تفسير سورة الكهف(1434) -7- من قوله تعالى:(سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ..(22))

تفسير سورة الكهف - الدرس السابع
للاستماع إلى الدرس

درس يلقيه الحبيب عمر بن حفيظ في تفسير سورة الكهف بعد الفجر ضمن دروس الدورة التعليمية التاسعة عشرة بدار المصطفى 1434هجرية.

نص الدرس مكتوب:

﷽ 

(سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ ۖ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ۚ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ ۗ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ۖ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ۚ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ ۖ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28))

الحمد لله على إشراق أنوار التنزيل، وأن خصصنا بحبيبه المصطفى الهادي إلى سواء السبيل، نحمده تعالى ونسأله أن يصليَ ويسلمَ على خير معلم ودليل، عبده المصطفى ونبيه المجتبى، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومَن سار على منهاجه، وأبائه وإخوانه من النبيين والمرسلين وآلهم وأصحابهم ومن استضاء بسراجه إلى يوم الدين

وبعد،،،

فإننا في تلقي معانٍ وإرشادات وتوجيهات وتعليمات من ربنا الرحمن الرحيم، الحق الوكيل السميع العليم -جلَّ جلاله- تأملنا بعض معاني آياتٍ في سورة الكهف، ووصلنا إلى قوله جل جلاله: (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ ۖ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ۚ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ..(22))، وذكرنا: 

  • أن ربّنا الذي هو (أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم) قد أشار إلى العدد، فضرب العددين الأولين بقوله: (رَجْمًا بِالْغَيْبِ)، أي رميًا بالخبر من غير تأكد ولا تيقن ولا مستنَد، فدلَّ على أن قوله: (وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) هو الحق الذي يطابق الواقع. 
  • ويحب الحق -تبارك وتعالى- مِن خلْقه أن يفقهوا أن حقيقة العلم له، وما أوتوا من العلم إلا قليلا، فهم أمام ما علموا وما لم يعلموا يرجعون إلى الله تعالى ويردون الأمر إلى علمه: (قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم)، وقد قالت الملائكة: (سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [البقرة:32]، وقال سيدنا يوسف: (ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي)، (ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) [يوسف:37].

في ذلك يقول الشاعر:

العلمُ للرحمنِ جلَّ جلالُهُ *** والعَبدُ في جَهَلاتِهِ يَتَغَمْغَمُ

ما للتُّرابِ وللعُلُومِ؟ فأصل الإنسان تراب.

ما للتراب وللعــــلـومِ؟ *** وإنما نسعى لنعلم أننا لا نعلم

أي نأخذ من العلم النافع ما يعلمنا الله ويأذن لنا به، فنعلم به عجزنا وضعفنا وأننا لا نعلم ولا نحيط بالأشياء: 

  • وكلما زاد عقل الإنسان وعلمه، ازداد معرفةً بجهله، وازداد معرفةً بعجزه، وذلك عين المعرفة. 
  • وكلما زادت المعرفة زاد الإدراكُ للجهل، والإدراكُ للضعف، والإدراك للعجز عند هذا الإنسان. 
  • وكلما قلَّ علمه وعقله انفتحت له باب الدعاوي وقال: عرفتُ وعلمتُ وأخذتُ وعندي وعندي. 

وهكذا (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ)  -قارون ماذا  يقول؟- (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا) [القصص:78].

يقول سبحانه وتعالى: (قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم)، ثم أخبر أنه يهدي إلى الحقيقة من يشاء؛ ولكنهم بالنسبة لعامة الخلق قليل: (مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ..(22))، وسمعنا أن ابن عباس كان يقول: أنا من هؤلاء القليل، كما قال في قوله تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) [ال عمران:7]، قال: وأنا من الراسخين في العلم، وقد دعا له النبي بقوله: "اللهم فقهه في الدين وعلمه تأويل الكتاب"، فكان ممن علم التأويل رضي الله تبارك وتعالى عنه.

