تفسير سورة الأنبياء -15- من قوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)} إلى الآية 106

للاستماع إلى الدرس

تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الأنبياء 

{ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)}

مساء الإثنين 26 جمادى الأولى 1447هـ

 

نص الدرس مكتوباً:

الحمدلله مُكرمنا بالوحي والتنزيل وبيانه على لسان خير رسولٍ وخير دليل، سيدنا محمد الهادي إلى سواء السبيل، صلى الله وسلم وبارك وكرِّم عليه وعلى آله وصحبه وأهل ولائه ومتابعته في النية والقصد والفعل والقيل، وعلى آبائه وإخوانه من أنبياء الله ورسله أهل التكريم والتفضيل والتبجيل، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكة الله المقربين وجميع عباده الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

وفي نعمة تأمُّلنا لكلام ربنا جلّ جلاله وتعالى في علاه، وصلنا إلى أواخر سورة الأنبياء، يقولِ الحق جلّ جلاله وتعالى في علاه: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ أُولَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)) أي عن النار، جعلنا الله وإياكم منهم وأهلينا وأولادنا وأحبابنا وطُلابنا وذوي الحقوق علينا، اللهم آمين.

 يقول سبحانه وتعالى، في أهل النار: (لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)) وذلك أنه: 

  • تأتيهم أحوال وأوقاتٌ لا يتخيَّل للواحد منهم إلا أنّه وحده المُعذب في النار ولا يسمع شيئاً؛ من شِّدة ما هو فيه من العذاب. 
  • وتأتيهم أحوال لأجل التبكيت ولأجل إقامة الحُجّة ولأجل زيادة الحسرة والتعذيب، يَسمعون شيئاً من نداء أهل الجنة لهم: "يا أهل النار (فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا)، فقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً".

وهكذا فيما يخاطبون الملائكة ويردون عليهم، فعُلِم من قوله: (وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)) أن ذلك في أحوال من شدّة ما هم فيه، كذلك فيما جاء من آية حشرهم عُمياً وصُمّاً وبُكماً، أن ذلك في أحوالٍ تكون في بداية المحشر، ثم يكون ما يشاهدون، ويكون ما يسمعون، ويكون ما يتكلمون ويُخَاطَبون به، فهي مواقف يحدثنا القرآن عنها، وأحوال.

يقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ.. (101))، أي الذين أردنا لهم السعادة، وسَبقت السابِقة في إرادتنا وفي قضائنا لهم بالسعادة، ويَترتّب على ذلك: 

  • أنهم يُؤمنون ويعملون الصالحات، وإذا قارفوا شيئاً من السيئات تابوا، فكانت ترجمة (الْحُسْنَىٰ): السابقة. 
  • ثم يكون لهم إرث الجنة وهي نهاية الحُسنى وغاية الحُسنى، وما أوجبتهُ السعادة الأزلية بدخول الجنة في الحياة الأبدية.

 (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ.. (101)) فالحُسنى سابقُ إرادة الله تعالى، وقضائه في الأزل بالسعادة، يترتب عليه: 

  • حُسنى الدنيا بالإيمان والعمل الصالح. 
  • وأن يُتْبَع الذنب والسيئة ممن سبقت لهم من الله الحُسنى بالتوبة الصادقة الخالصة. 
  • ثم الحُسنى؛ الكُبرى والنهاية لسابقة السعادة بالخلود في الجنة دار الكرامة. 

(سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ أُولَٰئِكَ عَنْهَا) -عن النار- (مُبْعَدُونَ) بأنواعٍ من البُعد المعنوي والحسي.

  • أما المعنوي:
    • فهم وإن وَردوا عليها عند المرور على الصراط، فإنهم يَمرُّون بثباتٍ وتأييدٍ من الله. 
    • حتى وَرَد عند عدد من أهل السُّنة، قوله ﷺ أن النار تقول للمؤمن عند إرادته أن يَجُوز عليها: "جُزْ يا مؤمن، فقد أطفأ نورك لهبي".
    • فهي بالنسبة لهم بعيدةٌ في المعنى وإن وَردُوا عليها.
    • وكذلك الملائكة الذين هم خَزنة جهنم تُسخَّر لهم ولا تُسلَّط عليهم.
  • ثم هناك البُعد الحسي أيضاً: 
    • وذلك في مواقف في القيامة، ثم بعد تجاوزها إلى الحوض إلى الجنة. 
    • فهم (مُبْعَدُونَ) عن النار وآفاتها وسعيرها وزقومها وأغلالها وعقاربها وحيَّاتها وشدائدها.

