(370)
(339)
(535)
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الأنبياء
{ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحًا إِذْ نَادَىٰ مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) }
مساء الإثنين 24 صفر الخير 1447هـ
لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يُحيي ويميت وهو حيّ لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
الحمدُ لله مُكرِمنا بالوَحي والتّنزيل، وبيانه على لسان خير داعٍ وهادٍ ودليل، سيدنا محمد الهادي إلى أقوَم السبيل، صلّى الله وسلّم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وصحبه خير جيل، ومن والاهم واتبعهم بإحسانٍ إلى يوم الهَول المُهيل، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل التّكريم والتّفضيل والتّبجيل، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكة الله المُقرّبين وجميع عباد الله الصّالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنَّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
أمَّا بعد،،
فإننا في نعمة تأمُّلنا لكلام ربنا وتدبُّرنا لآياته وتلقِّينا لتعليماته وتوجيهاته؛ وصلنا في سورة الأنبياء إلى قوله -جلَّ جلاله- عن سيدنا الخليل إبراهيم: (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71))، بعد أن قال جلَّ جلاله: (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)) وهنا تتقابَل الإرادات بالنِّسبة للمُكلَّفين؛
(وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا) أن يكيدوا للخليل إبراهيم بحرقِهِ في النار، وجمَّعوا لذلك جُموعًا وأنفقوا في ذلك أموالًا كثيرة.
(وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا) وقد قال تعالى عن طوائِف من أهلِ هذا الصِّنف مع كل الأنبياء إلى خاتَمهم نبيّنا وفي القرون التي تأتي من بعده (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ) [الصف:8]، وفي الآية الأخرى: (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [التوبة:32-33]، ويُروَى في حديثٍ قُدسي يقول الله: "ابن آدم، أنت تريد وأنا أريد، فإنْ سلَّمت لي فيما أُريد كفيتُك ما تُريد، وإن لم تُسلِّم لي فيما أُريد أتعبتُك فيما تُريد، ثم لا يكون إلا ما أُريد"، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكُن -جلَّ الله تعالى في عُلاه-.
(أَرَادُوا بِهِ كَيْدًا) وكذلك شأنُ الكُفّار مع أنبيائهم، وشأنُ خلفاءِ الكفار ووَرثتهم مع خُلفاء الأنبياء ووَرثتهم، قال الله تعالى: (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ)، كل أمّة همُّوا بالرسول ليقتلوه (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ)، والنتيجة والعاقِبة (فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ) [غافر:5] -لا إله إلا الله- (وإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال:30].
وحفِظَ الله أنبياءَه ورسُلَه صلوات الله وسلامه عليهم، ومنهم آحاد من أراد لهم الشهادة في القتل فقتلهم قومهم، كما قتلت بنو إسرائيل عددًا من الأنبياء، ولكن سواءً قُتل النبي أو لم يُقتَل، فما جاء به عن الله منصورٌ وظاهر وباقٍ من بعده، وكذلك أولياء الأمّة وخِيارُها بعد نبيهم محمد صلَى الله وسلم عليه وعلى آله على مدى القرون، فأرادوا الكيد بنبينا والمَكر به فردَّهم الله، ثم كذلك تكرَّر الأمر فيمن بعدهم.
قال: (فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70))، خسِروا الجُهد والتَّعب والمَشَقَّة والمال، وما حصل المُراد لهم، أخسرين! ومع ذلك أرسل الله إليهم بَعوض، ولم يتركهم، وامتص دماءهم، بعوضة واحدة دخلت إلى دماغ النَّمرود، وأخذ يصيح، يصيح ويلطم رأسه إلى أن قُضِي عليه، (فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ).
فالعواقِب غريبة لكل مَن كذّب الأنبياء وعاداهم، ولكن كلّ أمّة لا تعتبِر بالتي قبلها، تحصل لهم هذه العاقبة وتجيء الثانية.. ويكرِّرُون نفس المُعاندة ونفس المُضادة للأنبياء، وتكون عاقبتهم الخسران، ويأتي من بعدهم وهكذا، ما أظلم هذا الإنسان الذي لا يعتبر ولا يتذكر، لا بنموذج ولا نموذجين ولا ثلاثة ولا أربعة ولا عشرة! ونحن آخر الأمم، نماذج قد مرَّت قبلنا: (وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَٰلِكَ كَثِيرًا * وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا) [الفرقان:38-39].
يقول تعالى: (فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ) ونجّى سيدنا الخليل إبراهيم عليه السلام، أقام أيامًا في النار، قيل أسبوع وقيل أربعين يومًا، حتى انطفأت، فخرج منها وقميصه أبيض ولم تمسَّ النار فيه شيئًا، كانت عليه بردًا وسلامًا -لا إله إلا الله-.
(وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا (71)) معه، (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) [العنكبوت:26] فكان هذا المُؤمن معه، كذلك زوجته سارّة، فخرج بسارّة ولوط وامرأة لُوط أيضًا، هؤلاء المؤمنون في تلك الأيام على ظهر الأرض، لا أحد إلا هم مؤمنون فقط.
(وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) أرض الشام، فخرج من العراق إلى أرض الشام، الأرض المُباركة التي قال الله فيها: (إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ)، فأكثرَ فيها الأنبياء والمرسلين، وأكثرَ فيها الخضرة والنَّبات والزَّرع وطيب الماء وعُذوبته إلى غير ذلك مما جعل فيها.
حتى جاء عن سيدنا كعب الأحبار أنَّه قال لسيدنا عمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين، "إني قرأتُ في الكتاب المُنزل أنَّ الله تعالى يقول: إنَّ أرض الشام كنز الأرض وفيها كنز من عبادي، أنبياء وأولياء كثير.
وقال تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الإسراء:1]، (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) [المائدة:21].
يقول: (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) وهي أرض الشام كما هو قول عامّة المُفسِّرين، ويُروى أنها مكة، ولكنَّه لم يخرج هو ولوط إلى مكة، وإنما خرج إلى أرض الشام، واستقرَّ سيدنا لوط بسَدوم، وسيدنا إبراهيم في السَّبع، من أرض الشام في فلسطين، السَّبع كان محلًا فيها سبع آبار، فسُمِّيت المنطقة ببِئر السَّبع، فأقام فيها سيدنا الخليل إبراهيم عليه السلام، في تلك المُدَّة، أول ما وصل عند خروجه بعد نار النَّمرود وما تعرَّض له، ثم أمره الله تعالى بعد ولادة ابنه إسماعيل أن يأخذه هو وأمه هاجر إلى مكة المكرمة ليُجدِّد به بناء البيت، فقام وقال: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) [إبراهيم:37] كان معروفًا محل البيت لكنه مُكسّر، فأمره الله أن يبنيه عندما كبر إسماعيل، فبناه هو وإسماعيل: (إِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ) [البقرة:127].
قال: (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) بأنواع من البركات.
(لِلْعَالَمِينَ) من الإنس والجِنِّ والملائكة، فهم العالَمون.
(بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)) فيجد فيها الملائكة الكرام من الأنبياء والمُقرَّبون والصَّالحون والأولياء من تتنسَّمُ بهم أرواحهم وترتاح لهم، وفيها أنبياء وفيها أولياء وصلحاء، وأنواع من البركات حلَّت فيها.
حتى ما يأتي في آخر الزمان، يكون سلطان الإسلام في أرض الشام، وما يحصل أيضًا مِن أن تكون هي واليمن مأوى عند اشتداد الفتن في مختلف أقطار الأرض، أنَّ عامَّة من عاشوا سنين على فتنة الناس، أن تنشأ فتنة بينهم، ثم تكون هذه المواطن ملجأ، وفي الحديث أيضاً أنه إلى أن يكون جُند بالشام وجُند بالعراق وجُند باليمن، وقال صلى الله عليه وسلم لابن حوالة: الحق بالشام، فإن الله تكفّل لي بأهل الشام وإلا فاليمن.
يقول: (إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ) أعطيناه (إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً (72)) نافِلة: زيادة وتفضُّلًا منا وإحسانًا، بعد أن آتيناه إسماعيل من قبل، وعندما طلب الذريَّة وأن يهب له من الصالحين ووهب له إسماعيل عليه السلام، ثم وهب له نافلة زيادة على إسماعيل اسمه إسحاق ويعقوب؛
كلهم نافلة من فضل الله وإحسانه على سيدنا الخليل إبراهيم -على نبينا وعليه الصلاة والسلام وعليهم أجمعين-.
(وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا) مِن إبراهيم وأولاده، ويعقوب حفيده (صَالِحِينَ)، مؤمنين أتقياء مهتدين، يفعلون الأوامر ويتركون المُحرمات.
(وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)) صلوات الله وسلامه عليهم.
قال: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً (73)) يعني صالحين ومُصلِحين، صالحين في أنفسهم، مُصلِحين لمن سِواهم، يهدون الناس.
(وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً) أي قدوة يُقتدى بهم في استقامتهم وصلاحهم ويُتلَّقى عنهم العلم النافع.
(وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) يهدون إلينا، إلى شريعتنا وإلى أوامرنا وترك نواهينا، وإلى الاتِّصاف بما أحببنا من عبادنا والبُعد عما كرِهنا.
(يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) بديننا وبوَحيِنا وبما فرضناه عليهم من هداية الخلق، فإن هداية العباد إلى ربِّ العباد من أعظم القُربات التي يتقرَّب بها العباد إلى الربِّ -جلَّ جلاله- هدايةُ عباده وإرشادُهم، (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا):
(وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ) أنزلنا عليهم أمرنا بفعل الخيرات (فِعْلَ الْخَيْرَاتِ)، فهذه مسالِك الأنبياء من عهد آدم إلى نبينا محمد، ومسالك الصَّالحين والأولياء خِيَار بني آدم إلى أن تقوم الساعة؛ فِعل الخيرات، وخصَّص مِن بين الخَيرات:
وخصَّ من بينها ونصَّ على أمرين: (وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ)
رأس في الخيرات، ولهذا ما وجدنا الأنبياء وأتباعهم إلا على اعتِناءٍ بالصَّلاة، وتعظيمٍ لِشأن الصَّلاة، وغَوصٍ على أسرار الصَّلاة وتحقُّقٍ بحقائق الصَّلاة، ورغباتٍ في الصلاة؛ فرْضَها ونفلَها.
(وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ)، ثم البَذل من أجل الله والإعطاء من أجل الله والتضحية، من إيتاء الزكاة، إعطاء ما فرض الله عليهم من الزكاة: وهي ما يُخرَج من الأموال:
(وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ) وهذا المنهج الذي به ارتقوا وارتفعوا وحازوا حقائق السعادة، (وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73))، مُستقيمين على عبادتنا، وشرفٌ لكل مخلوقٍ أن يعرف الخالق ويُحسِن عبادته، -اللهم أعِنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك- ولن يتزيَّن مخلوق لا في السماء ولا في الأرض بمثل معرفته بالله وحُسن عبادته، كائنًا مَن كان؛ ملَك، إنسي، جِنِّي، لا يستطيع أن يتشرَّف ولا أن يتزيَّن ولا أن يرتفع بشيء أحسن من:
(وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) خاضعين خاشعين مُنيبين، مُستقيمين على ما شَرَعنا لهم، مسارعين لنا في الخيرات وكَسْب المحبوبات.
قال: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ)، وهي كل ما أحبَّه الله، (وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73))؛ وهذا مسلك الهُداة في كلِّ زمان، أن يكونوا على هذا الشأن:
ولا يتأتَّى أن يكون مِمَّن يهدي بأمر الله تبارك وتعالى مَن يُهمِل الصلوات، ومن لا يحضُر قلبه في الصلوات، ومن يبخل بإعطاء الزكاة، فضلًا عمَّن يأكل بالدِّين، أو يأخذ حقَّ الناس بغير حق، أو يتطاول على شيء ليس له، لا يمكن أن يكون ممن يهدون بأمر الله، هذه أوصاف المهتدين (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)).
وذكر في الآية الأخرى أنه يختار أئمَّة لدينه وللهداية إليه من جمع وصفين: الصبر واليقين، الصبر واليقين، قال: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة:24]، صبروا،
وكان كل ذلك على يقينٍ كأنَّهم يُشاهِدون الغَيب مُشاهدةً (وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)، وخصلتان من أقل ما يؤتى الناس، فما يجمع الصبر واليقين إلا قليل من الناس، ومن أوتِيَ حظَّه منهما فلا يُبالي ما فاته من قيام الليل وصيام النهار، أي أنه الرأس في الصِّلة بالله تبارك وتعالى:
أكرمنا الله بعلم اليقين وعين اليقين وحق اليقين.
قال: (وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا)، أي واذكر لوطًا، أو آتينا لوطًا كما قال: (آتَيْنَاهُ).
(وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا (74))، حُكْمًا: قوةً للفصل بين الناس فيما يختلفون فيه وإرشادًا إلى كيفية الفصل بين المُتخاصِمين.
(آتَيْنَاهُ حُكْمًا) ومن معاني الحُكم أيضًا:
ولكن كرر الحكم والعلم فقال: (حُكْمًا وَعِلْمًا) عِلمًا؛ أعطاه فقه أوامره ونواهيه، وعلمه ما يحبُّه تعالى وما يرضاه وما يكرهه ويسخطه من الأقوال والأفعال والأحوال، فهو صاحب علم وصاحب حُكم، (آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا)، فجاء مع الخليل إبراهيم واستقرَّ في قرية سدوم، فنبَّأه الله وأوحى إليه وأرسله إلى أهلها.
(وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ)؛ وهي قرية سدوم هذه التي عند البحر الميت، يقول: (وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ):
فكانت هذه الخبائث التي عندهم، فهي في ميزان الحق -تبارك وتعالى- وكلُّ ذي فطرة سليمة وعقل من الخلق؛ خبائث، تُستَخبَث وتُستَقبَح، حرَّم الله تعالى القُرب منها، ووَعدَ بالعذاب الأليم على فِعلها، فأعظمُ ما تميَّزوا به ومِن الخبائث هذه خبيثة اللِّواط التي كان يقول لهم نبيُّهم سيدنا لوط: (مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ) [الأعراف:80]، كم قرون مرَّت من عهد آدم! قال: لا أحدٌ جاء إلى هذه الخباثة والسقاطة وهذه القذارة والأمر المكروه الذي يشمئِزُّ منه الطبع السليم، ويغضب عليه الجبار العظيم،- جلَّ جلاله وتعالى في علاه- (وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ) [العنكبوت:29]، (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ) [العنكبوت:28].
فمِن أغرب الغرائب أن يأتي من بعدهم وبعد القرون الكثيرة منهم من يريد أن يُقنِّن لهذه الفواحش! ما أبعدهم عن الإنسانية، ما أبعدهم عن العقل، ما أبعدهم عن الفِطرة، ما أبعدهم عن صالح الحياة! فما هم إلا المفسدون، وما هم إلا الخبيثون.
(كَانَت تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ) وما هم إلا الفاسقون (إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74)) خارجين عن المسلك القويم والصِّراط المستقيم، فسقوا: خرجوا عن واجبهم وعن المنهج الصَّحيح.
(إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74)) فهذه مظاهر الفسق الخبيثة التي يعظُم غضب الله تعالى على المُتمادي فيها، وعلى الذي لا يُبالي بإِتْيانها، وقد قال لمّا شكَوا إلى الصحابة وتشاوروا وقال لهم سيدنا علي وسيدنا أبو بكر، و سيدنا عمر يقول لهم: ما سمِعنا بهذا لو لم يرد في القرآن ما كنا نصدِّق به، وما سمِعنا بهذا إلّا في أمة قد علمتم ما فعل الله بهم، فأرى أن تفعلوا كما فعل الله تعالى بقوم لوط ترمُوهم من شاهق وترجُموهم بالحجارة، فكان كذلك.
يقول تعالى: (إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ) سيدنا لوط عليه السلام (فِي رَحْمَتِنَا)
واستكبروا وأصرُّوا، فما بقي إلا هو وأهله وبناته، بيتٌ واحدٌ من المؤمنين في قرية فيها مئات الآلاف، وكلُّهم في ساعة واحدة من ليلةٍ هلكوا عند الصبح، (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) [هود:81].
واقتَلع سيدنا جبريل على ريشة من جناحه قُراهم المُؤتفكات، تسع قرى، في كل قرية -أقل قرية- فيها سكان مائة ألف، رفعها حتى أدناهم من السماء، ثمّ أمره الله أن يقلِبها، (فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا) [هود:82] وأهلكهم دفعة واحدة غضبًا منه -جلَّ جلاله- وسخطًا عليهم، والنار أمامهم، ونجا وحدَهُ لوط عليه السلام.
(وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا) نجيناه؛ أخرجناه هو وبناته، أمَّا زوجته فقد هلكت معهم، ما بقي إلا بناته معه، معه بنتان هم المؤمنون وحدهم، فخرجوا وإياه، وأهلك الله البقيَّة، (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) [الحجر:65]، فمضى وأهلَك الله القوم كما جاء خبر قصته في عدد من آيات القرآن الكريم.
يقول: (وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75))، ثم ذكر من الأنبياء نُوحًا -على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام-.
(نُوحًا إِذْ نَادَىٰ مِن قَبْلُ) من قبل مجيء هؤلاء، بينه وبينهم قرون كثيرة، من قبل إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ومن قبل لوط.
(نُوحًا إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ مِن قَبْلُ) نادى ربه -سبحانه وتعالى- في القوم بعدما أوحى إليه: (أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ) [هود:36]، فقال: (وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا) [نوح:26]، بإخبار الله له بذلك، فما دعا عليهم إلا بعد ما أوحى الله إليه أنه لن يؤمن منهم أحد، وإلا بقي تسعمائة وخمسين سنة وهو شغّال على هدايتهم وباذِل الجُهد لإرجاعهم، صابرًا عليهم، ووَصَفه كما قال الله: (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا) واستعمَل الوسائل كلَّها (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا * مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) هيبةً وخوفًا منه، (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا) وهذه آياته بين أيديكم (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا) [نوح:7-16]. فكذّبوا وأبَوا حتى أوحى الله إليه، فدعا عليهم.
(إِذْ نَادَىٰ مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ) أيضًا دون زوجته كذلك، لأن زوجة نوح ولوط كانتا خائنتين، أي غير مُؤمِنتين غير مُسلِمتين، (فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) [التحريم:10].
ونجّى الله بقية قوم سيدنا نوحًا ما عدا ابنه الكافر وزوجته، أمّا بقية أولاده نجَوا معه في الفُلك، ومن حُمِل معه في الفلك من المؤمنين، بل ومن الحيوانات من كلٍ زوجين اثنين كما أخبرنا.
(إِذْ نَادَىٰ مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)) الذي عمَّ الأرض بذلك الماء الذي قال عنه: (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ* وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ* وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ) وإذا كانت تفجَّرت الأرض وانهمَلت السماء، فذات الألواح والدسر ماذا ستعمل؟! ستتحطَّم بسرعة! قال: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) [القمر:11-14]، برِعاية مِنَّا، تجري ستّة أشهر وهم بين الأرض والسَّماء فوق الماء، ستة أشهر من رجب إلى محرَّم، حتى رست السفينة على الجُوديّ في مُحرّم، وهلك القوم وبقي المؤمنون حوله.
ولذا جميع الكفار الموجودين في زماننا، قل لهم: أنتم خالفتُم أجدادكم وآباءَكم المُؤمنين المسلمين ركبوا في السفينة مع نوح، اليوم جئتم تكفرون وتُكذِّبون؟ وقبلها أخذ الله عليكم العهد، فكلهم من نَسل المسلمين، لكنهم كذَّبوا وتولَّوا وغرَّتهم أنفسهم وأهوائهم، وما أُلقي إليهم من قِبَل إبليس على أيدي شرارهم، فحرَّفوا دين الله وبعدوا عن دين الله، ومنهم من ألحد وكفر -والعياذ بالله تعالى-.
وإلا فالأصل هو الإيمان، وأبونا آدم وأمنا حواء من المؤمنين، فالأصل في بني آدم الإسلام والإيمان، وغير الإسلام والإيمان أمر طارئ من فِعل عدوّهم إبليس وأتباعه، وإلا فالأصل هو الإسلام والأصل هو الإيمان، ولكن يُضل الله من يشاء ويهدي من يشاء.
فيا رب ثبِّتنا على الحقِّ والهُدى *** ويا رب اقبِضنا على خير ملةِ
فيا رب ثبِّتنا على الحقِّ والهُدى *** ويا رب اقبِضنا على خير ملةِ
فيا رب ثبِّتنا على الحقِّ والهُدى *** ويا رب اقبِضنا على خير ملةِ
وعُــمَّ أصـــولاً والفروع برحمةٍ *** وأهلًا وأصحابًا وكل قرابةِ
وسائر أهل الدِّين من كل مسلمٍ *** أقام لك التوحيد من غير ريبةِ
وصلِّ وسلم دائم الدهر سرمدًا *** على خير مبعوث إلى خير أمةِ
محمد المخصوص منك بفضلك العظيم *** وإنزال الكتاب وحكمةِ
صلوات الله وسلامه عليه، وبه نسأل الله أن يثبِّتنا على اليقين والإيمان، وأن يجعلنا هداةً مُهتدين، يجعلنا ممن يهدون بأمره، يصبرون ويوقنون، يفعلون الخيرات، يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، ويدعونه رغبًا ورهبًا وهم له عابدون، وهم له خاشعون، اجعلنا اللهم كذلك، واسلُك بنا أشرف المسالِك، ونجِّنا من الزَّيغ والمَهالِك، وعجِّل بكشف الغُمَّة عن جميع الأمة، وعجِّل اللهم بالفرج لأهل غزة والضفة الغربية وأكناف بيت المقدس والشام واليمن والشرق والغرب والمسلمين في جميع الأقطار، وانظر إلى أهل السودان، وانظر إلى أهل الصومال، وانظر إلى أهل ليبيا، وانظر لأهل العراق، وانظر إلى المسلمين في المشارق وفي المغارب، وادفع عنهم المصائب والنَّوائب، وحوّل الأحوال إلى أحسنها، يا مُحوِّل الأحوال حوِّل حالنا والمسلمين إلى أحسن حال، يا مُحول الأحوال حوِّل حالنا والمسلمين إلى أحسن حال، اللهم يا مُحول الأحوال حوِّل حالنا والمسلمين إلى أحسن حال، وعافِنا من أحوال أهل الضَّلال وفِعل الجُهَّال.
بسر الفاتحة
وإلى حضرة النبي محمد
صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلم
الفاتحة
27 صفَر 1447