(535)
(363)
(339)
درس يلقيه الحبيب عمر بن حفيظ في تفسير سورة الكهف بعد الفجر ضمن دروس الدورة التعليمية التاسعة عشرة بدار المصطفى 1434هجرية.
﷽
(إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) وَكَذَٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ۖ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا ۖ رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ۚ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ ۖ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ۚ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ ۗ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا (24))
الحمد لله مُكرمنا بالآيات البيّنات، وموفّقنا لقراءة كتابه والتأمل في معانيه وعِبره، وصلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم على عبده المصطفى خير البريَّات، سيد أهل الأرض والسماوات، محمّد بن عبد الله، عبد الله ورسوله وصفوته من خليقته وبريَّته، وعلى آله وصحبه وأتباعه ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أمّا بعد،،
الحمد لله على توفيقه وتوالي نَعمائِه وجَزيل عَطائه وعلى تأمل أخباره وأنبائه فيما يُنبِئُنا ويُخبِرنا من أخبار أوليائه وأصفيائه، وهنا نحن في قصة أولياء من بني إسرائيل تولاهم الله تبارك وتعالى وَأَوَوا إلى الكهف، فسموا أصحابَ الكَهف، يَقُصُ الحق تبارك وتعالى علينا نَبَأهم وخَبَرَهُم ويقول جل جلاله وتعالى في عُلاه: (وَكَذَٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ۖ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا ۖ رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ۚ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا (21)).
بعد أن أَخبَرَ عن بَعثِهِم من المنام بعد مرور تلك الأعوام الطويلات، (وَكَذَٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ)، ما معنى (كَذَٰلِكَ)؟ كذلك أي:
(وَكَذَٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ..(19))؛ لأن هذا التساؤل بينهم سَيُؤديهم إلى استكشاف عجبٍ من تدبيرنا وآياتنا ورعاياتنا؛
(لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ) فالتساؤل بين أهل العِلم في أمور العِلم، التساؤل بين أرباب المعرفة وأرباب النور وأرباب الأذواق، يُنتِجُ فوائد كثيرة واسعة، حتى جُعِلَ حِكمَةً في بعثهم (وَكَذَٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ) -أقمناهم من النوم- (لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ)، لأن هذا التساؤل سيكشف لهم عجائبَ من تدبيرنا ومن عنايتنا ومن ألطافنا ومن إنجازنا الوعد ومن رعايتنا بهم إلى غير ذلك (لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ)؛ فصار مُؤَدّى هذا التساؤل مطلوبٌ مقصودٌ لذاته حتى جُعِل حِكمَةً لبعثهم، أي إقامتهم من نومهم.
(وَكَذَٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ ..(19)):
(لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ)، فاختيارُ مَجرى الكلام عندما يَلتَقي الناس؛ له أثر كبير في ذاك المَجلِس وما ينزل فيه.
ولهذا نرى القرآن يأمر بالبعد عن المجالس التي يُتعدى فيها الحَد ويُتكلَّم فيها بما لا ينبغي ويُخاض فيها في آيات الله بغير تعظيم ولا محبة: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) [الأنعام:68]. إذًا فَميزانُ المَجالِس بالكلام والحديث الذي يَجري فيها، فإن كان الحديثُ فيه تجرُّؤٌ على الحق وعلى آياته، فاحذر من هذا المجلس ومن أهله وأذهب حتى يخوضوا في حديث غيره، (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ)، (إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ) [النساء:140].
وهكذا فَنَرجِعُ إلى المجالس الطيبة المباركة، ويأتينا فيها خبر الصادق ﷺ إذ كان في بعض مجالسه النبوية المباركة النورانية العِلمية، فأقبل ثلاثة نفرٍ:
فقال ﷺ عند انتهاء المجلس: "ألا أخبركم بخبر الثلاثة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال:
إذًا فَمجرى المَجالس بِمَجرى الحديث الذي يجري فيها، وأحوال المُتَحَدِثين لها اعتبارات ولها رُتَب ولها دَرجات ولها منازل، ولذا يقول الإمام علي الحبشي:
هم العلماء العارفون الذين في *** مجالسهم للمرء أعظم إسعاد.
ما هو إسعاد فقط، أعظمُ إسعاد، الذين في مجالسهم للمرء أعظمُ إسعاد، قال نبينا: "المَرءُ مِن جَليسه".
(وَكَذَٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ)، فَذَكَرَ الحقُ لنا طرفاً من تساؤلهم: (قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ ۖ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ..(19)) يعني بعضهم قال كذلك، كما مَر معنا: (لَبِثْنَا يَوْمًا)؛ لأنهم بُعثوا آخر النهار بعد ثلاث مئة وتسع سنين، وناموا أول النهار قبل ثلاثمئة وتسع سنين، فلما بُعثوا آخر النهار ظنوا أنه هو هذا نفس اليوم الذي ناموا فيه، فقالوا: (لَبِثْنَا يَوْمًا) ولما رأوا أثر الشمس لم تغرب بعد، قالوا: (أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)، لم يكمل اليوم، (أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۚ قَالُوا)، أي فأجابَ آخرُ منهم.
والحق ينسب كلام الواحد إلى الكل فيقول: (قَالُوا) وهو واحد يتكلم. (قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ)، فقيل إنه كبيرهم هذا والذي يرجعون إليه، وقيل غيره، قال: (قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ)، يقول لهم؛ إذن نحن الآن ما استطعنا أن نهتدي بتحديد المُدة وكم نِمنا، وهل هو نفس اليوم هذا، أو يوم ثاني، وما يتجاوز في أذهانهم أنه أول يوم أو ثاني يوم، كم جلسوا نائمين في هذا المكان؟! وقد مضت ثلاثمائة وتسع سنين.
وفي هذا أيضاً أن التزودَ بما يتيسر للإنسان من الزادِ مَشروعٌ ومطلوبٌ ولا إشكال فيه ولا يناقض التوكل، فَخَرَجوا بما معهم من هذه الفضة، فأخرجوها معهم إلى الغار وأبقوها حتى إذا احتاجوا إليها فهي موجودة، لكن اعتمادهم على الرَّبِ: (يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا (16)) -سبحانه وتعالى- فليس: ادخلوا الكهف، والفضة معنا، وسنحضر مانحتاجه بها، ما هكذا نَظرَتُهُم، تَزَوَّدوا واكتسبوا فلا إشكال، لكن ما اعتمدوا إلا على الرب -جل جلاله وتعالى في علاه-.
كما قال سبحانه وتعالى لجماعة كانوا يذهبون إلى الحج فكانوا لا يأخذون معهم زاد ويقولون نحن متوكلون، فلا يصح لهم قدم التوكل، إذا وصلوا صاروا يَلتَفِتون إلى ما مع الناس ويسألون الناس، فأنزل الله:
كانوا تَحَرَّجوا من التجارة، والكسب، قال: لا، (وَتَزَوَّدُوا)، خذوا زادكم معكم ولا تَتَشَوفوا لما في أيدي الناس، (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ)، ونِعمَ زاد التقوى، زَوَدَنا الله منه بِزادٍ شريف.
(فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَٰذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19))
(إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا) ينظر أيها أطيب طعاما حِلاًّ وحُسناً تأكلونه، تَتَقَوون به على طاعة الله، فقد أحَسوا بالجوع، كيف لا يحسون بالجوع بعد ثلاث مئة وتسع سنين مَرَّت؟! وهي آية من آيات الله سبحانه وتعالى، يقول سبحانه: ( فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا) ولِتَجَنُّب ذبائح المشركين، وكانوا يعرفون في المدينة قوماً مُتَخَفين بإسلامهم، أظهروا للملك أنهم على كُفره وشُركه ويُخفون إيمانهم وتوحيدهم، وقالوا: لا تأخذون إلا من عند هؤلاء، ولا تأخذوا لحماً من عند المشركين.
وقالوا: (أَزْكَىٰ)، (أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا):
(فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ): قوتاً تتقوتون به وتستعينون على طاعة الله، (وَلْيَتَلَطَّفْ) في كتم وستر ولا يُظهر شيئاً من الأخبار، (وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)) لا تجعل أحد يشعر أنكم مُجتمعين في هذا المكان خارج هذه المدينة، لِم؟.
(يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)) إذا رَجَعتم إلى مِلة الكفر وأشركتم بالله تبارك وتعالى وخرجتم عن هذا الدين فلا فلاح.
وهكذا يجب على كل من دان دين الحق أن يَعلَم أنه بمفارقة هذا الدين فلا فلاح أبداً، ويَفوته السعادة كلها والخير كله إذا فارق الدين.