وهكذا لا يزال الأمر في أن وصف العلم مطلق، حتى يوجد عند المفضول ما لا يوجد عند الفاضل، ولا يمكن الإحاطة بالعلم من كل الجوانب: (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) [البقرة:255] -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه-.

وهكذا كل من كان متقنًا خبيرًا في علم الطب، أو في علم الهندسة، أو في علم الكيمياء، أو في علم البحار؛ 

  • يعلم أن ما عَلِمَ لا يساوي شيء من حقيقة ما هو بصدده. 
  • وأن وراء علمه أيضًا علم. 
  • وأنه عُرضة لأن يزداد ويكتشف كل يوم علم لم يكن موجودًا قبل، ولم يكن ظاهرًا قبل. 

وهذا هو الواقع في البشر والواقع في الحال؛ ولكن كلما ضعف عقله وعلمه، رأى أن الحد الذي وصله واكتشفه هو الغاية وليس فوقه شيء، هذه غاية الجهالة؛ 

  • قال نبينا: "فإذا ظن أنه علم فقد جهل"، -فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل-. 
  • وقال الله لأعلم الخلق به وبصفاته وأسمائه وآياته وحقائق كونه: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) [طه:114]، صلى الله عليه وصحبه وسلم كما ستأتي الإشارة إلى هذا المعنى في الآيات المقبلة.

يقول: (فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا..(22))، وحيث قد علمت أنه لا يطَّلع على الحقائق في الأمور إلاَّ القليل، وأنّ ما كان مرجعه الغيب، ولا نعلم الغيب إلاَّ من حيث يُعلِّمنا عالم الغيب -جلَّ جلاله وتعالى عُلاه-، فلا تكثر المراء ولا الجدال.

فعلَّمهُ: (فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ) -في أهل الكهف- (إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا)، واضحًا بيِّنًا سهلًا كما علمك وأرشدك، والمعنى: أعرِضْ عن الكثير من هذه الأمور، فإن بعض الناس بقصر عقله يقول: أناقش في كل مسألة مناقشة دقيقة، ماذا تعمل؟! كلما يتكلم واحد عنده في المجلس أو يذْكره في أي موضوع يناقشه فيه، ويريد فيه رأيه وعقله، ومدارك الناس تختلف، واستعداداتهم أيضًا للفهم تختلف، فيريد أن يحمل الناس كلهم على مستوى تفكيره وطريقة فهمه، فيتعب نفسه ويتعب الناس معه، ويبقى يفتح فجوات للجدال وللمراء، وللتباعد، وللتقاطع، وللتدابر، بلا فائدة.

يقول: ما لا يترتب على تركه ضرر، ولا يترتب على وجوده أمر واجب وضروري، فالأمر فيه واسع، فليكن لك رأي وليكن لك نظر، ولهذا ولهذا ولهذا، وانتهينا، ومسألة يسيرة ما هناك مشكلة هذا لا.

يريد فقط فهمه هو هذا و رأيه، لا لا لا، هذا يقين حقيق كذا كذا! يتشاكل مع ذا ويتشاكل مع ذا، وكلما جلس مع أحد يتشاكل وإياهم! هذا من قلة عقله؛ ولهذا قال بعض الحكماء: تسعة أعشار العقل في التودد إلى الناس.

قال الله تعالى عن نبيه -لما كلّم بعض أزواجه بكلام وأسرَّ إليهن، فتعدَّين الحد، وتكلّمن-: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ)، لما أراد أن يُوقفهن على الواجب والأدب ويُنبههن على الخطأ لم يذكر كل شيء مما صدر منهن، (عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ) [التحريم:3]؛ لأن في الحقوق الراجعة إليه فيما يقتضيه يتساهل ويتسامح، لا يعرِّف كل شيء، (عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ)، وسكت.

