السنة التي جئتُم تضطهدون بعض البلدان، وقلتم اكتشفناها! اكتشفتُم ماذا؟ بلد قائمون ناسها فيها، جاؤوا إليها هتكوا حُرَمهم وأَذلّوْهم وقالوا اكتشفنا! في تلك السنة صنعتم القمر يعني؟! ماذا معكم؟ نُنهي ثوابتنا وأساسياتنا والبدائه التي توقفنا عليها الفطرة، من الصغر، لأنك وصلت القمر؟ ووصلت القمر وبعد ذلك ماذا حصل؟ يعني الإله مات أو ماذا؟ الأنبياء ذهبوا أو ماذا لما وصلت القمر؟ ثم ماذا حصل؟ وصلت القمر يعني صار الزنا حلال أو ماذا؟ وصلت القمر ماذا حصل؟ ظُلم الخلق سُنة أو ماذا؟ ما الذي حصل؟ وصلت القمر أو جلست في مكانك! القيم هي القيم، والفضائل هي الفضائل، والرذائل هي الرذائل، والله هو الرب فوق الخلق والمرجع إليه، لعبة!
(وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ (56))، ساعة يقول لهم كيف هذا؟ ساعة يقول لهم ليس معقول! ساعة يقول لهم لا نحن الآن اكتشفنا! ساعة يقول نسألكم عن كذا، ساعة يقول الصحة! والحاصل من هنا ومن هنا، يُلفّقون كلام! يريدون فقط أنْ يُدحضوا ويُبطلوا الحق، والحق غير باطل! قال الله تعالى: (وقلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) [الإسراء:81].
(لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي (56)) البينات الواضحات العظيمات (وَمَا أُنذِرُوا) على ألسن الرسل (هُزُوًا (56)) مَسخَرةً؛ سُخريةً وضحك واستهزاءً لا يبالون به، هذا حالهم! صدق الله.
يقول الله تحليلًا لهذه الأحوال: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ (57))، ونُبّه إليه؟، يقول: يا مخلوق من ذكر وأنثى؟ يا مَكوَّن من نطفة، وعلقةً، مضغةً، يا من وجدت الأرض مبسوطةً، والسماء من فوقك مرفوعةً، والجبال منصوبةً، من الذي سطح؟ من الذي نصب الجبال؟ من الذي شقّ هذه البحار؟ من الذي رفع السماء من فوقك؟ من الذي اختار لك أباك وأمك؟ من الذي كونك؟ أرسل إليك رسول، وأنزل لك كتاب.
تذكّر! (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ (57))، تاريخه مظلم، وأفعاله إجرامية، ينسى هذا كلّه!، مكابرة، وعناد، وتعاليم! (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ) [القصص:4-6].
وابتدأت القصة، الله أوحى إلى قلب هذه الصالحة; يوحانذ؛ أم موسى، (وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ) [القصص:7]، سيأتون يقتلوه لك؟ ضعيه في صندوق في التابوت وألقيه في اليمّ أدخليه في البحر، وعادة الناس إذا خافوا على أحد يخرجونه من البحر، لا يدخلونه البحر، إذا تخاف على أحد تخرجه من البحر، البحر محل مهلكة، محل غرق ومحل الحيتان تأكلك، قال لها: ادخليه في البحر، وستقع النجاة.
(وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [القصص:7]. أحضِروا السياسات والجواسيس والتخطيطات، الذي سيتم هلاكك على يده، ربّه عندك وسط قَصرك واصرِف عليه، وما كان إلا هذا! (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ) [القصص:8]، يفكرون كيف يكون هذا؟ كيف يُلقى بصندوق في البحر، وفي داخله طفل؟ ماذا نعمل به؟ (وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ) [القصص:9]، رزق جاءنا وماعندك أولاد وما عندي أولاد، (عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [القصص:9]، لا يعلمون بشيء، الخطط الفوقية تمشي أم خططهم التحتية مساكين لا شيء، خططهم التحتية يقتل هذا ويخرج هذا ويعمل هذا وليس هناك فائدة، كل الذي عمله في النهاية هلاكه على يد هذا الذي يربيه عنده وسط القصر، أنتَ تقتل الناس من هُناك ومن بعيد، هيا انظر هذا الذي أنتَ تخاف منه اتركه وسط قَصرك يتربّى ويأكل ويشرب وينعَم على رُغم أنفك، -جلّ الله-.
وكان ما كان، -سبحان الله- وأهلَكَه الله بعد ذلك، فكانت هذه سُنّة الله في الإهلاك، لماذا أهلكهم؟ (وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) [الأعراف:137].
قال سبحانه وتعالى: (فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) [الأعراف:163]، وبماذا نصر موسى ومن معه؟ وهذه سُنّته في النصر وفي الهزيمة، يهزم بالتكذيب وبالظلم، وبمُعاندة الأوامر ومُخالفة الرُّسُل يَهزُم بذلك.
وبماذا جعل العاقبة الكبرى سليمة، والنصر من أين يأتي؟ (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) [الأعراف:137]، فصبروا واتّبعوا الحقّ الذي جاءهم فنصرناهم (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم:47] كما قال جلّ جلاله وتعالى في عُلاه.
قال: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ (57))، هل هناك شيء أظلم من هذا؟ مخلوق يأتي وينسى الخالق ويتكبّر، ويذّكر انظر الخالق الذي خلقك وكَوّنك ورزقك، ومرجعك إليه، وأنزل لك كتبه وأرسل رسله، ويذهب وراء غيَّه وهواه، من أظلم من هذا؟ هذا تحليل حالهم وإن ادَّعوا ما ادَّعوا هذا هو، هم هكذا، من أظلم منهم؟ لا أظلم منهم، (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً)؛ أغطية (أَن يَفْقَهُوهُ (57))؛ أن يفهموا، بإعراضهم وتكبرهم ما يفهمون أبدًا؛ كلام الرسول أمامكم، آيات أمامكم، حُجَجٌ أمامكم، ولا يُريد يفهم! (وَفِي آذَانهِمْ وَقْرًا)؛ ثقل، صمم (وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)).
(وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) [الحجر:14] رأيتم آيات الله؟ تؤمنون؟ (لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ) [الحجر:15]، (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ ٱلْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْءٍۢ قُبُلًا مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوٓاْ إلا أَن يَشَاءَ اللَّه) [الأنعام:111] -لا إله إلا الله- ما يرضون، (وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا) [الأعراف:146] أمر غريب! حتى قال الله: لو أرجعناهم من البرزخ إلى الدنيا رجعوا ثاني مرة إلى غيَّهم، وقالوا ذلك كانت ضَحكة ضَحِكْتُم بها علينا والآن لم يعد هناك شي، (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [الانعام:28]، فيا مُقلِّب القلوب ثبتنا على الإيمان، لا يُزِغ قلب أحدٍ منّا؛ لأنه إذا أزاغ قلب واحد لم يعد أحد ينفعه، ولا أحد يقدر يهديه، اللهم ثبِّتنا على الحق وعلى الهدى، وزدنا إيمانًا ويقينًا أبدًا سرمدًا.
وقال: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ (58)) غفور؛ كثير المغفرة ذو الرحمة، فلا يهلك على الله إلا هالك؛ لا يهلك على الله إلا من شرد على الله شراد البعير الناد عن أهله، هذا الذي يهلك، وأمَّا الذي يرجع إلى ربه والذي يندم والذي يتوب والذي يصالح لا يهلك! (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ) [طه:82]، (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم * وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ) [الزمر:53-54]، ارجعوا فقط، ارجعوا إليه هو يسامح، ارجع إليه وهو يتوب -جلَّ جلاله-.
قال: (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ (58))، لا يتركهم سنة ولا سنتين ولا عشرين سنة ويلعبون على الناس خمسين سنة.. مباشرة، لكن يمهلهم ويعطيهم الفرصة والتذكير وما يرجعون.
(لَوْيُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ (58))، يصعب عليه زلزلة؟! يصعب عليه صاعقة؟! ماذا يصعب عليه؟! يصعب عليه فيضانات يأتي بها؟! لا يصعب عليه شيء، لكن لا يؤاخذهم بما كسبوا، حليم غفور ذو الرحمة، يمهل ويترك الفرصة لعلهم يرجعون، ويذيقهم أحيانًا من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون، فيبقى المصرون مصرين على آفاتهم حتى يأخذهم الله، "إنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظّالِمِ، حتَّى يَأخَذَهُ، فإذا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ"، (.وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ) [ابراهيم:42].
قال: (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ (58))، كل الطغاة كل الجبارين وكل المتكبرين وكل قائدي الإلحاد والكفر والتكذيب بآيات الله في الأرض لهم وقت محدد، ولهم موعد أوَّلي بإهلاكهم في الدنيا، ولهم موعد ثاني بجمعهم للجزاء والحساب.
يقول سبحانه وتعالى: (بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا (58)) لا يوجد طريقة أنَّه يتخلف عن الموعد أبداً.
(وَحَشْرُنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدً (47)) لا أحد يفلت، ولا أحد يذهب، أين؟ (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ) [الأنبياء:104]، ولم يعد يقدر أحد يتخلف يقول أنا لم أعد أريد أحضر القيامة! أين تذهب؟ ماذا تفعل؟ هذا مثل واحد يقول له: لكن أنا لا أريد أن أُخلَق الآن، أنت قد خُلِقتَ أمامنا، وهل لمَّا خُلقتَ استُشِرتَ في ذلك؟ هل أحد شاورك؟ خلقك قهرًا عليك، وسيعيدك قهرًا عليك، (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ) [الأنبياء:104]، يقول: (قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ) [يس:78-79]، (وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا) [مريم:66-67]، خلقك ولم تكن شيء وسيعيدك، ولا في الأول لك خيرة، ولا في الثاني لك خيرة، أنت مُقهور، انتبه لنفسك فقط، أنذَرك وحذّرك وأعطاك الأمر.
يقول: (بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا (58))، حتى العوام عندنا يقول: لك يوم يا ظالم! يجيك يومُ اصبر، مهما تسهَّلت لك أمور وفتكت في خلق الله، قليل ويوم سيأتيك! يجيء لك يوم يا ظالم.
(بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا (58))، أيام محددة، وساعات معينة تنقضي وخذ الجزاء، أول جزاء في الدنيا بهلاكك هنا، وجعْلك آية لمن اعتبروا عبرة، وثاني موعد (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ) [الواقعة:50].
فالله يجعل ما لنا خيرًا ويجعلنا في زمرة نبيّ الخير، يحشرنا في زمرته مع أحِبّته وأهل متابعته وأهل نُصرته، ويدخلنا معه إلى جنته إنه أكرم الأكرمين.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
18 مُحرَّم 1446