فيا رب ثبتنا على الحق والهدى *** ويا رب اقبضنا على خير مِلة
(إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) يَطَّلِعوا عليكم ويعرفوكم فَيَتَمَكنوا منكم (يَرْجُمُوكُمْ) -يقتلوكم- (أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ) يرجعوكم إلى الكفر -والعياذ بالله- (وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)) تكونون في الشقاء الدائم بالكفر.
يقول الله: (وَكَذَٰلِكَ..(21)) كما أَنَمناهم وضَرَبنا على آذانهم واعتَنَينا بهم وصَرَفنا الناس عنهم، (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا) [الكهف:18]، وقَلَّبناهم (ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ) [الكهف:12]، ثم تساءلوا، وابتدأوا من بعد هذا التساؤل في إرسال هذا ليكتشفوا أن الأمر فوق ما توقعوا، وأكبر مما خطر على بالهم؛ لا يوم ولا يومين ولا شهر ولا شهرين ولا سنة ولا سنتين، فما هذا الحال وما هذا الأمر؟ (وَكَذَٰلِكَ) -كمثل ذلك- (أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ) أَطلَعنا غيرهم من الناس المَوجودين في ذاك الزمان، أطلَعناهُم عليهم لِحِكَمٍ؛ (لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ..(21)).
فإن الناس قد انتشر بينهم دين الحق والهدى، وهو دين سيدنا عيسى بن مريم -على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام- وصاروا يؤمنون، وكانوا في تلك الأيام يتناقشون: هل البعث بعد الموت للأرواح فقط أو للأرواح والأجساد؟ وكان المَلك صالح، وله وزراء يُوليهم على الأماكن ينوبون عنه في الأماكن، صالحين أيضاً، وكان هذا المَلك الصالح يسأل الله: أن يبين لهم بياناً في البَعث بعد الموت أنه للأرواح والأجساد معاً أو هو خاص بالأرواح، فكان يسأل الله ويُلِح في ذلك. والناس يتناقشون وإن كان الإيمان قد عَم الناس وصار أكثرهم على الإيمان وعلى الملة، ولكن (يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ (21)).
قال: (لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ (21)) في شأن هؤلاء، وكيف بعد هذه المدة الطويلة رَجَعوا إلينا بأجسادهم مع أرواحهم؟!، ليس بالأرواح فقط! وبعد الغَيبة ثلاثمائة وتسع سنين، هذا موت أو شبه الموت، وكيف عادوا؟ فهذه آية لنا أن الله يُعيد الناس بأرواحهم وأجسادهم.
(لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ (21))، وكيف عَثَروا عليهم؟ هذا الذي خرج يريد أن يشتري الطعام بقي يستغرب، أول ما خرج على باب المدينة، ومدينتهم يعرفونها ونشأوا فيها، مكتوب كلام يُشعِر بالتوحيد، عجيب! يقول: متى كتبوا هذا .. وما عذبوهم وما أخذوهم!.
يدخل يرى وجوه، لا يَعرِف منهم أحد، وهو في باله أمس كان هنا، أمس كان في المدينة ويَعرف، وفي المدينة موجودين أبوه وعمه وخالُه موجودين في المدينة، ولا واحد عَرَف! ثاني، ثالث؟ هذا جيل ثالث جاء، وذهب الجيل الأول والثاني والثالث
نظر يتعجب!!، فسمع اسم عيسى بن مريم! قال: أوه!! بالأمس كان مَن ذَكَر هذا الاسم يَحبِسونه! كأنه اليوم تَغَيَروا؟ في يوم واحد. ويسمع هذا الاسم!! ولا أحد يَحبِسهُم ولا أحد يَأخُذهُم من شرطة المَلِك دقيانوس!.
أين دقيانوس؟! وقد ماتوا، هو الآن في مَصير غير مَأنوس! حصل له دق -دقيانوس- فبقي مُتعجب ومتخوف، لعلّ أحد يَعلَم به، ويوصله إلى عند الملك دقيانوس وينفذ حُكمه فيهم، فلما رأى الأحوال مُستَغرَبة وغير مألوفة، قرر يَخرُج بسرعة من المدينة قبل أن يعثروا عليه، فجاء إلى عند صاحب الطعام -الذي يريد أن يشتري منه الطعام- وقَدَّم إليه قال له: خذ هذه العُملة، رأى العُملة!! ماهذا!! -عليها وسم الملك القديم واسمه فيها، قال له؛ أنت عثرت على كنز؟! ماذا؟! قال: من أين هذه العملة؟ معي هذه خرجتُ بها أمس، خرجتُ بها أمس؟! كيف أمس؟! هذه عملة قديمة! يقين حَصَّلت كنزاً الآن معك؟ قال: ما عندي كنز، قال: ها تَخَفيه علينا، لا بد أن نبلِّغ خَبِرُك إلى عند الملك، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، الذي كنت أخافه وقعت فيه -يقول في نفسه-، قال له: هذه عُملة عجيبة، قطعة من الفضة مُنَظَمة وعُملة قديمة، قالوا له: أخبرنا، قال: أخبركم بماذا؟ أنا خرجتُ بها من هذه المدينة أمس، قالوا: أمس ماذا؟ متى أمس؟ هذا من زمان قديم! آباؤنا لا يَعرفون هذه العملة! ازداد استغرابه، وقال: هل هذه غير المدينة التي خرجنا منها؟ يقول لهم: أليس هذه مدينة أفسوس؟ قالوا: نعم، قال: الطرق أعرفها، الوجوه لا أعرفها -الناس لا يعرفهم- نوع آخر.
فذهبوا به إلى عند رئيس المَحَلَّة، كانوا رَئيسين ايضًا صالحين، قالوا: وجدنا هذا الشخص معه عُملة قديمة، فكأنه عَثَر على كنز قديم وهو أبى أن يُخبِرنا عن كَنزُه، قال: من أين لك هذا الكنز؟ قال: أنا لا أدري كيف أخبركم، أنا خرجت أمس من هذه المدينة ومعي هذه العُملة ورجعتُ بها هنا، وفيها هنا آبائي وأجدادي، قال: من آباؤك؟ قال: فلان بن فلان بن فلان، قالوا: اه! هذه أسماء نسمع بها من قديم قد راحت! كيف؟ قال: أسماء قد راحت! أليس المَلِك الحالي هو دقيانوس؟ قالوا: دقيانوس مَن؟ ما نعرف دقيانوس! قد راح من زمان قديم! قال: عجيب! أنا كنت أمس في المدينة والملك دقيانوس وهذا رسمه.
عرفوا هؤلاء، قالوا: أين ذهبتم؟ أين كنتم؟ قال: خرجنا إلى كهف هناك، قال: سَمِعنا أنه في عهد دقيانوس خَرَج فِتية وما عثروا عليهم أين هم، لعلهم أنتم! نَخرُج معك إلى المكان.
خرجوا وخرج معهم جماعة من المدينة وأقبلوا، قال لهم: اصبروا سأدخل على أصحابي قبل أن تَظهِروا عليهم، وهم استبطأوه وقالوا: لعل المَلِك عثر عليه وأمسكه، ربما يَقتله وربما... فإذا به أَقبل، قالوا: أردّكَ إلينا المَلِك مِن أجل أن يَحمِلنا إليه ؟! قال: مَلِك من؟ قال: الملك قد مات، قالوا كيف؟ مات المَلِك؟! مات المَلِك! قال: الآن مُلك ثانٍ وناس آخرين.
فأقبلوا عليهم وقاموا يستقبلونهم: من أنتم؟ قالوا: ومن أنتم؟ من أين جئتم؟ قالوا: من هذه المدينة، قالوا: أي مدينة؟ نحن عَرفنا المدينة بالأمس، ليس فيها هذه الوجوه، ليس فيها هؤلاء الناس، قالوا: قد تَبَدَل الحال وتغير، فبقوا مستغربين، كتبوا إلى المَلِك: أن الله قد استجاب دُعاءك ورَأينا أُناس مِنَ الذين قد ماتوا من الزمان القديم، وَرَجَعوا بأرواحهم وأجسادهم.
فَخَرَج المَلِك وجاء هناك بجيشه وأقبل عليهم يُقابِلهم ويُعانِقهُم، فاستغربوا الأمر، دَخَلوا إلى كهفهم، ناموا فماتوا، ظهرت الآية: (وَكَذَٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ..(21)) ووجدوا أيضًا اللوح مكتوب فيه أسماؤُهم، ومعهم خَبَر يتواتر بينهم أنه ذَهَب فتية وبحث عنهم المَلِك وما عَثَر عليهم في زمنهم -دقيانوس هذا- فقالوا: هؤلاء هم الصالحون، وقد أرانا الله إياهم بهذه الوجوه المنيرة والأجساد الطيبة بعد هذه السنين كلها، ولا تَغَيروا ولا تأثروا، فقاموا.