وهكذا تجد العقلاء: 

  • قليلِي التشاجر مع الناس، وقليلِي المماراة للصغار وللكبار. 
  • إنما حَسنِي التذاكر، حَسنِي النقاش مع مَن يعي ومع مَن يفهم، ويخاطب الناس على قدر عقولهم. 
  • ومن لم يكن من شأنه المسألة فلا يفسحون له المجال للخوض معه فيها. 
  • فإن تطاول بشيء وليس بأهله ولا يترتب عليه ضرر في الدين ولا واجب يترتب عليه، سكتوا وكأنه ما قال شيء، ولا يضرهم ذلك. 
  • ويكون هذا أقرب للحفاظ على تقارب الناس وصلاح كثير من أحوالهم وتعاونهم على ما ينفع.

(فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا (22))، فإنهم يتكلمون بالظن وقد أعطيناك العلم من عندنا والخبر بالحقيقة، فأنت مستكفٍ بما أوحينا إليك، فلا تستفتهم في ذلك، (وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا)، لا اليهود ولا النصارى؛ 

  • فرقة من النصارى يقولون: ثلاثة رابعهم كلبهم. 
  • فرقة أخرى منهم نفسهم يقولون: خمسة سادسهم كلبهم، ويتشاكلون مع بعض اليهود في تعيين العدد. 

قال: (وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا)، وفي هذا إذن إرشاد: إذا أغناك الله -تبارك وتعالى- في أمر عما عند الغير، فلا تبقى مفتِّح المجالات على غير بصيرة، واستكفِ بما يكفيك، ومن هذا المعنى: 

  • أن شؤون الدين كلها، وما يتعلق بأخبار الغيب، وما يتعلق بالأخلاق؛ المصدر فيه الحق ورسوله. 
  • فهذا ما ينبغي أن نرجع فيه إلى صغير ولا إلى كبير، من هنا ولا من هناك.

وانظر كيف فسح المجال ﷺ لاستفادة الخلق من بعضهم البعض، وأخذ الحكمة ولو من أفواه المجانين، وفرض لفكاك أسير مشرك أن يُعلِّم القراءة والكتابة عشرة من أبناء الأنصار في بدر..

  • قال: الذي ما عنده فلوس، يُفدي، يُعلِّم عشرة القراءة والكتابة تعليم قراءة وكتابة، ما يترتب عليه شيء في الأخلاق ولا في القيم ولا في الدين، يعلِّمه ألف باء تاء ثاء جيم حاء. ما هناك شيء، تعلموا ولو من مشرك أخذ. 
  • لكن لما أحس ببعض الصحابة يستمعون إلى بعض كلام يتعلق بالدين من علماء اليهود وغيرهم، وقف، قال لهم: "لا! ألم آتكم بها بيضاء نقية؟! ألم يُنزل الحق عليَّ القرآن؟ أَكَفَاية؟! لا تباحِثوهم ولا تسمعوا إليهم، لا يقولون حقًا فتكذبوه، أو يقولون لكم باطل فتصدقوه".

وهكذا نهانا في هذا الأمر أن نرجع إلى غير المرجعية، أن نرجع إلى غير المصدر، ومَن ليس له حق أن يتدخل في ذلك، وبذا نعلم أنه: 

  • علوم طبيعية، علوم مادية، يمكن نتبادل معلومات فيها مع كافر، مع فاجر، مع مشرك، مع صغير، مع كبير، من هنا ومن هناك، لنسخرها  فيما ينفع بنور الشرع.
  • أما إذا تجاوزوا الحد قالوا: دَعوا ربكم ونبيكم، نحن سنكلمكم في الأخلاق، نحن سنكلمكم في الأحكام في الدين، في السِّيَرة؛ لا لا لا لا لا! ما رضينا بكم بدل الله، ولا بدل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. 

تعالوا نتناقش نحن وإياكم في ماديات بحتة لا تمس أمر الدين، فإذا جاء الأمر من عند الحق أو رسولِه، فأنتم ومَن على ظهر الأرض ومَن قبلكم ومَن بعدكم تحت الأقدام، لا تساوون شيء؛ الأمر أمر الله، وأمر الرسول صلى الله عليه وصحبه وسلم؛ هذه حقيقة الإيمان.

قال: (وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا(22))، وتأدب في حياتك كلها مع ملاحظة هيمنة الرَّب، وقدرة الرَّب، وقاهرية الرَّب -جلَّ جلاله- (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا(23) إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ..(24))،: 

  • اربط أمورك بمشيئتنا حتى تحظى بالبركة منِّا والعناية، ويتحقق لك مرادك، ولا تقطع ولا تجزم في الأشياء المستقبلية.
  • (إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ)، أما أخبرناك نحن وحددنا وعيَّنا لك؟ فكم أخبر ﷺ عن غيوب جاءت بالدقة كما ذكر! 

ولذا يقول الصحابي سيدنا عبد الله بن رواحة في وصفه :

وفينا رسولُ اللهِ يتلو كتابَهُ *** إذا انشقَّ معروفٌ من الفجرِ ساطعُ

يبيتُ يُجافي جَنْبَهُ عن فراشِهِ *** إذا استثقلتْ بالمشركينَ المضاجعُ

أرانا الهُدى بعدَ العمى فقلوبُنا *** بهِ موقناتٌ أنَّ ما قالَ واقعُ

فقلوبُنا به موقناتٌ أن ما قال واقعٌ، الكلام كلامه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وهو كذلك: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ) [النجم:3-4]، ومن لنا بمثل هذا الإنسان؟ كل إنسان لا يسلم من ذرات الهوى تجاذبه هنا أو هناك -على مراتب- لكن هذا منزَّه تمامًا، (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ) صلى الله عليه وصحبه وسلم، بتنزيه الرَّب -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه- 

ولهذا صح له أن يقول للكاتب - لما كان يكتب كلامه، ثم وقف، فسأله النبي قال: تذكرتُ أنك بشر ترضى وتغضب وتفرح وتحزن، قال: "أُكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج منه -وأشار إلى لسانه- إلاَّ الحق، في رضى أو غضب أو فرح أو حزن"، ما يتكلم إلاَّ بالحق صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ولذا كانت الدقة في مُؤَدَّى كلامه إذا تكلم عن ماضي، أو تكلم عن حاضر، أو تكلم عن مستقبل صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

يقول: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا(23) إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ..(24)): 

  • ارتبط بالربوبية وكن عبدًا ربانيًا، فاحذر من الغفلة والانقطاع والاستقلال في أمر. 
  • واربط أمورك بمشيئتنا، وترتيبنا، وقدرتنا، فلا تغفل عن تصرفنا في الوجود. 

فالله هو القاهر الحي القيوم على كل ذرة من ذرات الكون -سبحانه وتعالى- (إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ..(24)).

  • (وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ)، إذا نسيت الاستثناء أول الكلام، فألحقه به. 
  • (وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ)، قال بعضهم: (وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ)، واذكر ربك إذا غضبت.
  • (وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ)، أي تحقق بالذكر عند النسيان، أي نسيان كل شيء سواه -جلَّ جلاله-، فإذا نسيت ما سواه فقد تهيأت لذكره.

(وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ): 

  • فعندما تنقطع عما سواه، تقوى صلتك به -جلَّ جلاله-. 
  • وعندما تفنى في الشهود لما سواه، تستجمع لك معاني الذكر له تعالى في علاه-، وحينئذٍ تسبيحك تسبيح، تهليلك تهليل، يختلف عن الغير؛ لأنك حاضر مع الله تعالى. 

