(535)
(339)
(364)
درس يلقيه الحبيب عمر بن حفيظ في تفسير سورة الكهف بعد الفجر ضمن دروس الدورة التعليمية التاسعة عشرة بدار المصطفى 1434هجرية.
﷽
(قَالَ هَٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي ۖ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ۖ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) ۞ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ۖ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101))
وهذه آخر جمعة في الشهر الكريم، لا جعله الله آخر العهد منه، ولا حرمنا بركة خاتمته. فلا تأتي الجمعة التي بعدها إلا وهي في شوّال، إمّا أوّل أيّام شوّال وإمّا ثاني أيّام شوال؛ فأحسن يا ربنا لنا خاتمة شهرنا بخير ما تختم به رمضانات المحبوبين من عبادك المقبولين عندك.
والحمد لله الذي أكرمنا بتدبّر آيِ الكتاب وبقراءة سورة الكهف في هذا اليوم، يوم الجمعة، ليحصل المقبول منّا على غفران إلى الجمعة الأخرى، وليحصل على نور يمتد له من محلّ قراءتها إلى البيت العتيق، ومن محلّ قراءتها إلى السماء، ثم يستمرّ إلى الجمعة الأخرى، تقبّل الله منّا ومنكم.
وصلنا في تدبر كلام ربنا في هذه السورة العظيمة إلى قوله جلّ جلاله:
وهكذا طبيعة البشر، حتى حدثنا النبي ﷺ عن ثلاثة من بني إسرائيل اختُبروا في هذه النّفسيّة، فنجا واحد وهلك اثنان، حدثنا عن ثلاثة: رجل كان أقرع، ورجل كان أبرص، ورجل كان أعمى، وكانوا الثلاثة فقراء، فأجرى عليهم اختبار بسيط من تقلّب أحوال الحياة، فهلك اثنان ونجا واحد..
جاء إلى عند الأول بصورة إنسان أبرص، فسأل؛ أين صاحب الجِمال هذه؟ أين صاحب المال هذا؟ وصّلوه إلى عنده قال له: نعم، قال: انظر أنا شخص أبرص ولا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، فأعطني ناقة؛ قال له أعطيك ناقة؟! الأول أعطيه ناقة، والثاني أعطيه ناقة، والثالث أعطيه ناقة، كل من جاء يأخذ مني ناقة!؛ قال له: اتّقِ الله، أنا أذكر لك حاجة؛ أنا أعرفك كنت مثلي أبرص ولا تملك شيء، قال له: اذهب فقد ورِثت هذا المال كابراً عن كابر؛ هذه طبيعة الإنسان، هكذا نفسية الإنسان إذا لم تتهذّب؛ فقال: إن كنت كاذباً فردّك الله إلى ما كنت. فعاد أبرص، وهلك الواد بما فيه؛ فعاد كما كان فقير وأبرص.
فجاء إلى الثاني الذي بصورة أقرع، أين صاحب البقر هذه؟ سأل عليه، لمّا وصّلوه إلى عنده قال: يا هذا انقطعت بي الزّاد وأنا أقرع كما تراني والآن أحتاج إلى بقرة من عندك، تعطينا؟ حتى أتبلّغ بها، لا بلاغ لي اليوم، قال بقرة؟ّ ويجيء واحد ثاني أعطيه بقرة، وثالث بقرة، من جاء يأخذ بقرة؟! قال له: اتّق الله، أنا أعرفك كنت مثلي أقرع ولا تملك شيء، قال له: اذهب فقد ورثتُ هذا المال كابراً عن كابر. فقال الملَك: إن كنت كاذباً فردّك الله إلى ما كنت؛ فتناثر شعر رأسه وعاد كما كان أقرع، وهلك الواد بما فيه، ورجع كما كان.
ثم ذهب إلى صاحب الغنم، أين صاحب هذا الأغنام؟ أين صاحب هذا المال؛ جاءه في صورة أعمى؛ ووصّلوه أمامه، قال له أنت صاحب هذا؟ قال: نعم؛ قال له: انقطعت بي الزّاد وأنا أعمى، ولا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، قال له: فاسألك وحدة من الغنم تعطينا؛ قال له اسمع، قد كنت أعمى فقير مثلك وقد ردّ الله إليّ بصري وأعطاني هذا، فاليوم لا أمنعك من شيء خذ ما شئت، خذ الذي تريد، فلما قال هكذا، فتح الملَك عينيه وقال: بارك الله لك في مالك وهنيئا لك، إنّما أنا ملَك أرسلني الله إليكم الثلاثة فَهَلَكَ صَاحِبَاكَ ونجوتَ أنت؛ وزاد ماله بركة باعترافه ولِشُهوده المنّة لربّه.
أمّا صاحباه، فورِثاه كابر عن كابر، كيف؟! ولو كان ورثه من عشرين قرناً، واجب عليه أن ينكسر ويتواضع ، وفعلاً كان فقيراً وأعطاه الله إيّاه، ورجع يتكبر!
هذه أمثلة لطبيعة النّفوس البشرية، لهذا وكَّل الله تزكية نفوس البشر إلى أنبيائه، وجعل رأسهم سيدنا محمداً ﷺ، ثم جعل سرّ تزكيتهم متنقلاً في الأُمَناء من أمّته، قال تعالى: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ) [البقرة:151]، ولو كان شيء أهمّ في عالم البشر من تزكية النفوس يكون هو شغل الأنبياء، لكن هذا هو شغل الأنبياء يزكّون النّفوس؛ اللّهمّ آتِ نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خيرُ مَن زكاها.
(قَالَ هَٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي..(98)) وأدركنا رمضان برحمة الله، ومرّ علينا أربع وعشرون ليلة، ونحن اليوم في اليوم الرابع والعشرين بفضل الله ورحمته، ونحن بأسماعنا وبأبصارنا وبقوّتنا وبِعَافيَتنا، من أين جِئْنا بهذا؟ وَفوقنا صلوات، ووفّقنا لقراءة القرآن، ووفّقنا لحضور المجالس، (هَٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي)، يا ربّ أتمم النّعمة علينا.
(فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ) أو (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكًّا..(98)) وقد شرحنا "دكًّا" بمعنى:
لا إله إلا الله! مشيراً إلى أنّ كل شيء له نهاية، وله تحوّل وله تغيير وله تبديل، فلا يُطمأنُّ إلى شيء غير الله جلّ جلاله. (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا) -ما هو رأيك في بيت العنكبوت؟ أصغر واحد يقول له هكذا يذهب- (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ) [العنكبوت:41]؛ قال لك كلّه سواء بيت العنكبوت واعتمادك على أيّ كائن مخلوق مثل هذا، أصلاً لا يقدر على شيء إلا بقدرة الله القادر سبحانه وتعالى.
(وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) ۞ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ)، يوم خروجهم من السّدّ، (يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) يفتكّون في الأرض، يملؤون الفِجاج والبحار، ويتدَاخلون فيما بينهم البين (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ..(99))، مثل الماء المختلط، متداخل الأمواج التي تضرب بعضها البعض، (يَمُوجُ فِي بَعْضٍ).
فلمّا كان ذلك من أكبر علامات القيامة، ذَكَرَ القيامة بعدها، قال: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99))، وعرفنا أيضاً وألْمحنا إلى أنّه نحن في حسابنا الوقت؛ السنة والسنتين طويل وبعيد، وأنه في حساب الواقع للحياة وحساب ما يكون بعدها، ليس بشيء.
وقلنا أنّ الآن عمر الأمّة المحمديّة ألفٌ وأربعمائةِ سنةٍ ونيف، كان في الأمم السابقة عمر الواحد منهم أو الجيل الواحد منهم.
حتى يُذكر أنّ امرأة بكت ابنها إذ مات وهو شاب ولم يتزوج بعد، وقد بلغ ابنها مائتين وخمسين سنة، مائتين وخمسين سنة؟! قالت: مازال شابا لم يتزوّج، مات وعمره مائتين وخمسين سنة! فتبكي لمّا مات وهو شاب. فقيل لها: كيف لو أدركتِ أمّة تجيءُ في آخر الزمان، يتعمّرون ما بين الستين والسبعين، وأقلهم مَن يُجاوز ذلك؟ فقالت: ماذا؟ ستون؟! سبعون؟! لو أدركتُهم لن أحتاج إلى بيت، أستظلّ بظلّ شجرة أو بحَجَرة؛ في الصباح بجهة الغرب والمساء من جهة الشرق، سبعين سنة لا أحتاج لبناء بيت.
ونحن جئنا بعدها نعمل أخبار طويلة وعريضة، ونكبِّر السنين هذه، وهي لا تساوي شيئاً؛ وهكذا فإنّ في ميزان الحق تبارك وتعالى هذا قصير. فالسّنوات الآن، وإلى أن تظهر العلامات الكبرى واحدة بعد الثانية، وهي بالنسبة لما قبلها من الزمن تُعدّ متتابعة، إلّا أنّها سنوات سنوات سنوات:
(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ..(99))، الصور قرن عظيم يلتَقِمُه سيدنا إسرافيل عليه السلام، المُوكّل بالنّفخ في الصور، ومن أجل أن تعرف أنّ الألف سنة والألفين قليلة، يقول النبي ﷺ: "قد الْتَقَمَ صاحب الصّور الصّور، أصغى بأُذنه وقدّم رجل وأخّر أخرى، ينتظر النفخ في الصور". من حين بعثة النبي ﷺ قال الوقت قريب، فاستعدّ للنّفخ؛ خلال السنين هذه، ألف سنة، ألف وشيء، قريب الألفين ستمر سريعًا، فهي مدّة يسيرة جدا بالنّسبة لِمَا مضى من عمر الدنيا.
في ليلة الإسراء والمعراج رأى عجوزاً تناديه ﷺ، ولم يلتفت إليها؛ ولَمّا تجاوزوها سأل جبريل عليه السلام عنها، قال: أمّا هذه العجوز التي نادتك فهي الدّنيا، هي تقول: إليَّ يامحمد! فلم يلتفت إليها، ولم يبقَ من عمر الدنيا إلا بمقدار ما بقي من عمر هذه العجوز.
أي أن فترة الطفولة والشباب كلّه قد ذهب وراح، والكهولة راحت، باقي الشيخوخة، نحن آخر الأمم، والدنيا عجوز آيِلَة إلى الفناء، ولم يبقَ من عمر الدنيا إلا بمقدار ما بقي من عمر هذه العجوز، أما إنّك لو أجبتها لآثرتْ أمتك الدنيا على الآخرة، ما عاد سمعنا بالزّهاد ولا بالأتْقِياء ولا بِبَقاء هذه الخيرات في الأمّة؛ ولكن بركة ثبات نبينا ﷺ، بتوفيق الله إيّاه وإلهامه إيّاه، نحن في بركة جميع الزّهّاد من الصّحابة والتّابعين وتابعي التابعين، في بركة ليلة الإسراء والمعراج، في بركة صاحب الإسراء والمعراج ﷺ.
(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) -النفخة الثانية- (فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99))، لأنّ النّفخة الأولى يصعق بها مَن في السماء ومَن في الأرض، (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ) [الزمر:68]، كيف (إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ)؟! هناك مستثنون لا يصعقون، إمّا في البرزخ وإمّا في السماء، من مثل سيّدنا موسى بن عمران عليه السلام؛ يُنفخ في الصّور ويُصعق النّاس كلّهم، وسيدنا موسى لا يُصعق.
حتّى إذا نُفخ النّفخة الثانية وانشقّت القبور، أوّل مَن ينشقّ عنه القبر سيّدنا رسول الله ﷺ، فيقوم، قال فأرى موسى عليه السلام مُعلّقا بقائمة من قوائم العرش، فلمّا يقوم ﷺ، ينزل سيدنا موسى ويذهب تحت لِوَاء الحَمْد.
(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ..(99)) إذاً نفختان:
بعد مقدار أربعين، يُحيي الله إسرافيل، فيقوم فيؤمر أن يَنفخ مرة أخرى، فإذا نفخ طارت كل روح من ثقبها تبحث عن جسدها في خلال الأربعين هذه، كل الأجساد التي بَلِيَت تتكوّن من جديد، كيف؟ يُنزل الله مَطَراً من السماء، فلا يصل إلى عَجْبِ الذَّنَبِ إلا نَبَت عليه الجسد الذي كان عليه، على هيئته يوم مات، فيرجع، سبحان الله!
وهكذا أخبرنا النبي ﷺ عن عجب الذنب، واليوم بأجهزتهم ومُتابعاتهم يكتشفونه، وأنّه منه يُرَكَّبُ الخلق يوم القيامة. يقول ﷺ: وَجدوا أيضاً أن التركيب يسبق منه هذا، أول ما يتكون في الجنين في البطن هذا عجب الذنب، منه يتكون باقي الجسد كلّه. سبحان الله! أخذوا مادة عجب الذنب، سلّطوا عليها مبيدات ما تَبِيد، يغلونها ما تتأثّر، حاولوا سحقها فلا تُسحق. قال ﷺ: "يَبْلَى من الإنسان كلّ جسده إلّا عَجْب الذّنب". صلى الله على الصّادق المصدوق. قال: "مِنْه ابْتَدَأ، ومنه يُركَّب الخلق يوم القيامة".
فإذا نزل هذا المطر، بمجرّد ما يُلامس عجب الذّنب ينبت الجسد، كما تُلامس المياه الحبوب فتنبت الشجرة، لهذا الحقّ كثيراً ما يُمثّل في القرآن إحياء النّاس بعد موتهم بإحياء الأرض بعد موتها بطلوع الأشجار من الحبوب، فتلقى قبر الواحد فيه؛ أربعين ألف، ثلاثين ألف جسد آخر.
فإذا نَفَخ في الصور وقد تَبَعثرت القبور، يجري كل روح في لحظة إلى الجسد الذي عاشت فيه، تعرفه، لا تذهب روح إلى جسد آخر؛ لا من الإنس ولا من الجن ولا من الحيوانات، كلّ روح تعرف جسدها وتمشي إليه على طول.
أنت تعرف طائرة من دون طيّار، كيف طائرة من دون طيار، أنت تعرف هذا في الدنيا، وتعرف الذّبذبات التي تمسك لك من هنا ومن هنا! كل رُوح لها علاقة بينها وبين عجب الذّنب والجسد الخاص بها، فلا واحدة تدخل في الأخرى أبداً، كل واحدة في صاحبتها على طول، (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ) [الزمر:68].
يقول أبو العلاء المعرّي:
صاحِ، هَذي قُبورُنا تَمْلأُ الرُحْبَ *** فأينَ القبورُ مِن عَهدِ عادِ؟
-كم؟-
خَفِّفِ الوَطْءَ! ما أظُنُّ أديمَ *** الْأرْضِ إلاّ مِن هَذِهِ الأجْسادِ
قال: جسد بعد جسد بعد جسد! كم اندفَنُوا من ملايين على ظهر الأرض وأكلتْهُم الأرض! سبحان الله! ويبقى مَن لا تَأكله الأرض، وهم الخمسة الأصناف:
فهؤلاء الخمسة لا تأكلُ الأرضُ أجسادَهم، تعرفهم الأرض بِأمر ربّ الأرض، يصل فما تلمس الأرض عينه ولا أذنه ولا يده ولا رجله، تأكل الثاني وهذا تتركه ما تأكل منه شيئاً. سبحان الله!
جَرَت سُيُول في أيام مُعاوية رضي الله عنه في المدينة بعد وَقْعَة أُحُد بنحو أربعين سنة، كَشَفَت قبور شهداء أُحُد، وإذا بهم كما وُضُعوا قبل أربعين سنة، سَوَاءً بسواء، ونَادَى الأمير في المدينة: مَن له شهيد في أُحُد، اخْرُجُوه لنقلهم إلى محلِّ بعيد عن السيل، فخرجوا ونقلوهم إلى المكان الذي هم فيه الآن، وراء قبر سيدنا حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، وسيدنا مصعب بن عُمَيرة وسيدنا عبد الله بن جحش رضي الله عنه. وراءهم في نهاية الدّور، بقي عدد منهم عند الجبل، فجاءوا يحفرون عليهم، بعد أربعين سنة، أصابت المِسحاةُ رِجلَ بعضهم، فخرج الدم يسيل! ما هذا؟! أحياءٌ! وجدوا بعضهم في القبور متصافحين لأن النبي ﷺ كان يقبر الاثنين والثلاثة في القبر الواحد وَوَجَدُوهم يتصافحون، ووجدوا بعض الشهداء واضعاً يده على جرحه، فلما رفعوها ردَّها.
وهكذا شهداء مؤتة، بعد مرور سبعمائة سنة عليهم، جرت السّيول عندهم فكشفت قبورهم، وإذا هم كما وُضعوا، ونقلوا من المحل الذي كانوا فيه، وهم حدود ستة عشر شهيداً، كلهم بين؛ أربعة عشر وستة عشر شهيد، قابلوا مائتين ألف ومائتين وخمسين ألف، والشهداء قليل أربعة عشر أو ستة عشر، وهناك قُتل مئاتٍ من الكفار. سبحان الله!
وهؤلاء نُقلوا إلى المحلّ الذي فيه الآن قبور سيدنا جعفر بن أبي طالب وسيدنا عبد الله بن رواحة و بجانب سيدنا عبد الله بن رواحة سيدنا زيد بن حارثة وبقية الصحابة رضي الله عنهم، نُقلوا إلى المحل الذي يسمى الآن المَزَار. كانوا في محل المعركة هناك مقبورين، ومحلّ المعركة منخفض يتعرّض للسيول في السابق وتجري فيه؛ فبعد سبع قرون نَقَلُوهُم، فكانوا كما وُضعوا كَيَوْم وَفَاتهم. الله أكبر!
قال: (فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)). بعد ذلك يأتي الجمع؛ فالذي جسده محفوظ من حين مات ولم تغيّر، والذي أُعيد جسده من عجب الذنب، الكلّ يجتمعون الآن؛
وهناك الموج الأعظم، زحمة، وشِدّة، وقوم، إلّا المُكرمين على الله، هؤلاء قاموا من القبور، والنّجائبُ أمامهم، والملائكة تقول: تفضل اركب، وتفرّ به:
وهذه بعدما امتدّت الأرض لِتَسَعهم: (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ) [الانشقاق:3-5]. ألقت ما في بطنها من الأجساد ومن الكنوز، (وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ).
هنا يختلف حشر الناس. قال تعالى: (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَٰنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرْدًا) [مريم:85-86]:
(وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ)، هذا عرض عين اليقين:
كل مَن تتأتى منه الرؤية يراها أمامه، وخصوصاً الكفّار والفجّار، عرض تبكيت لهم وتنكيت: انظر هذه الدار التي كنا نعِدكم بها، وكنا نريكم إياها وأنتم في البرزخ، لكم كُوَّات ترونها، يقال هذه منازلكم، والآن هذه هي بعينها أمامكم، انظروا! (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ) [النازعات:36].
(وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100))، واضحاً بيناً كاملاً تاماً:
فتُقبل النّار، قال ﷺ: "لها سبعون ألف زمام، كلّ زمام يقودها سبعون ألف ملك"، فعندما يُؤذَنُ لها وتُقبِل، يزداد شوقها لأعداء الله من الكفّار في وسط الموقف، فتتفلّت من أيدي الزبانية، لا يقدرون أن يمسكوها، يضجُّ الخلق ويصيحون ويلجأون إلى النبي محمد، فيقول لها: ارجعي إلى أيدي الزبانية. فتقول: ألا تدعني على مَن عصى ربّي يا محمد! فيأتي النّداء من الحقّ: اسمعي وأطيعي كلام حبيبي، فتستحي وترجع إلى أيدي الزّبانية، فتُحيط بأهل الموقف من كل جانب. فتراها عن يمينك وشمالك وأمامك وخلفك، أنتم في الوسط والنّار من كلّ جانب، يا الله!
عندها ما عاد أحد يتكلّم، تجثو النّاس على الرُّكَبِ، إلّا الرّسل يتكلّمون، وكلامهم: ربّي سلِّم سلِّم، ربّي سلِّم سلِّم. والنّبيّ ﷺ يقول: "أمّتي أمّتي، أمّتي أمّتي"، صلى الله عليه وعلى صحبه وسلّم، (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ) [النازعات:36].
(وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100))، الثاني: وُرود للكل:
الورود بالمرور عليها، لا دخولها. يرد عليها كما يرد على نهر أو بحر يعني يذهب إلى الساحل، وكذلك: (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا)، يمشي فوقها من أجل أن يمشي على الصّراط، فإمّا أن ينجو وإمّا أن يسقط فيها. (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) [مريم:71-72]. اللّهمّ أجرنا من النّار.
قال الله عن الكافرين هؤلاء: (الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَن ذِكْرِي..(101))، والعياذ بالله.
سيُشرح ذلك إن شاء الله معنا، وما بقي معنا من أيام الدورة إلّا ثلاثة أيام بعد هذا اليوم، فنختم إن شاء الله يوم الاثنين القادم.
اللّهمّ اكتُب لنا التّوفيق والبركة والقبول، اجْعلنا من أهل الامتثال لأمرك، الصادقين معك في الفعل والمقول، زكِّ لنا بذلك الأرواح والقلوب والعقول، أكرمنا يا مولانا بالقُرب والدّنوّ والمعرفة والرّضوان والوُصول، أنِلْنا غايات السّؤل والمأمول، بوجاهة البّرّ الوصول، عبدك المصطفى محمّد الرسول، وأهل قربه من أنبيائك ورسلك وصالح عبادك أجمعين، وادفع البلاء عنّا وعن جميع المؤمنين، وحوِّل أحوالنا وأحوال المسلمين إلى أحسن الأحوال.
بسرِّ الفاتحة،
إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
24 شوّال 1434