تفسير سورة الأنبياء -02- من قوله تعالى: {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.. (4)} إلى الآية 18
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الأنبياء
قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)}
مساء الإثنين 20 ذو الحجة 1446هـ
نص الدرس:
الحمد لله رب العالمين، مُكرِمنا بالوَحي والتنزيل وبيانه على لسان عبده ورسوله خير هادٍ ومِعلم ودليل، اللهم أدِم صلواتك على المُصطفى الجليل محلِّ التبجيل سيدنا محمد، المخصوص منك بأعلى التفضيل على جميع من سِواه بكل المعاني، وعلى آله وصحبه الذين شَيَّدت بهم في التقوى والعلم والمعرفة وشؤون الدين المباني، وعلى من والاهم فيك واتّبعهم بإحسان إلى يوم وضع الميزان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الذين رفعتَ لهم القدر والشأن، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المُقرّبين، وعلى جميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أمَّا بعد،
فإنَّنا في نعمة تأمُّلنا لكلام ربنا وتدبُّرنا في آياته، وتنزيله على قلب خير بريّاته، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، قرأنا أوائل سورة الأنبياء ومررنا على قوله جلَّ جلاله: (قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)) فإنه ذكر أنهم يُسِرُّون النجوى بينهم، ويقولون: (هَلْ هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ (3)) ينسبونه للسحر ثم يأتون بأشياء أُخَر، والمبطِلُ مُتناقض.
(قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ) القول سواء كان سرًا أو جهرًا، فلم يقل يعلم السرَّ لأنهم يُسِرُّون النجوى، لِيُعلَم أن كل القول -كان سرًا أو جهرًا- فهو مُحيط بعلمه سبحانه وتعالى، أو علمه مُحيطٌ به.
(قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) ما تُسِرّونه بينكم وتفترُونه وتنسِبونه إلى عبده ونبيه، فإن ربي الذي أرسلني إليكم يعلم ما تقولون، قال سبحانه وتعالى: (إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ)، وقال جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه: (فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) [يس:76].
(قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) فما الذي سيَخفى عليه من شأنكم؟ وما من قول في الأرض ولا في السماء إلا وهو يسمعه، إذ لا مسافة بينه وبين شيء، المسافات بين الكائنات بعضُها البعض مخلوقة بين مخلوقات، والحق -تبارك وتعالى- مُنزَّهٌ عن ذلك، أقرب إلى كل شيء من نفس ذلك الشيء (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق:16].
(قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) فلا تحاولون الإسرار بشيء، ولا تظنُّون أنكم بمخافتتكم وبإسراركم بعض القول عني أن تنجحوا، أنا مُرسَلٌ من عند من هو مُحيطٌ علمه بكل شيء، مِن عند مَن لا تخفى عليه خافية، وهو أعلم بما تقولون عني وعن وَحْيِه وعن تنزيله، وبما تنسِبون إليه باطلًا وعُدوانًا من الشريك والولد (رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)) السَّمِيعُ جلَّ جلاله، الذي أحاط سمعه بكل شيء، والْعَلِيمُ.
قال: (بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ)، مع قولهم ساحر (قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ)؛ تهاويل أحلام، أباطيل أحلام، يحلَمها ويتكلّم بها، (بَلِ افْتَرَاهُ) من عنده هو افترى هذا القرآن والوحي، (بَلْ هُوَ شَاعِرٌ) يُتقِن الكلام ويحسن، والمُبطِلُ متناقض، كلمة من كلمة إلى كلمة، (فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)) يقترحون مجيء الآيات التي حصلت للأنبياء من قبل، وقد جاءهم بآيات عظمى ﷺ، ولكن هكذا أقوال أهل الهوى ومسلَكُهم.
ويقول الحق تعالى: إن لي سُنّة، إذا أحدثتُ آية عظيمة مقترحة من قِبَل قوم ثم كذّبوا، أن أستأصَلهم بالهلاك، وقد كتبت ألّا أستأصِل أمة نبيّي محمد بالهلاك، حتى تقوم الساعة.
فلذلك لم يُنزِل الآية التي اقترحوها، وخُيِّر ﷺ بأن يكون ذلك ثم إن كذَّبوا يستأصلهم أو يتأنّى بهم رحمةً بهم، عسى الله أن يرحمهم ﷺ.
فكذلك قال: (مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)) كل القُرى؛ يعني أهلُها الذين طلبوا من رُسُلهم آيات واقترحوها ليؤمنوا بهم، فأنزلنا تلك الآيات فكذّبوا فأهلكناهم، ما آمنت القرى التي أَهْلَكْنَاهَا من قبلهم حتى بعد إنزال الآيات، أفيُؤْمِنُونَ هم؟ وهم المكابرون المعاندون، هل يؤمنون دون الأمم السابقة؟ هم أيضًا لا يؤمنون إذا جاءتهم الآيات، وينزل عليهم العذاب.
قال: (مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ) هم يُسرُّون القول؛ (هَلْ هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ (3)). قل: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ) والمُرسلون كلهم من آدم إلى الحبيب العظيم ﷺ، كلهم بشر، كل الأنبياء والرسُل بشر، (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)) إذا ما عندكم استعداد لإدراك العلم بِحُسن التأمُّل ومعرفة ما استفاض نبأه وخبره عن الأمم السابقة، وأنّ رُسلهم كانوا بشرًا، اسألوا أهل الكتاب، هؤلاء الذين عندهم بقايا التوراة والإنجيل: هل كان رسلهم بشرًا أو ملائكة؟ هل كان رسلهم بني آدم أو نوعًا آخر؟ فما معنى إنكارُكم أنه بشر؟ إذًا فالبشرية ثابتة لجميع الأنبياء ولجميع الأولياء، كما هي ثابتة لجميع الكفار والأشقياء والفاسقين، كلهم بشر، ولكن ليس كل البشر كَكُلّ البشر، ولهم بعد ذلك ميزات وخصوصيات.
فالنظر إلى مُجرَّد البشرية في الأنبياء، نظرةُ أهل الكفرِ بسبب أهوائهم وشهواتهم وأحقادهم وتعنُّتهم، فإنه لا أحد من الأنبياء الذين جاؤوا جاء وقال لهم: أنا لست بشرًا، لا أحد منهم، كل الرسل الذين جاؤوا، قالوا: نحن بشر مثلكم.
ويقول سبحانه وتعالى: (قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) [إبراهيم:10-11]، الله يمُنُّ على من يشاء، ويُنبِّئ من يشاء، ويرسل من يشاء، ويختار من يشاء.
إذًا، فلا معنى للوقوف في البشرية أمام خصوصية يخصُّ الله بها من شاء من البشر: خصوصية علم، وخصوصية ولاية، وخصوصية نُبوّة، وخصوصية فَهم، وبعد ذلك إذا قلتم بشر، ما عاد نستفيد منهم! والطبيب بشر، لا تذهب للطبيب! والمهندس بشر، لا تذهب للمهندسِ! أنت مجنون؟! هو بشر، ولكن كل بشر عنده خصوصيته، لا معنى لأن تحجُب البشرية شهود الخصوصيات.
وهذا الذي وقع فيه أولئك الأمم من الكفار، ينظرون إلى الأنبياء بأنهم بشر، وهذا البشر الذي أمامكم تميّز عنكم في أخلاقه، تميّز عنكم في صِدقه، تميّز عنكم في مثاليته وكماله، ثم تأتي وتقول بشر! وأين الخصوصيات التي عنده؟ وهل كل البشر سواء؟ والبشر فيهم صالح وطالح، فيهم خيِّر وشرير، فيهم ضارّ ونافع، فيهم مُقبِل ومُدبِر، فيهم مؤمن وكافر، البشر مختلفون، فأين الخصوصية؟ لا أحد من المُرسلين قال: إني لست بشرًا، ولا أحد من الأولياء قال: إني لست بشراً. الأولياء كلهم بشر، والأنبياء كلهم بشر، ولكن خصوصياتهم كيف تُنكَر؟! خصوصياتهم كيف تُمحَى؟! خصوصياتهم كيف تُلغَى؟! لكونهم بشرًا تُلغَى الخصوصيات! من يقول هذا؟ هل هذا عقل؟ هل هذا منطق؟ هو بشر، لكن بشر نبي، بشر وليّ، بشر طبيب، بشر عالم، بشر صالح، وبشر جاهل، وبشر ضالّ، وبشر فاسق، فلا تمحو البشريةُ وجودَ الخصائص بعد ذلك، يختصّ الله بها من شاء من البشر، إمَّا رفعةً وعُلُوًّا أو انخفاضًا وسُفْلًا، نورًا وهداية أو ظُلمة وغِواية، سبحانه وتعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ) [آل عمران:26]، (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ) [النور:35] جلَّ جلاله.
(وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ) هذه خصوصيّتهم، اخترناهم واصطفيناهم؛ (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ) [الحج:75]، فمن اليقين عند كل مؤمن أنَّ خير خلق الله على ظهر الأرض أنبياؤه ورسله، اختارهم واصطفاهم واجتباهم، فهم خير الخلق، لا يمكن أن يكون مُفكّر ولا صانع ولا مخترع قريبًا منهم في الفضل، ولا قريبًا في المكانة؛ هم أفضل، وهم أكمل، وهم أعظم، وهم أجل، وهم أجمل، وهم أقرب، وهم أطيَب، اصطفاهم الله؛ فخير الخلق أنبياؤه ورُسُله، ومع ذلك هم درجات: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ) [البقرة:253].
إذا جئنا إلى أفضلهم؛ أولي العزم، ثم جِئنا إلى الرأس الذي ينتهي إليه كل أساس في الفَضل والهُدى والنِّبراس، وجدناه محمدًا صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، أكرمُ الخلق على الخالق، فيا رب صلِّ عليه وثبِّتنا على دربه، ولك الحمد إذ جعلتنا من أمته، فاجعلنا في خِيار أمته، واحشرنا في زُمرته.
(وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ) الرسل الذين مضَوا من قبل (جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8)) الرسل الذين مضَوا من قبل (جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ)، بل هم أجساد كأجساد بني آدم، تحتاجُ للطعام والشراب وإلى النوم.. الأعراض البشرية التي لا تؤدّي إلى نقص في مراتبهم العليّة، كذلك الأولياء، كذلك العلماء، بشريّتهم قائمة، والأعراض البشرية التي لا تؤدي إلى نقص في مراتبهم حالّة فيهم وقائمة، ولكن نزَّهَهُم عما يؤدي إلى نقص من شؤون البشريات، فلا يحومون حوله.
فجعل الأنبياء معصومين، وجعلهم ذوي فِطانة، وجعلهم يمرضون ولا يأتيهم مرض يُنفِّر الناسَ، فلا يَعرِض لأحد منهم عمىً ولا برص ولا ما تنفر منه الطِّباع، لأن الحكمة في اصطفائهم أن يُقرِّبوا الخَلق إلى الخالق، وأن يجذبوهم إليه، فيحتاجون أن يُنزَّهوا عن كل مُنفِّرات الطبع، وعن كل ما لا يليقُ بالمروءة والشرف والكرامة، عليهم رضوان الله وصلوات الله وتسليماته، وعلى جميع أتباعهم بإحسان.
قال: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ) أبدًا، بل كانوا يأكلون الطعام؛ ولهذا لما رَدَّ على المُنحَرِفين من النصارى الذين ادَّعوا الألوهية لسيدنا عيسى وأمّه مريم، قال تعالى: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ) [المائدة:75]، يكفي هذا لمعرفة أنهم بشر وخَلق، ويأكلون الطعام؛ أي بعيدين عن صفات الألوهية والربوبية، وهم -وكل من يأكل الطعام- بِحُكم التركيب الذي جعله الله في الدنيا، يحتاج إلى استِخراج فضلاته، وكل ذلك بعيد عن شؤون الألوهية وعن شؤون الربوبية (كانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ) [المائدة:75].
فهُنا البشرية، وهنا الخصائص التي اختصَّ بها رسول وأمّهُ صديقة؛ أي صالحة مؤمنة تقيّة، ارتفعت إلى مراتب الصِّدّيقية، فلها فضل آخر، لكن لا تتجاوز الى الألوهية ولا الربوبية، حاشا الله أن يكون معه شريك آخر.
قال: (وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8)) ما خلّدنا أحداً منهم أبقيناه على طول الأبد، بل لكل منهم عُمُر يقضيه في عالم الدنيا ونأخذُه إلينا، (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) [الأنبياء:34-35] ومع ذلك أخّرَ وفاة سيدنا عيسى -عليه السلام- ورَفَعَهُ إلى السماء، وسينزل إلى الأرض وسيموت، لا أحد منهم خالد، (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)، حُكم القهّار جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه.
قال: (وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ) إذًا فأن تطلبوا غير بشر أو تطلبوا خلودًا، من أين تأتون بهذا؟! المكوِّن الخالقُ لم يوجد هذا! ما كلامكم هذا؟ ما تفكيركم هذا؟ هذا ما أوجده الله، الذي خلق وكوَّن الكون -لا إله إلا الله-.
إذا كان الأمر كذلك، ما الذي حصل لهؤلاء؟ مَن اصطفينا من المرسلين، ثم من اتّبعهم ومن كذّبهم وعاندهم؟ ولا أحد في البشر مِن أيام آدم إلى اليوم إلا هذه الأصناف الثلاثة:
- أنبياء ورسل،
- ومُصدِّقون لهم،
- ومُعانِدون مُكذِّبون، لا أحد غير هؤلاء
ما الذي حصل للكُل؟
قال: (ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ) كل الرسل والأنبياء الذين قاومهم الكافرون، بهم من أقوامهم المكذبون لهم وعاندوهم، ومنهم من قاتلوهم، ومنهم ومنهم (صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ) بالنصر والتأييد، (وَمَن نَّشَاءُ) من أتباعهم المؤمنين بهم.
(وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) الظالمين الذين أشركوا بالله وكذّبوا الرسل فأسرفوا على أنفسهم؛ كلهم هُلكوا طائفة بعد طائفة، أُمّة بعد أُمّة، قوم بعد قوم؛ هذه سُنة الله في الوجود، لكن الناس يغفلون غفلةً شديدة، ويغترّون بالأمر الآني والوَقتي وكأنه كل شيء، ويغفلون عن الماضي الطويل وعن المستقبل الكبير، ويغفلون عن ذلك، فيغترّون بمن ظهر فيهم بمظهر، فمشوا وراءه؛ مِنَ الأدعياء، من المُخادعين، من الكاذبين، فيمشون وراءهم؛ وإلا فإن الربَّ الذي خلق أنزل نورًا وأنزل حكمًا وأنزل منهاجًا، ومع هذا المنهاج، لا نحتاج لأحد يأتي إلينا من البلد هذه أو البلد هذه، يقول لنا: اعملوا كذا واتركوا كذا! خالِقُنا قال: افعلوا ولا تفعلوا، انتهت المسألة، جاء المنهاج مِن فوق، ولكن الناس هكذا يغترّون بمن أظهر لهم أشياء واخترع لهم اختراعات وجاء لهم ببعض الأجهزة، ويذهبون وراءها وهكذا.
بل تغلبهم شهواتهم إلى أن الذي سيأتي لهم بالمال والرزق مستعدون يؤلِّهونه ويستعبدونه، كما يفعل الدجال، ولأجل الخبز يذهبون وراءه ويكفرون بالله، ويؤمنون به لكي يأكلوا، لا حول ولا قوة إلا بالله، فهكذا ينحط الإنسان عن قِيَمهِ وإنسانيته وكرامته بغلبة الشهوات والأهواء.
قال: (ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاءُ (9)) أي من أتباعهم، وكل من هلك من الأمم السابقة و استؤصل بالهلاك، بقي أتباع الرسل الذين آمنوا بهم، وهكذا.
من أعظمهم سيدنا نوح عليه السلام، وهلك وغرق الكل إلا هو ومن معه في السفينة فقط (فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ) [العنكبوت:15]، من معه، الباقين ما أحد نجا؛ من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك.. وهكذا.
(فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ)، أي هذه سُنّتنا في هذا العالم والحياة إلى أن تأتي الساعة والقيامة ونحكم بين العباد -لا إله إلا هو-.
(لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا (10))، ارجعوا وتأملوا، الوحي الذي أوحينا إلى عبدنا محمد؛ فيه شرفكم، وَصِيتكم وكرامتكم، ارجعوا إليه، اقبلوا الكرامة من الرب الذي خلق، (لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ (10))، وذكْرُكم إن آمنتم به واتبعتموه؛ بالخيرِ ما بقِيَت الدنيا، ثم بالنعيم والكرامة في الآخرة، وإلا فقد مضى قبلكم من الأمم كذّبوا بما أنزلنا على الأنبياء، فما بقي لهم ذكر إلا بالشر والسوء، وما بقي لهم ذكر خير، لا أحد يذكرهم بالخير ولا بالشرف ولا بالكرامة.
أيّهم الذي يُذكَر بالشرف والكرامة؟! النمرود أو فرعون أو قوم عادٍ؟! بل إنهم كانوا بالسوء يُذكرون، فإذن ذكركم في الكتاب هذا، إمَّا أن تحوزون به ذكرًا جميلًأ حَسَنًا تُرفعون به، ولكم الشرف والكرامة، وإما أن تُذكرون بسبب تَوَلِّيكم عنه وتكذيبكم له؛ ذكرًا خبيثًا قبيحًا إلى يوم القيامة.
(لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ)، ذكركم؛ أي ذِكْرُ كل ما تحتاجون إليه في أمر دينكم ودنياكم، موجود فيه ذكركم، كل ما تحتاجون إليه من موجب سعادتكم، وصلاح شأنكم موجود في الكتاب العزيز.
(لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ)، إذًا، الذكر بمعنى:
- الشرف والكرامة والصِّيت،
- والذكر أيضًا بمعنى أنكم تُذكرون به، إما بالخير أو بالشر،
- والذكر بمعنى حديثكم الذي تتحدثون به،
- والذكر بمعنى ذكر ما تحتاجون إليه لنيل السعادة، وكل ما يُعَرَضَ لكم في أمر دينكم ودنياكم، (أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ)،
- وأخذ بعضهم أيضًا من هذه الآية، يقول: ذِكري في الكتاب؛ حقيقتي ومآلي والحكم عليّ موجود في الكتاب.
لذا لما مرَّ بعض العارفين على الآية (كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ)، قال: وأنا أين ذكرني ربي؟ أين الآيات؟ وكان يتلو الآيات التي مدح الله بها المُقربين والعارفين، قال: أنا ما أظن أني من هؤلاء، وما أنا هنا مذكور، فيأتي إلى آيات الكفار ويقول: إن شاء الله ما أنا منهم هؤلاء، ومر على قوله تعالى: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا) [التوبة:102]، فقال: هذا أنا، أنا هنا، أنا مذكور هنا، أنا في هذا المكان، (لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)).
ولذا لمَّا امتحن بعض الملوك، جماعة من أهل العلم الذين في بلده وجَمَعَهُم، قال: الآن لا بد أن تُفتوني هل أنا من أهل الجنة أو من أهل النار؟ والوعد بيني وبينكم في الأسبوع الآتي تأتون وتأتون بالخبر، وإلا سيؤذيهم، ما هذه المصيبة التي حلّت بنا! يقولون؛ هل هذا شأنه في العلم عندنا؟! نقول له إنه في النار! وماندري ما خاتمته؟ نقول له إنه في الجنة!
فانتدب واحد منهم وقال: الجواب عليّ، في المجلس الآتي تعالوا، وقال دعوا الجواب لي، وأنا أجيبه، قال (الملك): عندكم الخبر؟ قال: نعم، عندنا الخبر عنك، قال: قال الله تعالى في كتابه: (فَأَمَّا مَن طَغَىٰ *وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ) [النازعات:41-37] وأنت بين الآيتين هاتين، واحدة من الايتين، إن كنت من هذا فأنت في الجنة، وإن كنت من هذا فأنت في النار، الله قد أفتى، قال فما لنا فتوى بعد فتوى الله، أنتَ أعرفُ بنفسك، فإن كنت ممن طغى وآثر الحياة الدنيا فأنت من أهل النار، وإن كنت ممن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فأنت من أهل الجنة، -لا إله إلا الله-.
وما يعرف حالة تعيين الشخص؛ جنة أو نار إلا نبي يوحي الله تعالى إليه، أو إشارة يجعلها الله تبارك وتعالى، ولا يُجزمُ إلا بما كان من الوحي للأنبياء.
قال: (لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10))؟ أفلا تحسنون استخدام نعمة العقل التي أعطيناكم؟ أما تشغلون العقول تشغيلًا نافعًا يهديكم إلى الحق أو إلى أخذ الكرامة من ربكم -جل جلاله-؟ أفلا تعقلون؟
(وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً (11))، ما ترون سنتنا في الوجود، تريدون تظلمون إلى أي أحد وإلى أي مسافة؟ وما من ظالم إلا له يوم، وله حد، وله وقت، ينتهي فيه ظُلمه.
(وَكَمْ قَصَمْنَا) القصم؛ هو الكسرُ بقوة والإهلاك بشدة، (وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً)، أي أن أهلها كانوا ظالمين، (وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ) أي أنا الغني عن كل شي، أهلِكُ ولا أبالي، وأُسعِدُ ولا أبالي، لمَاذا الغرور؟ لماذا بالزور؟ لماذا بالإعراض؟ لماذا بهذا الاستكبار؟! أمامكم من بيده ملكوت كل شيء (وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً) إن كنت مُغترٌ بعلم قد جاء من ادّعى العلم قبلك، إن كنت مغترٌ بقوة، قد جاء من هو أقوى منك قبلُ فأهلكناهم، أين ستذهب؟ اعقل! (وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11)).
(فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا..(12))، عاينوا وشاهدوا نزول البلاء، (إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ) مِن قراهم ومن ديارهم، يريدون أن يفرّوا، يريدون أن يتخلصوا، ما استطاعوا التخلُّص (إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ) وتقول لهم الملائكة: (لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَىٰ مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ (13))، هيل ارجعوا إلى دنياكم! (فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [الواقعة:86-87] ارجعوا إلى ما أُترِفتم فيه، تستهزئ بهم الملائكة تقول: اذهبوا، هيا، دَعوا الترف ينفعكم، ارجعوا إلى ترفكم، ارجعوا إلى مساكنكم التي كنتم تفتخرون بها وتتعاظمون فيها، ارجعوا، ارجعوا، وكيف يرجعون؟!
(لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13))، تُسألون؛ ما الذي حلّ بكم وما الذي نزل بكم، أو لعلكم ترجعون إلى ملككم، فيسألكم خدمكم وأصحابكم، وتعطون من تشاؤون وتمنعون من تشاؤون، يعني يضحكون عليهم، يُستهزأون بهم، كل هذا يعني ما كان شيئًا يحق أن يُعتمد عليه، فلماذا قطعكم عن إلهكم؟ ولماذا ضيّعتم به خير الأبد والسعادة الأبدية؟ لماذا اغتررتم بما كنتم فيه من مساكن ومِن ترف؟
(… وَارْجِعُوا إِلَىٰ مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا.. (14))، ما عاد في رجعة، ليس إلا الهلاك، (قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) اعترفوا بأنهم ظلموا.
وكان ابن عباس يذكر بعض قرى اليمن، أرسل إليهم الحق تعالى وبعث فيهم نبيًا فكذبوه، فأرسل عليهم بُختنصَّر وقتَّلهم تقتيلًا، وهربوا وفرّوا من البلاد، فكانت تقول لهم الملائكة: لا تركضوا، لماذا تركضون؟ ارجعوا إلى مساكنكم، ما وقع لهم إلا استئصال بالقتل، والعياذ بالله تعالى.
ولكن الآية عامة: (وَكَمْ قَصَمْنَا)، أي أن قرى كثيرة حصل لها هلاك واستئصال؛ لا واحدة ولا اثنتين ولا ثلاث ولا أربع، دولٌ راحت بعد دول، وهكذا، فلماذا يستعجلون؟ بل نقول: لا تركضوا وارجعوا ما أُترفتم فيه، سيأتيكم اليوم.. وهكذا كل ظالم.
وما من يد إلا يد الله فوقها ** وما من ظالم إلا سيُبلى بأظلمِ
فسبحان القوي المتين، والخير كله في تقواه، والامتثال لأمره، وصِدق الإيمان به، وحُسن الاستعداد للقائه، الفوز كله في هذا -لا إله إلا هو-، وهو الباقي الأبدي الذي بيده ملكوت كل شيء، (لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَىٰ مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13)).
(قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ (15))؛ يا ويلنا، يا ويلنا، ولا ينفعهم شيء، دعواهم: يا ويلنا، ياويلنا، ويُقال لهم: (لَّا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا) [الفرقان:14]، (فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّىٰ جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15))، مثل الزرع المحصود؛ خامدين، جامدين، هامدين، موتى لا أثر لهم -لا إله إلا الله-.
يقول الحق تبارك وتعالى: وهذه الآيات كلها، وهذه الوقائع فيكم يا معشر العقلاء من بني آدم ومن الجان المُكلّفين؛ أحسِنوا التأمُّل، أنا ما كوّنتكم ولا كوّنت هذه الأشياء عبثًا ولعبًا، هذا اللعب ليس من وصف الإله، ليس من وصف الألوهية والربوبية، يجب أن يتنزّه عنه عقلاؤكم وذَوو المكانة فيكم، أنتسبونه إلى الإله؟ أتحسبون أنّا خلقتُ السماوات والأرض لَعِب؟
(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16)) ما هذا من شؤون الألوهية والربوبية، يقول سبحانه وتعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) [ص:27].
أما أولو الألباب فيتفكّرون في خلق السماوات والأرض: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [ال عمران:191]، هؤلاء أولو الألباب، أمَّا الكفار، فمعنى الفلسفة الموجودة عندهم أن السماوات والأرض خُلِقَت عبثًا، إلا أننا نتحيّل ونتوسّل إلى تحصيل أغراضنا وشهواتنا وانتهت المسألة؛ لا والله، ليست المسألة هكذا، ما خلقها إلا (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ) [الأنفال:42] إلا لتكون مجالًا للفكر والعقل والاستبصار والتذكُّر وإدراك الحقيقة، إلا ليصير المآل؛ إمَّا نعيمًا مؤبًدًا وإمَّا عذابًا مؤبدًا، ما خلقها عبثًا.
قال تعالى: (مَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا (17)) عبثًا هكذا مجرد! أو ما تدَّعونه من زوجة أو من ولد، (لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا) من عندنا، ليس من جهتكم يا بني آدم الذين كوّناكم من تراب في الأرض هذه! وعندي الملائكة، وعندي الحور، وعندي ما هو غائب عنكم وما لا تعرفونه، لكن هذا ليس من شأن الربوبية ولا من شأن علو الألوهية، هذا اللعب والمسخرة لِسَقَطَائكُم وسُفهائكم، ليست لله تبارك وتعالى.
(لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بمعنى: لو أردنا أن نفعل، أي بمعنى: ما كنا فاعلين، لأن هذا لا يليق بعظمتنا ولا بجلالنا، (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ *رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) [ال عمران:191-193].
بل شأن الألوهية والربوبية هو أن: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ (18)) يزيله إزالة تامة لا يبقى له بقية، يدمغه، (فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ)، لا أثر له انتهى -الله أكبر-.
قال: هذا شأننا، نقيم الحق ونرسل الرسل (رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء: 165]، ويُؤيّد المرسلين ويخذُل أعدائهم، ثم يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا يختلفون.
(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18))، وصفًا لا يليق بالله تبارك وتعالى أو برسله، كل ما وصفتم من هذا الوصف، يترتب عليه تعذيبكم وإيلامكم في المستقبل عندما تلقون الجزاء (وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ).
اللهم ارزقنا اتباع الحق واجعلنا من أهل الحق، اللهم ثبِّتنا على الحق فيما نقول، وثبِّتنا على الحق فيما نفعل، وثبِّتنا على الحق فيما نعتقد، اللهم اعصمنا من الشرك واغفر لنا ما دون ذلك، اللهم زِدنا إيمانًا ويقينًا وإخلاصًا، وتولّنا بما توليت به محبوبيك والمقربين إليك، اللهم لا تحرمنا خير ما عندك لشرِّ ما عندنا، فضلًا وإحسانًا برحمتك يا أرحم الراحمين، وزدنا من نوالك.
وعجِّل بتفريج كروب المسلمين، اللهم رد كيد الطاغين والباغين والظالمين والمعتدين في نحورهم، واكفِ المسلمين جميع شرورهم، ولا تُرِنا في وجه مؤمنٍ ذِلة يا حي يا قيوم، ولا في وجه معاندٍ ظالمٍ عِزًة ما أبقيتنا، لا تُرِنا في وجه مؤمنٍ ذلة، ولا تُرِنا في وجه ظالمٍ معتدٍ غاصبٍ عِزًا ما أبقيتنا، يا حي يا قيوم، لا تُرِنا في وجه مؤمنٍ ذلة، ولا في وجه كافرٍ معتدٍ ظالمٍ غاصبٍ عِزًا
اللهم أعزنا بدينك، وأعِزّنا بطاعتك، وأعزنا باتباع رسولك، وأعزنا بالحق، واجعلنا عندك من أهل الحق، وفرِّج كروب المسلمين في المشارق والمغارب، واجعل الدائرة على من طغى وبغى وفجر وكفر واستكبر وآذى بغير حق وظلم وسعى في الفساد في الأرض، اللهم اهزمهم وزلزلهم، اللهم اجعل الدائرة عليهم، اللهم خُذهم أخْذَ عزيزٍ مقتدر، اللهم انصر رسولك محمدًا واجعلنا في خواصِّ أنصاره، وأظهر رايته في جميع الأقطار، واجعلنا من حامليها على خير الوجوه التي تُحبها وترتضيها، وأهلنا وأولادنا وأحبابنا وطلابنا يا أرحم الراحمين والمسلمين، اللهم جنِّب المسلمين الفتن والمحن، وتولنا في السر والعلن، وارفع عنا جميع الآفات والفتن، وانظمنا في سلك من استقام على ما تحبه في السر والعلن يا أرحم الراحمين.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي الأمين
صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلم
الفاتحة
23 ذو الحِجّة 1446