يقول تعالى: (أُولَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا) لا يسمعون لها حساً أو لهبا، وهل ذلك في جميع الأحوال أو بعد مُجاوزتهم الصراط؟ فلا يسمعون لها حسيساً، وكذلك يكون لبعضهم عند المرور عليها أن تكون بِحُكم رضوان الله عليهم مُسخَّرة لا مُسلَّطة.

(لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ) -من النعيم واللّذّة والصفاء والسرور- (خَالِدُونَ (102))، يخلُدون في دارٍ لهم فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، لا يخرجون منها أبداً.

(لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) والفزع الأكبر: هول الموقف عند النفخة الثانية في الصور، هذا الفزع الأكبر.

  • (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ) [المؤمنون:101]. 
  • (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ)، (وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [الزمر:68]. 

لا إله إلا الله، وهو أعلم بما يفعلون، فعند القيام من القبور بالنفخة الثانية في الصُّور، يكون هول المُطَّلع، فهو الفزع الأكبر!

  • يلحقُ به ما يكون من هيبة الوقوف بين يدي الله. 
  • وما يكون من الأمر بدخول النار لمن يُؤمر بادخالهم إياها؛ يلحق بهذا الفزع الأكبر.

ينتهي الفزع الأكبر إلى لحظة الحُكم النافذ القوي:

  • الذي تنقطع فيه آمال أحدٍ من أهل النار أن يَخرج منها، ويَكمُل يقين أهل الجنة بالخلود فيها. 
  • وذلك ساعة ذبح الموت: 
    • فإن الله يُصوّر الموت -سبحانه وتعالى- على صورة خروف، ويأمر سيدنا يحيى أن يَذبحه.
    • فينادي المنادي: "يا أهل الجنة خلودٌ فلا موتَ، ويا أهل النار خلودٌ فلا موتَ".

تلك الساعة هول أكبر، فزع أكبر؛ لأنه إذا جاءت وواحد من المُكلفين في النار فلن يخرج منها، ولذا قالوا عن خيار من الأمة من العارفين، أنّ الذي أبكاهم حتى زاد قلقهم في لياليهم ساعة ذبح الموت؛ خشية أن تأتي وأحدهم في نار الله الموقدة -والعياذ بالله تبارك وتعالى- فلا يطمع في الخروج أبداً، أجارنا الله من ناره.

قال عن هؤلاء القوم: 

  • (لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) بل هم عند القيام من القبور عند النفخة الثانية في الصور، وهم في مواقف الحشر ومواقف القيامة، وهم عند المرور على الصراط، ثم عند دخول الجنة (تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ):
    • (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ) بالتطمين والتبشير من الحي القيوم الملك الحاكم، جل جلاله.
    • (تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ) بالأُنس والسرور والإجلال والتعظيم. 
  • تُخاطبهم: (هَٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (103)) ما وعدكم إلهكم على ألْسِنة الرسل هو هذا اليوم: 
    • يوم إكرامكم، ويوم نجاتكم، ويوم تَبييض وجوهكم. 
    • ويوم رجحان حسناتكم
    • ويوم ثباتكم على الصراط
    • ويوم دخولكم الجنة 
    • ويوم قبول الشفاعة من الشفعاء منكم. 

(هَٰذَا يَوْمُكُمُ) يوم نجاتكم ويوم سُروركم، ويوم إكرامكم ويوم فوزكم، (هَٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (103))، لا إله إلا الله، اللهم اجعلنا ممن سبقت لهم منك الحسنى.

أي يوم هذا؟ 

قال الله فيه: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ..(104)) تنشق وتكون كالمُهل، والمَلَك على أرجائها، فتنطوي كما ينطوي الكتاب وسط السجل:

  • إذا كُتِبَ الكتابُ في سِجلٍ، فطُوي السجل فَغطّى كل ما فيه. 
  • فكذلك السماوات حتى تصبح لا أثر لها بعد ذلك بقدرة مالِكها وخالقها. 
  • يوم الهول الأكبر؛ لا أسلحة نووية ولا قنابل ذرية ولا هيدروجينية ولا شيء من هذه الأشياء.

هذا طي السماء، طي السماء! كيف ستكون الكرة الأرضية؟ وكيف ستكون الكواكب؟ هذا الهول! (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ):

  • (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ) [المعارج:8-9]. 
  • (إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ) [الانشقاق:1-2]. 
  • ويقول: (إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ) [الإنفطار:1].
  • و يقول جلَّ جلاله: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَٰنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا) [الفرقان:25-26]. 

لا إله إلا الله، الحمد لله على الإيمان، اللهم نجِّنا في ذلك اليوم واجعلنا في زمرة حبيبك، يا حي يا قيوم.

 (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ.. (104))

  • قيل أن مَلَكاً اسمه السِّجل يطوي الكتاب. 
  • وقيل أنه كاتبٌ من كُتّاب الوحي. 
  • ولكن الصحيح أن السِّجل نفس الأوراق والكتاب: 
    • الذي يُسجل فيها ما يُسجل. 
    • تنطوي على الكتاب الذي فيها، فتُغَيِّبَهُ تماماً. 
    • (نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ).

يقول الحق: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ..(104)) كما بدأنا وتفرَّدنا بالإيجاد والنشأة والخلق، فنحن أيضًا نتولى إعادتهم وجمعهم ليوم لا ريب فيه. 

(كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ)، (فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الإسراء:51] جلَّ جلاله، وكما بدأهم يُعيدُهم. 

ومن جملة ذلك: "أن يُحشر الناس كلهم حُفاةً عُراةً غُرْلًا"، ولما ذَكَر ذلك ﷺ قالت بعض أمهات المؤمنين: واسوأتاه يارسول الله! كيف؟! الناس كلهم عُراة ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال: الأمر أكبر من ذلك، كلٌ منهم مشغولٌ بما هو فيه، ما أحد ينظر إلى الثاني من شدة الهول، وأول ما يُكسى الخليل إبراهيم، أي بعده صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، "ومن كَسا لله كساه الله، ومن سقى لله سقاه الله".

 قال تعالى: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا) إن ما سبق في إرادتنا من إعادتكم لا يَتَخَلَف أبداً، (إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104))، (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ * لِّيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) [سبأ:3-4].

يقول جلَّ جلاله: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104))، أي: يُبِكِّت أنواع أهل الإلحاد والتكذيب باليوم الآخر وهم يعذبون في النار.. 

  • ويقول لهم: (اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون:108]. 
  • ثم يقول: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) [المؤمنون:115-116].
  • (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ)، (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم) [الغاشية:25-26]. 

(كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105))..

  • (كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ): الكُتب التي أنزلت على الأنبياء كلهم، كتبَ الله فيها. 
  • (مِن بَعْدِ الذِّكْرِ) أُمّ الكتاب عنده -جلَّ جلاله- كتب فيها وقضى.

(كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ) وهو ما أُنزِلَ على الأنبياء مِن كُتُب، (مِن بَعْدِ الذِّكْرِ) وهو أُم الكتاب عنده جلَّ جلاله. 

(أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) أما أرض الجنة فخاصةٌ بهم، ولكن أيضًا هذه الأرض التي نحن عليها يرثها عبادي الصالحون بمعاني:

  1.  فإنما  يُحَصِّلُ من خلال الحياة في الأرض، أعظم ما يُكسب ويُتحصَّل عليه فيها هم الصالحون وحدهم.
  2. ثانياً: أنه كل أمة تجبرت وتكبرت وعصت الرسل أُهلِكوا، وبقي الصالحون بعدهم في الأراضي: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ) [إبراهيم:13-14].
  3. وأن الأرض أيضاً، أرض بيت المقدس، يرثها عبادي الصالحون؛ المؤمنون من بني إسرائيل -أتَبَاع  موسى عليه السلام- فهم الذين ورثوها، يقول جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) [الأعراف:137].