ولما جاءت بعض النساء بصينية لبعض العارفين وهو في البصرة يكتب لها آيات من القرآن، حمل الدواة والقلم فكتب: "بسم الله" فانكسر الإناء، راحت جاءت بصينية أخرى، فلما كتب: "بسم الله" انكسر. وجاءت بثالثة. قال: اسمعي، أنا الآن في حال، في حضوري مع الرَّب، لو جئتِ بصواني البصرة كلها ستتكسر، فاذهبي إلى آخر يكتب لكِ الآيات، والذي ليس عنده هذا الحضور، اطلبي منه يكتب وستمشي، أما في هذا الحال لا تخسري نفسك بتكسير الصياني بذكر الله تعالى، فإنه لا يقوى على ذكر الله شيءٌ -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه-.

 

هكذا قال ﷺ فيما علمنا من ذكر: "بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء"، ما هذا الاسم العجيب! الذي لا تقدر أرض ولا سماء على الضر مع وجود اسم الله: "لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم". 

ووصل اليقين بالصحابة إلى حدود بعيدة، إلى حد ما جاء عن سيدنا خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه، وقد تحداه بعض الكفار وقال: هذا السم قاطع يهلك به الإنسان في ساعات إذا شربِه، أتشربُهُ باسم ربك هذا الذي تدعون إليه وتقول إنه الفعَّال لما يريد تشربهُ هذا فلا يضرك؟ ولما رأى الموقف يقتضي شيئًا من هذا، كان اجتهاده أنه يفعل ذلك ليريهم آيات الله، وقال: هاتِه، فتناول منه السمَّ، وقال: "بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم" اهتالوا منه، وجلسوا ساعة، ساعتين، ثلاث ساعات، ما به شيء. إلى الليل، إلى ثاني يوم، ما به شيء، ولم يضره شيء من ذلك السم بقدرة الله سبحانه وتعالى، وبما آتاه في تلك اللحظة من قوة يقين وتوكل تنخرق به العادات وتتفاعل معه الأشياء.

وهذا لا يقاس عليه حتى يَوصل إلى مثل ذلك الحال، وإلاَّ فمن لم يغلب عليه ذلك الحال أَثِمَ بتناول مثل هذا؛ ولكن صاحب هذا الحال هو على يقين أنه لا يضر، فحال هذا السُم عنده كحال الرز والخبز وغيره من الطعام الثاني، حاله واحد بالنسبة له عند هذه الغلبة العظيمة الربانية. 

وكم للصحابة من غلبات أحوال في هذه الميادين! ساعة يمشون على الماء، وساعة يدخلون النار، وساعة يُنَظَّف المنديل في النار ويُخرج المنديل صافي من وسط النار، وساعة يكلمون الأُسُود ويوقفونها، ويعملوا أشياء عجيبة؛ لغلبة أحوالهم رضي الله تبارك وتعالى عنهم. 

فمن لم يتحقق بمثل ذاك الحال وجاء يريد أن يقلِّد، مثل الذي رأى سبّاح يسبح في المياه العميقة، قال: سأفعل مثله، هو يسبح وأنا سأسبح قليل قليل! تعرف السباحة؟ قال: هو يقول كذا وأنا سأتحرك مثله، يقول كذا، اُدخل وستغرق وستموت بعد ذلك، حتى تتقن السباحة أولًا، وتتعلمها شيء فشيء وتَمْهر فيها ادخل بعد ذلك، وسنبدأ بك بماء قليل، ونبدأ بك بحركة يسيرة، وواحد يمسك بك، وواحد منتبه منك، حتى تتعلم وتمشي بعد ذلك. وهكذا لا يأتي القياس إلاَّ على أساس. 

قال: (وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ)، وكن على طلب الزيادة دائمًا والارتقاء من حال إلى حال: 

  • (وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا(24))، كما أيدني بذكر أخبار أهل الكهف، وهي علامة من علامات النبوة لي فعند ربي آيات كثيرة، وفي خزائنه من العلائم ما يكون أظهر من هذا وأقوى.
  • (عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا)، والمعنى: في شؤون الخير الخالص كن طَمُعًا، ولا تقنع باليسير، ومهما أُوتِيتَ فاطلب ما هو أكثر، وما هو أكبر، وما هو فوق ذلك.

