(535)
(339)
(364)
درس يلقيه الحبيب عمر بن حفيظ في تفسير سورة الكهف بعد الفجر ضمن دروس الدورة التعليمية التاسعة عشرة بدار المصطفى 1434هجرية.
﷽
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110))
محمد، فهدانا به إلى منهج الهدى والرَّشد، وجعلنا به (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [ال عمران:110]؛ فنال المنزل المتفرِّد، صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه وعلى آله وصحبه، وأهل محبته وقربه، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
ونأتي إلى ختام سورة الكهف في تأمل بعض معانيها، وعسى أن ندخل في:
وتلك كهوفٌ مباركة، من أوى إليها نشر الله له من رحمته وجعل له من أمره رشَدًا.
(فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا (16)):
فها نحن نقرأ أخبارهم حتى وسط الصلاة ونذكرهم، حتى كلبهم، في صلواتنا، فكذلك:
ينشر له ربه من رحمته ويهيئ له من أمره رشدًا؛ بل خير الله على هذه الأمة أعظم مما كان على الأمم التي سبقت، وهؤلاء من الأمم الذين سبقوا من بني إسرائيل.
وصلنا إلى قوله (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107))، اللهم اجعلنا منهم.
وقد تقدم معنا ذكر النُزُل للكفار:
فانظر الفرق بين الفريقين، وكلٌّ له نُزُل يرجع إليه وينزل فيه ويعود إليه؛ (إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا)، و(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)).
ما أعظم الفرق بين الفريقين!
إلا أنَّ الناس في هذه الحياة في عالم العمل، ليسوا في عالم الجزاء، والجزاء مقبل عليهم. ومع ذلك، المستبصر المسترشد العاقل يشاهد أحوالًا في هذه الدار، فيقول: كادت أن تكون دار جزاء! مع أنها دار عمل، والجزاء مقبل، ولكن كادت أن تكون دار جزاء، لا إله إلا الله؛ لأنه لا يتصرف أحد فيها تصرفًا إلا ناله أثر منه، في شؤون حياته في الدنيا قبل الآخرة:
ويُذكر أن:
سبحانك! من ينظر الأمر يقول هذا مشكلة كبيرة وهذا خارج عن الإنصاف والعدل، وإذا به عين العدل والإنصاف! وفوق تدبيرنا لله تدبيره، فسبحان صاحب المملكة، صاحب الحكم -جلَّ جلاله-..
وهؤلاء يعيشون في الوهم والخيال، ويقولون مقال بعد مقال، بهرجة بعد بهرجة، وليس بيدهم من الأمر شيء، وأكثر ما تحصل من النتائج على أيديهم هي إضرارٌ بخلق الله -تعالى- وتعبٌ لخلق الله -سبحانه وتعالى-.
وقد افتتح القرآن في أول سورهِ، ذكر هذه الأوهام والخيالات عند كثير من الناس:
يقول سبحانه وتعالى عن الكفار، غرَّ هؤلاء دينهم، ما درَوا من المغرور! ما عرفوا من هو المغرور بالحقيقة، من المغتر! يقول جلَّ جلاله وتعالى في علاه: (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَٰؤُلَاءِ دِينُهُمْ)، ونحن نقول لهم:
وديننا:
لكن أنتم، أهواؤكم ونفوسكم وشهواتكم غرّتكم، ما سميتموه تقدمًا غركم، ما سميتموه حضارة غركم، ما سميتموه قوة غرَّكم! أنتم المغرورون! و(إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَٰؤُلَاءِ دِينُهُمْ) [الأنفال:49].
فمن بقي منكم على هذه الحالة فمات، سيتمنَّى أنه يومًا حضر معنا مثل هذا المجلس لحظة في عمره، ولا تنفعه حسرته؛ وسيبكي دمعًا ثم دمًا، فتعرفون عندئذ من المغرور!
يقول سبحانه وتعالى؛ إذا صاحوا في النار، قالوا: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي) -تسمونهم مغرورون أنتم- (يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ) [المؤمنون: 107-111].
تصير الدنيا كلها والسنوات التي قضوها، في نظرهم، يومًا أو بعض يوم، ما عاد تساوي شيء( فسألوا العادِّين * قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ۖ لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ):
(إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا)، كل هذا بالنسبة للآن، لمستقبلكم قليلًا: (إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ۖ لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) [المؤمنون: 112-116].
