تفسير سورة الأنبياء -07- من قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا .. (47)} إلى الآية 70

للاستماع إلى الدرس

تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الأنبياء  

{ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) }

مساء الإثنين 3 صفر الخير 1447هـ

نص الدرس مكتوب:

الحمد لله مُكرمنا بأنوار الوحي والتنزيل، والبيان على لسان خير مُعلم وهادٍ ودليل، عبده الهادي محمد صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه وعلى آله وأهل بيته الأطهار وصحبه خير جيل، وعلى من والاهم واتَّبعهم بإحسان في النية والقصد والفِعل والقيل، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل التكريم والتمجيد والتفضيل، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكة الله المُقَرَّبين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنَّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

أمَّا بعدُ،

فإنَّنا في نعمة تأملنا وتدبّرنا لكلام إلهنا وخالقنا وفاطرنا وموجدنا وموجد كل شيءٍ جلَّ جلاله:

  • وصلنا في سورة الأنبياء إلى قوله جلَّ جلاله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ (48)).
  • بعد أن مررنا على قوله سبحانه: 
    • (قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ) ما جاءني من القرآن وما أوصل إليَّ الإله جلَّ جلاله.
    • (وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ (45)). فمن صُمَّ قلبه فلا ينفعه ما يُقال من البيان والدليل والحُجَّة، (وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ) -اعترفوا- (لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46)).

وذكر لنا وضع الموازين القِسط ليوم القيامة: 

  • (فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا) من صغيرٍ وكبيرٍ، وقليلٍ وكثيرٍ، من نيةٍ وعزمٍ وقصدٍ، وفعلٍ وقولٍ، وحركةٍ وسكونٍ ومعاملةٍ. 
  • وإنَّ العبدَ لَيُسأَلُ عن كحل عينيه، وعن فتات الطين بين اصبعيه (وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) [النساء:124]، (وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا) [النساء:49]، (وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ (47)).

ثم يقول جلَّ جلاله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ) يعني الفارق بين الحقّ والباطل؛ التوراة التي أوحاها إلى سيدنا موسى عليه السلام.

(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ (48))، في التوراة: 

  • (ضِيَاءً): أي نور وبيان للمسلك، وما يُقوِّم به الإنسان نفسه، وما يُخلِّصها به من الشوائب، ويحميها به من أنواع الانحرافات، ويتبيّن به معالم الطريق فهو ضياء.
  • (وَذِكْرًا): 
    • ذكرًا للحق وصفاته، وذكرًا للمآل إليه والرجوع، وذكرًا للأحكام، وذكرًا للآيات. 
    • وذِكرًا: أي شرفًا لمن قَبِله وتلاه وعمل به؛ فهو له ذكرٌ أي فخرٌ وشرفٌ وعزةٌ.

(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ) وفي هذا أنَّ مِنَّة الله تعالى على أنبيائه ينساب وينساق خيرها إلى مَن آمن بهم واتَّبعهم؛ فهذه التوراة مُنْزلة على موسى ولكن أخوه هارون الذي أشركه الله في النبوة ليكون مُعينًا ومساعدًا لأخيه موسى؛ جعل الله التوراة كأنها مُنزلةً إليهما معًا: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ)، وكذلك أُمَمهم من بعد، كما يقول لنا ربنا: (لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ) [الأنبياء:10] وإنما أنزله على نبينا محمد ﷺ.

ولكن المؤمنون به في بركة ما أُنزِلَ عليه، تنساق إليهم من سرِّ ذلك الشرف والكرامة؛ ما يتلون به آيات ربهم التي وصلتهم على يد محمد بن عبدالله، وليس فيهم مُتأهل لنزول هذا الوحي على قلب غيره عليه الصلاة والسلام:

  • وهو القائل: (لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) [الحشر:21].
  • ولكن: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ) [الشعراء:193-195].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا) [النساء:174] أي بواسطة محمد، والإنزال على محمد، ولهذا:

  • قال رِبعيُّ بن عامر: "الله ابتعثنا"؛ وإنَّما ابتعث محمدًا نبيًا ورسولًا، ولكن ابتعثنا: أمرنا أن نبلغ ما جاء به في بعثته عن الله. 
  • وقال ﷺ: "بلِّغوا عنِّي"، فقال ربعيّ: "الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد".

وهكذا يقول الحق: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ) والتوراة مُنزَلة على موسى. (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ) -أعطيناهم الفرقان- (وَضِيَاءً) نورًا يتبيّن به المسلك، ويُتوقّى به المهلك، (وَذِكْرًا):

  • ذكرًا لعظمة الله وصفاته وأسمائه.
  • وذكرًا لأحكامه وآياته.
  • وذكرًا للمصير والمآل إليه.
  • وذكرًا: شرفًا وكرامةً لمن قَبِلهُ وقام به.
  • وذكرًا: من تلاه كان ذاكرًا، وتقرّب بتلاوته إلى الرب جلَّ جلاله.

(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ)؛ يشير إلى أنَّه: 

  • إنَّما ينتفع بوحي الله وكتبه المُنزَلة من اتقى، من آمن وعمل بمقتضى الإيمان؛ فهؤلاء هم الذين ينالون شرف هذه الكتب الربانية المُقدّسة، تسري إليهم أنوارها وأسرارها، ويحوزون شرفها وكرامتها. 
  • أمَّا من لم يتقِّ فـ "إنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بهذا الكِتَابِ" -آي القرآن- "أَقْوَامًا، وَيَضَعُ به آخَرِينَ.".

من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار، (وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَانًا ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ) [التوبة:124-125] -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.

يقول جلَّ جلاله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ)، اللهم اجعلنا من المتقين، كما قال: (ذَٰلِكَ الْكِتَابُ) -آي القرآن- (لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) [البقرة:2]، إنما يهتدي به ويحوز سر الهداية التي فيه مَن اتقى، (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [البقرة:3-5]، اللهم اجعلنا منهم.

يقول الحق جلَّ جلاله- مَن هم المتقون وعلاماتهم؟

هم (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ).

  • (يَخْشَوْنَ رَبَّهُم)
    • فيتقون معاصيه ويبتعدون عما نهاهم عنه وهم في الغيب، من غير أن يراهم أحد. 
    • فهم في خلواتهم وفي الغيب يخشون هذا الرب، يخشون عذابه، فيتقون معصيته ومخالفته بالغيب.
  • (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ) -أي القيامة- (مُشْفِقُونَ (49)) حذرون، خائفون، وَجِلون، مُتهيِّئون لها، مُستعدّون لها، يرجون فيها النجاة والفوز، ويخافون الشقاء الأبدي والخسران الخالد.
  • (وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) فهذا وصف المتقين، حقَّقنا الله بجميل هذه الأوصاف.

(الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49)) -الله أكبر- الذين يتركون ما حرَّم عليهم، ويأمنون أن يراهم أحد أو أن يعلم بهم أحد، أو أن يصل إليهم نقص أو عار أمام الناس، أو أن ينالهم سوء من أي صغير أو كبير، لكنهم يتركون ذلك خشيةً منه -جلَّ جلاله- وإيمانًا بالغيب.

(وَهَٰذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ.. (50)) والقرآن الذي أنزلناه إليك ذكرٌ:

  • فيه ذكر الرحمن وصفاته وآياته وأسمائه.
  • وفيه ذكر المصير إليه.
  • وفيه ذكر الأحكام.
  • وفيه ذكر الأنبياء والمرسلين والملائكة.
  • وفيه ذِكرٌ شرفٌ لمن:
    • قام بالقرآن، وآمن بالقرآن، وتلا القرآن.
    • و لمن عمل بالقرآن.

ومن حفظ القرآن وعمل به ألبس الله والديهِ يوم القيامة تاجًا من نور، ضوءه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا؛ هذا لوالديه، فما الظن بالذي عمل؟!

فمن أعظم نعم الله على العبد أن يرزقه ولدًا؛ ابنًا أو بنتًا، يحفظ القرآن ويتقن حفظه ويعمل به، فيُلبِس والداه يوم القيامة تاجًا من نور، ضوءه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا.

(وَهَٰذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ):

  • القرآن الكريم يُنوِّر ويُطهِّر ويُقرِّب إلى الرب، ويُغفر به الذنوب، ويُنقَّى به القلب عن الشوائب.
  • (مُّبَارَكٌ) ومن اتبعه يهتدي به إلى الصراط المستقيم، ويرقى به إلى المقام العظيم، يُؤجَر بنظره، ويُؤجَر بمسه، ويُؤجَر بحمله.

وينال الثواب بتلاوته؛ بكل حرف عشر حسنات، أو خمسًا وعشرين حسنة، أو خمسين حسنة، أو مائة حسنة، لكل حرف، فأقلها عشر حسنات:

  • لو قرأ القارئ من هذه الأمة شيئ من القرآن وهو على غير طهارة مما يحفظه:
    • فله بكل حرف عشر حسنات: "لا أقولُ (الـم) حرفٌ، ولكنْ (ألفٌ) حرفٌ و(لامٌ) حرفٌ و(ميمٌ) حرفٌ".
  • فإذا قرأه على طهارة فله بكل حرف خمس وعشرون حسنة.
  • فإذا قرأه في صلاة النافلة وهو قاعد فله بكل حرف خمسون حسنة.
  • فإذا قرأه من قيام في الصلاة فله بكل حرف مائة حسنة.

فهو مبارك، ويحفظ الله قارئه من شرور العين، وأنواع السحر وكثير من المصائب؛ فهو مبارك.

(وَهَٰذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ) يقول الحق تبارك وتعالى، وقد ذكر الله تعالى بالبركة في الكتاب العزيز:

  • البيت العتيق، قال تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا) [آل عمران:96].
  • ووصف بالمبارك أيضًا في الكتاب العزيز المطر: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا) [ق:9].
  • ووصف بالبركة القرآن الكريم، وليلة إنزال القرآن: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ) [الدخان:3].

يقول: (وَهَٰذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ) باقٍ في أمتك، لا يستطيع أحد أن يُغيره ولا أن يُبدله ولا أن يُحرِّفَه: بينما تعرّضت جميع كتب الله المُنزَلة من قبل إلى التغيير والتحريف على يد الذين ما قاموا بِحَقّ الأمانة، مِن حملتها في الأمم السابقة، ولكن هذا الذِّكر: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9] موجود متواتر بآياته وحروفه وسوره وكلماته، كما خرج من بين شفتي صاحب الرسالة محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

(هَٰذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ): 

  • لا يزال يرفع الله به الدرجات ويدفع به الآفات.
  • ولا يزال تُشفى به أنواع العلل والأمراض.
  • ولا تزال تُكفى به النوائب والمصائب والشدائد.
  • ولا تزال تُكسب به الحسنات وترتفع به الدرجات.

حتى "يقالُ لقارِئِ القرآنِ" -أي حافظه عند دخوله الجنة- "اقرَأ وارقَ ورتِّل كما كُنتَ ترتِّلُ في الدُّنيا فإنَّ منزلتَكَ عندَ آخرِ آيةٍ تقرؤُها"، فكلمَّا قرأ آية ارتفع درجة، ما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض، حتى يصل إلى آخر آية في الفردوس الأعلى.

فالقرآن عظيم البركة، ويأتي شفيعًا لصاحبه مع الصيام، يوم القيامة:

  • يقول القرآن: "ربِّ، منعته النوم بالليل فشفِّعني فيه"،
  • ويقول الصيام: "ربِّ، منعته الطعام بالنهار فشفِّعني فيه"، فيُشفَّعان فيه.

(وَهَٰذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ) فمصدرهُ من الرب، من الإله الخالق، وهكذا هداية السابقين قبلنا؛ موسى وهارون، كمن قبلهما ومن بعدهما من الأنبياء، إنَّما شَرَفهم وكرامتهم بالأخذ عن الله، واصطفاء الحق لهم، وما أحد من الأنبياء جاء للناس بعلمٍ وليدَ فكرٍ له ولا عبقرية عنده ولا ذكاء معه، لكن الأمر أكبر من ذلك.

ولذا قالوا لنبينا -هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة-: (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ)، قال الله قل لهم: (قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [يونس:15]؛ أنا عبد مُتَّبِع؛ فهذا هو الشرف والكرامة، اليوم يدعوننا إلى أن نترك وحي الله وتنزيله ويقولون خذوا ما نُملي عليكم، ماذا تُملُون علينا؟ وبماذا تأتون لنا؟ لعبتم بالدنيا من طرفها لطرفها، وآذيتم خلق الله، واعتديتم وظلمتم، نتَّبِعكم ونترك وحي الله؟! ما هذا؟!

(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَٰذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ) نحن الذي أنزلناه عليك يا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ)، (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلًا * فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) [الإنسان:23-24] من عندنا جاء؛ فالمصدر والمرجع أمر عظيم فوق مستوى البشر والملائكة، من الله الخالق الذي فطر.

(أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (50))؟ تنكرون هذا الوحي الذي أنزلته إلى حبيبي محمد، وبلّغكم إياه، وتحداكم به فما استطعتم أن تأتوا بسورة من مثله، وفيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحُكم ما بينكم (أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ)؟ تنكرون تنزيلًا على نبينا، وقد أنزلنا الكتب من قبله على الأنبياء، حتى جاءكم بنور مبين ووحي مُعجِز (أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ).

يقول جلَّ جلاله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ (51)):

  • (مِن قَبْلُ) موسى وهارون، جدهم إبراهيم جاء.
  • و (مِن قَبْلُ): من قبل نزول الوحي عليه، وإنبائه سيدنا إبراهيم في صغره، آتاه الله رُشده.

(وَلَقَدْ آتَيْنَا) -أعطينا- (إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ) هداه، هُداه وتبيّنه للحق، فهو مَرعيٌّ بعين عناية الله، مِن بدايته ومن أيام صِغَره.

(وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51))؛ (كُنَّا بِهِ) بتكوينه وخلقه وما خَصَصناه به من الأوصاف (عَالِمِينَ)، واخترناه لِخُلَّتِنا وجعلناه أبًا للأنبياء والمرسلين، فأكثرهم من جاء بعده من ذريته، وجعلنا ذِكرهُ في الآخرين.

(وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ) بما آتيناه من صدقٍ، ومن إخلاصٍ، ومن عقلٍ، ومن تقوى، ومن مكارم.

(وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ): (قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ) [البقرة:140]، وإذا قالوا (…أَهَٰؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا) (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ)؟! [الأنعام:53] يستهزئون بالفقراء، يجلسون مع النبي ﷺ، (يقولون أَهَٰؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا)، قال الله لهم: أنا أعلم بعبادي، من يشكر ومن يكفر، وأخص من أشاء بما شئت، (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ).

يقول: وقد خَصَصنا إبراهيم (وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ) في موقفه القوي؛ أيام كانت الدنيا كفرًا وشركًا من طرفها إلى طرفها، وهو في تلك الأيام وحده مؤمنٌ موحِّد: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) [النحل:120]: 

  • هو واحد لكنه على ملة الحق والهدى، ما أحد من بني آدم على الإيمان إلا هو، أبوه قد مات و أمه قد ماتت، فما بقي في وقت بعثته إلا عمه الكافر هذا -أبوه آزر-، ومَن في الأرض كلهم على الشرك والكفر، ولكنه ثَبت، ولكنه صَدق. 
  • ولكنه ما تزعزع ولا تضعضع ولا تراجع، حتى صار لا يُذكر الإسلام وملته إلا وذُكر إبراهيم، يقول جلَّ جلاله: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) [الحج:78].

وعلَّمنا في كل مساء أن نقول: "أمسينا على فطرة الإسلام، وعلى كلمة الإخلاص، وعلى دين نبينا محمد ﷺ، وعلى ملة أبينا إبراهيم حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين".

(إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ) -أبيه هذا آزر الذي هو عمه- (مَا هَٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)) الأصنام التي تعبدونها من دون الله، وذكر لهم حقيقتها؛ تماثيل أنتم بأيديكم تنحتونها وبعدها تقومون تعبدونها! أين عقولكم؟!

(مَا هَٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)) -تقول هكذا؟- 

  • (قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53)) نحن نتَّبِعهم، فقال لهم سيدنا الخليل: الآباء وغير الآباء يُتَّبعون في حق وفي صدق وفي علم وفي برهان، أمَّا في ضلال وباطل فلا يُتَّبع لا آباء ولا غير الآباء.
  • (قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (54)) تعجَّبوا من إنكاره عليهم، وأمْره عندهم مُقدس مُعظم، وما كان يمكن لأحد أن يتكلم فيه، كلهم خاضعين لهذه الأصنام بوهم وخيال! لا تنفع ولا تضر، ولا تتكلم ولا تسمع ولا تبصر، وهم ينحتونها وبعدها يعبدونها!

ما هذه المصيبة؟!

  • مثل الأصنام الموجودة الآن من بعض الأجهزة ومن بعض المعلومات، هم يرتّبونها ويُصنعونها، وبعد ذلك يجرون وراءها.
  • أعِزّوا أنفسكم، لكم خالق! يقول لهم: هذه الأصنام التي تصنعونها، كيف تكبر عليكم وكيف تكون فوقكم؟

(قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ) -عندك جد وصدق؟- (أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55)) تضحك معنا وتستهزئ؟ لم يتوقعوا أن يكلمهم بهذا الجزم وبهذه القوة، لكنها قوة الحق ونور الهدى.

(أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ (56)) أيُّ لعبٍ في هذا الكلام الذي أقوله لكم؟ تعبدون ما تنحتون! كما قال لهم في آية أخرى: (قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) [الصافات:95-96].

(قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ)، خلقهن وأنشأهن وأوجدهن؛ فهو أحق بالعبادة، (وَأَنَا عَلَىٰ ذَٰلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (56)) وهكذا.

وكان سيدنا علي بن أبي طالب يكره لعب الشطرنج، وإذا مر على قوم يلعبون بالشطرنج يقول: (مَا هَٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52))، لَأن يمس أحدكم جمرة حتى يطفأها خير من أن يمس هؤلاء.

(مَا هَٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53)) وهل يُقلَّد مَن لا مرجعية له إلى الحق وإلى الخالق، في شيء يخالف وحي الله وتنزيله؟ من يُقلَّد في هذا؟ مَن يُتَّبع في هذا؟

(لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ) هؤلاء متى جئتم بها، صلحتوهن قبل أمس! وأين الخالق الذي خلق السماوات والأرض وكوَّنكم وكوَّن آباءكم، مالكم لا تعقلون؟ (قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ)، أنشأهنّ وأوجدهن وابتكرهنَّ وابتدعهنّ وخلقهنّ (وَأَنَا عَلَىٰ ذَٰلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (56)).

وكان لهم في السنة يوم عيد يتجمّعون فيه في مكان، ويمرحون ويلعبون ويأكلون، ويعودون إلى الأصنام.. أول ما يدخلون إلى محل الأصنام التي جمَّعوها فيه -سبعين صنما- وفيها واحد كبير مقابل باب مدخل معبدهم، جعلوا له عينين من جواهر تضيء في الليل، قال له عمّه آزر -يقول لإبراهيم-: اخرج معنا إلى العيد، تفرح ويسرَّك، مرّوا عليه، قالوا: تخرج معنا إلى العيد؟ عيدهم في السنة، هذا يوم في السنة يخرجون فيه، فقال لهم: (فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ) وجعٌ في رجلي لا أقدر أن أمشي معكم، (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) [الصافات:88-90] ذهبوا وتركوه، فلمَّا مشوا قال: (وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)) قال: هذه البلوى التي عندكم، تعبدون أصنامًا ما تنفع ولا تضر، سأكسرها الآن، سأريكم أي آلهة هذه! لا تعرف تدافع عن نفسها ولا تعرف ترد عن أحد!

قال: (لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ)، وفي قراءة: (بَعْدَ أَن تَوَلَّوا) أي تتولوا مُدْبِرِينَ، (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) [الصافات:90] في الآية الأخرى -يقال أنَّه سمعه واحد منهم-، وكان وهو صغير عمه يحمله؛ كان هو يصنع الأصنام -هذا عمه آزر- ويحمله، يقول اذهب للسوق بعها. فكان إذا أحد جاء يريد أن يشتري منه يقول له: تريدها ليش هذه؟ يقول: اعبدها، قال: تعبدها! أنت أكبر منها وأحسن، أنت تسمع وهي لا تسمع، أنت تبصر وهي لا تبصر، الكبير يعبد صغير أم الصغير يعبد كبير؟ يقولون: ما له هذا يتكلم على آلهتنا؟

(وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) ذهب وحمل له فأس، وجاء إلى مكان الأصنام، أتى بطعام، في بعض الروايات: هم يبقون طعام عندها، وعندما يرجعون يأكلون من هذا الطعام، لما يعودون من مخرجهم، يأكلون الطعام عند آلهتهم، فقدّمه إليهم: هيا كلوا، هيا كلوا؛ هؤلاء الذين يعبدونكم ابقوا الطعام عندهم، هيا كلوه، ما أكلوا، لا يتكلمون هم، (فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ) [الصافات:91-93]، كسر الأصنام، سبعين صنمًا من هنا إلى هنا، وأبقى كبيرهم.

  • (فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا)، يعني قطع، قطع، قِطَع صغيرة كسَّرها، (إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ) كبيرهم -الصنم- أتى بالفأس وعلّقه في رقبته، وذهب.
  • (فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا) وفي قراءة (جِذَاذًا) أي: قطعًا صغارًا، (إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)) أي: لعلهم يرجعون إلى ما يُذكِّرهم به من الدين، إلى ما يدعوهم إليه من التوحيد، لعلهم إليه يرجعون، يرجعون إلى ربهم الحق الخالق.

أكملوا عيدهم وجاءوا إلى عند أصنامهم، (قَالُوا مَن فَعَلَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59)) ما هذا؟ جاءوا ليسجدون لها ويعبدونها؛ فإذا هي مُكسّرة! (إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) من هذا الظالم يُكسِّر علينا الآلهة؟

  • (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ) ما أحد إلا ذلك الفتى؛ يعني الشاب، سيدنا الخليل في أول نزول الوحي عليه كان شابًا، قالوا: هو هذا الذي يتكلم على آلهتنا، لا أحد غيره يفعلها.
  • (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60)) كانوا عارفين اسمه، لكنهم ذكروه بهذه الصورة هكذا استخفافًا واستهزاء وقالوا إبراهيم.

(قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَىٰ أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)):

  • كأنهم أيضًا مع كفرهم وشركهم كرهوا أن يُعاقبوه أو يُعذّبوه من دون إثبات.
  • أمَّا المُتقدِّمون في زماننا أهل الحضارة، فهم يهدمون ويكسرون، وأطفال ونساء وصغار وكبار. 
  • وإذا جاء أحد ليستلم القوت من الجوع يضربونه إلى أن يموت، بدون بينة ولا دليل ولا حُجّة.

ولكن هؤلاء: (قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَىٰ أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) وأحضروا الشهادة عليه، وأثبتوا أنه فعل فيكم شيئًا، وأنه خالف حتى تقيمون عليه العقوبة؛ فهم أحسن من حضارة القرن الحادي والعشرين، لا شيء عندهم لا حُجة ولا شيء، فقط لأنني أريد كذا، (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ) [النازعات:24] -نعوذ بالله من غضب الله-.

(قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَىٰ أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)) دعوا الشهادة تقوم عليه والحُجة تقوم عليه، واستدعوا إبراهيم جاء وهم متجمعين (قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62)):

  • قال: انظروا الى الفأس مُعلق في هذا، فقد غضب عليهم كبيرهم هذا! فكسرهم! 
  • يقيم الحجة عليهم؛ لا لهم حركة، لا لهم قوة، لا لهم قدرة، ما معنى عبادتهم؟ يعني كيف تعبدونهم؟

(قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ (63)) تسألوني أنا؟! بل اسألوهم؛ يقيم الحجة عليهم وهم لا يتكلمون.

(فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ) دعوهم يجيبون عليكم، ما دامت آلهتكم التي تدعون، كلموهم! قولوا: من فعل هذا بكم؟ وكبيرهم هذا أمامكم، انظروا الى السيف معه، قد يكون هو قد غضب عليهم فكسرهم، أي يقيم الحجة عليهم؛ وهذا مع أنَّه كلام صحيح يقوله لهم في قوله:

  • (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا)؛ لأنه ليس المراد به إثبات أن هذا الكبير فعل وإخبار عن ذلك لأنَّ هذا لا أحد يُصَدّقه، ولكن المقصود إقامة الحجة فقط والبرهان عليهم، ومع ذلك سيدنا إبراهيم عدّها كذبة وما هي بكذبة.
  • و يقول أيضًا بعض أهل التفسير: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا)، (أشار الحبيب بإصبعه السبابة للأمام بإصبعه الإبهام إلى نفسه)، يشير إلى الصنم وإلى نفسه، (فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ).

وهذه الكذبات الثلاث التي كانت من الخليل في ذات الله تعالى ومن أجلها فهي جائزة في الشرع وليست بالكذب المحرم في قوله:

  • (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ).
  • وقوله لهم: (إِنِّي سَقِيمٌ) [الصافات:89]؛ ولكن أراد به سقم قلبه منهم، ومن فعلتهم.
  • وقوله إن هذه أختي؛ يقول للملك الظالم لمَّا سأله عن سارة زوجته من هذه؟ قال: أختي، وهنا يجوز لكي يُخلِّصها من بطشه واعتداءه وجُرمه.

ومع ذلك عدَّها كذبات وهي ليست بكذبات.

يقول: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ (63))؛ رأوا الكلام والحجة: 

  • (فَرَجَعُوا إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ) -دارت فكرة في أنفسهم الآن- (فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ (64)) نحن الظالمون، كما يقول هذا صحيح كلامه، نحن بهذه الصورة، ولكن هذا الإنسان مهما اتضح له الحق وصار آلهة عنده هوى، يرجع إلى هواه ولا يبالي.
  • (ثُمَّ نُكِسُوا عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ) كيف نستسلم له وفعل هكذا بآلهتنا؟ أبدًا، أبدًا سندافع عن آلهتنا، قد علمتم بطلانها وأنها ليست آلهة (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَٰؤُلَاءِ يَنطِقُونَ (65)) تقول لنا اسألوهم، أنت تعرف أنهم لا يتكلمون، لماذا تقول لنا اسألوهم؟

قال: إذا كانوا بهذه الصورة، لا يدافعون عن أنفسهم ولا ينطقون، (قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67))؛ ليس لديهم جواب، ليس لديهم شيء: (قَالُوا حَرِّقُوهُ). 

هات الحجة! هات الدليل! ما معهم شيء، وهكذا أهل الباطل، فقط هذا عليه عقوبة، لماذا؟ قل لي: ما هو السبب؟ عليه عقوبة، أنا أفرض عليه عقوبة، فهّمنا، كلّمنا، رُد على كلامي هات الحجة؟ ولا شيء عليك عقوبة، ما تطيعنا في هواي وتتبعنا عليك عقوبة، قل ما هو السبب؟ ولماذا يستحق هذا؟ (قَالُوا حَرِّقُوهُ)؛ هذا جواب هذا.

(قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67))

  • (حَرِّقُوهُ) هل هذا جواب؟! يقول لكم هذا لا ينفعكم ولا يضركم وعقولكم فيكم أين ذهبت؟ (حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ) فقط خلاص، ليس لدينا إلا أن نحرقك.
  • هذا الذي قال: (حَرِّقُوهُ) واحد منهم ابتدأ، قال: (حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ) فتجلجل في الأرض وغاص فيها ويتجلجل إلى يوم القيامة.

(حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (68)): 

  • وتجمّعوا للتحريق، جمعوا، جمعوا الحطب، حتى العجائز منهم تخرج تحمل الحطب، تقول سأنصر آلهتي، وجمعوا من الحطب القوي الغليظ جموع وأوقدوها، فأخذت تشتعل، وكان يمر الطائر في الهواء فيحترق بلهيبها، وحبسوه. 
  • أخذوه وحبسوه وقيدوه عندهم في مكان، وأرادوا أن يرمونه، كلما قربوا من النار من شدة لهيبها لا يستطيعون أن يقربون، يقولون الآن سنرميه ولكنه سيصل إلى طرفها، نحن نريد أن يدخل داخل، وسط النار، يفكرون كيف؟
  •  فتصوّر لهم إبليس فجاء لهم بفكرة المنجنيق، يدخلونه وسطه ويرمونه، فيصل إلى بعيد داخل، البنيان الذي حبسوه فيه، أتوا به إلى فوق وصنعوا المنجنيق، وأدخلوا سيدنا الخليل إبراهيم وسطه، وداروه حتى فلخ به.

ضجت الملائكة والسماوات والأرض، هذا الذي يعبدك في الأرض وحده، خليلك! حتى مَلَك الأمطار سيدنا ميكائيل يقول: يا رب، إبراهيم خليلك، تريدني أن أنزل المطر لأطفئ النار؟ لا.

  • ضجت الملائكة قالوا: إنه وحده يعبدك في الأرض،
  • قال: نعم، هو الذي يعبدني في الأرض وحده، وأنا إلهه، لا إله له غيري، فأنا أتولّاه دونكم،
  • فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فعرض له جبريل: ألك حاجة؟
  • قال: أما إليك فلا، قال: فادعُ، قال: علمه بحالي يُغني عن سؤالي.

في اللحظة التي رموه فيها، أوحى الله إلى النار: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (69)) ولما قال:

  • (بَرْدًا) بردت برودة شديدة.
  • فقال: (وَسَلَامًا) فاعتدلت البرودة، وإلا كان سيتأذى بالبرد.

لو قال: (كُونِي بَرْدًا) فقط لتأذي ببرد النار، لكانت النار تحولت إلى برد، فيصير زمهريرًا.

قال (وَسَلَامًا)، فصارت برودة معتدلة يقبلها الجسد الإنساني، (وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ(69)):

  • دخل ما شاء الله وسط النار، قعد وقام يصلي، وقالوا لملكهم: الرجل الذي وسط النار يتحرك ويقوم ويقعد، فخرج يتفرج ويرى من بعيد، حتى هذا عمه الذي كان يراوده على عبادة الأصنام: (قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) [مريم:46].
  • لمَّا خرج بعد أسبوع أو أربعين يومًا حتى خمدت النار، وقميصه أبيض كما هو، ما احترقت منه إلا القيود التي وضعوها فيه، وكان جبريل يأتيه بالطعام من الجنة والشراب، وكان يقول في آخر عمره -سيدنا الخليل-: كانت أحسن أيامي في الدنيا أيام كنت في النار، وددتُ أنّ عيشتي كلها تكون كذلك.

قال: (وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70))، (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (69)) وجاءه عمه هذا وقال: نِعمَ الرب ربك يا إبراهيم! الذي نجَّاك من النار ما هذا؟ ما هذا الأمر البعيد عن العقل الخارق للعادة هذا؟! قال: ربك قوي، قادر عنده قدرة، أحسن كلمة قالها في حياته هذه الكلمة: نعم الرب ربك يا إبراهيم، نِعمَ الرب ربنا، أنتَ ربُّنا، وعِلمُكَ حَسْبُنا، فنِعْمَ الرَّبُّ رَبُّنا، ونِعْمَ الحَسْبُ حَسْبُنا.

(قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا) -ضرًا وأذى وهلاكًا وموتًا وقتلًا- (فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ(70)): هُم الذين خسروا، وهو الذي نجا وارتفع قدره وذكره وشاع فخره (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّي) [العنكبوت:26] سيهدين، عليه صلوات الله وتسليماته.

وهكذا قام الأنبياء على ظهر الأرض بأداء الرسالة عن خالق السماء والأرض، وشُرِّفنا بخاتمهم وسيدهم محمد.

 فالله يُثبِّتنا على دربه وعلى ما جاء به عن ربه، ولا يخرجنا عن دائرة حسن الاتباع له والاقتداء به، حتى يحشرنا جميعًا في زمرته آمين، حتى يختار منَّا أنصارًا له ولهذا الرسول يُظهِر بهم حقائق الدين في القلوب والعقول والأفكار في شرق الأرض وغربها، ويهدي الله من عباده خلقًا كثيرًا إنسًا وجنًا.

اللهم انشر الهداية والنور، ورُدّ الكفر والفجور، واجعلنا من خواص أهل النور، والاتّباع للحبيب المصطفى في جميع الأمور وأنت قلت عنه: (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) [النور:54]، وقلت آمرًا له: (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) [آل عمران:31]، فارزقنا اتباعه ونيل محبتك الكبرى يا رب الدنيا والأخرى، يا من عَلِمَ الأمر كله سرًا وجهرًا، لا إله إلا أنت آمنا بك فاحفظنا واحرسنا وسددنا وأيدنا وألهمنا رشدنا، واجعلنا من خواصّ أنصارك وأنصار القرآن والسنة وما بعثتَ به نبيك، اجعلنا في خواص أنصار هذا النبي المصطفى في الظاهر والخفاء.

يا حي يا قيوم اشمل بذلك من في مجمعنا ومن يسمعنا ويتابعنا ويشاهدنا، اجعلنا وإياهم من المقبولين عندك في خواص أهل الاتصال بعبدك ورسولك وصفوتك، حتى تجمعنا وإياهم أجمعين على حوضه المورود وتحت لواء حمده المعقود، وفي جنات الخلود يا برَّ يا ودود، يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.

بسر الفاتحة

 وإلى حضرة النبي محمد

صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلم

الفاتحة

 

تاريخ النشر الهجري

18 صفَر 1447

تاريخ النشر الميلادي

12 أغسطس 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام