(535)
(339)
(364)
درس يلقيه الحبيب عمر بن حفيظ في تفسير سورة الكهف بعد الفجر ضمن دروس الدورة التعليمية التاسعة عشرة بدار المصطفى 1434هجرية.
﷽
(الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105))
الحمدلله على توالي الإفضال، ونسأله أن يُحسِن لنا خاتمة شهرنا بهذه الأيام والليال، أن يُسعِدنا فيها بصدق الإقبال، وأن يُقبِلَ بوجهه الكريم علينا، وأن يُصلِحَ صفاتنا وشمائلنا والخِلال، ويسدد لنا الأقوال والأفعال، ويجعلنا من أسعد خَلقِهِ بعطاياه الجِزال، ومِنَحِهِ الغَوال.
اللهم وفّر حظنا من خاتمة الشهر المصون يا ذا الإفضال، يا جزيل النوال، يا مولى الموال، يا من بيده تحويل الأحوال، كم من بعيد قَرَّبتَهَ، وكم من شقي أسعدته، وكم من غافل ذَكَرّتَه، وكم من نائم أيقظته، وكم من مُكَدَرٍ صَفَيّتَه، وكم من قذرٍ طهّرته.
فنسألك اللهم بعنايتك الكبيرة أن تَسيرَ بنا في أقوم سيرة، وأن تجعلنا من عابديك والداعين إليك على بصيرة منيرة من بصيرة زين الوجود الذي قلت له في كتابك: (قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) [يوسف:108]، فاجعلنا ممن اتبعه فاستنار بنور تلك البصيرة برحمتك يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين.
وقد تأملنا في آيات مولانا جلَّ جلاله في سورة الكهف حتى وصلنا إلى خاتمتها:
يُجيبُ الحق تعالى عن هذا السؤال ويأمر نبيه أن يَحمِل الجواب لِيَفقَهَهُ جميع أولي الألباب: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103)):
(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا):
فما أقل عقل من يظن أن النتائج والثمرات إما أن يبني لنا عمارات، أو يعمل لنا شوارع، أو يحفر لنا آبار، أو يجيء لنا بدواليب وثياب، هو هذا؟! من كان مصيره نار موقدة يُخَلَّد فيها، ما النتيجة التي وجدها من سعيه؟
(الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، مع ذلك:
(وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)):
وكانوا وكانوا وكانوا وكانوا، يا كم من كلام، يا كم من تطبيل! يا كم من دعاوى! يا كم من مشروعات وإنجازات وتطويرات وتنميات! هات الذي معكم من الأسماء، ضعهُ، كان هذا كله: (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا) -متتابعة- (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ)؟ لا إله إلا الله، (فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ)؟ [الحاقة:7-8].
ونقرأ في سورة القمر؛ أن رَبَنا لما ذَكَر هذه الطوائف التي مضت؛ بالغرور بِالزور وبمعاداة الأنبياء وانتهوا، بعد ذلك يوجه الخطاب إلينا يقول:
وصَبَر كَم؟ تسعمئة وخمسين عام؟ عُمرَك وعُمر أبوك وجدك وجد جدك وعمك ووَلَدَك وَوَلَد وَلَدك ولد ولد ولدك، كلهم. هذه مدة دعوته: (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا) [العنكبوت:14]، (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) [القمر:11-12].
الدول الكبرى اليوم إذا جاء قليل طوفان في جانب من الجوانب؛ وقفوا أمامه عاجزين، لا يستطيعون دفعه؛ وبذلك تَعلَم أنها دول صغرى بيقين، دول صغرى ما فيها كبرى.
الدولة الكبرى، دولة لمن يقول الشيء: (كُن فَيَكُونُ) [يس:82]، هذه كبرى بكل المعنى، هذه المنصَّات وما فيها والمراتب؛ ماهي إلِا لمُحَمَّدٍ، دولة الحق جلَّ جلاله، المراتب فيها لمحمد؛ فَنِعم الدولة دولته..