يقول الله: (قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَىٰ أَمْرِهِمْ) هذا المَلِك ومن معه أو رئيس البلد، هذا المؤمن قالوا: (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا (21))، تنازعوا أمرهم أيضاً بينهم، قالوا: ماذا نصنع بهم؟ قالوا: سدوا عليهم باب الغار ودعوهم في مكانهم، و ابنوا على باب الغار مسجد فنعبد الله تعالى بجوار هؤلاء الصالحين ليكون ذلك أقرب إلى القبول: (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا (21)) وهم المؤمنون الذين غلبوا على أمرهم.
(لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا (21)) فكان ذلك، وبَنوا على باب الغار المسجد، وانتهى أجل القوم، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى، ولقوا ربهم وقد رضي عنهم ورضوا عنه.
وكان من جُملَة التنازع بينهم في عددهم، هذا في الوقت المُتأخر، وذلك أن النبي ﷺ عندما وَفَد وفدُ النصارى إلى المدينة، ذَكَر أصحاب الكهف، فَلَما ذَكَرَ أصحاب الكهف:
فتنازع اليهود مع النصارى في هذا القول، هذا يقول ثلاثة وهذا يقول خمسة.
قال الله: (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ) هذا الكلام تَجَرِّي وقول بغير عِلم، (رَجْمًا بِالْغَيْبِ) أمر غائب عنهم، وفيه أن الذي لا يعرف حقيقة الأمر والبَيّنة لا يخوض في المسألة، يسكت ساكت، لا يتطاول على ما لا يعرفه وعلى ما لا يَتَبَيَّنه، كعادة بعض الفضوليين وعادة بعض ضعفاء العقل والفهم، يخوضون في ما لا يعلمون وما لا يعرفون.
(سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ ۖ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) جاء بالواو هنا، وهذا هو العدد، ففصل بينه وبين القولين الأولين، وقال: (رَجْمًا بِالْغَيْبِ) ويقولون -قول ثاني- ما قال فيه (رَجْمًا بِالْغَيْبِ): (قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم) سبحانه وتعالى، وقد أشار إلى أن هذا هو العدد: (مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) من الناس، قال ابن عباس: أنا من هذا القليل، كانوا سبعة وثامنهم كلبُهم، (مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ)، (وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ۚ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ (22)).
يقول الله تعالى: ومثل هذه القضايا الغيبية، التي لا مجال للعقول فيها ولا التَحَكُّم فيها، إذا اتخذها الناسُ جدالاً ومراءً:
يقول تعالى: (فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا (22))؛ لا تسأل علماء اليهود ولا علماء النصارى، فما عندهم عن ذلك خبر، (فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا) وهذا داخل في معاني: "أدبني ربي فأحسن تأديبي".
(وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ..(24))، تقول: إن شاء الله، فإنك لا تدري ما يَحدُث بينك وبين غد، وكيف تتمكن؟ فيقول: إن شاء الله، وهذا تعليم القرآن وأدب؛
كم يرتب الله من حوادث على الكلمات أحياناً! فكم من بركة في قول: إن شاء الله إذا عَزَمت على أمر خير، قل: إن شاء الله.
وكم أمثلة لآثار هذه الكلمة في الوجود وفي العالم وفي الحوادث وفي الشؤون، لأنك تَنسب الأمر إلى صاحبه جلّ جلاله: إن شاء الله، (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [التكوير:29] جلّ جلاله، (إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ).
(وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ..(24)) وهكذا يُذَكِرنا سبحانه وتعالى على لسان رسوله ويقص علينا العجائب.
رزقنا الله الاعتبار والإدِّكار، وأرانا أولئك الأخيار في جنات تجري من تحتها الأنهار، أنت (رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَٰهًا ۖ لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا) [الكهف:14]، اللهم اربط على قلوبنا و (آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) [الكهف:10] و ثبتنا على ما تحب مِنا وأصلح الحِس لنا والمَعنى.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
11 رَمضان 1434