(228)
(574)
(536)
(311)
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الحِجْر من قوله تعالى:
{ وَمَا خَلَقۡنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَآ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۗ وَإِنَّ ٱلسَّاعَةَ لَأٓتِيَةٞۖ فَٱصۡفَحِ ٱلصَّفۡحَ ٱلۡجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلۡخَلَّٰقُ ٱلۡعَلِيمُ (86) وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَٰكَ سَبۡعٗا مِّنَ ٱلۡمَثَانِي وَٱلۡقُرۡءَانَ ٱلۡعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)}
ضمن جلسات الإثنين الأسبوعية
الحمدُلله مُكرمنا بالقرآن وتَنزيلهِ وبيانهِ على لسانِ عبدهِ وحبيبه ورسوله، سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرّم، عليه وعلى آله وأصحابه وأهل ولائه ومُتابعته في فعلهِ وقِيله وعلى آبائه وإخوانه من أنبياء الله ورسله وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
أما بعد…
فإننا في نعمة تأملنا لكلام ربنا وخطابه وتعليمه وتبيينه سبحانه وتعالى، وصلنا في أواخر سورة الحِجر إلى قول الله جلَّ جلاله وتعالى في علاه (وَمَا خَلَقۡنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَآ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۗ وَإِنَّ ٱلسَّاعَةَ لَأٓتِيَةٞۖ فَٱصۡفَحِ ٱلصَّفۡحَ ٱلۡجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلۡخَلَّٰقُ ٱلۡعَلِيمُ (86))،
بعدما ذكَّرَنا ربُّنا سبحانه وتعالى بقصص مَنْ مضى قبلنا على ظهر هذه الأرض ممن كذَّبوا رُسُلَهم الذين أرسلهم الله إليهم وآذوا أنبياءهم فأهلكهم الله تبارك وتعالى وجعل (عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ) [الروم:10]، وكانوا عبرةً للمعتبرين. يقول الله في ذكر هذه الحقيقة: أن هذا الخلق والوجود ليس بعبث ولا لعب ولا هُزُء- تعالى الله عن ذلك-، وكرَّر الحقُّ لنا ذلك وبيَّن لنا: أن الذين يريدون أن يتصرَّفوا في الحياة الدنيا بشهواتهم وأهوائهم كما تُملي عليهم؛ هم الذين ظنوا أن الخلق عبثًا وباطلاً وهُزوًا، فهم الواهمون وهم أهل الظنون.
كما قال جلَّ جلاله وتعالى في علاه في بيان هذه الحقيقة، يقول سبحانه (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ۚ ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) [ص:27]، فالذين كفروا على ظهر الأرض من كل من يفكِّر أن له السلطة وله الحق، وأنه له كما يتوهم ويظن الحرية الكاملة، وأنه الذي يفعل ما يشاء أو ما يريد على ظهر الأرض، وواقع أحوالهم يُكذبهم في هذه الظنون الأوهام، ولكن ( إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ) [العلق:6-7]، وكما قال القائلون من قبلهم: (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) [البقرة:258]، وقالوا: (وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي) [الزخرف:51]، و(قَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) [فصلت:15].
وهم مع أنهم في واقع الحال، آثارُ العجز ظاهرة عليهم من نواحي كثيرة متعددة في شؤون ظاهرهم وباطنهم، ومع ذلك فانتهى الأمر إلى أن ما اعتدُّوا به وما قالوه وما ادَّعوه صار كذبًا وباطلًا، وجاءهم ما تبين أنهم الواهمون؛ (حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [يونس:90-91]؛ هذه صارت سنة الله في هذا الأرض، وهذا من جملة الحق الذي خلق الله به السماوات والأرض وما بينهما، أن ينصر أنبياءه ورسله والقائمين بأمره على ظهر الأرض ويخذل عدوهم، أن يجري ما يجري من العِبَر على ظهر الأرض ثم يجمع الجميع ليوم العرض .. يوم القضاء .. يوم الفصل .. يوم الحكم .. يوم جمع الأولين والآخرين وحُكُم رب العالمين على جميع المكلَّفين؛ هذا الحق الذي به خلق الله السماوات والأرض، فلا يتصور مُتصور: أن هذا الإبداع وهذا الاختراع وهذا الإنشاء وهذا الإيجاد لملكوت السماوات والأرض جاء صدفةً، أو يمر مرورًا، أو جاء ليتبع الناس أهواءهم على ظهر الأرض، ويقتل القوي منهم ويأكل القوي منهم الضعيف وينتهون، أبدا والله.
ويتفكرون في خلق السماوات والأرض أولوالعقلِ واللُب، أولو الألباب يقولون، (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران:191]، لا تعرضنا للنار يارب، فإن الحق الذي فيه الحكمة وآيات القدرة في الوجود، وما من شيء في السماوات والأرض ولا فيما بينهما إلا ويحمل دلالات وعلامات على عظمة مُوجِد ومُكَوِن وخالق، وأن الأمر له وأن المرجع إليه وأنه يبيد ويهلك متى ما شاء، ويفني كما أنشأه متى شاء، سبحانه وتعالى؛ وهذا من الحق المنتشر في الوجود:
يقول تعالى: (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ..(85)) -الله أكبر-؛ لا ريب فيها ولا شك، أوجدنا هذا الوجود وجعلنا فيه الآيات والعِبر، وأَمْهَلنا هذا ولم نُهمِلهُ، وأَخّرنا هذا ولم نتركه، وفسحنا المجال ليتذكر المتذكر (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم) [فاطر:37]، ما يتذكر فيه من تذكر، وأرسلنا الرسل وأقمنا النذارات، ثم جعلنا ما يجري على ظهر الأرض عِبر وآيات للمنصفين، وعلامات على عظمة الخالق القوي المتين جلَّ جلاله؛ ومع ذلك فنهاية ما يُكشَفُ للخلق من هذا الحق في هذا الوجود كُلِه وحكمة خلقه يكون في القيامة؛ (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ)؛
يقول تبارك وتعالى على يوم القيامة: (وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ) [هود:104]، ولا حائل بينكم وبينا ولم يأخذ إلا إرادتنا فإذا جاء جاء، (وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) [هود:104-105]. اللهم أسعدنا واجعلنا في خواص السعداء هاهنا وغدًا يا من بيده ما خَفِيَ وما بدا يا أرحم الراحمين.
يقول تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ۗ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ (85))، أفَتَرى هذا الذي أبدع هذه السماوات والأرض؟ وجعل فيها العِبرَ والآيات من عهد آدم حتى ختمنا الرسل بك، هل نُسلِمكَ أو نُهينُكَ أو نَخذُلك؟ كلا نصرنا مَنْ قَبْلَك، كيف لا ننصرك؟ وأنت إمامهم وأنت سيدهم والساعة مقبلة ما لم يظهر ويبرز للناس من نتائج الأعمال وأن الخير كله في متابعتك والشر كله في مخالفتك؛ سيعْلمونه في القيامة وينكشف الستار (لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [ق:22]، (يومئذ يود الذين يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ الْأَرْضُ) [النساء:42]، (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلً) [الفرقان:27].
(وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ..(85))؛ إذًا فالمَسْلَك المَسْلَك! (الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) [الإسراء:73]، لا خير منه، ولن يجد المكلفون من بني آدم والإنس على ظهر الأرض خيراً لهم وأشرف وأنجح من منهجنا وشريعتنا وأوامرنا ونواهينا، أيُّ عقلٍ وأيُّ فكرٍ يُحْدِثُ لهم خيرًا مما اخترنا لهم؟ ونحن المحيطون بهم والمحيطون بكل شيء علمًا؛
والصفحَ الجميل الذي يتعرض به الإنسان لصفحِ ربه عنه، أن يصفحَ عن من آذاه وعن من قصر في حقه وعن من لم يقم بواجبهِ نحوه، وعن من ظلمه، يصفح عن ذلك صفحًا جميلاً لا ينطوي فيه على سوء عليه ولا على إرادة انتقام له، لو قدْر، ولا على إرادة شر له ولا يكافئه بالسيئة السيئة، وهكذا يقول: (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ)، إذا عمل ذلك، صَفَحَ الله عنه وعفى عنه، والعافون عن الناس يعفو الله عنهم، ويكتب لهم أجرًا عليه -جلَّ جلاله- على حساب فضله الواسع وكرمه العظيم، العافون عن الناس (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) [الشورى:40]، وينادي المنادي في القيامة ليقم من كان أجره على الله، فيقوم العافون عن الناس وهم قليل، ويهبهم مما ورد فيما يكافئهم به أن يقول سبحانه: "عفوتُم عن عبادي من أجلي فوقع أجركم عليَّ، اطلبوا ما شئتم واشفعوا فيمن شِئتم"، هذا الأجر الكبير من الله للعافين عن الناس.
يقول: (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ ..(86))، إن ربك هو الخلاق الذي خلق كل شيء وما سواه مخلوق بإيجاده سبحانه وتعالى، خلاّقٌ، خلق السماوات وما بينهما، وخلق خلقه وأعمالهم، فكم يتكرر من أعمالهم وخلْقهم وإماتتهم وحياتهم -خلاّق .. خلاق .. خلاق .. خلاق-؛ كثير الخلق في كل لحظة كم يخلق؟ في كل لحظة كم يرزق؟ في كل لحظة كم يُقدِّم؟ في كل لحظة كم يؤخر؟ في كل لحظة كم يسعد؟ في كل لحظة كم يُشقي؟ في كل لحظة كم يُعلِّم؟ في كل لحظة كم يقرب؟ في كل لحظة كم يبعد؟ -الله-، كل حركات الخلق مخلوقة له.
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ) يقول له فثِق بربك وأُُصدُق معه واعلم أن الخلق خلقه، فلا تنظر إلى كائن مستقل قطعًا فما من كائن إلا تحت قهرِ المُكَوِن وتحت أمر المُكَوِنِ وتحت نظر المكون وتحت تصريف المُكَوِنِ. (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ)، وقد خلق بعلمٍ وعلمهُ أحاط بكل شيء؛ ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86))؛ إذًا فلا تكترث ولا تحزن ولا تبالي بشيء مما يجري على ظهر الأرض فإن كل ذلك تحت قدرة الخلاّقِ العليمِ -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-، يقول سبحانه وتعالى: (فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ ۘ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) [يس:76].
(وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي (87)) اذكر فضلنا عليك، منَّتنا عليك. ويا أهل الإسلام اذكروا نعمة الله عليكم بالإسلام والإيمان، فهي تفوق كل شيءٍ على ظهرِ هذه الأرض، لا يُعَوِّضُ عنها حضارات ولا يعوض عنها طائرات ولا يُعَوِضُ عنها شيء مما على ظهر الأرض قط .. قط .. قط؛ فاستغنوا بما أغنيناكم واشكروا نعمتنا فيما أفضنا عليكم وخَصَصّناكُم به، وهكذا.
قال بعض المريدين الذي يتربى على يدي شيخٍ مُزكي له و يُعلِّقُه بالثناء على الله والحمد لله والشكر له وشهود النِّعم حتى قُدِّرَعليه فَحُبِس، فبعثَ إلى شيخهِ فقال له: أشكرِالله واحمدهُ، واستمر كُلما شكى له شيء يقولُ له: أشكر الله واحمدهُ، حتى أُدخِلَ معه مجوسي في الحبس ثم قُيّدت رِجْلُهُ برِجلِ المجوسي بقيدٍ واحد، حتى إذا أراد أحدهم أن يقضي حاجته يقوم الثاني معه، فكتب إلى شيخه بالحالة ذاتها، قال: أشكرِ اللهَ، فعند الحال هذا ما وصل التلميذ إلى إدراك المعاني، فكتب إليه وقال: قيْد مع مجوسي! يقوم إلى الحاجة أنا وإياه! ما الشكر على هذا؟ فكتب إليه الشيخ: لو حُوِّلَ الزِّنارُ الذي فيه إليكَ وأصبحت غداً كافراً مجوسياً لعرفتَ النعمة التي أنت فيها! يا الله؛ فعرف كيف يشكر الله على كل حال، ويعلم أن حال المؤمن خير مهما حصل له ومهما اُبتلي، وعنده أكبر النعم وهي نعمة لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّه، يارب زدنا منها وثبتنا عليها كما أنعمت علينا بالإسلام فزدنا منه، وكما أنعمت علينا بالإيمان فزدنا منهُ، وكما أنعمت علينا بالعافية فزدنا منها، وكما أنعمت علينا بالعمرِ فبارك لنا فيه.
(وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي)، أعطيناك وخصصناك بسبعٍ من المثاني، قال عامة الصحابة والمفسرين الفاتحة المعظمة، الفاتحة أم القرآن هي السبع المثاني، ويروى ذلك في حديثٍ عنه ﷺ السبع المثاني هي فاتحة الكتاب. (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي)، فهي سبع آيات من المثاني فيها الثناء على الله تبارك الله، ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة:1-4]؛
(وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي …)؛ خصصناك به، فجمعنا لك في هذه السورة معاني القرآن، وعلوم القرآن كله في الفاتحة والقرآن أيضاً. آتيناك القرآن العظيم، فهذا جزءٌ من القرآن مخصص لخصائصه كأنه غايرَ بقية القرآن، فعطف العام على الخاص (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87))، القرآن كله بما فيه هذه السبع المثاني والقرآن العظيم، جمعنا لك فيه أسرار ما أنزلنا على الرسل من قبل، كلهم؛
(وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)) ووجدناه ﷺ يُعظم شأن الفاتحة ويكررها في صلواته دون غيرها، يلتزم بها في كل ركعة يصليها دون غيرها من سور القرآن الكريم، التي يقرأ أحيانًا، لكن الفاتحة كان يواظب عليها، وأَقَرَّ أنها الرُّقْيَة، الرُّقْيَةُ لكل مرضً وألمٍ وداء؛
يقول: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)) فما أعظم القرآن! مَنْ أُوتِيَ القرآن ثم رأى أن أحدًا في الدنيا أُوتي أعظم مما أوتي فقد حَقَّرَ ما عَظّمَ الله، القرآن العظيم. ربطنا الله به وجعلنا من أهله ورزقنا تلاوته على وجهه، آناء الليل وأطرافَ النهار على النحو الذي يرضيه عنا.
(وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87))، يقول الله: ومن أكرمته بنعمة الإسلام والإيمان وأعطيته القرآن لا ينبغي أن يمد عينيه إلى شيء مما عند الآخرين، فكله بالنسبة لهذا حقير، (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا …(88))؛ أصنافًا منهم، ولا تحزن عليه، (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا …(88))، نُلهيهُم فوقَ لهوِهم ونَغويهم فوق غَيهِم بشيءٍ من الزُخرف والمظاهر والغرائب لا يُحسنون استعمالها في محلها؛ وترجع عليهم بالأضرار الاجتماعية والصحية والنفسية وتهلك بعضهم بعضا، ويهلكون بها أيضاً.(لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا …(88))، وإباؤهم وإصرارهم على الكفر، لا تحزن عليهم. وعرَّضوا أنفسهم للنار، لا تحزن عليهم؛ أنت رحيم وجعلنا في قلبك رحمة يشق عليك أن يدخلوا النار. قال من سبقتْ عليه الكلمة منَّا وأقمنا الحُجَة فأبى وكَذّبَ، لا تحزن عليه؛ يُخَفف عليه المعاناة مما يجده ﷺ بسبب رحمته من الحزن على من كفر وأصر.
(... وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88))، وهذه المعاملة مع الكافرين وهذه مع المؤمنين؛ إذاً أنت صاحب الخُلُق -الصفح العظيم- أنت صاحب المسلك الذي نرتضيه، فقُل لأتباعك من بعدك يتأملون هذا ويمْضون من ورائك؛ فإن هذا محل رضائي ومحل عطائي ومحل جودي على من استجاب لندائي. (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ)، (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ)، يعني التواضع والتذلل، ويقال لجناح الإنسان يده، (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88))، كما قال في وصف الذين يحبون ويحبون (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) [المائدة:54]، يضحك عليهم الكافر بمال يضحك عليهم بصناعة، يقولون لا!، يعرض عليهم بسوء شر، يقولون: لا؛ (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)؛ ما نحن أضحوكة لكم! ما نحن إلعوبة لكم! ما نحن مسخرة لكم! وإن استسخرتم كثير من أهل ملَّتنا لأنهم قَصُر ارتباطهم بنور الملة ولكن يبقَ في الأمة ومن أهل الملة من لا تستطيعونهم؛ وهم أَعِزَّة عليكم .. أَعِزَّة عليكم، ما تقدرون عليهم، لا تغوونهم ولا تهددونهم ومهما فعلتم لن يرجعوا عن صدقهم في استقامتهم ولن يتأثروا بشيء مما عندكم كائناً ما كان؛ (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) [المائدة:54]، لله أكبر.
(وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ ..) لمن آمن، ومن لم يؤمن مِن كُل مَن أُرسِلتَ لهم؛ (إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89))، أنا الذي بُعِثت من عند ربكم لأنذركم ما لا طاقة لكم به من عذابه وغضبه، فانتبهوا (إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89))! الذي لا غرض لي ولا قصد في متاعٍ فاني، ولا شيء من أموالكم ولا شيء من الجهات عندكم، فقد عرفتُ ربي فاغتنيتُ به! فأنا أنذركم لا لغرضٍ يعود إليَّ ولا لمنفعةٍ ترجعُ إليَّ؛ ولكن لتسلموا من النار، ولتدخلوا دار الكرامة في جوار الملك الغفار، (إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) الواضح النذارة لا غرض ولا طمع ولا مراد لي غير إنقادكم بأمر ربي جلَّ جلاله .
(وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89))، مُنذر من ماذا؟ قل لهم: (كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90))، اقتسم ناس من قبلكم واقتسم ناس منكم اليوم، اقتسم ناس من قبلكم، فمنهم قوم صالح، (تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ) [النمل:49]، اقتله هو وجماعاته!وصلِّح لهم هلاك واحد، هكذا التفكيرات؛ (ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) [النمل:49]، ما الذي حصل؟ (وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ) [النمل:50-51]، ما الذي حصل؟ يقولُ: (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ) [النمل:48-49]، بيات واحد نُهلكهم، ولا عاد واحد منهم يصبح حي، (ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ) [النمل:49]، من أين هذا؟ ما هذا الذي وقع؟ ما هذا الذي حصل؟ قالوا: (وَإِنَّا لَصَادِقُونَ)، قال: (وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [النمل:50]. (فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [النمل:51-52]. ومن الذي أفلح؟ (وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) [النمل:53]؛ هؤلاء من المتقاسمين.
تقاسم اليهود والنصارى، لعبوا بالتوراة والإنجيل؛ تقاسموها بينهم، وشيء قدموه، وشيء أَخروه، وشيء حذوفوه، وشيء بدلوه، وشيء غيروه؛ مقتسمين. وهؤلاء المقتسمون من قريش لما اقتسموا قالوا: اجلسوا على الأماكن في مدخل الحُجاج إلى مكة، وحذروهم منه، وقسَّموا منهم عدد ووزعوهم على مداخل مكة يُحذرون الحجاج كل من يفد، يقولون لهم: هذا في وسط مكة واحد خالفناه وخالف ديننا وادعى أنه نبي، لا تصدقوه، أنه مجنون، وهلكوا كلهم؛ ماتوا هؤلاء -لا إله إلا الله-. واقتسموا القرآن، أحدهم يقول: شعر، أحدهم يقول: سحر، أحدهم يقول: كهانة، أحدهم يقول…؛ وهذا معنى قولُ: (جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91))؛ فرَّقوه.
قال: (كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91))، مفرقًا مشتتًا، وقالوا عنه كذا .. وقالوا كذا .. وقالوا كذا .. لو أراد بعض اليهود أن يصدقوا ببعض ويكذبوا ببعض، (جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ)؛ يُقسم ربهُ برُبوبيته لمحمد (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93))؛ سؤال حجة وعذاب ومؤاخذة؛ فهذا هو السؤال المثبوت قرآنًا وسنة، والسؤال المنفي سؤال استفهام هل عملت؟ لا يوجد سؤال استفهام في الآخرة، لا يقال هل عملت!، يقال لِمَ فعلت؟ فالسؤال سؤال تبكيت وسؤال تعييب وسؤال تعذيب، أما سؤال استفهام لا يوجد في القرآن، لايوجد في الآخره سؤال الاستفهام، الأمور واضحة وبيِّنة. فذاك السؤال المنفي بقوله: (فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ) [الرحمن:39]، إلى غير ذلك من الآيات.
وهذا السؤال (وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ) [الصافات:24]، (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93))، قال الله لحبيبه: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94))، اجهر بأمرك فيه، وقل ما أمرناك بقوله وأعرض عن المشركين، وكان من رسوله ﷺ ما كان وقام بأمر الله كما أمر، وكان للمشركين، أنْ هدى الله من شاء منهم وأهلك من شاء منهم وانتهى شأنهم، وفتح الله مكة على رسوله ونشر الإسلام في الشرق والغرب، وحج في العام العاشر من هجرته صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، في مائة ألف وأربعة وعشرين ألف نفر، كلهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ﷺ.
رزقنا الله الايمان واليقين والتقوى والاستقامة و أتحفنا بالمِنن والمواهب والمزايا والكرامة ودفع عنا وعن الأمة البلايا والآفات والرزايا في الظواهر والخفيات، إنه أكرمُ الأكرمين، ورزقنا كمال الإيمان واليقين وجعلنا من خواص الموقنين، الذين يُريهم الله ملكوت السماوات والأرض فيعتبرون ويَدَّكِرون ويَحيَونَ حياة من لربهم يشهدون، ولعظيم كرمه وإحسانه وعظيم قدرته يشاهدون، وأن يقينا الأسواء والأدواء، ويحققنا بالتقوى ويصلح شأننا في السر والنجوى.
بسر الفاتحة
حضرة النبي محمد اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله
18 صفَر 1444