يقول: (وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا)؛ 

  • أوضح دلالة وأبين على صدقي في النبوة. 
  • فعند الله خزائن كثيرة وأُيد وعُلِّم من أنباء المرسلين وأخبار النبيين صلوات الله عليهم. 
  • واطلاع على مغيبات كثيرة كانت في واقع الناس وإخبارهم بها. 

أُيِّدَ بتأييداتٍ كبيرة عليه الصلاة والسلام، وما أوتي أحد من الأنبياء من المعجزات مثل ما أوتي نبينا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، بل لا تكاد معجزة لنبي قبله إلاَّ وفيه وفي أمته معنىً منها قائم وظاهر وبارز صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

فإذا كان عند سيدنا عيسى يُبرئ الأكمه والأبرص، فكم شفى الله على يده  من عليلٍ! وردَّ يدًا قد قُطِعَتْ فردها مكانها، وعينًا قد خرجت وسالت على الخد فأعادها إلى موضعها، فعادت أحدَّ عينيه نظرًا، صار نظرها أقوى من الأخرى.

يقولوا: حتى كان سيدنا قتادة إذا جاءه الرمد ترمد عين واحدة فقط التي ردها هذه ما ترمد، كان يأتي الرمد في عين واحدة، وما ترمد هذه إلى أن مات، فما هذا العجب، وما هذه العظمة؟! 

ولذا لما وفد ولده مع الوفود على سيدنا عمر بن عبد العزيز، وفد قال: من هذا؟ قال:

أنا ابن الذي سالت على الخدِّ عينُهُ *** فردَّتْ بكفِّ المصطفى أحسنَ الرَّدِّ

قال سيدنا عمر بن عبد العزيز:

هكذا..هكذا، تلك المكارم لا قُعبانِ *** من لبنٍ شِيبَ بماءٍ فعاد بعدُ أبوالا

هذه المكارم وهذه المناقب، صلى الله على صاحب المعجزات، وأحيا القلوب من الموت، وتكلمت معه الأشجار والأحجار: "وإني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم عليَّ قبل أن أُبعث" -قبل أن أُبعث- زاد الشوق على الحجر، لم يصبر إلى ما بعد البعثة، من قبل البعثة، لما يمر النبيُّ في الطريقَ؛ السلام عليك يا رسول الله، كل مرة يمر النبي عنده؛ السلام عليك يا رسول الله، هذا الحجر زاد شوقه ما عاد يقدر يصبر لما يجيء الوحي، وقبل الوحي والنبي  في أول بداية عمره يمر في الطريق؛ السلام عليك يا رسول الله، والحجر يسلم عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

جاء بعض التابعين إلى سيدنا أنس، فأخرج منديل يمسح به وجهه، ناوله الجارية عندها نار توقد تطبخ شيء، قال لها: نظفي هذا، أخذت المنديل -من خرقة- أخذت المنديل رمته في النار!، فهذا يتعجب يقول: أنس يقول لها نظفيه وهي تحرِقُهُ؟! وإذا بالنار تأكل الوسخ كله، والمنديل كما هو، بعد ذلك أخرجت المنديل بِعود، والمنديل صافي ما به شيء، أعطته إياه، هذا تعجب، ما هذا؟!

فرأى العجب في وجهه سيدنا أنس، قال لعلك عَجِبتَ؟ قال: نعم، قال: إن هذا المنديل لرسول الله، كان يمسح به وجهه، وإن النار لا تمس شيئًا مسَّ وجوه الأنبياء، وإني كلما أردت أن أنظفه ناولته الجارية فعملت به هكذا مثلما رأيتَ الآن، ما عاد نخسر ماء، ولا نأتي بحاجة ننظف بها المنديل، فقط بالنار تأكل الوسخ الذي طرأ، أما المنديل الذي قد مسَّ الجسد الشريف فما تمسه النار.