هذه حقائق، هذه حقائق من الخالق (لَّا رَيْبَ فِيهَا) [الحج:7]؛ كن صحيح الإيمان بها، كن ذا يقين عليها، وعش كذلك حتى يميتك الله على ذلك، فتُحشر مع أهل خير المسالك، تسلم من جميع المهالك. الله يثبتنا ويرعانا.
قال الله في هؤلاء المستهزئين قبله: (ذَٰلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)) يتحدثون عن آيات الله في الكون أو عن آيات القرآن يقولون؛ أنتم ما عندكم إلا هذا! لا تعرفون شيء!
وما يكفي أنهم كذّبوا وصاروا أيضًا يستهزئون.
قال سبحانه وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، اللهم حققنا بالإيمان، وزدنا في كل نفَسٍ إيمانًا، وارفعنا أعلى مراتب الإيمان، وتوفنا مؤمنين مسلمين. يا رب..
رب أحينا شاكرين *** و توفنا مسلمين
نُبعث من الآمنيـن *** في زمرة السابقين
بجاه طه الرسول *** جُدْ ربنا بالقبول
وهب لنا كل سُــــؤْل *** رب استجب لي آمين
آمين آمين آمين يا رب العالمين يااكرم الاكرمين.
يقول: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) حقَّقوا إيمانهم بالعمل بمقتضاه، (وعملوا الصالحات):
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107))، ويأتي الفردوس، وهو أعلى منازل الجنة، كما جاء في الصحيحين:
الأنهار الأربعة في الجنة تتفجر من الفردوس وتنزل، ثم لأهل الفردوس تسنيم، وشراب خاص يُمزج منه لبقية أهل الجنة، قال سبحانه وتعالى: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ ۚ وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ)، يضعون له قليلا من التسنيم، لكي يكون ممتاز، ما هي التسنيم؟ قال: (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) [المطففين:22-28].
ولفظة الفردوس جاءت في عدة لغات، في الرومية وفي الحبشية وفي غيرها من اللغات:
نسأل الله الفردوس. نسأل الله الفردوس الأعلى والدرجات العلى من الجنة.
وسمعنا نبينا يقول لأم حارثة: "وإن ابنكِ أصاب الفردوس الأعلى". في كل زمن من أمة محمد ناسٌ يصلون الى الفردوس، في كل زمان في ناس يصلون. ما من عصر من عصور الأمة إلا وفيه ناس يقلّوا أو يكثروا:
يا الله نسألك الفردوس الأعلى والدرجات العُلى من الجنة، من غير سابقة عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا حساب.
(كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا):
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)):
إيمان وعمل صالح، أبشر! فإن الرحمن على لسان نبيه بشّر أهل ذلك ببشائر كثيرة في كتابه العزيز:
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا) الله أكبر، ما أحسنها من نعمة! خالدين فيها. (خَالِدِينَ فِيهَا) الله أكبر:
فما من نقص، فلا تفزع، تقول أشرب أشرب، بعد ذلك سينقص، لا شيء ينقص، لا ينقص شيء. سبحان الله!
فهم في هذا النعيم الأجلّ المتجدد، حتى يمتنع النوم عنهم، ما في نوم! فرح متجدد، وما يحتاجون الى النوم أصلًا، النوم يُعدِمهم نعيم، يُعدِمهم حياة، النوم هو أخو الموت، لا يوجد في الجنة موت ولا يوجد أخو الموت، لا موت ولا أخو الموت؛ لا يوجد في الجنة.
(خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108))، أي تحوُّلًا؛ لا يريدون أن يخرجوا إلى مكانٍ ثاني، فقد أنسوا، أنِسُوا بالمنعم في لذاذة النعيم الأصفى:
ما هذا؟ شيء في الدنيا تحصله؟ ابحث، يمكن عند بعض الحضارة في مثل هذا؟ حضارة حقارة، ترجع حقارة في كثير من شؤونها بعد ذلك، لا شيء من هذا، وخالدات فلا نموتُ أبدًا! أين تحصِّل هذا؟
"إن لكم"، يُقال لهم عندما يُحسَّسُّون بالإنعام والإفضال، عندما يدخلون الجنة، يقول: "إن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدًا، وإن لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبدًا، وإن لكم أن تصِحّوا فلا تسقموا أبدًا، وإن لكم أن تخلدوا فلا تموتوا أبدًا".
