(607)
(339)
(535)
(377)
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الأنبياء
{ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)}
مساء الإثنين 26 جمادى الأولى 1447هـ
الحمدلله مُكرمنا بالوحي والتنزيل وبيانه على لسان خير رسولٍ وخير دليل، سيدنا محمد الهادي إلى سواء السبيل، صلى الله وسلم وبارك وكرِّم عليه وعلى آله وصحبه وأهل ولائه ومتابعته في النية والقصد والفعل والقيل، وعلى آبائه وإخوانه من أنبياء الله ورسله أهل التكريم والتفضيل والتبجيل، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكة الله المقربين وجميع عباده الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وفي نعمة تأمُّلنا لكلام ربنا جلّ جلاله وتعالى في علاه، وصلنا إلى أواخر سورة الأنبياء، يقولِ الحق جلّ جلاله وتعالى في علاه: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ أُولَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)) أي عن النار، جعلنا الله وإياكم منهم وأهلينا وأولادنا وأحبابنا وطُلابنا وذوي الحقوق علينا، اللهم آمين.
يقول سبحانه وتعالى، في أهل النار: (لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)) وذلك أنه:
وهكذا فيما يخاطبون الملائكة ويردون عليهم، فعُلِم من قوله: (وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)) أن ذلك في أحوال من شدّة ما هم فيه، كذلك فيما جاء من آية حشرهم عُمياً وصُمّاً وبُكماً، أن ذلك في أحوالٍ تكون في بداية المحشر، ثم يكون ما يشاهدون، ويكون ما يسمعون، ويكون ما يتكلمون ويُخَاطَبون به، فهي مواقف يحدثنا القرآن عنها، وأحوال.
يقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ.. (101))، أي الذين أردنا لهم السعادة، وسَبقت السابِقة في إرادتنا وفي قضائنا لهم بالسعادة، ويَترتّب على ذلك:
(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ.. (101)) فالحُسنى سابقُ إرادة الله تعالى، وقضائه في الأزل بالسعادة، يترتب عليه:
(سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ أُولَٰئِكَ عَنْهَا) -عن النار- (مُبْعَدُونَ) بأنواعٍ من البُعد المعنوي والحسي.
يقول تعالى: (أُولَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا) لا يسمعون لها حساً أو لهبا، وهل ذلك في جميع الأحوال أو بعد مُجاوزتهم الصراط؟ فلا يسمعون لها حسيساً، وكذلك يكون لبعضهم عند المرور عليها أن تكون بِحُكم رضوان الله عليهم مُسخَّرة لا مُسلَّطة.
(لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ) -من النعيم واللّذّة والصفاء والسرور- (خَالِدُونَ (102))، يخلُدون في دارٍ لهم فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، لا يخرجون منها أبداً.
(لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) والفزع الأكبر: هول الموقف عند النفخة الثانية في الصور، هذا الفزع الأكبر.
لا إله إلا الله، وهو أعلم بما يفعلون، فعند القيام من القبور بالنفخة الثانية في الصُّور، يكون هول المُطَّلع، فهو الفزع الأكبر!
ينتهي الفزع الأكبر إلى لحظة الحُكم النافذ القوي:
تلك الساعة هول أكبر، فزع أكبر؛ لأنه إذا جاءت وواحد من المُكلفين في النار فلن يخرج منها، ولذا قالوا عن خيار من الأمة من العارفين، أنّ الذي أبكاهم حتى زاد قلقهم في لياليهم ساعة ذبح الموت؛ خشية أن تأتي وأحدهم في نار الله الموقدة -والعياذ بالله تبارك وتعالى- فلا يطمع في الخروج أبداً، أجارنا الله من ناره.
قال عن هؤلاء القوم:
(هَٰذَا يَوْمُكُمُ) يوم نجاتكم ويوم سُروركم، ويوم إكرامكم ويوم فوزكم، (هَٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (103))، لا إله إلا الله، اللهم اجعلنا ممن سبقت لهم منك الحسنى.
أي يوم هذا؟
قال الله فيه: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ..(104)) تنشق وتكون كالمُهل، والمَلَك على أرجائها، فتنطوي كما ينطوي الكتاب وسط السجل:
هذا طي السماء، طي السماء! كيف ستكون الكرة الأرضية؟ وكيف ستكون الكواكب؟ هذا الهول! (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ):
لا إله إلا الله، الحمد لله على الإيمان، اللهم نجِّنا في ذلك اليوم واجعلنا في زمرة حبيبك، يا حي يا قيوم.
(يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ.. (104)):
يقول الحق: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ..(104)) كما بدأنا وتفرَّدنا بالإيجاد والنشأة والخلق، فنحن أيضًا نتولى إعادتهم وجمعهم ليوم لا ريب فيه.
(كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ)، (فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الإسراء:51] جلَّ جلاله، وكما بدأهم يُعيدُهم.
ومن جملة ذلك: "أن يُحشر الناس كلهم حُفاةً عُراةً غُرْلًا"، ولما ذَكَر ذلك ﷺ قالت بعض أمهات المؤمنين: واسوأتاه يارسول الله! كيف؟! الناس كلهم عُراة ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال: الأمر أكبر من ذلك، كلٌ منهم مشغولٌ بما هو فيه، ما أحد ينظر إلى الثاني من شدة الهول، وأول ما يُكسى الخليل إبراهيم، أي بعده صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، "ومن كَسا لله كساه الله، ومن سقى لله سقاه الله".
قال تعالى: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا) إن ما سبق في إرادتنا من إعادتكم لا يَتَخَلَف أبداً، (إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104))، (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ * لِّيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) [سبأ:3-4].
يقول جلَّ جلاله: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104))، أي: يُبِكِّت أنواع أهل الإلحاد والتكذيب باليوم الآخر وهم يعذبون في النار..
(كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105))..
(كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ) وهو ما أُنزِلَ على الأنبياء مِن كُتُب، (مِن بَعْدِ الذِّكْرِ) وهو أُم الكتاب عنده جلَّ جلاله.
(أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) أما أرض الجنة فخاصةٌ بهم، ولكن أيضًا هذه الأرض التي نحن عليها يرثها عبادي الصالحون بمعاني:
ثم كذلك في هذه الأمة:
(أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) خَطِّطِوا ما تُخططون، وخبّطوا ما تُخبطون، (الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) بهذا المعنى في هذه الأرض، وأرض الجنة الكبيرة لهم وحدهم، وليس للمعاندين المضادين الملحدين الكافرين بأصنافهم؛ شبر فيها ولا محل منها، والعياذ بالله تبارك وتعالى.
يقول: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)) يقول بعضهم:
كتب الله ذلك، وفي اللوح المحفوظ وفي أم الكتاب، كتب: (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)
(إِنَّ فِي هَٰذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ (106))
(لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ)، بل بلاغاً يُبَلِغهُم الوصول إلى رضوان إلٰههم وقُربه ومعرفته الخاصة.
(إِنَّ فِي هَٰذَا) الوحي الذي أوحينا إليك يا نبينا، والكتاب الذي أنزلنا عليك:
(إِنَّ فِي هَٰذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ) يُبَلِّغُهُم ما راموا وفوق ما راموا، يَبلغونَ بهذا الكتاب الذي أوحينا إليك، فيا فوز القائمين بحق هذا الكتاب والمتصلين به والعاملين به.
(إِنَّ فِي هَٰذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107))، اللهم وفِّر حظنا من هذه الرحمة، اللهم وفّر حظ كل فرد منا ومن أهلينا وقرابتنا وطلابنا وأحبابنا وأصحابنا من هذه الرحمة، واجعلنا من أسعد أمته بقربه، ومن أسعد أمته بحبه، ومن أسعد أمته باتباعه، ومن أسعد أمته بنصرته، ومن أسعد أمته بمرافقته، ومن أسعد أمته بشفاعته، يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
واجعلنا من القوم العابدين الذين في كتابك بلاغًا لهم إلى أعلى مراتب الصدق معك والاستقامة على ما تحب والظفر برضوانك الأكبر ومعرفتك الخاصة ومحبتك الخالصة، والقرب الأفخر منك يا حي يا قيوم.
اجعلنا من أولئك القوم العابدين، اجعلنا هادين مهتدين غير ضالين ولا مُضِلِّين، ثبتنا على الحق فيما نقول ونفعل ونعتقد، وعجل بتفريج كُروب أمة من أنزلت عليه هذا الكتاب؛ في السودان وفي غزة وفي الضفة الغربية وفي فلسطين وفي لبنان وفي الشام كله وفي اليمن كله, وفي الشرق والغرب يا حي يا قيوم، تدارك أمة هذا النبي، أغث أمة هذا النبي، أصلح شأن أمة هذا النبي، اجمع قلوب أمة هذا النبي، ادفع البلاء عن أمة هذا النبي، يا قوي يا متين، يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد.
29 جمادى الأول 1447