ثم وجَّه الخطاب إلينا بعد هذه النماذج كلها: (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُولَٰئِكُمْ)؟
(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)) التدبير عندنا، والتفكير عندنا، والخِطط عندنا، ورسم المستقبليات عندنا، وراءنا وعندنا؛ (يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)
ماذا نفعل؟ سُنة الله، يُمهَلون .. يُمهَلون فترة محدودة، ما تزيد ولا تنقص. في وقت الإمهال يقولون: هؤلاء فَتَناهُ، وهذا طَلَّعناه، وهذا نَزَّلناه، وهذا مَسَكناه، وهذا مَلَكنا، وهذا تَحايَلنا عليه، تمام؟ وبعد وقت قليل جدا، ، يذهب هذا كله؛ هذا سنة الله في الحياة.
ليس في أهل زماننا وحدهم ولا الذين من قَبلهم؛ بل من عهد آدم إلى اليوم، من حين ما بدأ يفكر هذا التفكير قابيل:
إلا أنّ بني آدم هؤلاء ما يُحسنون النظر والتأمل، ويُكَرِرون، ويُكَرِرون، ويُكَرِرون، نفس العملية، تتكرر من وقت إلى وقت، من وقت إلى وقت:
ولما نزلت الآية خاف النبي على الأمة وأن العذاب دنا:
(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56]:
قال:(الَّذِينَ ضَلَّ) -ضاع- (سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104))!
هل عرفت الذي خلقك؟ عرفت لماذا خلقك؟
إن كان هذا فرع، فأين الأصل؟
نريد البقعة التي يقولوا عنها نحن الذين خلقناها، ليس ربكم، ليس إلهكم هذا الذي أرسل محمد، هل هناك مكان آخر؟! أين؟! بر، بحر، رضينا هاتوا أي بقعة، أي بقعة في البحر أو في البر، قولوا: نحن الذين خلقناها، ليس إلهكم هذا الذي أرسل محمد، نحن خلقناها، نريد أن نراها! كم أذرع هذه؟ كم كيلو؟ كم متر؟ نشاهدها، أي بقعة في الأرض أنتم خلقتوها؟ يا مخلوقين! في مخلوقات الله تتصرفون ثم تَتَنَكَرون له -جلَّ جلاله-.
(أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ) [الأحقاف:4]، نريد أن نعرف، أي الكوكب من عندهم جاء!
(لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَىٰ) [طه:6] عجيب:
قال: (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)) -الله!- (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ):
(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ)، أخذوا بعض أبنائنا قالوا: نحن معنا مشاريع للحياة، ودينكم وإسلامكم ماذا عمل؟
فجاء مسكين مهزوز؛ وهؤلاء أصلاً خاسرين: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ) [الأنعام:31].
وهم من (الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا)، مساكين:
يقول رستم -هذا قائد الجيوش- ما غركم على الولوع بنا وبديارنا؟ يقول ربعي بن عامر: "الله ابتعثنا، الله ابتعثنا لِنُخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سِعتها أو إلى سعة الآخرة"، رضي الله عنه ما أفقهه لدين الله ولمهمته التي قام بها؛ لهذا ارتاعت منهم قلوب أرباب الماديات الكبيرة في زمانهم، وما نفعتهم مادياتهم هؤلاء.
قال: (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ..(105)) وكل من تعرَّض لحبط العمل:
(الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)) فكان أرباب العبادات، يخافون منها يخافون أن يكون داخَلَهم فيها الرياء والعُجب والحسد والغرور، فحبطت، الكل يدخل:
(ضَلَّ سَعْيُهُمْ):
ولذا ألَّف الإمام الغزالي كتيب سماه: "الكشف والتبيين عن غرور الخلق أجمعين".
وما يَسلَم من هذا الضلال إلا من:
إذًا، فَمَعنا أعمارٌ محصورة سنقضيها في العالَم؛ نحافظ على أنفسنا أن تكون مصروفة فيما نظن أنه نُحسِنُ فيه الصنع، ثم يوجب لنا الوجع، ويوجب لنا العذاب، أو يوجب علينا الحَسَرة والندامة.
بل معنى هذه الأعمار القصيرة ننصرف فيها في مختلف شؤون حياتنا؛ مَن كان دارساً ومَن كان عامِلاً ومَن كان موظفاً ومَن كان ذا مسؤولية ومَن كان مزارعاً ومَن كان صانعاً ومَن كان طياراً:
وفي هدي نبينا:
وفي الحديث في الصحيحين وغيرهما: "إنه ليُؤتى بالرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة"، لا يساوي شيئًا، هذا معنى الآية الكريمة: (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105))، مالهم ميزان.
كم الآن من عقلية تسعى أن يكون لها اعتبار وميزان؛ إما في البلدة التي فيها أو في الدولة أو في نمط من موظفين أو أصحاب دوائر مخصوصة أو أصحاب علم مخصوص، يسعى الفكر؛ كيف يكون لهم منزلة عندهم؟ كيف يكون له مكانة عندهم؟ إذا في القيامة ما لك وزن، لا تتعب نفسك، تذهب هنا وتذهب هناك، ثم ترجع بلا شئ، الخبر عند القيامة: هل لك وزن أو ليس لك وزن هناك؟
قال تعالى: (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)):
والعلائق كانت؛ علاقات عامة، علاقات داخلية، علاقات خارجية، أين ذهبت؟!
(فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلَا طَعَامٌ …) [الحاقة:35-36] حتى الأكل، ماعاد هناك شيء، لقد كان يُكدِّسها ويقلِّبها ويضحك على بعض الأماكن والدول؟ يقول؛ هذا يأكلون! أكله نوع ثاني وفاخر ومعقم والآن:
لكنه عبْدنا الذي اخترناه ونحن نحرسه (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة:67]؛ لهذا قارن بعضهم، إذا كان سيدنا داود عليه السلام، يصنع صنعة من لبوس من الحديد يقيه:
حتى لا يقع السيف فيك، لكن لما جاء للحبيب قال: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) اللهم صلِّ عليه وعلى آله.
فلما نزلت جاء إلى الحُرّاس الذين كانوا يتناوبون الحراسة في بيته الشريف في كل ليلة، قال: "انصرفوا فقد عصمني الله، (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)، فبقي هذا الصحابي الجليل، فَرَقَبَهُ النبي أول ليلة وثانية وثالثة، قال: "أما قلت لكم انصرفوا؟ فقد عصمني الله".
قال الصحابي: "ما جلستُ بقصد الحراسة، قد عصمك الله، ولكني أحببتُ يا رسول الله أن أكون قريباً منك في الليل، فقلتُ في نفسي إن طَرَقَكَ أمرٌ أكونُ أقربَ أُمتِكَ إليك، عندك، بجانبك، إذا كانت هناك أي حاجة أو خدمة، أو تدعوني، فأنا بجانبك، أنا خادمٌ لا حارس
ففرح النبي ﷺ منه، وقال: "سَلْ ما تشاء". قال: "ماذا أسألك؟ كنا في جاهليةٍ وشَرٍّ"، يعني بَشَرٌ بِشَرٍّ، كنا بشراً أشبه بالحيوانات، ما عندنا القِيم، ما عندنا المبادئ، ما عندنا الإيمان، فأنقذنا الله بك إلى هذا الإسلام، وها نحن عندك والوحي ينزل عليك، فماذا أطلب؟ وماذا بقي؟"، لقد أدركَ حلاوة الإسلام والإيمان ولذة النعمة.
فقال له النبي: "سَلْ". قال: "إن كان ولا بد، فإني أسألك مرافقتك في الجنة".
فأكثِر من السجدات لتحصل على مرافقة سيد الساجدين:
يا بختهم! لقد أدركوا الفوز الأعظم، هؤلاء هم الذين ربحوا، فليس عندهم خسارة، رضي الله عنهم، ليس عندهم أي خسارة رضي الله عنهم؛ (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:40] جلَّ جلاله.
قال: (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)): لا ميزان لهم، لا قدر ولا مكانة لهم، فلو وقف أحدهم أمام الميزان، لكانت الحصيلة عنده والمكسب كله ذنوب، لا توجد حسنات، فبماذا يوزنون؟
يوزنون ذنوب خالصة، من كان عنده ذنوب وحسنات سواء، حُطتْ الذنوب هنا والحسنات هنا، لكن هذا كله ذنوب، ماذا يعمل؟
ومقابل ذلك أنبياء وأصفياء عصمهم الله أو غفر جميع ذنوبهم، لا شيء إلا كلَّه حسنات، هذا لا يحتاج لميزان، هذا كله حسنات، ما في ذنب حتى يضعه في الثاني، والله يضاعف لمن يشاء، إذا ضاعف الحق مضاعفة على قدر كرمه، مالها نهاية، سبحانه عزَّ وجل.
ثم ذَكَر الحق الصنف الثاني مقابل هؤلاء، وختم به السورة، وخاتمة دروس التفسير لسورة الكهف لهذه الدورة في الغد -إن شاء الله- هو آخر الدروس معنا وننهي هذه السورة إن شاء الله تبارك وتعالى.
الأسئلة والأجوبة:
العصمة يراد بها، ألّا يُسَلَّط عليه أحد فيقتله ﷺ، فلا يمكن لمخلوق أن يقتل النبيﷺ، لعصمة الله إياه. وأما إن سبُّه أوأذاءهُ أوجرحه وغير ذلك مما يعملون، فذلك واقع لعلوِّ درجته، بل هو القائل: "أشد الناس بلاء الأنبياء"، وهو أعظم الأنبياء ﷺ فلابد يكون البلاء أشد عنده.
وهكذا،، لما قطع سيدنا عبد الله بن مسعود رأس أبي جهل في بدر، يقول له: كَبِّر الرأس حتى يعلم محمد أني ذو رأس كبير، يقول: أخبره أنه عدولله -والعياذ بالله تبارك و تعالى- قال له أبوجهل: خذ سيفي من تحتي، اترك سيفك هذا الضعيف يا رُوَيْعِيَ الغنم، لقد ارتقيتَ مرتقًى صعبًا!
قال له ابن مسعود: الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه يا عدو الله، قال أبوجهل: خذ سيفي من تحتي واقطع رقبتي من أسفل حتى يعلم محمد أني ذو رأس كبير، وأخبره أنه عدو له -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، حملَ ابن مسعود الرأسَ وجاء به فقال: يا رسول الله، هذا رأس أبي جهل، وقد قال كذا وكذا عند موته.
فقال ﷺ: "فرعوني أشد من فرعون موسى":
الذين يحشرون (عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا ۖ مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ) [الإسراء:97]؛ يشاهدون ما يخيفهم في عماهم:
وفي بدرٍ -سيدنا عمير بن الحمام- سمع النبي يقول وهو يصفّهم للقتال: "والذي نفسي بيده، لا يقاتلهم اليوم منكم رجل فيقْتُلونه مقبلاً غير مُدْبِر إلا كانت له الجنة، قال: يا رسول الله، أَعِدْ عليّ مقالتك؛ "والذي نفسي بيده، لا يقاتلهم اليوم منكم رجل فيقْتُلونه مقبلاً غير مُدْبِر إلا كانت له الجنة"
كان هو، جاء عنده تمرات يأكلها، قال: الجنة يا رسول الله؟ قال: الجنة، قال: بخٍ بخٍ! قال: "ما حملك على قولك بخٍ بخٍ؟ قال: لا والله يارسول الله، إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: فإنك من أهلها"، لما قال هذه الكلمة، أسقط التمر، قال: إن أنا عشت حتى آكل هذه التمرات، إنها لحياة طويلة! حياة هذه فيها سآمة وملل! أقعد في الدنيا لأجلها؟ رمى بالتمر وراءه ودخل المعركة، فكان أحد الأربعة عشر الذين استشهدوا في يوم بدرٍ، أربعة عشر شهيد دفنوا هناك -سبحان الله-، ثلاثة عشر منهم، وهذا الرابع عشر، في الطريق توفي في الصفرا فدفن هناك وهم راجعون.
كان يقول للنبي -النبي وضعهُ في العريش فوق رجله- وهو ابن الحارث بن عبد المطلب، ابن عمه، يقول: يا رسول الله، لو رآنا أبو طالب لعلم أنا أحق بقوله، ونُسلِمُهُ يعني مانُسَلِمَك، حتى نصرع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل يارسول الله، إذا مُتُّ من مرضي هذا، أنا شهيد؟ قال له ﷺ: "أشهد أنك شهيد"، بقي معهم الثلاثة الأيام وهو يُمَرَض، ورجعوا في الطريق لما كانوا بالصفرا مات، فدفنه هناك ﷺ.
وصل إلى المدينة عند رجوعهم من قبر ابنته رقية لما توفيت، وخَلَّف سيدنا عثمان لتَمريضها، ولهذا قسَم له نصيب من غنائم بدر؛ لأنه ما تَخَلَّف إلا بأمر النبي ﷺ، وجماعة من الذين كانوا تَخَلَّفوا بأمره لشيء من الأعمال يقومون بها، قسمَ لهم، فكان إذا أعطى أحد منهم نصيبه من الغنيمة يقول: وأجري يا رسول الله؟ وأجري يا رسول الله؟ يقول: "وأجرك"؛ فَعُدّوا من البدريين هم ما حضروا هناك، فكانوا من أهل بدر.
فاستقبلته أم حارثة -حارثة في ثمانية عشر سنة لما استُشهد- أين ابني؟ ما كان لها أولاد إلا هو، أين ابني يارسول الله؟ "احتسبيه عند الله، قُتل شهيد في سبيل الله"، قالت: أخبرني أين ابني؟ قلت: "احتسبيه عند الله"، قالت: أنت تعلم منزلة حارثة مني، وأنه ليس لي من الولد غيره، فقل لي أين ابني؟ إن كان في الجنة صبرت، هنأت نفسي، وإن كان غير ذلك لترينّ ما أصنع، قال لها: "يا أم حارثة، إنها ليست جنة واحدة، إنها جنان كثيرة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى".
وفي عيوننا -عيون أهل زماننا- من سَيَرى حارثة في القيامة وفي الجنة، ونسأل الله أن يكرم عيوننا برؤية تلك الوجوه، يا رب، أحببناهم لك ومن أجلك ومن أجل رسولك، فحققنا بحبهم وأرنا وجوههم في القيامة وفي الجنة دار الكرامة مع الذين أنعمت عليهم يا رب وأنت راضٍ عنا.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي
هذا في السنة الثالثة أما في السنة الثامنة، مثل هذه الأيام قد دخل مكة ﷺ، دخل مكة وفتحها، مثل هذه الأيام، وعادَ في شوال إلى المدينة المنورة، أو في أواخر شوال أو أوائل ذي القعدة بعد أن فتح مكة وخرج إلى الطائف ﷺ وكان حنين والطائف.
في مثل هذه الأيام في السنة الثامنة كان موجود في مكة عليه الصلاة والسلام، وصلى بهم العيد هناك في مكة، وخرج إلى غزوة حنين والطائف، ثم عاد -عليه الصلاة والسلام- وقد خَلَّف أُسَيْد بن حضير والياً على مكة، شاب أيضاً، شاب كان نحو العشرين من عمره؛ واختار هذا لإيمانه وعقله، ولكونه لم يَجْرِ منه في الحروب الماضية والسابقة قتال لأحد، فَولّاه، فيكون أقرب لنفوسهم وعقولهم، فلم يولِّ واحد، يقول: هذا قتل أبي، هذا قتل أخي، هذا قتل عمي، فولّى واحد ما دخل في المعارك معهم، ما قتل أحد منهم ﷺ، ما أرحمه بالأمة وما أشفقه.
بعد رجوعه من الطائف إلى حنين، يمشي واحد من الصحابة، معه نعل غليظ، كان على ناقته، تقحم به الناقة إلى عند النبي ﷺ، فدقت رجله ونعله الغليظ في ساق النبي ﷺ فأوجعه، دقّته الناقة، وكان في يد النبي قضيب، وقال: ارفع رجلك، ضربه، وقال: ارفع رجلك، فرأى أثر الحمرة في رجل النبي من شدة الدَقَّة، وخاف على نفسه، وبقي يعاتب نفسه يقول: ما هذا يَجْرَى عليّ على نبي الله، مصيبة، وحتى أنه، مسكين، من شدة الخوف خاف أن ينزل فيه قرآن، وذهب في الليل يبحث عن محل في خدمة الأمتعة للجيش بعيد، وجلس هناك.
في الصباح قسّم النبي الغنائم، سأل عن الرجل؛ أين فلان؟ فذهبوا يقولون له: رسول الله يسأل عنك، قال: ها!! نَزَل فيي شيء؟ لا ندري نزل فيك شيء؟ رسول الله يسأل عليك! جاء وهو خائف، قال له: "إنك البارحة لما دقت رجلك فيّ، ضربتك بقضيب كان معي، فخُذْ مقابل هذا"، فأعطاه مائتي ضان من الغنم، قال خذ هذه المائتين مقابل هذه الضربة، هو الموجوع، هو الذي ضربه، وكان في وقت ذلك قال له: ارفع رجلك، قال له: بس مقابل الضربة خذ هذا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
04 ذو القِعدة 1434