فهل يفكِّرون أن يتحوّلوا إلى مكانٍ ثاني؟ (لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا)، يذهبون إلى أين؟ هذا أحسن مكان!
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108))
لمّا قال لبعض الصالحات، جاءت من عند قومٍ بهذا المعنى؛ دائمي المواصلة من الحق، دائمي العكوف على ذكره وعلى تلاوة كتابه، ويواصلهم الحق بشريف المواصلة: من أين جئتِي؟ قالت: "جئتُ من عند قوم كل زمانهم رمضان". جئتُ من عند قوم كل زمانهم رمضان.
ولهذا، وما كان يشعر به الصحابة من هذه المعاني، خافت السيدة عائشة، لأن أي واحد يقوم في محل النبي في وقت مرضه يتشاءمون الناس منه، يكرهونه؛ لأنهم مع وجود الحبيب يذوقون مما لا يذوقون مع غيره، و يحسون ويشعرون، فإذا جاء واحدٍ آخر ليقوم مقامه…
فلما سمعته يقول: "مُرُوا أبابكر فليصلِّ بالناس"، فقالت: أو عمر يا رسول الله، إن أبا بكر رجل رقيق، لا يملك، إذا قام مقامك سيبكي، فلا يسمِع الناس، فسيبكي. قال: "مُرُوا أبا بكر فليصلِّ بالناس". قالت: إن أبابكر رجل رقيق، إذا قام مقامك لا يسمع الناس من البكاء. قال: "إنكن صواحبات يوسف! تظهرن ما لا تبطنَّ!". عندك قصد ثاني وتقولين هكذا تتعذرين. فقد عرف النبي قصدها. "مُرُوا أبابكر فليصلِّ بالناس". يأبى الله والمؤمنون إلا أبابكر.
فلهذا، وهم في حياته الشريفة قبل مرضه، خرج يوماً يصلح بين بعض القبائل، فحضر وقت الظهر وتأخر الوقت، فسألوه سيدنا بلال عن النبي، في بيوته كلها غير موجود، حوالي البيوت في الأماكن التي ينزل فيها ويمر عليها غير موجود. فجاء إلى سيدنا أبي بكر، فقال: رسول الله ذهب إلى مكان آخر، غير موجود هنا، فقال: أَقِمِ الصلاة وأُصَلِّي بالناس، فأقام الصلاة وصلى بالناس.
وصل النبي ورجع من هناك وهم يصلُّون، فشق الصفوف حتى دخل إلى الصف الأول خلف أبي بكر فأحرم. فصفق الناس على أبي بكر، وكان لا يلتفت في صلاته، ما الداعي للتصفيق؟ لو لم يكن الصحابة أصحاب ذوق، لو لم يشعروا بحلاوة! ما الداعي للتصفيق هذا؟ تصفيق طويل عريض "دقدقدقدق". سيدنا أبو بكر التفتَ، وجد الحبيب، فأخذ يتأخر، فأشار إليه : "اثبُتْ مكانك". فوقف لحظة لامتثال الأمر، ورجع، حَمِد الله أنه رضيه رسول الله، ورجع، فتقدم النبي ﷺ فأكملَ بهم الصلاة.
قال: "ما لكم إذا نابكم شيء في الصلاة صفقتم؟ من نابهُ شيء في صلاته فليسبِّح، فإنما التصفيق للنساء":
قال: "وما منعك يا أبا بكر أن تمكث محلك حيث أمرتك؟". قال: ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله.
فما يفقه الصحابة من أنهم يريدون النبي أن يتقدم، يا أبا بكر، أخرج الآن، إبتعِد! جاء الإمام الكبير، جاء الحظ العظيم! نَعم أنت إنسان صالح وتقيٌّ، وفرحانين بالصلاة بك، لكن إذا جاء الأكبر، انتهى الأمر، هذا يتقدم. لماذا هذا؟
الله يُقرُّهم على هذا! يقول: وأنت ياحبيبي، اقسِمِ الصلاة بين الفريقين، جماعة يحرسون، وجماعة يصلون، التحريم لفرقة والتسليم للثانية:
هؤلاء تُحرِم بهم وهؤلاء تسلم بهم؛ قسَّم الصلاة بينهم، ماذا فيها؟ (مَعَكَ)؛ هذا السر، هذا الذي فيها: (وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ)، الله اكبر.
(مَعَكَ)، الله يقول هكذا، فهو الذي قّرر هذا الذوق من فوق -سبحانه وتعالى-. والاّ لماذا هذا الذوق؟ لماذا هذه الدوشة والربشة؟ يكملون ركعة واحدة، يذهبون ويأتون؟
يا ربِّ صلِّ عليه، دعهم فهم معذورون يصفقون! وأكثر مما صفقوا، لمّا جاء الحبيب الأعظم، ما عاد رضوا بأبي بكر،؛ أُخرج، كثّروا التصفيق، التفت فرأى الحبيب صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
وهؤلاء: (لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108))، فأين يريدون أن يتحولوا؟ دار فيها محمد، وفيها آدم وإدريس ونوح وهود وصالح وإبراهيم وموسى وعيسى، الله! فيها الصديقون والمقربون! فأين يذهبون؟
(لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا)! اذهبوا إلى أي مكان آخر، الله أكبر؛ لهذا قالوا:
في جنةٍ ما شاقني من وصفها *** إلا لكون الحب فيها خيَّمَ
تابِعْ هذا الذوق عند الصحب الاكرمين، يقول: إن دخلتُ الجنة كنت في منزلة دون منزلتك فلا أراك، فلا تطيب لي، في عندك من سرِّ ذوق (معك)؟
فظلَّ ثلاثة أيام؛ لا أكل، لا شرب، لا نوم؛ خشية من فراق محمد، يفكّر في الآخرة، يقول: إن لم أدخل الجنة ما رأيته! ماعاد همه العذاب الشديد! قال: لكن رأس العذاب أن لم أرَ هذا! وإن دخلتُ كنت في منزلة دون منزلتك، أما ألهاك ما فيها من القصور والأنهار! قال: أين يكون هذا؟ ما حقه أن يُلهي هذا القلب الذي صفا وخلص، أن يُلهيه عن محمد! فقد ذاق من صحبة محمدٍ ما ذاق وهو في هذه الدار، فما كانت الجنة تلهيهم عنه! اللهم صلِّ عليه وسلم.
وَنُسلِمهُ حَتّى نُصَرَّعَ حَولَهُ *** وَنذهلَ عَن أَبنائِنا وَالحَلائِلِ
أرأيت هذا الذوق؟ سيدتنا الصحابية هذه الأنصارية:
زوج، أب، أخ، ابن، أربعة مرة واحدة في لحظة واحدة بشروها بقتلهم! لكن جوابها: ما فعل رسول الله؟ قالوا: أما رسول الله فهو بخير كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه. أخذ بيدها بعض الصحابة، فلما وقع نظرها على وجهه الشريف قالت: كل مصيبة دونك جللٌ يا رسول الله!
كيف نحيا من دون هذا الذوق؟ هل ممكن أن تكون فينا حقائق الإيمان من دون هذا الذوق؟ هل يمكن؟
نتهيأ لمرافقة هذا الإنسان، تسمعون دائمًا الصالحين كلهم يسألون الله مرافقة هذا النبي، صحبة هذا النبي، رؤية هذا النبي.
هل يتم ذلك من دون هذا الذوق؟ من دون هذا الشوق؟ نتشوق إلى أي شيء؟ ما الذي يجعلنا نتشوَّف إليه؟! إلى مراكز أو إلى وظائف أو إلى وزارات أو إلى ديار أو إلى سيارات أشدّ من شوقنا لهذا الحبيب؟ عسى أن يخرج رمضان وأنت ذائق، تذوق مقام وقدر حبيب الخالق، ونعيم القرب منه والنظر إليه. "يَوَدُّ أحَدُهُمْ لو رَآنِي بأَهْلِهِ ومالِهِ".
في جنةٍ ما شاقني من وصفها *** إلا لكون الحِبِّ فيها خيَّمَ
الله اكبر. وقال عن موطنه وبلاده:
ما زمزم الحادي بذكر نزيلها *** إلا وأنعشني إذِ ما زمزما
قال:
إني إذِ ذكرتُ منازل سادتي *** كادت دموع العين أن تجري دما
أوَ شاهدت عيناي موطن قربهم *** ألفيتني أحرمتُ فيمن أحرما
قسمًا برب البيت ما ذُكر النَّقا *** والمُنحنى إلا وكنتُ متيما
وأنتم في هذه الأذواق، في لمحة مما يحصل لكم ويكون بينكم وبين هذا المصطفى المختار للحق.
يا ليلةً بات الحبيب يدير من *** كاس الوصال مدامةً ما أنعَمَا
يا ليلةً بات الحبيب يدير من *** كاس الوصال مدامةً ما أنعَمَا
الله أكبر، إنما المنازل بالنزيل، والفردوس فيها الحبيب الجليل، فكيف لا تكون محبوبة لنا؟ اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى والدرجات الأعلى من الجنة، اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى والدرجات الأعلى من الجنة.
قال: (خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا(108))، لا يريدون الذهاب إلى مكانٍ ثانٍ! أين يذهبون؟ أين يذهبون؟ الله الله الله الله الله الله! إن شاء الله، ومن قبل الفردوس نكون على حوضه، نكون تحت لوائه، نكون معه في ظل العرش. يا رب! ولا عند أحد ثانٍ! فأين نذهب؟ إلى أين نذهب؟ من خرج عن هذه الدائرة فأين يذهب؟ يدخل في أي دائرة؟ يرافق من؟ هل هناك أحد يعوَّض عن هذا؟ الله الله الله الله!
قال: (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي) -لعلمه وحكمته- (لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي..(109)):
أكبر ما شاهدتم بعقولكم وعيونكم في الأرض؛ البحار.، فَلْنَصَوِّرْ لكم؛ لو كانت هذه البحار كلها مداد، والأشجار في الأرض كلها أقلامٌ:
(قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي)، قل لهؤلاء اليهود المغترين بعلمهم: (لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109))، في الآية الثانية قال: (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) [لقمان:27]، وهكذا.
(قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ):
(يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ..(110)):
كان جالسًا مرة في المسجد، مُحْتَبِي بيديه هكذا، جاء رجل يريد أن يقابلَ النبي، فلما وقع نظره عليه هابهُ وأخذ يرتعد، قال: "هوِّن عليك، هوِّن عليك، هوِّن عليك! إني لستُ بملِك". وهل الملوك أولهم وآخرهم يساوون شيئًا عنده؟ عند ظُفْرِه ﷺ! "هوِّن! إني لستُ بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد" -اللحم المجفف الذي يأكله الفقراء- هذه أنا ابن واحدة من قريش، كانت تأكل هذا اللحم، صلى الله عليه وعلى اله وصحبه وسلم.
(قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ) فأنا المؤتمَن على كنوز توحيده وأسرار الهداية لعظمة هذا الإله، لتذوقون بها حلاوة المناجاة معه في الدنيا، وحلاوة الجوار له والنظر إلى وجهه في الآخرة. (يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ).
(فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ):
فالرجاء يأتي بالمعنيين، يعني أن له حساب عنده، عند لقاء ربه، ويؤمن بذلك ويوقن، فيؤمِّل أو يخاف؛ لذا قال: (فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)).
يقول له بعض الصحابة: إني أعمل العمل فإذا مُدِحتُ عليه سرَّني ذلك، فنهاه عن الالتفات إلى الخلق في العمل، وقال له القائل: الرجل يقاتل حمية، ورجل يقاتل شجاعة، ورجل يقاتل لِيُرَى مكانه، أيُّهم في سبيل الله؟
الشرك الخفي:
هذه عبادة غير خالصة: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البينة:5]، (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) [الزمر:3].
وختم السورة بذكر:
والله يجعلنا من المُخلصين، من (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، من الموفقين، من الصادقين، من المثبتين، من الممنوحين الرضوان الأكبر، من الظافرين بالخير الأوفر، والعطاء الأجلّ من حضرة الملك الأجلّ -جلّ جلاله وتعالى في علاه-، بوجاهة المصطفى وأهل قُربهِ، ومن حلَّ في قلوبهم نور القرآن.
نسأل الله بجاههم أن يجعل قلوبنا محلًّا لنور القرآن، وسر القرآن، وبركة القرآن، وفهم القرآن، ووعي القرآن، وتعظيم القرآن، والعمل بما في القرآن، حتى يحشرنا مع أهل القرآن، وهو راضٍ عنا.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي ﷺ
13 ذو القِعدة 1434