قال: (وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا(22))؛ 

  • وهذا فتح باب، باب الأمنية الصحيحة والطموح القويم الذي لا ينبني على غرور، ولا على زور، ولا على رغبة فيما ليس وراءه شيء؛ لكن على ما وراءه كل السعادة، وما وراءه الخير الدائم. 
  • فافتح آفاقك عند ذلك وارْغَبْ، وكلما حصَّلتَ فاطلب ما هو أعظم وما هو أكبر، ومَن زاد زادوه، شُدَّ الحِزَامَ، هذا الفرس وهذا الميدان، وكلما زدت زادوك، وكلما طلبت أعطوك.

يقول: (وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا(24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ) -ثلاثمائة سنة، ويقال: ثلاثمائة سِنينا- (وَازْدَادُوا تِسْعًا(25))، وقد سمعنا عن سيدنا علي وغيره أنها كانت ثلاثمائة بالسنين الشمسية، (وَازْدَادُوا تِسْعًا)، ثلاثمائة وتسع بالسنين القمرية.

(ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا(25)) -أي تسع سنوات- (قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا..(26))، فكلامكم؛ كم جلسوا، زائد وناقص، هباء (اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا)، وقد أخبرني أنهم لبثوا ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعً، فانتهت المسألة، هذا القول الفصل.

(قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ۖ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)؛ 

  • (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك:14]، فهو العالم بما كان وما يكون وما هو كائن وما لا يكون، ولو كان؛ كيف يكون. 
  • (وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الطلاق:12].
  • (قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) [النمل:65] -جلَّ جلاله- له غيب السماوات والأرض.

(أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) إعجب في بصر الله الذي هو أزلي قديم، ليس بمخلوق ولا بجارحة ولا بشيء من الحادثات، ولا يحجبه ظلمة، ولا فرق بين القريب والبعيد عنده، يرى الذي في الظلام، والذي في النور كله سواء، والذي في الأرض والذي في السماء، والذي في باطنك والذي على ظاهرك؛ كله عنده سبحانه وتعالى سواء؛ (أَبْصِرْ بِهِ)، 

(أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ)، أي وما أعظم سمعَه! تعجّب في سمعه، يسمع الخاطر لما يقع في قلبك، يسمع حركة الطير في الهواء، يسمع دبيب النمل على الأرض وعلى الصخرة وعلى الرمل، لما ترفِّع رجلها يسمع صوتها، لما تضع رجلها في التراب يسمعه -سبحانه وتعالى- ما هذا؟! وسِعَ سمعُه كلَّ شيء بلا آلة ولا سبب؛ لأنه السميع البصير -جلَّ جلاله- وهو الذي يخلق لمن شاء من خلقه الأسماع: (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۖ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ) [الملك:23]، لك الحمد شكرا، ولك المنُّ فضلا.

(أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ)، أي: 

  • هو البصير الذي أحاط بصره بجميع الأشياء. 
  • والسميع الذي أحاط سمعه بجميع الأشياء. 

كانت السيدة عائشة تقول: سبحان مَن وسع سمعهُ الأصوات! إن المرأة خولة بنت حكيم هذه التي جاءت تشتكي إلى النبي صلى الله عليه وصحبه وسلم، قالت: كنت عندهم في الغرفة نفسها، فكانت تُخافِت صوتَها وتكلم النبي، ولم أسمع ما قالته للنبي، فما دريتُ إلاَّ والوحي ينزل على النبي: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ)

قالت: سبحان الله! ربي يسمع الأصوات، يسمع كل شيء، وسع سمعه، أنا عندهم في الغرفة ما سمعتها، وماذا تقول، ومن السماء نزل الخبر: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [المجادلة:1] -جلَّ جلاله-.

(أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم) [الزخرف:80]، يسمع سرك، خواطرك؛ تتكلم تتكلم تتكلم، يسمعك -جلَّ جلاله- وأنت ساكت، وهو يسمع خواطرك تتكلم ويراها -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه-.

(أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) -الله الله- (مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ)، مهما اتخذوا لهم أولياء من دونه، واعتمدوا على أي شيء سواه، فالعاقبة أن ذلك السِّوَى يظهر ضعفه وعجزه ونقصه والتخلي عنهم وبُعدُه منهم، ولا يساوي شيء؛ إن كانت عقول، وإن كانت أموال، وإن كانت جيوش، وإن كانت قوى، وإن كانت قصور، أي شيء، تعتمد على غير الله، قليل وإذا به لا ينفعك، ولا عادك منه ولا هو منك ولا قريب منه، وأُحِيلَ بينك وبينه وذهب؛ لكن هو الولي الوحيد الذي يكون معك حيثما كنت وأينما كنت، ولا يعجزه شيء.

(مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا)، هو الواحد، 

  • ات أحد يشركه في حكم الكون، وما يجري فيه وما يكون فيه -سبحانه وتعالى- هو المدبر: "أنت المُقَدِّمُ وأنت المُؤخِّرُ"، "لا مانعَ لما أعطيتَ ، ولا مُعطيَ لما منعتَ". 
  • (مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [فاطر:2]، (وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا(26)).

إذن فما وظيفتك في الحياة؟ا وفي ماذا ترتب عمرك؟ قال: (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ ۖ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا(27))، يعني موئل وملاذ ومرجع.

  • (وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا)، موئلًا وملاذًا ومرجعًا، لن تجده من دونه، فكل شيء دونه اعتمدتَ عليه يقصُر بك وينقطع عنك؛ إلاَّ هو سبحانه وتعالى. 
  • (وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا)، وكلماته لا مبدل لها، فاغتنِ بالقرآن، ومن لم يغتنِ بالقرآن فلا أغناه الله، ومن لم يستشفِ بالقرآن فلا شفاه الله.

يقول: (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ) -فهو الحق- (لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ)، لا يمكن أن يأتي أي وقت في الدنيا ولا بعد زوال الدنيا -في الآخرة- يتخلف شيء مما في الكتاب، وما في الكتاب هو..هو، كما قال الله؛ لا شيء ينقص أبدًا، ولا  شيء يختل، ولا شيء يقصُر. 

(لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا(27))، إذًا فابحث عن حلقات أهل الصلاح في العالم وكن معهم: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ) -جعلنا الله وإياكم منهم- (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)، قال الله لنبيه: هذا الصنف من خلقي، نظرَكَ عليهم؛ لأنهم هم الذين اخترتهم من البقية، شغلت البقية بالكائنات، وبالضلالات وبالظلمات، وبالأفكار البائدة، وهؤلاء جعلت شغلهم بي، فخلِّ نظرَكَ عليهم: (وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ) فقط هم..هم؛ لأن هؤلاء هم الذين ارتضيتهم أنا واصطفيتهم، وأنت عبدي المختار، ما ترتضي إلاَّ مَن ارتضيت، ولا تصطفي إلاَّ مَن اصطفيت، ولا تحب إلاَّ مَن أحببت: (وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا..(28)) كما ستأتي معنا معاني ذلك إن شاء الله.

اللهم اجعلنا ممن ارتضيت، واجعلنا ممن اصطفيت، واجعلنا ممن واليت، واجعلنا ممن توليت، واجعلنا ممن عافيت، واجعلنا ممن قربت وأدنيت، واجعلنا ممن ارتضيتهم لقربك واصطنعتهم لنفسك وآنستهم بكريم أنسك، اللهم لا تحرمنا خير ما عندك لشر ما عندنا تولَّنا بما أنت أهله ظاهرًا وباطنًا.

بسر الفاتحة 

إلى حضرة النبي محمد  ﷺ

تاريخ النشر الهجري

12 رَمضان 1434

تاريخ النشر الميلادي

20 يوليو 2013

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام