(535)
(363)
(339)
درس يلقيه الحبيب عمر بن حفيظ في تفسير سورة الكهف بعد الفجر ضمن دروس الدورة التعليمية التاسعة عشرة بدار المصطفى 1434هجرية.
﷽
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَٰئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ ۚ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31) ۞ وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا ۚ وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَّٰكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ۚ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَىٰ رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ ۚ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44))
الحمد لله على توالي النِّعَم ودفع النِّقَم، وبسط بُسُطِ الجود والكرم، وصلَّى الله وسلَّم على حبيبه الأعظم ومُصطفاه الأكرم، سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه ومَن سار في منهجه الأقوم، وعلى آبائه وإخوانه من النّبيّين والمرسلين ومَن سار في سبيلهم إلى يوم الدين، وعلينا معهم وفيهم، إنَّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعد،،،
فإنّا في مائدة القرآن الكريم في سورة الكهف، نتأمّل الخِطاب الأعذب من إلهنا الرّبّ سبحانه وتعالى.
وصلنا إلى قوله جلّ جلاله وتعالى في علاه: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30))، (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ..)، وما أكثر ما رَبط سبحانه الإيمان بالعمل الصالح في آيات كثيرة لأنّ الإيمان يربِطُك بتسليم الزِّمام لمَن آمنت به، فيُقيمك على منهجه الذي ارتضاه لك.
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ .. (30))، حقّقنا الله بذلك، وقد نشر الله لهم البشارات في كتابه ووَعَدهم بالوعود العظيمة الكبيرة في الدّنيا والآخرة؛ فكم وكم وكم! تأمَّلْ في كلام ربّك، يذكر مَن آمنوا وعملوا الصالحات، آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات، وآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات، يذكر كم من مزايا ومناقب ومواهب وعطايا ومِنَح ونعيم وفضل وكرامة لهم. اللهم اجعلنا منهم.
يقول: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)).
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)) -اللهم ارزقنا حسن العمل- (أُولَٰئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ..(31))؛ فَأَيُّ شَيْءٍ فوق الإيمان والعمل الصالح إذا كان هذا كله لهم؟ (أُولَٰئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ)، وقد علمنا أنّ معنى العدن الإقامة، وأن هذه الإقامة مراد بها إقامة الدّوامّ والاستمرار والأبد؛ وهذا لا يكون إلّا في الجنّة، (جَنَّاتُ عَدْنٍ)، إقامة أبديّة سرمديّة، مع كونها لا موت فيها، أيضًا لا هرَم.
الناس في الدنيا، يقول العوامّ عندنا: إذا تركك الموت ما تركك الكِبَر. إذا تأخّر الموت عنك وما جاء، يجيئك كبر وضعف وتعب، لابدّ لك منه، ترجع هرِمًا وشيخًا وما تقدر تقوم، ما تقدر تمشي، ما تقدر تأكل. فَماذا تعمل به؟
طيب، وهذا ما يوجد موتٌ؛ ماذا أصنع. وقال: ولا هرمٌ؛ لا موت ولا هرم ولا مرض! الله! لا موت ولا هرم ولا مرض ولا همّ. الله الله! ما هذه الحياة؟ هذه هي الحياة..
(أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ.. (31)) إقامة أبدية سرمديّة، أي جنّات يخلدون فيها. اللهم اجعلنا من أهلها. وإن سُميت واحدة من الجنات جنّة عدن، فإن معنى العدن الإقامة ينطبق على جميع الجنّات؛ فالجنّات الثّمان: جنّة عدن، وجنّة الخلد، وجنّة المأوى، وجنّة الفردوس، وجنّة المزيد، وجنّة عليين، وجنّة السلام (دار السلام) -جنّة دار السلام- كلها في كل واحدة منها من النعيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. قال ﷺ لأمّ حارثة: "إِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ، وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى". هذا الشابّ الذي تُوفي وهو ابن ثمانية عشر سنة، حارثة رضي الله تعالى عنه.
يقول: (أُولَٰئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ (31))، تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ، تحت قصورهم، تحت بيوتهم ومنازلهم يجري النهر. والنّهر مُتحكّم بحُكمهم. يقول: مُرَّ هنا وتعال. املأ عند الغرفة هذه، يمشي معه. يقول لَهُ: انْزِلْ من هنا، ينْزِلْ من هنا. اطلَعَ كذا، يطْلَعْ كذا؛ (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا) [الانسان:9]:
ويقول له: امشي كذا؛ فتمشي خلف أمره. فيقود النّهر كما تقود الغنمة أنت، وكما تقود شيئًا بيدك تمضي به حيث شئت؛ فيمشي هنا ويطلع هنا وينزل. يقول: أنا أريدك تجيء عند الغرفة هذه، يمشي معه: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ۖ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [الزخرف:71].
يقول تعالى: (تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا) -تحلية، يُعطَون الحُليّ- (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ) -جمع سِوَار- (مِنْ ذَهَبٍ (31))، وقد ذكرنا أنّ الله ذكر أساورة الجنة في القرآن ثلاثة أنواع: ذهب وفضة ولؤلؤ.
في الحديث: "لَوْ أَنَّ سِوَارًا مِنْ أَسوِرِة أَهْلِ الْجَنَّةِ" أو "لَوْ بَرَزَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَبَدَا سِوَارُهُ لَغَطَّى نُورَ الشَّمْسِ كَمَا تَغَطِّي الشَّمْسُ نُورَ النُّجُومِ":
الله أكبر! ما هذا النور؟ وهذا النور بديع، ما يُؤذي العين ولا يحرق البدن ولا يضرّ بالصحّة؛ هذا نور الجنة؛ ولذا قال لمّا استغنَوْا عنها، عن هدي الشمس وما إليها: (لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا) [الانسان:13] أي لا حرًّا ولا بردًا.
قال وفي الصحيحين عنه ﷺ: "حِلْيَةُ الْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ تَبْلُغُ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوُضُوءُ"، حلية المؤمن في الجنة تبلغ ما بَلَغَ الوضوء، إلى أين تغسل يديك؟ إلى أين تغسل رجليك؟ حِلْيَة على مقدار ما يصل ماء الوضوء. فمَن كان يكتفي بالواجب إلى عند المرفق فقط، إلى عند المرفق يُحَلَّى. ومَن كان يطلع في العضد، تطلع الحلية إلى العضد في الجنة. وإذا إلى الكتف، إلى الكتف. ما هذا؟! كيف كنت تتوضأ في الدنيا؟
وبهذا تعلم أن حقيقة هذه الأساور والزينة هو طاعة الله، وأنت على قدر ما تقوم بطاعة الله تتزيّن، وهذه الزينة التي لا تُساويها زينة أهل الأرض؛ فإن تزيّن الناس بما تزيّنوا، وأنت تزيّنت بإحسان الوضوء، كنت أربح منهم؛ لأنك عندما تُحسن الوضوء تتهيّأ لأن تلبس الأساور التي يُغطّي ضَوؤها ضوء الشّمس في الدنيا، وتبقى أبديّة سرمديّة.
وفي الحديث عنه ﷺ: "لَوْ أَنَّ حُلْيّةَ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ عُدِّلَ بِحُلِيِّ الدُّنْيَا" -الدُّنْيَا مِنْ أَوَّلِهَا لِآخِرِهَا- قال: "لَعَدَلَتْ حُلْيَتُهُ حُلِيَّ الدُّنْيَا أو كَانَتْ خَيْرًا مِنْهَا". حُلِيّ واحد من أهل الجنة إذا نُسب لحُلِيّ أهل الدنيا من عهد آدم إلى أن يُنفخ في الصُّور، هذا الحُلِيّ كلّه، ملك واحد من أهل الجنّة أفخر من هذا كلّه وأغلى؛ فمن يُضيع الجنّة لأجل شيء من هذه الصّورة الزّائلة المنتهية؟! رزقنا الله كمال اليقين.
وأحَدُنا يتحلّى بمثل هذا المجلس، حِليةً لا يجدها أهل حُلَى الدنيا، إذا أثمرت له جلسة في الجنة (إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ) [الحجر:47]. أو إذا نُودِيَ في الجنة لِيَجتمع أهل المجلس الفلاني، فاجتمعوا في مكان قربي، وحضر معهم مَن حضر من الأنبياء والأصفياء، فما يُساوي هذه الحلية وهذه الزينة وهذه الكرامة والشرف!
فإذا عرفت ذلك، فحقائق الزينة في السّجدات، في الركعات، في إحسان الوضوء. ومن هنا تعرف عِلْم وفهمَ السيّدة نفيسة عليها رضوان الله بمصر لمّا مات الشافعي، فأثنت عليه، قالت: "رحم الله محمد بن إدريس الشافعي، إنه كان يُحسن الوضوء". إنه كان يُحسن الوُضوء. ومعنى كلامها: هذا من أهل الأساور من الذهب واللؤلؤ والإستبرق، هذا معنى كلامها. ما معنى يُحسن الوُضوء؟ هي تعرف هذا وتُدرك هذا. ولهذا اكتفت في مدحه بقولها: إنه كان يُحسن الوُضوء -أي رجل عابد زاهد صادق- مَن أحسن الوضوء أحسن الصلاة. مَن أحسن الوضوء مَن أحسن الصلاة، كلٌّه حُسْن، دينه كلٌّه حُسْن.
يقول: (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ)، ويُحَلَّوْنَ، يتولّى حِلْيَتهم ملائكة كرام ووِلدان مخلّدون. يقول: هذا هنا، وهذا هنا، وهذا يُناسب هنا، وبدِّلْ هذا بذا، وهذا بذا، يُحَلَّوْنَ. (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ..(31)). عند ذكر الثياب، لمّا كان أمرًا مختصًا بالوِلدان، يلبسون هم يلبسون. والعجب في هذا اللُبْس، لُبْس الثياب، حتى الهيئات والصور تُعرَض لهم في بعض أسواق الجنة. مثل الثوب، كلّ مَن أعجبه صورة يدخل فيها، فيتصوّر فيها، وتبقى عليه ملامح من أصله.
يقول: (وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ):
إلا أنّها نور لا تُثقِل الجسد ولا تُتعِبه؛ مهما كان الثوب حسنًا في الدنيا، تلبس ثاني، ثالث، تتعب، بيجيء يقرقر، أبعده، وبيشد عليك، ما تحمل، حملت سبعة أثواب؛ لكن في الجنة، سبعين حُلّة تلبسها ولا يوجد ثقل ولا تعب ولا شيء مشكلة، والسبعين حلّة لأنها من نور. هناك شجر، حتى في الحديث سُئل ﷺ عن حُلَلُ الْجَنَّةِ مَخْلُوقَةٌ خَلْقًا أَمْ مَنْسُوجَةٌ نَسْجًا؟ فقال لهم ﷺ: "بَلْ تُبرزها شَجَرُ الْجَنَّةِ". الشجر في الجنة يُبرز لك الثياب الذي تريد، يُخْرِجُ لك على ما تشتهي، مُقَدَّرٌ مُرَتَّبٌ مُنَظَّمٌ كل شيء.
قال: (وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ.. (31))، والسّبعون الحُلة، كلّ حلّة ما تحجب الأخرى. هذه الحياة! هذه الحياة!
انتبه للحياة هناك مقبلة عليك الحياة، أولًا حلّة فوق حلّة فوق حلّة فوق حلّة. هات أفخر ثياب الدنيا ثلاثة أربعة حلل سيتعب صاحبها، بعض الممثلين صنعوا له ثيابًا زائدة، بعد ذلك مرض وذهبوا يُعالجونه، بعد ذلك صنعوا له ثيابًا كثيرة يكبّر نفسه ويكبّرونه، بعد ذلك جاءه المرض من اللباس هذا، لكن ثياب الجنة لا فيها ثقل ولا فيها تعب ولا فيها مشكلة. الله أكبر!
(مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ)، الأرائك جمع أريكة. وأريكة: سرير عليه حِجَال سُتُور، يزين بها السرير ويوضع فوقها؛ فإذا وُضعت الحِجَال على السّرر صار أريكة، السرير من دون الحِجَال، ما هو أريكة، ولا حِجَال من دون سرير؛ لكن الحِجَال على السّرير أريكة.
قال: (مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ.. (31)). سُرُرٌ مُحَجَّلَةٌ، وينظر بعضهم إلى بعض (إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ) [الحجر:47]. الله أكبر!، وجاء في وصفهم أنّ الإخوان في الله يكونون في الجنة، يخطُر على بال هذا أن يرى أخاه، يكون مُؤقّتا، في الوقت الذي يخطر على باله، الثاني أن يراه، وبمجرد خطور الخاطر على هذا يسير سريره، وبمجرد خطور الخاطر على ذاك يسير سريره، فيلتقيان هذا إلى عند هذا، وهذا إلى عند هذا؛ الآن الناس تعلّموا في الدنيا بعض الأزرار، يقول كذا، يقول كذا، يحرّك الأجهزة، وحتّى الطائرة، حتى يمكن يُبرمجها بأصابعه، يصنع برنامج، يحطّه فيها، يجعلها تطير وتقلع وهي تنزل من نفسها بعد ذلك.
انظر في دار الكرامة عند الضيافة الرّبانيّة، الانفعالات للأشياء خاطرك، حتى أصبعك لا تتعب فيه. الخاطر هو يحرك لك الأشياء:
يقف بعضهم على الأنهار الأربعة: ماء، لبن، عسل، خمر؛ يشرب، يخطر بخاطره، يريد الثاني، إذا كَرِهَه ترك الثاني، يجيء له مباشرة. الخاطر، طِرْ! زِرْ! حتى أُصبعك لا يتعب. إلا الخاطر هو الأزرار التي بها تتفاعل معك شؤون الجنّة، (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ) [فصلت:31].
قال: يصل عند الثمر، (قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ) [الحاقة:23]:
لكلّ لقمة: لأولها طعم، ووسطها طعم، وآخرها طعم؛ كلّ طعم خير من الذي قبله، ولا يمسح الذي قبله:
اللهم اجعلنا من أهل جنتك. اللهم أدخلنا جنتك برحمتك يا أرحم الراحمين.
قال: (نِعْمَ الثَّوَابُ)، قال الله: أحد يُثيب مثل ثوابي؟ أحد يُعطي جزاءً مثل الذي أنا أعطيه؟ ما الذي يعرضونه عليكم أهل البنوك؟ ما الذي يعرضونه عليكم أهل الشركات؟ ما الذي يعرضونه عليهم؟ انظروا عرضي!
يقول الله: (نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31))، حَسُنَتْ مَرْفَقًا تَرْتَفِق به وتأوي إليه وتحلّ فيه؛ فإذا كان الأمر كذلك، فاعتبار النّاس في هذه الدّنيا بما حصّلوا من الدّنيا في نظر المؤمن خطأ في خطأ:
ولذا قال بعض العارفين: احذر أن تَحسُد أحدًا، فإنّه إن كان من أهل الجنة، فكلّ الذي رأيته عنده ما يُساوي شيئًا ممّا هو يستقبله، وإن كان من أهل النار، فإنّك جنون تحسد واحدًا آخره إلى هذا العذاب الشّديد وإلى هذا الهول المُهيب؛ فالتفكير في المصير يُقوّم لك المسير، يُبعدك عن هذا التّكدير وعن هذا الاغترار بالتّغرير.
يقول: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ.. (32)). إذن ما دام المسألة كذلك، فما يُمكن أن نأتي للضعفاء والفقراء ونقول: بعيد هم، أُقدّم أهل الأبّهات والمظاهر والصور وأهل الجاهات في الدنيا، وفي وصف نبينا: "كان يُحبّ الفقراء و المساكين ويجلس معهم" -يُحبّ ويجلس-، كثير من الذين يقصُر نظرهم من أهل الإسلام يرى أنه قام بواجب ومهمة نحو الفقراء معتقدين إذا أعطاه فلوسًا أو تبرع بشيء، هذا التبرّع لما جاءه.
لكن أهمّ منه وأعظم منه أنت تجلس معهم، أنت تُحبّهم بقلبك أمام الله تعالى؛ أعطيناهم وأنفقنا عليهم؛ نُريد قلبك يُحب، نُريد نفسك تتواضع، اجلس معهم، هكذا كان فعل النبي، "يُحبّ الفقراء و المساكين ويجلس معهم" صلى الله عليه وسلم وعلى آله.
ولذا سيدنا سليمان النّبيّ يخرج وهو النّبيّ الملك، يخرج إلى بيت المقدس يدوّر الفقراء يجلس معهم، يقول: "مسكين جالس مساكين"؛ قال سيّد الخلق في دعاء أهل الحقّ: "اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وَتَوَفَّنِي مِسْكِينًا، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ". قالوا: فالمساكين فقرًا. لو قالوا: واحشر المساكين في زمرتي. أمّا أن يضفي إليهم فقرًا: "وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ". فما أعجب حالهم!
يقول: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ.. (32))؛ فالقضية كلها تُعالج هذه النّظرة التي سبق الكلام عنها. يقول أبعدهم من قدّامنا لا تتركهم يجلسون عندنا، ما ندري يُؤذوننا، إذا آمنا بك سيُؤمن من ورائنا وأمثال ذلك. قال الله: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ (28))، ولا يزال يضرب الأمثال هذا المصير في الآخرة.
(وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ) -عاشا في الدنيا، واحد مؤمن متواضع صادق مُنفق في سبيل الله، والآخر كافر مغترٌّ زاهٍ بزخرف الحياة الدنيا- (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ) -بُستانين كبيرين من أعناب، مُمْتَلِئَتَيْنِ عنبًا- (وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32))، النخيل والأعناب والزّرع، غاية في حسن المزرعة والبستان، (جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا). جنتين يعني بستانين. البستان إذا كبر شجره وزان حتى صار يدخل فيه الإنسان فيُخفيه الشجر، سُمِّيَ جنّة، لأنّ معنى جنة يعني سَتْر. استجنّ الأمر: استتر، فهذا الذي صار يستُر يسمى جنّة. فهذا البستان الذي يستر داخله بِطول شجره وحسنها يقال جنة.
(جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ) -أعطت- (أُكُلَهَا) -كاملًا- (وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا)، ما نقص فيها شيء ولا تخرّب منها شيء. فجميع أشجار العنب والنخيل والثمر كامل بجميع ما يخرج منه على أَوْجِ الكمال- (وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا ۚ وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33))، ونهر عَذْبٌ يمشي بينهنّ، وسط الجنتين. ماذا تشوف؟ ممتاز!
(وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ) وفي القراءة الأخرى: (ثُمْرٌ). ثَمَرٌ أو ثُمْرٌ. -يعني فوق هذا عنده أنواع الأثمار، ومنها الذّهب والفضّة، ومنه كلّ ما يُستثمر ويُثمر- (وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ) -الثاني ما عنده شيء من البساتين ولا عنده شيء من الأموال- (وَهُوَ يُحَاوِرُهُ) -من حَارَ بمعنى رَجَع، يعني يُرَاجعه ويتبادل معه الحديث- (أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)). ومثل هذا لسان حال أنواع المُغترّين، سواء بعلوم، سواء بصناعات، سواء بهندسة، سواء بجيش، لسان حال يقول للآخرين: أنا أعزّ منك مالًا، أنا أكثر منك مالًا وأعز نفرًا؛ فإن قالوا مثل هذا، فالمَآل مثل مآل هذا، (أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا) يعني أولاد ينفِرون معي، نفرًا، أولاد، عبيد، حشم، خَدَمَ، لا يوجد عندك هذا، ما لك أحد معاك ولا لك هكذا.
(أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ)، الآن يستعرض، ويعمل استعراض، ويعرض ما عنده، ويعمل دعايات: عندي، عندي، عندي، كما يفعل الكثير من الناس، ومثل هذا. (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ)، بكُفره بربّه ونسيانه لمصيره وآخرته وتكذيبه وإنكاره، (ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ) -فماذا تغني عنه هذه الأموال وهو ظالم لنفسه؟ وكمال الظلم، انظر عنده- (قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا (35)).
هو يقول: لو دام لغيرك ما وصل إليك؛ لو كان سيدوم، ما يصل لعندك؛ إلّا يوم تقليب، تقليب وتغيير، لا يوجد يدوم؛ أمّا كراسي القرب من الله، هذا ثابت، ادخل فيها، وما أحد يقدر يغيرك. ما الذي سيصنعون فيك؟ يسبّوك ويشتِموك ويقتلوك؟! أنت على الكرسي، في المنصة إلى الأبد لأنها منصة الواحد الأحد الدّائم الباقي جل جلاله؛ فاطلب لك من هذه الكراسي الطيبة تجلس عليها، ما أحد يقدر يُنزّلك، ولا انقلاب ولا ثورة ولا مشاكل. ولا بليّة ولا ..
يقول: (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ) -بُستانه- (وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا (35)) -أنهار وأشجار ملآنة خضراء قويّة ما تزول- (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً.. (36))، أصلًا. ما هناك شيء إلا هذا الذي أنا به سكران الآن. بستان وأنهار وأشجار، ما عاد شيء غير هذا. قيامة، آخرة، جنّة؟! (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً). ما عاد شيء إلا هو هذا لعندي. لا حول ولا قوة إلا بالله!
هذا الإنسان طاغٍ، طاغٍ كبير. يشوف الذي يدخل في عقله ويشعر أنه يريد يلغي الأشياء كلها من حوله، (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن)، إن كان صدق هذا كلامك، آخرة، سنرجع، وما أدري ماذا؟! (وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي) -كما تقول أنت يا صاحبي- (لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا (36))، أيضا يكون لي كل بستان مثل هذا.
وقد قرأنا قول الله عن واحد من الكفار من قريش: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا) [مريم:77]؛ يتقاضى بعض الصحابة مال دين عنده، -أعطني حقي- يُماطله، طالبه. قال: أنت تقول بعد ذلك في آخرة، لا؟ قال: خلاص بعد ذلك إذا جئنا في الآخرة، أنا عندي بساتين هناك وعندي مال، تعال أعطيك حقك؛ فقصّ الله خبرهم في القرآن: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْدًا)، ما هذا المنطق؟ ما هذا التجَرُّؤ؟ ما هذا القياس الفاسد؟ ما قلّة العقل وقلّة الأدب هذه؟
يقول: (وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا (36))، سأُحصّل أحسن من هذا؛ فهذا قياسه، قال: ما دام عندي هذا في الدنيا، فأحسن بعد ذلك أُحصّل في الآخرة؛ طيب!، أقمت هذا على أيّ أساس؟ على أيّ علم؟ على أيّ منطق؟ أعطاك هذا في الدنيا فكفرت به وكذّبت رُسُله وأشركت معه وتقول سيأتينا في الآخرة؟
(قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ) -مؤمن- (وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ)، نسيت أصلك أنت؟ أصلك ووجودك تراب؛ فبنو آدم كم أعدادهم في الحضر الحاضر؟ وكم الذين قد ماتوا؟ وكم سيولدون منهم؟ أصلهم كلهم حفنة تراب، كُوّن منها آدم؛ هذا أصلنا كلنا، نحن وإياهم. كلكم لآدم، وآدم من تراب. ففيم الكِبْر؟ ففيم التّعالي؟ آل الشرق والغرب، كم مليار اليوم على ظهر الأرض؟ إذا عندنا خمسة مليار على ظهر الأرض، كلّهم أصلهم حفنة تراب، والذين قبلهم من تراب.
(أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ) -تسلسل من تراب وتناسل من نطفة- (ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَّٰكِنَّا) -يعني لكن أنا- (هُوَ اللَّهُ رَبِّي) -أنا مؤمن بهذا الإله وخاضع لجلاله، مُتعلّق به وواثق به- (هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38))،وأنت لو فيك عقل، إذا رأيت هذا الذي عندك، تذكّرت قوّة الذي أنشأه لك، وأنّ هذه القوة قادرة على أن تُهلكه في لحظة.
(وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ) -يعني هلَّا إذا دخلت جنّتك- (قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ.. (39)).
هذا معنى "ما شاء الله"؛ دائمًا نقول "ما شاء الله"، ما معنى "ما شاء الله"؟
(قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ)، إذا دخلت جنّتك وبستانك، قل مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، لكنك مغرور بواقع الحال المُعرّض للزوال؛ ما فكّرت في الماضي والأصل، ولا في ما يُمكن أن يكون في الآتي والمستقبل؛ ومع ذلك تدّعي أنّك العاقل وأنّك الواعي وأنّك المثقّف، وقَصُر نظرك على واقع الحال، ونسيت الأصل، ونسيت ما يُمكن أن يحدث ويأتي، يقول له. (إِن تَرَنِ) -في واقع الحال الآن- (أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا (39))، وهنا قال: (أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)) يعني ولدًا وحشمًا متعددًا.
وقال: (إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا (39)):
(وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا(39)) -ترابًا خالصًا- (زَلَقًا)، يَزْلَق من يقف عليه، ما فيه شجرة، ما فيه ثمرة، ما فيه...
(فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا) يغور عليكم، لا تدركونه بيدك ولا بدلوٍ ولا..، (أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا)، (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ) [الملك:30] الله ربّ العالمين.
قال: (أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41))، هذه نصيحة المؤمن العاقل الواعي، ولكن ذاك ما اكْتَرَثَ بها:
يقول: كم خسرت؟ كم حطّيت في هذا؟ كم صرفت من أموال وهنا وهناك؟ (عَلَىٰ مَا أَنفَقَ فِيهَا) -ما عاد قادرًا عليها هيّا- (عَلَىٰ مَا أَنفَقَ فِيهَا)؛ لأنّ هذا كان باختياره، هو يحطّه وهو يضعه والحين رفعه.
قال: (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ)، (وَأَعَزُّ نَفَرًا (34))، هات نَفَرَك هذا، هات الخَدَم، هات الحَشَم، هات الأولاد، هات القوّة التي معك. الله الله الله الله، (وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا (43)).
يقول الله: (هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ):
(هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا) -يُعطي الثواب الأحسن- (وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)) عاقبة ومصير.
يقول بعض العارفين بالله: إذا دخلت جنّتك من العلوم والأعمال والمعارف والفتح، فلا تكن كَمَنْ ذَمَّهُ الله وتقول: (مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا (35)) وما ظننت أبدًا أن تُجَرَّبَ بي. ولكن قل كما قال الرجل الذي مدح الله: (وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.. (39)) -سبحانه وتعالى- (مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) قويّة الأثر في دفع شرّ الأعين.
حتى قالﷺ: "مَنْ أَعْجَبَهُ شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ أَوْ وَلَدِهِ فَقَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ". ولأنّه قد يُصيب الإنسان بالعين ماله أو ولده أو نفسه؛ يَسْتَكبر شيئ ممّا أُعطِيَ فيُصيبه بالعين من نفسه، يَعِينُ نفسه بنفسه، وإنما يدفع العين منك ومن غيرك عنك وعن غيرك: "مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ"؛ هذا من أقوى ما يندفع به الشّرّ، وخصوصًا العين، و"لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ" مع "لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ" كنز من كنوز البرّ أي كنز من كنوز الجنّة.
يقول سيدنا أبو موسى الأشعري: كنت مع النبيﷺ لمّا سافر في تبوك، قال كنت خلفه وقلت في نفسي: لا حول ولا قوة إلا بالله، في نفسي فالتفت النبي ﷺ وقال: "يَا أَبَا مُوسَى، هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟ قُلْ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ فَإِنَّهُ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ". في هذا خروج الإنسان عن غروره تمامًا، والْتِجَاؤه إلى صاحب الحول والقوة، فيكون فيها كشف البلاء ويكون فيها جلب الخير والرخاء. "مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ". هذا من خير الكنوز؛ (مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَىٰ رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ.. (40)).
ثبّتنا الله وإياكم، ونظر إلينا وإليكم، واجعلنا من الصّادقين معه، واجعلنا من المنظورين بعين عنايتك، واجعلنا من الرّابحين في هذا الشهر، رابحين في هذه اللّيالي، في هذه الأيام، والرّابحين في هذه المجالس، الرّابحين في هذه الساعات والأوقات.
اللّهمّ اجعل أرباحنا كبيرة، واجعل عطايانا وفيرة، وسِرْ بنَا في خير سيرة، وصفِّ لنا كل سريرة، ونوِّر لنا كل بصيرة، وأدخلنا في خير قطيرة، واجعلنا مع أهل الحظيرة، كن لنا بما أنت أهل يا حي يا قيوم، بَلَّغنا ما نروم وفوق ما نروم. واجعل رمضان هذا من أبرك الرّمضانات علينا وعلى جميع الحاضرين والسّامعين وأحبابنا وأهل لا إله إلا الله أجمعين.
بسر الفاتحة إلى حضرة النبي
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله.
14 رَمضان 1434