(228)
(574)
(536)
(311)
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ أول سورة الإسراء، قوله تعالى:
{سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ (1)}
ضمن جلسة الإثنين الأسبوعية 1444هـ
الحمد لله مُكرِمنا بالوحي والتنزيل والهداية إلى سواء السبيل، على يد ولسان محمد الهادي الدليل، صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وصحبه خير جيل، وعلى من اتّبعهم بإحسان في النية والفعل والقيل، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل التشريف والتكريم والتبجيل، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المُقرّبين، وعلى جميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعد ،،
فإننا في نعمة التأمل لكلام ربنا وخطابه وآيات كتابه وما بعث به سيِّد أحبابه ﷺ، وصلنا إلى سورة الإسراء والمسماة بسورة (بني إسرائيل) وفي سورة الإسراء، بعد أن تقدَّم الكلام في سورة النحل على شؤون عظمة الله تبارك وتعالى وما جعل من آياتٍ في هذه الأرض، وعلى مكانة سيدنا الخليل إبراهيم، ووَحي الله إليه؛ إلى نبينا أن يتّبع (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) [النحل :123]، وعلى الأمر بالصبر وحُسن الخُلُق (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) [النحل :128]، وكانوا قِلّة بالنسبة لغيرهم، وكان غير المتّقين المحسنين من الفساق المسيئين أكثر عدداً وأكثر عُدَّة، فجاء الحق تبارك وتعالى بعد كل ذلك بما يُبَيِّن شرف عبده ونبيه محمد، وبالقدرة التي بها يَقوى ويقدر على كل شيء، فلا يعجزهُ هلاك الكثرة في العدد والقوة في العُدّة أمام الأقل في العدد والأقل في العُدّة، فبيدهِ ملكوت كل شيء.
وافتتح السورة بالتسبيح وهو التقديس والتنزيه:
(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ) سُبْحَانَ : تقدّس وتنزّهَ وتعالى وتعاظم عن العجز وعن القصور، وعن كل ما لا يليق بجلاله وعظمته سبحانه وتعالى.
(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ) أسرى بعبده: المصطفى محمد عليه الصلاة والسلام
(أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ) وَصَفَهُ بالعبوديّة في أشرف المقامات، ولو كان وصفٌ أعظم من هذا الوصف لسيدنا محمد لَوَصفهُ به، فهو خير أسمائه وأعظم أوصافه سبحانه وتعالى وتعاظم وتقدس.
(أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ) محمد ﷺ أعظم الخلق عبودية له، لم يَعبُد سِواهُ جلّ جلالهُ وتعالى في عُلاه، ولم يلتفِت في صِباهُ ولا في أيام صِغَره ولا نشأته إلى صنم ولا إلى سواه، لم يعبد إلا الله؛ فهو المُمَكَّن في العبودية لله تبارك وتعالى على جميع أهل السماوات والأرض فنِعمَ العبد عبد الله محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ) وجاءت هذه القُدرة في الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في ساعة من الليل؛ (لَيْلًا)؛ أي جزءاً يسيراً من الليل مُشيراً إلى قِلّة ذلك الوقت الذي امتدّ وتبارك حتى وَسِع الرحلة الطويلة العظيمة ما بين المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وما بين الأرض إلى السماوات العُلا إلى سِدرة المُنتهى إلى العرش والرفرف، وإلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام في اللوح المحفوظ، ثم عاد كل ذلك (لَيْلًا) في لحظات من الليل في ساعة من الليل فسبحان ربُّ النهار والليل القادر على كل شيء جلّ جلاله من بيده ملكوت كل شيء.
(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ) فخالق الزمان يُطوِّل منه ما شاء ويُقصِّر منه ما شاء ويجعل اليسير منه يسع ما شاء ويجعل الطويل منه يعجز عن سعة قليلٍ مما وسعهُ ذلك الوقت القليل، وله الأمر وله التقديم والتأخير والتغيير والتبديل والتوسيع والتقتير (بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) [يس :83]، لا إله إلا هو. وما الزمان والمكان والليل والنهاروالشمس والقمر والنجوم والأرض والسماء إلا آياتٌ على عظمة قدرته وإرادته؛ وأنه الفعَّال لما يريد، ليس منها شيء مخلوق بنفسه ولا متصِّرف بنفسه بل بقيومية الحي القيوم جلّ جلاله وتعالى في علاه؛ إذًا فالحاكم هو والخالق هو والمقدَّر هو والمقدَّم المؤخر هو، فليس لقدرتهِ حصرٌ ولا حدٌ ولا تعجيزٌ وهو على كل شيء قدير جلَّ جلاله. آمن به وبالقرآن الذي أنزل والنبي الذي أرسل وما جاء به عن الله تبارك وتعالى على مراد الله ومراد رسوله فزدنا اللهم إيمانًا وزدنا يقينا، واجعل لنا عناية من عندك بها من جميع شرور الدارين تحفظنا وتقينا.
(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا) في وقتٍ يسيرٍ من الليل وجاء في الأخبار " ثُمَّ أَرُدُّهٗ مِنَ الْعَرْشِ، قَبْلَ أَنْ يَّبْرُدَ الْفَرْشُ" -فأثرُ جسدهِ بالحرارة في الفرش لم يبرد بعد- " ثُمَّ أَرُدُّهٗ مِنَ الْعَرْشِ. قَبْلَ أَنْ يَّبْرُدَ الْفَرْشُ. وَقَدْ نَالَ جَمِيْعَ الْمَاٰرِبِ".
(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) بمكة المكرمة والمراد الحرم كله وليس من وسط الكعبة، قيل من حواليها أنه كان في الحطيم أو كان في الحِجر والأصح أنه كان في بيت كما ذكره ﷺ في روايات من الأحاديث، بيت أم هاني وأُسري به، فالمراد بالمسجد الحرام : كل الحرم أي المسجد وما حواليه بجواره، من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى- الأبعد - الذي بينه وبين هذا الحرم مسيرة شهر إلى المسجد الأقصى والمراد به بيت المقدس.
(إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا) جعلنا البركة الكثيرة حوله بوجود الأنبياء والمرسلين ونزول الوحي وتردد الملائكة وطيب التربة وطيب الهواء وكثرة الأنهار والأشجار والثمار. (بَارَكْنَا حَوْلَهُ) بأنواعٍ من البركات؛ هذه أعظم مظاهرها؛ كثرة أنبياء ومرسلين وتردد ملائكة مقربين وعُبّاد وصالحين وطيبُ أرض وأنهار وأشجار وأثمار وخيرات كثيرة. (بَارَكْنَا حَوْلَهُ) باركنا حوالي المسجد وما كان بجانبه وما قرُب منه؛ لأجله فإذا كانت البركة حوله لأجله، فكيف به نفسه؟ ذلك المسجد المبارك.
قال سبحانه وتعالى: (الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) فتم الإسراء بنبينا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم بقدرة الله جل جلاله، وقد جاءتنا الأحاديث بأن الله جعل ذلك في قوالب مجيئ جِبْرِيل ومجيئ بُراق معه وركوب النبي على هذا البُراق، ومع ذلك فقد مر في الطريق على مواقف أوقف فيها عليه الصلاة والسلام حتى أتى بيت المقدس، وقد جمع الله له النبيين والمرسلين من عهد آدم إلى عيسى الذي هو آخر الأنبياء قبله، لم يبقَ نبي ولا رسول إلا حضر، ومعهم جم ٌّغفير من ملائكة الله تبارك وتعالى؛ وجُمِعوا في بيت المقدس، وصلّى وصلَّوا خلفهُ، فإذًا هو المقدم وهو الرأس لأهل الرئاسة ﷺ.
وجاء في السيرة أن أبا سفيان لما كان أيام كفره، ولاقى أيضا قيصر ملك الروم وتكلم معه وهو يسأله عن النبي محمد ﷺ، وقال: خفتُ أن يؤثَر عليَّ كذب ثم لا يصدقوني أبدا وينسب الناس إليَّ الكذب فما استطعت أن أدخل شيء. ولكنه جاء في السيرة أنه فيما قال له، قال " ألا أدلُّك على شيء يدل على أنه يكذب؟ قال ماذا ؟ قال لنا في ليلة أنه أُسري به من مكة وحتى أتى مسجدكم هذا وأصبح بين أظهُرِنا، فقال له قيصر: هذا في كتابنا، أنه يسرى به. قال لبعض الذين عنده ـ كان من الوكلاء ـ على المسجد الأقصى، قال: حضرة قيصر أنا أعلم الليلة التي جاء فيها. قال : ها ؟ كيف علمتَ ذلك ؟ قال: إني أُغلق الأبواب كل ليلة في المسجد، وفي ليلة كذا جئتُ فإذا ببابين نازعتهما فلم ينغلقا لي، حتى ذهبتُ للنجَّارين، فجاءوا وقالوا أنه سقط عليهم من الخشب أمر وما نستطيع، إتركه إلى الصباح؛ حتى نأتي ونصلح هذا الأمر. قال: فانصرفتُ ولما جئتُ الصباح دخلتُ المسجد وإذا بالأبواب صالحة وإذا بهناك ثقب في الحجرة التي فيها الربط؛ علمت أنه في تلك الليلة وصل وأنه كان في تلك الليلة. فأراد أن يكذِّبوه بما ذكر لهم من الإسراء؛ فكان علامة من علامات صدقه ﷺ، والأمر مكتوب عندهم في الإنجيل وخبره ﷺ (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ) [النجم:3-4] فصلى الله على أصدق الخلائق.
(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ) ونِعم العبد عبده محمد المصطفى المحبوب الكامل المتحقق بالعبودية بما لم يبلغه سواه من ذلك الرُقي في التحقق بالعبودية صلوات ربي وسلامه عليه (لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ)؛ قال الرحمن: (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا) لأُري هذا النبي المصطفى حبيبي، أُريه من آياتنا العجائب والغرائب وما لم أُري غيره وما لم يطلع عليه سواه (لِنُرِيَهُ) بنور العظمة والكبرياء. (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا) بعينه وقلبه فيشاهد بالبصيرة ويشاهد بالبصر شؤونًا وأمورًا ما شاهدها غيره من الخلق لا مَلكًا ولا نبيًا صلوات ربي وسلامه عليه. (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا) الكبرى ( لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ) [النجم:18].
(لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)) والذين قالوا من أهل التفسير في الضمير إنه يعود على النبيﷺ، واللائق بسياق الكلام وكان سمعه ﷺ وبصره مميزة. وإذا قال الله في عموم الإنسان (إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) [الإنسان:2] هذا الإنسان، لكن سيد الناس هذا، سمعه فوق كل سمع للإنس والجن والملائكة، وبصره فوق كل بصر للإنس والجن والملائكة. وسياق الآية يدل على أنه هو المراد بهذا الوصف ﷺ، فإذا وصِف الإنسان على العموم بأنه سميع بصير بقدرة السميع البصير؛ فعلى الخصوص السمع والبصر للأنبياء والمقربين أوسع وأعلى وأجل وأرفع من السمع الذي آتاه الله الكائنات والمخلوقات. فيشترك الإنسان والحيوان في الرؤية البصرية والنظر البصري المُجرَّد وفي هذا السمع المُجرَّد؛ ولكن:
وراء بصر هذه العين التي يُبصر بها عامة الناس بصر الروح.
ووراء بصر الروح بصر القرب وهو الذي تكون منه الفراسة ويكون للأولياء .
ووراء بصر القرب هذا بصر النبوة وبصر الرسالة.
وهذه الأبصار كلها مجموعة في هذه الذات المحمدية؛ فعنده: بصر العين، وعنده بصر العقل، بصر العقل والروح الذي به يُتم التوحيد، وعنده بصر العقل والروح، وعنده بصر القرب، وعنده بصر النبوة، وعنده بصر الرسالة صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله. وقد صحت لنا الأحاديث أنه ﷺ "كان يرى من ورائه كما يرى من أمامه"، و صحَّ لنا في الحديث "زوَى لي الأرضَ فرأَيْتُ مَشارِقَها ومَغارِبَها"، ما تشوف البصيرة، هذا ايش يُبصر؟ " زوَى لي الأرضَ فرأَيْتُ مَشارِقَها ومَغارِبَها" ﷺ وذكر لنا في الحديث الصحيح وهو يخطبُ أصحابه على المنبر الشريف يقول وذكر حوضه الشريف قال "وإني لأنظر إليه الآن"؛ ينظر إلى الحوض الشريف وهو على المنبر صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله، فنِعم السميع البصير في الخلائق محمد الذي حُقَّ أن يُخاطب يقول:
فسمعت ما لا يستطاع سماعه *** وعقلت ما عنه الورى قد ناموا
ما للعقـول تصــور لحقيقة *** يأتيك منها الوحي والالهـام
ودنوت منه-من ربك- دنو حق أمـره *** فينـــا على افكارنـــــــا الابهـــــــام
من حضـرة علـويــــة قدسيـــــة *** قد واجهتـــك تحيــــــة وســــــلام
صلى الله عليه وعلى آله وسلم
(إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)) وقال لنا و "ظَهَرْتُ لِمُسْتَوًى أسْمَعُ فيه صَرِيفَ الأقْلامِ" تخط في اللَّوحُ المَحفوظُ، ماهذا السمع؟!! صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله ؟!!
وقد جاء في بعض الأخبار أن سيدنا موسى عليه السلام حين تجلّى الله عليه وكلَّمهُ، كان يسمع دبيب النمل من عشرة فراسخ ويُبصر، وجاء أنه ﷺ وهو في السماء صار يُبصرُ على ظهر الأرض النمل ودُبُوبهُُ على الأرض صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله، ثم صحّ أيضا في الحديث عنه ﷺ أنه قال للصحابة: " أترَوْنَ قِبْلتي هاهنا؟ فإنه لا يخفى علَيَّ ركوعُكم ولا سجودكم، وإنِّي لَأراكم مِن وراءِ ظَهري"؛ فتبين أن بصره ليس بحدقة العين وليس منحصرًا في هذا، وهكذا ، حتى جاءنا في الحديث وروى الإمام أحمد في مسنده عن سيدنا جابر رضي الله عنه قال " كنا في غزوة وكنا في ليلة مظلمة وفقدت فيها راحلتي، وخرجت وأنا في الظلام فمررتُ، وإذا برسول الله ﷺ يشدُ لعائشة، فقال ما لك يا جابر؟ ورأيتهُ -قال من نور وجهه ﷺ- قلت: يا رسول الله ظللتُ رحلي. قال فالتفتَ والليلة مظلمة، قال: يقول هناك جملُك. وتوجهتُ، ولم يعرف البقعة التي أشار إليها ﷺ يمشي، وظلمة قال في ليلة ظلماء قال: ماوجدته ورجعت إليه قلت : يا رسول الله ما وجدت الجمل قال: اصبر حتى انتهى، وانتهى من العمل الذي كان يعمل، قال مسك بيدي ويمشي في الظلام كأنه يمشي في الضوء، قال حتى وقف بي على الجمل. قال: هذا جملك ونأولني إياه ﷺ، ولذا كان يقول بعض أصحابه إنه كان ينظر في الليلة الظلماء كما ينظر في ضوء النهار صلوات ربي وسلم عليه.
(إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)) فأعطاه الرب السميع البصير من السمع ما لم يعطِ غيره، وأعطاه من البصر ما لم يعطِ غيره، فسبحان الذي خص محمدا صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله، (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)).
يقول الله تعالى (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا) فكان كما نقرأ في أحاديث الإسراء والمعراج في الطريق نفسها كانت آيات وكانت بدايع وغايات؛ منها ما كان من أمر جبريل له بالخروج، وأن يصلي فأوقف البراق في بقعة ثم في بقعة ثم في بقعة، وهو يقول له: "إنزل فصلِّ هنا"، قال: "فنزلتُ وصليت"، قال: أتدري أين صليت؟ قلت: لا، قال بطيبة حيث المُهاجر إن شاء الله"؛ هذه المدينة ستتشرف بك وتُهاجر إليها. فمشى به، قال "إنزل هنا فصلِّ " فنزل، قال: أتدري أين صليت؟ قال: لا، قال: حيث كلم الله موسى بالطور، هذا جبل الطور حيث كلم الله موسى -على نبينا وعليه الصلاة والسلام-. ثم وقف بالبراق، وقال: "إنزل هنا فصلِّ" قال فنزلت فصليتُ، فقال أتدري أين صليت؟ قال ببيت لحم؛ حيث وُلِد عيسى. ففيه مروره على هذه الآثار وهذه الأماكن المباركة ليصلي هنا وليصلي هنا وليصلي هنا صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وسيدنا موسى وسيدنا عيسى دونه، وهم تحت لوائه؛ ومع ذلك ينزل ويصلي في أماكنهم ويُعظم آثارهم صلوات الله وسلامه عليهم، إلا أن كان جبريل صوفي ومحمد معه، هذا رسول الله، هذا حبيب الله، وذاك أمين الله على وحيه. "إنزل صلِّ هنا"، "إنزل صلِّ هنا"، "إنزل صلِّ هنا" صلوات الله على النبي محمد وعلى جبريل وموسى وعيسى وعلى جميع الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلام عليهم. وعندنا في صحيح مسلم وغيره " مررت ليلةَ أُسرِيَ بي على موسى، وهو قائمٌ يُصلِّي في قبرِه"، مر أيضا على قبر موسى، مر على الطور حيث ناجى الله موسى، وعلى بقعة ولد فيها عيسى بن مريم وقد قال عيسى بن مريم فيما حكى لنا ربنا في القرآن عند ولادته (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ) [مريم:30] وإذا كان البركة في مكان فيه عيسى فكيف بمكان فيه محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
ثم أنه كان من الآيات أنه عليه الصلاة والسلام سمع مناد ينادي عن يمينه وما أجابه، سمع مناد ينادي عن يساره وما أجابه، وسمع ورأى عجوزًا عليها من كل زينة تناديه ﷺ فلم يجبها، ثم سمع أرواحًا للأنبياء تناديه: السلام عليك يا أول، السلام عليك يا آخر، السلام عليك يا حاشر؛ فردَّ عليهم السلام، سلَّم عليه الأنبياء؛ أروحاهم انطلقت قبل الوصول واللقاء في بيت المقدس، إشتاقت أرواحهم للقائه في الطريق فلاقوه في الطريق تعظيمًا، رحلة عظيمة وشأن فخيم جسيم.
(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ) سبحانه عز وجل، ثم ما كان في ذلك من عجائب ترتيب الحق لإرادته أنه رتب كما أطْلع جبريل من أسرار إرادته على حركات سيدنا محمد هذه، شؤون تتعلق بأمته إلى آخر الزمان. يقول أتدري من كان ناداك عن الجانب الأيمن؟ قلت: لا ، قال: ذاك داعي اليهودية أما إنك لو أجبته لتهودت أمتك من بعدك. على ما يفعل من خذلهم الله من اليهود من إرادة نشر دينهم واستغواء الناس واستتباعهم، لو أنك أجبت داعيهم لكانت الأمة كلها من بعدك تمشي وراء هؤلاء؛ ولكن ببركة ثباته وعدم إجابته ثبت الثابتون منا، وإن اغتر من اغتر بيهود ومشى وراءهم فهناك من الأمة من لا ينضوي تحت لواء يهود ولا نصارى ولا غيرهم من الكفار؛ ببركة ثبات المختار. يقول أتدري من الذي ناداك عن اليسار؟ قلت: لا، قال: ذاك داعي النصارى أما إنك لو أجبته لتنصرت أمتك من بعدك.
انظروا على ما يحاولون من إخراج المسلمين من الإسلام إلى النصرانية وما بذلوا في ذلك من الملايين والألوف في مختلف الأقطار والأماكن، وكيف حفظ الله هذا الدين؛ وإذا بالإسلام ينتشر حتى في أوساطهم هم. ونحن نسمع قبل أربعين سنة أنهم يُعدون عدد وخطط لتكون أفريقيا في عام ألفين قارة مسيحية، ما عاد يبقى فيها الإسلام؛ من ذاك الوقت إلى الآن زاد عدد المسلمين في أفريقيا وزادت عدد المساجد في أفريقيا. سبحان القوي، قال: لو أجبته لتنصرت أمتك. فالحمد لله الذي ثبتنا برسوله ومصطفاه.
يقول : أتدري من العجوز؟ قال: لا، قال: تلك الدنيا عليها من كل زينة ولم يبقَ من عمر الدنيا إلا ما بقي من عمر تلك العجوز. فهذه الألف واربعمائة وما بقي بعدها من قليل يسير جداً بالنسبة لما مضى قبلنا في عالم الدنيا، قرون كثيرة مرت وألاف سنين انتهت، ونحن جئنا والدنيا عجوز. والآن بعد ذاك الوقت إلى الآن عجوز العجوز، وعجوز العجوز عليها مقاتلة من هنا ومن هنا، أتعبوا أنفسهم وأتعبوا خلق الله معهم؛ يتقاتلون عليها؛ وقدها منتهيه ورايحه؛ ولكن الله يثبت من يشاء ويضل من يشاء. فيا ربي ثبتنا على الحق والهدى.
ثم يقول: عُرض عليه الماء والخمر واللبن فشرب من الماء قليلاً وارتوا من اللبن، ثم عُرض عليه الخمر فقال قد رويت معرضًا، قال سيدنا جيريل إنك تُهدىَ للفطرة؛ يعني هذه الوقفة وهذه الواقعة يترتب على أشياء كبيرة في أمتك. قال: أما إنك لو شربت من الماء كثيراً لغرقتْ أمتك من بعدك كما غرقت قوم نوح، ولكن أصبت الفطرة اللبن ولو شربت الخمر لغوتْ أمتك من بعدك، ولكنه هُدي فالحمد لله. فالثابتون منا أثر من آثار ما رتب الله على حركات نبينا واختياراته صلوات ربي وسلامه عليه.
دعانا إلى حـــــق بحق منزل *** عليه من الرحمن أفضل دعوة
أجبنا قبلنــــا مذعنين لأمــــره *** سمعنا أطعنا عن هدى وبصيرة
فيا رب ثبتنا على الحق والهدى *** ويا رب اقبضنـــــا على غير ملة
(لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا) ثم جمع جميع الأنبياء ومعهم الأعداد الكبيرة من الملائكة وصلوا خلفه وقُدِّمَ هو الإمام. وجاء بعد ذلك حديث المعراج وما فيه، بعد الإسراء، واقتصر هنا على ذكر الإسراء وفيه آيات ظاهرة للقوم، من مثل ما مرَّ على عيرهم ورأها في الطريق، فرقة منهم ضلَّ عليهم جمل وحصل عليه فلان بن فلان، النبي علم ذلك وسلَّم على بعضهم وسمعوا صوته ﷺ وهكذا واستفسروه عنهم وأخبرهم عنهم؛ أمور حسيئة. وسألوه عن وصف بيت المقدس فأجاد الوصف، مع أنه ما راح يتشوف في البيت المقدس ويشوف كم فيه نوافذ؟ كم فيه مداخل؟ كم فيه سواري؟ كم فيه أبواب؟ هم تردد منهم بعض التجار إلى بيت المقدس يعرفوه، قالوا إذا سرى الى بيت المقدس سيشرح لنا من الجانب الغربي من الجانب الشرقي من الجانب الجنوبي من الجانب الشمالي، كم فيه أبواب؟ قال: "كُربتُ كربًا لما أُكرب مثله؛ فجلّ الله لي بيت المقدس جعلته وأنا في الحِجرأراه دون دارعقيل"، قال: لا يسألوني عن جهة منه إلا تحوَّل لي؛ فأقول لهم كذا وكذا. قالوا: أما الوصف فقد أجاد. قال ما علينا من بيت المقدس، قل لنا عن عيرنا، قال: عيركم في المكان الفلاني ومررت بهم قوم آل فلان في المحل الفلاني، وآل فلان في المحل الفلاني، وفلان أضلوا بعيرًا لهم وجمعه عليه فلان بن فلان. قالوا هذه آيات، سنسألهم إذا جاءوا، إسألوهم. ومتى يجيئون؟ متى يجيئون !! ماعلاقته هذا في الإسراء؟!! ولكن تحدِّي، قال يأتون في اليوم الفلاني وعند غروب الشمس. وقد خرجوا في يوم الأربعاء عند قريب غروب الشمس وإذا القائل منهم قال هذه الشمس قد غربت، قال ثاني وهذه العير قد أقبلت كما أخبر ﷺ. قال لهم: "يتقدمهم جمل أورق عليه غرارتان سوداوان"؛ وكان كما قال. في الليلة الفلانية كنتم في مكان كذا؟ قالوا: نعم. ضلَّ جمل؟ قالوا نعم . حصَّله فلان؟ قالوا: نعم، قال المشركون: هذا سحر كبير! ايش سحر كبير؟!! صلى الله على الصادق البشير النذير والسراج المنير وهكذا.
(لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)) ولما كان في الإسراء والمعراج له أخبار مع موسى مر به يصلي في قبره وصلى معه في بيت المقدس وليلة فرض الصلاة تردد بينه وبين الرب. بعد ما ذكر الإسراء، ذكر موسى عليه السلام وموسى عليه السلام أيضا قومه تأخروا عن الوصول إلى بيت المقدس؛ خالفونه وقعدوا أربعين سنة يتيهون والحبيب في لحظة راح ودخل بيت المقدس وطلع ورجع ﷺ.
(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ) فنعم العبد عبده محمد صلى الله عليه وعلى الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم وتابعيهم وجعلنا وإياكم من خواص تابعيه في خير ولطف وعافية. اللهم انظر إلى أمته واكشف كروبهم وادفع البلاء عنهم واجعلنا في أهل نصرته وأهل محبته وأهل حسن متابعته وأكرمنا يا ربنا يا من شرفتنا به وشرفته بما ميزته عن أهل أرضك وسماواتك أكرمنا وشرفنا بمرافقته، إنك أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين آمين.
24 ذو القِعدة 1444