 ثم كذلك في هذه الأمة:

  • حارب الكفار في أرض مكة، وقاتلوا النبي وأخرجوه منها، ثم ورِثها، وورثها الصالحون من بعده، كذلك في كثير من بقاع الأرض.
  • "ثم لا يذهب الليل والنهار حتى لا يبقى بيت شجرٍ ولا مدر ولا وبر ولا حجر إلا دخله هذا الدين"

(أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) خَطِّطِوا ما تُخططون، وخبّطوا ما تُخبطون، (الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) بهذا المعنى في هذه الأرض، وأرض الجنة الكبيرة لهم وحدهم، وليس للمعاندين المضادين الملحدين الكافرين بأصنافهم؛ شبر فيها ولا محل منها، والعياذ بالله تبارك وتعالى.

يقول: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)) يقول بعضهم:

  • إن الزبور هي الكتب التي أنزلت  بعد موسى. 
  • وأن الذِّكر هو القرآن الكريم. 
  • والقول الأول أجمع، أن الزبور جميع ما زُبِر للأنبياء في الكتب المُنزَلة عليهم. 

كتب الله ذلك، وفي اللوح المحفوظ وفي أم الكتاب، كتب: (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)

(إِنَّ فِي هَٰذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)) 

  • يقول الله؛ في هذا بلاغ وكفاية للعابدين، أي العارفين الطائعين. 
  • (إِنَّ فِي هَٰذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ)، يُبَلِغُهُم إدراك الحقيقة، والاستمساك بالعروة الوثيقة، والاستقامة على خير طريقة.  

(لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ)، بل بلاغاً يُبَلِغهُم الوصول إلى رضوان إلٰههم وقُربه ومعرفته الخاصة. 

(إِنَّ فِي هَٰذَا) الوحي الذي أوحينا إليك يا نبينا، والكتاب الذي أنزلنا عليك: 

  • (لَبَلَاغًا) كافياً شاملاً مُبلِّغاً (لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ) آمنوا بك وصدَّقوك وانتَهَجوا نهجك في عبادتنا. 
  • فَنوصِل لهم إدراك الحقيقة والاستمساك بالعروة الوثيقة والثبات على خير طريقة. 
  • ثم نُبَلِّغُهُم قُربُنا ورضواننا ومعرفتنا ومحبتنا وما لا عين رأت ولا أذن سمعت. 

(إِنَّ فِي هَٰذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ) يُبَلِّغُهُم ما راموا وفوق ما راموا، يَبلغونَ بهذا الكتاب الذي أوحينا إليك، فيا فوز القائمين بحق هذا الكتاب والمتصلين به والعاملين به. 

(إِنَّ فِي هَٰذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107))، اللهم وفِّر حظنا من هذه الرحمة، اللهم وفّر حظ كل فرد منا ومن أهلينا وقرابتنا وطلابنا وأحبابنا وأصحابنا من هذه الرحمة، واجعلنا من أسعد أمته بقربه، ومن أسعد أمته بحبه، ومن أسعد أمته باتباعه، ومن أسعد أمته بنصرته، ومن أسعد أمته بمرافقته، ومن أسعد أمته بشفاعته، يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين. 

واجعلنا من القوم العابدين الذين في كتابك بلاغًا لهم إلى أعلى مراتب الصدق معك والاستقامة على ما تحب والظفر برضوانك الأكبر ومعرفتك الخاصة ومحبتك الخالصة، والقرب الأفخر منك يا حي يا قيوم.

اجعلنا من أولئك القوم العابدين، اجعلنا هادين مهتدين غير ضالين ولا مُضِلِّين، ثبتنا على الحق فيما نقول ونفعل ونعتقد، وعجل بتفريج كُروب أمة من أنزلت عليه هذا الكتاب؛ في السودان وفي غزة وفي الضفة الغربية وفي فلسطين وفي لبنان وفي الشام كله وفي اليمن كله, وفي الشرق والغرب يا حي يا قيوم، تدارك أمة هذا النبي، أغث أمة هذا النبي، أصلح شأن أمة هذا النبي، اجمع قلوب أمة هذا النبي، ادفع البلاء عن أمة هذا النبي، يا قوي يا متين، يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين.

 بسر الفاتحة

 إلى حضرة النبي محمد.

 

تاريخ النشر الهجري

29 جمادى الأول 1447

تاريخ النشر الميلادي

20 نوفمبر 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام