(535)
(363)
(339)
درس يلقيه الحبيب عمر بن حفيظ في تفسير سورة الكهف بعد الفجر ضمن دروس الدورة التعليمية التاسعة عشرة بدار المصطفى 1434هجرية.
﷽
(فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ ۚ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَٰهًا ۖ لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَٰؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً ۖ لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ ۖ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15))
الحمدُ للهِ مُكرِمِنا بتنزيلِ القرآنِ، وببيانِه على لسانِ الذي أُنزِلَ عليه أكرمِ إنسانٍ، سيِّدِ الأكوانِ، حبيبِ الرحمنِ، محمدِ ابنِ عبدِ اللهِ، رحمةِ اللهِ المُهداةِ ونعمةِ اللهِ المُسداةِ، اللهمَّ صلِّ وسَلِّمْ وبارِكْ وكَرِّمْ على عبدِك الهادي إليك والدالِّ عليك سيِّدِنا محمدٍ، وعلى آلِه أهلِ الطهارةِ وأصحابِه الأكرمينَ، وعلى آبائِه وإخوانِه من الأنبياءِ والمرسلينَ، وآلِهم وأصحابِهم وتابعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك ياأرحمَ الراحمينَ.
ونَغنَمُ الساعاتِ المباركاتِ ونُحمِّلُها عسى أن يكونَ زادا يكونُ ذُخرًا لنا في المَعادِ، نغنمُ الأوقاتَ بتأمُّلِ الآياتِ ومعانيها البديعاتِ الكريماتِ.
ولقد تأمَّلْنا ما تأمَّلْنا من قولِ الحقِّ -سبحانه وتعالى- في ذِكرِ:
إلى الصورةِ التي صوَّرها لنا بقولِه: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ) تَكادُ أن تُهلِكَ نفسَك على آثارِهم، أي مِن وراءِ أحوالِهم وشؤونِهم، فيما كانوا أعرضوا وصَدُّوا وتَولَّوا؛ على آثارِهم (إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ ..(6)) فكأنهم لِمفارقتِهم ما جاء به من الحقِّ والهدى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم فارَقوه، وما بقيَ إلا آثارُهم من بعدِهم بسببِ امتناعِهم عن الدخولِ في دائرةِ الإيمانِ، وكأنهم فارَقوه فما بقيَ إلا الأثَر الذي يكونُ للذي أدبرَ وتولَّى وذهبَ، فما بقيَ إلا آثارُه فالقومُ بإعراضِهم وتولِّيهم كأنهم فَرُّوا وبَقِيَتِ الآثارُ، فلهذا قال: (عَلَىٰ آثَارِهِمْ).
(فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ ..(6)) أي القُرآنِ المُنزلِ عليه، وسمَّاه اللهُ تبارك وتعالى حديثًا، كما قال في الآيةِ الأخرى: (مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ) [الأنبياء:2] أي:
يقولُ جلَّ جلالُه: (إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ) والذي لا يؤمنُ بهذا الحديثِ ولا يُؤمنُ بهذا القرآنِ مُخلَّدٌ في النارِ -والعياذُ باللهِ تعالى-، فكيف لا يُتأسَّفُ عليه؟ لكن بلغَ الأمرُ من رحمةِ هذا النبيِّ أنه كادَ أن يَبخَعَ نفسَه وراءَ هؤلاءِ القومِ؛ ليُعلِّمَنا رحمةَ الخلقِ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ليكونَ قدوةً لنا صلواتُ ربي وسلامُه عليه.
(إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)) من أجلِ الأسفِ، وهو بالِغُ الحزنِ، الحزنُ الشديدُ، قالوا: أسَفً (يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) [يوسف:84] لمَّا اشتدَّ الحزنُ حتى وصلَ إلى هذا المستوى قال: (يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ)، (إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا).
يقولُ اللهُ تبارك وتعالى: لا تُغفِلْ عما عَلَّمناك من حكمتِنا؛ أنه يؤمنُ من آمن ويكفرُ من كفر، ولذلك خلقْنا الجنةَ والنارَ، ووعدنا كلَّ واحدٍ مِلؤها، فلا يذهبْ عن ذِهنِك أيضًا هذه الحقيقةُ، (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا ..(7)):
ولكن هناك مَعنى أيضًا للزينةِ معنويٌّ باطنيٌّ شريفٌ كريمٌ زُيِّنَت به الأرضُ، إلا أن أصحابَ هذا المَعنى على ظهرِ الأرضِ وليسوا بِعَلَيها، يعني:
وهذه زينةُ الأرضِ بالأنبياءِ والمُرسلينَ والعبادِ الصالحينَ وأهلِ العبادةِ للهِ وأهلِ تقوى اللهِ سبحانه وتعالى فيها هم نِعْمَ الزينةٌ للأرضِ؛ هم زينةُ الأرضِ، وهم زينةُ السماءِ، هم زينةُ الدنيا، وهم زينةُ الآخرةِ كذلك؛ إلا أن هذه الزينةَ زينةٌ معنويةٌ شريفةٌ حقيقيةٌ دائمةٌ.
ووجودُ الأنبياءِ، ووجودُ الأصفياءِ، ووجودُ الأولياءِ، ووجودُ العارفينَ، ووجودُ العلماءِ على ظهرِ الأرضِ زينةٌ، ولكنها زينةٌ تُكسبُك زينةَ الأبدِ، وزينةٌ إذا عَرَفتَها دَلَّتك على الواحدِ الأحدِ، فَخَرَجتَ من كلِّ موجباتِ الهمِّ والغمِّ والنَّكَدِ، وكنتَ واحدًا لواحدٍ، فلا خوفٌ ولا حزنٌ، وتوالتْ عليك المِنَن حتى تلتقيَ في الآخرةِ بمن أُنزلتْ عليه الآياتُ، جَدِّ الحسَنِ خِزانةِ المِنَن، صلى الله وسلَّم وبارَكَ عليه وعلى آلِه وأصحابِه.
(إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)) فمن الذي يَغترُّ بالزخرفِ والزينةِ ويَذهبُ وراءَها؟ قال سبحانه وتعالى في ذِكرِ هذه الحقيقةِ في مَخرَجِ واحدٍ من أهلِ هذه الدنيا، وهو قارونُ: (فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) [القصص:79] ولكن زينتُه ما هي؟ زينتهُ هذه الهابطةِ، الزينةُ هذه الفانيةِ الساقطةِ الحسيةِ، (فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ)؛ فانفَرَقَ الذين رأوه إلى فريقين:
قال: (فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ۖ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ) وَوَصَفوا هذه الزينةَ: (إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)، (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ)، ما هذا الخَطأُ في التفكيرِ؟ ما هذا الإعوجاجُ في النَّظَر والتصورِ؟ (وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ) [القصص:80].
قال اللهُ: فما لبثوا أن ظهرتِ النتيجةُ للأعينِ مباشرةً بعد مدةٍ يسيرةٍ: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ) [القصص:81] هلك، وأين ذهب الذين قالوا: (يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ) [القصص:79]؟! أتريدون خَسْف مِثله؟ أي أن مُؤدَّى ذاك الأمرِ الذي غرَّكم هذه عواقبُه، فأين عقولُكم؟! كان الآخرون هم الذين أُوتوا العلمَ، ومقابلَ ذلك، الذين اغترُّوا بهذه الزينةِ جُهَّالٌ، جُهَّالٌ، جُهَّلاء، لو لم يكونوا جُهَّالاً لَما خالفوا ما قال الذين أُوتوا العلمَ.
(فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ۖ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ۖ وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ)؛ قال الله: (نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا) [القصص:81-83]؛ لأن إرادةَ العُلوِّ في الأرضِ هو فسادُ ذاتِ الإنسانِ، والذي أرادَ العُلوَّ في الأرضِ هو الذي يَحمِلُه ذلك على أن يتجرَّأَ على مِنهاجِ ربِّه وعلى أحكامِ ربِّه، لأجلِ أن يُلبِّيَ طلباتِ هذه الإرادةِ، إرادةِ العلوٍّ في الأرضِ، لكن مقابلَ ذلك علوٌّ عند ربِّ الأرضِ والسماءِ، هذا شأنُه شأنٌ، أما علوٌّ في الأرضِ، فالأرضُ بنفسِها لا تبقى، والأرضُ بذاتِها مُعرَّضةٌ لأن تَمورَ وأن تَدورَ، وأن تَغورَ بِحارُها، وأن تُكوَّرَ الشمسُ من فوقِها، وأن تَمتدَّ امتدادًا وتُلقيَ ما فيها وتَتَخلَّى عنه، إلى غيرِ ذلك مما يطرأُ عليها من التغييرِ.
قال سبحانه وتعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ) -لنختبرَهم- (أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)) فَتُشيرُ الآيةُ:
يقولُ: (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) وما دام الأمرُ كذلك، فهو مُنقَضٍ وهو زائلٌ، ويُسلِّي نبيَّه يقولُ: اعلمْ حكمتَنا في هذا الخلقِ، وشأنُ هؤلاءِ المكذبينَ، وما عاندوا به، قَصيرٌ ومنحصرٌ وزائلٌ وذاهبٌ، ومُغترٌّ به مما على الأرضِ.
(وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)) تراب، ولهذا صدقتْ رابعةُ العدويةُ في مَقالها: وكلُّ الذي فوقَ الترابِ ترابُ؛ لأن كلَّ ما عليها سيعودُ أيضًا إلى ترابٍ (وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا) -تراب- (جُرُزًا) لا نباتَ به، ولا أثرَ لِخُضرتِه، ولا نموَّ لشيءٍ عليه، كما قال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ ۖ أَفَلَا يُبْصِرُونَ) [السجدة:27] ونهايةُ هذه الأرضِ أن تَعود كلُّها جُرُزًا، ولا نبتةَ ولا شجرةَ ولا شيءَ عليها أبدًا والجبالُ هذه التي عليها، وهي من أصلبِ ما يكونُ عليها وأقوى ما يكونُ عليها، تُقَلَّعُ ثم تُدَكُّ بالأرضِ: (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً) [الحاقة:14]، ثم تُنسَفُ نسفًا، (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ) [القارعة:5]، (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا) [طه:105].
فإذا كان هذا شأنُ الجبالِ الصلبةِ التي عليها، فماذا سيبقى عليها؟ وماذا يدومُ منها؟ وأنت واحدٌ من الذين عليها، لن تدوم فيها، ويأتي الوقتُ الذي حتى أجساد الناسِ هؤلاءِ كلُّهم ستعود الى التراب،
( وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)) إلا؛
هؤلاءِ خمسةُ أصنافٍ لا تأكلُ الأرضُ أجسادَهم، لكنها مُغطَّاةٌ تحت الأرضِ، تكونُ كلُّها تحت الأرضِ.
الأرضُ إذا نظرتَ إليها يمنةً ويسرةً في تلك الساعةِ صعيدٌ جُرُزٌ، مابقي شيء، أما الأجسادٌ بنفسِها صارتْ تُرابًا، وأجسادٌ أخرى مُحترمةٌ معظَّمةٌ مدفونةٌ تحت الترابِ؛ عندها ينادي المَلِكُ:
وأنتم، وضجَّة في العالمِ وقوانينِ في الأرض، ورجعة وطلوع ونزول ، وأنا وأنت... واليومَ؟! ولا واحدٌ منهم، لم يبقَ شيء منها، لا بيتٌ أبيضٌ، ولا أصفرٌ، ولا بيتٌ أخضرٌ، ولا أحمرٌ، ولا أصفرٌ، ولا أخضرُ، ولا شيءٌ؛ كلُّه انتهى، انتهينا من المسألة (لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ).
(وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)) فمَن تغرُّه الدولُ القَصيرةُ أمامَ دولةِ الجبارِ؟! هذا المُلكُ مُلكُه، والأمرُ أمرُه و إن كان بعده مُلك، فمُلْك اللهِ، تَصلُح بالمملكةِ الدائمةِ الباقيةِ، صَلِّحْ لك علاقة معه، تُصْلح بها حالَك ونفسَك إلى الأبدِ، كم من واحدٍ تقوِّي العلاقةَ معه، لتَكسب لنفسِك منفعةً، يُسقِطُك في مَضَرَّاتٍ لا لها أولَ ولا آخرَ! لكن ربَّ العالمينَ لو أصلحتَ حالَك معه، (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ) [فصلت:31-32]، (وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا).
فصارتْ هذه الخمسةُ الأصنافِ من الناسِ لا تأكلُ الأرضُ أجسادَهم، كما جاء في الأخبارِ والأحاديثِ:
لا تقولُ يَمَنٌ ولا شامٌ ولا مصرٌ ولا مَغربٌ، ولا عربٌ ولا عجمٌ، وأيِّ قارةٍ من قاراتِ الأرضِ؛ واحدٌ مؤمنٌ باللهِ ورسولِه يُصلِّي على محمدٍ، قال الحبيبُ: الخَطُّ شغالٌ بيني وبينه، في صلةٌ قائمةٌ: "فإن صلاتَكم عليَّ تبلغُني حيثُ كنتم". ثم هذه خطوطٌ لا يُمكن يتسلَّطُ عليها لا قنبلةٌ، ولا شيءٌ يأتي من الأجواءِ يؤثِّرُ عليها، ولا يقطعُها إلى الأبدِ.
"كيف تبلغُنا صلاتُك وقد أرِمْتَ؟ إذا أنت في القبرِ وفَنِيَ الجسدُ؟ إن اللهَ حَرَّم على الأرضِ أن تأكلَ أجسادَنا معاشرَ الأنبياءِ"؛ حتى جسدي ما تمسُّه الأرضُ ﷺ وعجَبٌ لهذه الأرضُ تفرِّقُ بين جسد وجسدٍ! ما هذه الآياتُ؟! إذهب الى القبورَ، احفِرْها، سترى أن هناك أمواتً كانوا في الحياةِ يتقاتلون -على أهلَ حقِّ وأهلَ باطلِ- تعالَ بعد يومينِ أو ثلاثةٍ سترى:
قُتِلوا في مكانٍ واحدٍ، في ساعةٍ واحدةٍ، شُوهِدَ هذا! حتى في عصرِنا، في مكانٍ واحدٍ ووقتٍ واحدٍ قُتِلوا، هذا ينتفخُ وينتنُ، وهذا على رائحتِه الطيبةِ، وكأنَّه الآنَ قُتِلَ، ما الذي يفرِّقُ بين ذا وذا؟ ونضعهم معًا في الأرضِ، هذا تأكلُه الأرضُ، وهذا ما تمسُّه! وتمتنع عن أكله، أدبً مع اللهِ، فلا تمسُّه، كيف تفرِّقُ بين هذا وهذا؟ (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا) [الزلزلة:5]، الأرضُ أيضًا تحت أمرِه وحُكمِه، ثم قال لها -يعني للسماءِ وللأرضِ-: (ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) [فصلت:11] هذا المُلك، هذا صاحبُ المُلك، وبقيةُ ملوكِ الأرضِ لا يقدرون على قَْلبِ شيءٍ من حقائقِ الأرضِ، إلا على الاستفادةِ منها بالطبيعةِ التي خَلَقَها هو عليها فقط، أما هو يغيِّرُ شيء؟ لا يقدرُ يغيِّرُ شيء، إلا أن يستفيدَ من الشيءِ الذي أوجدَه الربُّ، فقط، هو يستطيع أن يقلِّبُه ويصنِّعُه، يصلحه، لكن يغيِّرُ أصل من أصولِ الأرضِ، قانونًا من قوانينِها، لا يقدرُ على ذلك، ولا يتحكَّمُ في ذلك، فالمُلكُ إذًا لمن؟ المُلكُ للهِ، سبحانَ اللهِ، قال: (وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8))
ثم ابتدأَ الخبرَ في هؤلاءِ الفتيةِ الطيِّبينَ، الذين كانوا زينةً من الزينةِ الباطنةِ المعنويةِ على ظهرِ الأرضِ؛ فتيةٌ سُئِلَ عنهم ﷺ -كما تقدَّم معنا- بتعليمِ اليهودِ لبعضِ المشركينَ، لمَّا أرسلوهم إلى هناك، عقبة بن أبي معيط ومعه واحد من الذين كانوا يؤذون النبي ﷺ، وعنده علمٌ في التاريخ، فقالوا له يَسألونه؛
وجاءوا يسألونه، ولمَّا سألوه، أخَّرَ الجوابَ ﷺ ينتظرُ الوحيَ، وقال: غدًا أُجيبُكم، فلم ينزلِ الوحيُ، فجاءوا اليومَ الثانيَ، قال: غدًا أُجيبُكم، فلم ينزلِ الوحيُ، وهكذا إلى خمسةَ عشرَ يوم، فقال: غدًا أُجيبُكم إن شاء اللهُ، فنزلَ الوحيُ، وأنزلَ اللهُ في أثنائِها: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا (23) إِلَّا..) -قل إلا أن يشاء الله- (إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ (24)) فرتَّبَ على تعليقِ المشيئةِ علاقةً بينك وبين المكوِّنِ الفعَّالِ، أن يُسخِّرَ الأشياءَ لك إذا ارتبطتَ به-جل جلاله- فَعَلَّمَ هذا الأدبَ سيدُ الوجودِ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم؛ ليتعلَّمَ الناسُ من بعدِه، وليكونَ أيضًا هو في ذاتِه آيةً من الآياتِ، أنه لا يأتي بكلامٍ من عندِه:
هذا جوابٌ مُنتظَرٌ إبرازُه، والناسُ يتحدَّونه بهذا، وصبرُ أولَ يومٍ، ثانيَ يومٍ، ثالثَ يومٍ، إلى نصفِ شهرٍ ما جاء الجوابُ، فاما جاء الجوابُ، فأجابَهم، وكذَّبوه وتولَّوا، وهكذا (فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ) [ابراهيم:4]؛ ولكن في هذا عبرةٌ كبيرةٌ وبيانٌ أن محمدًا ما كان ليفتريَ ولا ليتقوَّلَ من عندِه، ولكنه المستسلمُ لأمرِ ربّه، الذي يُبلِّغُ عن اللهِ ما أمرَه بتبليغِه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فانتظرَ طيلةَ هذه الليالي (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الزمر:13] أنا أتَّبِعُ وحيًا جاءني من فوقُ، صلواتُ ربي وسلَّامه عليه، فكان الكمالُ في العبوديةِ للهِ، كان الكمالُ في الأدبِ مع اللهِ، كان الكمالُ في الخَشيةِ من اللهِ، كان الكمالُ في رجاءِ اللهِ سبحانه وتعالى، ثبَّتَنا اللهُ على دربِه وأدخلَنا في حزبِه حتى يَسقيَنا من شُربِه.
يقولُ: (أَمْ حَسِبْتَ..(9)) أتظنُّ أمتُك من بعدِك، يظنون في هؤلاء الفتيةِ التي سنحدِّثُكم عن أمرِهم -أمرًا غريبًا- أن هذا العجبَ في مثلِ هذه الفتيةِ؟! :
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَّهُ آيَةٌ *** تَدُلُّ عَلَىٰ أَنَّهُ الْوَاحِدُ
(مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ) [الملك:3].
(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا (9)) هل تظنُّ، أو يظنُّ هؤلاءِ السائلونَ لك، أو تظنُّ أمتُك من بعدِك، أنَّ مثلَ هذه القصةِ وما عَمِلْنا لهؤلاءِ الفتيةِ أمر -في جملةِ آياتِنا- وحدَه بديعٌ؟ لا، لا، لا، لا؛ كلُّ آياتِنا بديعةٌ، وكلُّ آياتِنا تدلُّ على عظمةِ الصنيعةِ وعلى إحكامِ الصُنعِ من الصانعِ:
(قَدَّرَ فَهَدَىٰ) جلَّ جلالُه وتعالى في علاه؛ فلهذا وجَدْنا عالمِ الإنسانِ، ما قُدِّرَ له وهداهُ لمصالحِه الظاهرةِ والباطنةِ، وارجَعْ إلى عالمِ الطيورِ، وارجَعْ إلى عالمِ النملِ والذَّرِّ، وارجَع إلى عالمِ حيواناتِ البحرِ (قَدَّرَ فَهَدَىٰ) وكلُّ واحدٍ له ترتيب وله نظامٌ وله قانونٌ وله عادات وله هِداية لمصالحِه، وكيف يعيشُ وكيف يَحيا، سبحانَ الخالقِ العظيمِ!
يقولُ له سبحانه وتعالى:(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ):
فإذًا الكهف الغار الكبير، إذا اتسع مداخل الفتحة وسط الجبل سميت كهفًا وإن كان صغيرا سمي غارًا.
يقول: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ (9) ما الرقيمُ هذا؟ الرقيمُ له معاني، الرقيمُ من جملتِه: المَرقومُ، يعني الأمرَ المكتوبَ، المرقومَ، وكأنها لوحةٌ أو حَجَرَةٌ رُقِمَتْ عليها أسماؤُهم، أين هذا؟ إما هناك عند المَلِكِ الذي يتابَعَهم، من أجلِ أن يقتلُ المسلمينَ، من يُوحِّدُ اللهَ -تبارك وتعالى- وبَقِيَ هؤلاءِ على التوحيدِ، من أعزَّاءِ القَومِ، من الأُسَرِ العزيزةِ في المجتمعِ عِندَهم، من أبناءِ الملوكِ، وثبتوا على الإيمانِ، وثبتوا على الحقِّ.
وهذا الملِكُ الذي يُسمَّى: دِقْيانوس، كان شديدًا مُفسِدًا، بالغَ في الإشراكِ باللهِ تعالى وعبادةِ غيرِه، وكان يَقتلُ مَن في مملكتِه من المسلمينَ والمؤمنينَ؛ فرُقِمَتْ أسماؤُهم عندَه، وتأنَّى بهم لمَّا أنهم من أبناءِ المُلوكِ ومن الأُسَرِ المرموقةِ، ولكنهم عندما تركَهم وذهبَ لبعضِ شُغلِه، قرَّروا قرَّارهم في أن يخرجوا ويتركوه، فهم أصحابُ هذا الرقيمِ:
رَقَمَ أسماؤهم عندَه، أو أن أسماءَهم ايضًا رُقِمَتْ ووُضِعَتْ على كهفِهم الذي كانوا عليه.
وهكذا يَذكرُ بعضُ أهلِ الشامِ في الأردن أن مَكانَ الرقيب عندَهم مُحرَّفٌ، وأن أصلَه رَّقيم، ثم سُمِّيَ رَقيب، وهناك مكانٌ لأهلِ الكهفِ، على اختلافٍ في الأقوالِ، وكونُه في هذه الجزيرةِ وفي حدودِ الشامِ من أقوى الأقوالِ أنهم كانوا هناك.
يقولُ سبحانه وتعالى: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9)) فانظرْ ما نَقُصُّ عليك من عجَبِهم، ولكن تأمَّلْ أن مثلَ هذا العجَبِ مَبثوثٌ في كَونِنا كلِّه، ومبثوثٌ فيما كانٍ قبلَهم وفيما يكونُ بعدَهم؛ فلِي قُدرتي ولِي حُسنِ تصرُّفي وتدبيري للوجودِ والكائناتِ، فلا تَغفَلْ عن ذلك، جلَّ اللهُ تعالى في عُلاه.
(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ ..(10)) قرَّروا قرارَهم بعد أن أخَّرَهم هذا الملِكُ لكونِهم من الأُسَرِ المرموقةِ، أبناءِ الملوكِ، وقال: أنا ذاهبٌ إلى المكانِ الفلانيِّ وراجعٌ إليكم، إما أن تُقَرِّروا الدخولَ معنا في دينِنا الذي هو الكفرُ والشركُ، وإلا فعلتُ ما فعلتُ بالمسلمينَ: سأقتلُكم كما قتلتُ المسلمينَ قبلَكم، فلمَّا ذَهبَ، فكَّروا في أمرِهم، وتراجعوا في شأنِهم، وقرَّروا أن يخرجوا من ديارِهم ومن أموالِهم فِرارًا إلى اللهِ تبارك وتعالى بدينِهم (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) وجاءوا ودخلوا هنا؛ وفي هذا إقامةُ الأسبابِ، وأن اللهَ جعلَنا على ظهرِ الأرضِ مُبتَلينَ بهذه الأسبابِ:
فلا بدَّ أن نقومَ بالأسبابِ بمُستطاعِنا، لكن غيرَ معتمدينَ عليها ولا مُستندينَ إليها، واعتمادُنا على المسبِّبِ ذاتِه -جلَّ جلالُه-، فهؤلاءِ لجأوا إلى السببِ.
كما كان من نبيِّنا في الليلةِ التي اجتمعَ الكفارُ عليه، ذهبَ أيضًا إلى غارِ ثورٍ، والغارُ لا يُنجي من الشدِّائدِ والمهالكِ، ولكن إذا جاءتْ عنايةُ اللهِ، فَنَعْمَ، حتى المشركين في بحثِهم وصلوا إلى فوقِ الغارِ، وسيدُنا أبوبكرٍ كان ينظرُ أقدامَهم عند الغارِ، ويقولُ للنبيِّ: “لو نظرَ أحدُهم موضعَ قدمَيْهِ لرآنا"
قال: "يا أبا بكرٍ، ما ظنُّك باثنينِ، اللهُ ثالثُهما؟ (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) [التوبة:40]"؛ فكانت وقايةُ اللهِ -سبحانه وتعالى- وخرجوا، ثلاثةَ أيامٍ كانوا وسطَ هذا الغارِ، أقامَ السببَ صلى الله عليه وعلى آلِه وصحبه وسلَّم، والحقيقةُ:
وُقايَـــــةُ الله أغنَت عَـــن مُضاعَفَــــةٍ *** من الدُّروعِ وعن عالٍ مِن الأُطُمِ
فَالصِّدقُ فِي الْغَار وَالصِّديْقُ لَمْ يَرمَا *** وَهُمْ يَقُوْلُوْنَ مَا بالْغَــــار مِنْ ارمِ
ظنُّوا الحمامةَ وظنُّوا العنكبوتَ على *** خيرِ البريةِ لم تنسُجْ ولم تَحُــــمِ.
وقايةُ اللهِ أغنتْ عن مُضاعَفة
انظرْ لمَّا أرادَ الله في عالمِ الحِسّ سبحانه وتعالى أن يَردَّهم عن الغارِ، ماذا فعل؟ وهو الذي أوصلَهم إلى عندِ الغارِ! وإلا كان قادر أن يبعد قلوبَهم إلى أماكن أخرى، جاء بهم إلى هناك؛ ليُرِيَهم عجيبَ قدرتِه، ولمَّا أرادَ أن يصرفَهم: ماذا فعل؟ عنكبوتٌ! والعنكبوتُ، كم هو مقدارُ قوتِها؟ هل لمثل العنكبوت قوة؟! إذا ستقابلَ جيشٌ تأتي بشيء قوي:؛ حديد مثلًا، أمَّا عنكبوت؟! (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ) [العنكبوت:41]
قال: أنتم يا أهلَ القوةِ ويا دولةَ مكةَ ودولةَ الشركِ، سأصرفُكم عن مَحلِّ مرامِكم وغرضِكم بِنَسِجِ عنكبوتٍ؛ لتعلموا أنكم أضعفُ من العنكبوتِ! وَصلوا إلى هذا الحدِّ، بعضُهم كان يقولُ: لعلَّهم وسطَ هذا الغارِ! فينبعثُ من كُبرائِهم وأشقيائهم يقولُ له: يا أبلَهُ! ألا ترى العنكبوتَ على فمِ الغارِ؟ هذا العنكبوتُ أقدمُ من ميلادِ محمدٍ! يقول: اذهبوا، سَرَّحَهم هو بنفسه -صاحبهم وأبعدَهم- لتعلموا عجائبَ دِقةِ التصرُّفِ من فوقُ، لمَّا يُريدُ أن يُدبِّرَ أمرًا، يتصرَّفُ سبحانه وتعالى من وراءِ العقولِ -جلَّ جلاله- فإن كان هناك اعتمادُ فعليه وحدَه، بأبسطِ الأشياءِ يُنجي، وبأبسطِ الأشياءِ يُهلِكُ.
وهناك عند بيتهِ ﷺ، لمَّا التفَّوا، وأرادَ تعالى أن يصرفَهم عنه، ماذا فعل؟ لم يُنزِلْ جنود من السماءِ، ولا زلزلَ بهم الأرضَ، القى عليهم النوم، نوم، وانتهت المسألة، هنا: يُهزَمون بنومٍ، وهناك بعنكبوتٍ، أي دولة هذه؟! دولةٌ كبيرةٌ، هنا يهزمُها نومٌ، وهنا يهزمُها عنكبوتٌ! مِن أجلِ أن تعلمَ أن القوةَ قوةُ واحدٍ، الأرضُ والسماءُ ليس فيها إلا قوةُ واحدٍ، هو القويُّ، (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) [البقرة:165] جلّ جلاله وتعالى في علاه، فانهزموا بالعنكبوتِ، وخرجَ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم في وقتِ خروجِه آمنًا مطمئنًّا، وسارَ من قريةٍ إلى قريةٍ، وحلَّةٍ إلى حلَّةٍ، حتى وصلَ إلى المدينةِ المنورةِ فتنَوَّرَتْ به
كان يحكي القصةَ سيدُنا أنسٌ: ولمَّا كان اليومُ الذي قَدِمَ فيه رسولُ اللهِ إلى المدينةِ، أضاءَ منها كلُّ شيءٍ، أضاءَ منها كلُّ شيءٍ، فكانتْ قلوبُ المؤمنينَ تستشعرُ وتحسُّ الإضاءةَ حتى في الحجرِ وفي الشجرِ وفي ترابِ المدينةِ! فكيف لو وصلَ إلى قلبِك؟ كيف لو وصلَ هذا النورُ إلى قلبِك؟ لأضاءَ، أضاءَ منها كلُّ شيءٍ.
يقولُ: (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) وهنا عَبَّروا عن اعتمادِهم واستنادِهم، فقالوا:
(مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً) رحمة (وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) هيِّئْ لنا رَشَد من أمرِنا، تُرشِدُنا فيه إلى ما هو أتَمُّ وأقوَمُ وأفضلُ.
(رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)) وكما دعَوْه نحن ندعوه:
فإنا على ظهرِ الأرضِ مع اتِّساعِها نَفِرُّ من دعواتِ الشرِّ والضلالِ والزَّيغِ والفسقِ وتزيينِ الباطلِ والفُسوقِ، إلى كهفِ الإيمانِ والعلمِ والتقوى، ونقولُ: (رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا).
فلمَّا دعَوْا بهذا الدعاءِ، حصلتِ الإجابةُ: (فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ..(11)) قال اللهُ: فتولَّيتُ أمرَهم أنا ودبَّرتهم، ماذا عملتُ يارب؟ أولئك الذين عند بيتِ النبيِّ أهنتهم بالنومِ، وهؤلاءِ أعززتُهم بالنومِ.
(فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ) ولهذا تجدُ واحدًا تكونُ عندَه ماكينةِ شَغَّاله، صوت المكينة شغال وينام، تنطفئُ المكينةُ، يقومُ: عجيبٌ!، ما الذي حصل؟ الهدوء زاد! نِم، بالعكسِ هو لمَّا كان الصوتُ مسموع عندَه، لكن مع النومِ يخمدُ الذهنُ، ما عاد يترجِمُ، ما عاد يترجِمُ له القلبُ الصوتَ الذي يسمعُه، حتى يجيءَ شيءٌ مُنبِّهٌ له، إما باسمِه: يا فلان! يافلان! مرحبا، من قال هذا الاسم؟ معناه أنه يسمع لو كان مايسمع ارفع صوتك حتى تشبع لن يتحرك، لكن يسمعُ، إلا أن القلبَ لا يترجِمُ، الفكرُ -راكدٌ- بسببِ النومِ، فإذا جاء شيءٌ مُنبِّهٌ -هذا صوتٌ شغَّالٌ لمَّا وقَّفَه استيقظ، فلهذا لمَّا أرادَ اللهُ أن ينامَوا هذا النومَ الطويلَ تحت رعايتِه، قال اللهُ: رتَّبْنا ترتيب القضيةُ مُرتَّبةٌ ترتيب متكامل، إذا جاء الترتيبُ من فوقُ يشملُ كلَّ شيءٍ.
قال لك: (فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11)) سنينَ طويلةً، سنينَ وسنتينِ، ثلاثة، أربعة، و خمس، ستين سنة، سبعين سنة، ثمانين سنة، مئةَ سنةٍ، مائة وعشر، مئة وعشرين، مائة وثلاثين، مئة وأربعين، مئتين مئتين وعشر، مئتين وعشرين، مائتين وثلاثين، ومائتين وأربعين، ثلاثة مئةِ سنةٍ! سبحانه، كما يأتي معنا في الآياتِ، ومن دقةِ التعبيرِ القرآنيِّ، قال: (وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)) فكانتْ ثلاثَ مئةٍ وتسع بالتوقيتِ القمريِّ، ثلاثَ مئةٍ بالضبطِ بالتوقيتِ الشمسيِّ، ولذا فَصَلَ بين التسعِ والثلاثِمئةِ، قال: (وَازْدَادُوا تِسْعًا) على هذا التوقيتِ يعني، سبحانَ اللهِ! دقةٌ في التعبيرِ القرآنيِّ!.
يقولُ: (فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11)) جلسوا هذا المقدارَ من السنينَ، (ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ) قوَّمْناهم من النومٍ، قوموا، (ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ)؛ وانظر هنا، دخلوا تحت الرعايةِ، كلُّ ما يجري لهم الحقُّ يتكلَّمُ عنه بضميرِ ذاتِه العليَّةِ (فَضَرَبْنَا (11))، (ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ(12))؛ اللهُ تولاَّهم هنا الآنَ، خرجوا عن قيودِ الاعتمادِ على غيرِ اللهِ، فالرحمنُ بحضرتِه العليَّةِ بنفسِه تولاَّهم.
(فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ (12)) أي نُظهَر علمُنا في الخَلقِ (أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12))، (أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا) وذلك أنه بعد مرورِ الوقتِ، جاء الملِكُ يسألُ عن جماعةِ، هل دخلوا في دينِه وإلا سيقتُلُهم، وآباؤُهم تعذَّروا أنهم خرجوا عن طاعتِهم، وأنهم فرُّوا عليهم، وأنهم لا يدرون أين هم، وصاروا يبحثون عنهم هنا وهناك، فلم يجدوهم، والمكانُ ليس ببعيدٍ، والجماعةُ ليس لديهم طائراتٌ، ولا سائلُ نقل يُبعِدون بها من القومِ، مشوا على أرجلِهم، وعند الملِكِ وسائل أحسنُ منهم! لكن لم يعرف مكانهم، من أجلِ أنَّ القوةَ مع واحدٍ، لم يعرف مكانهم، بل كلَّما قرُبَ أحدٌ من المكانِ -كما ستقرأُ في الآياتِ- يمتلئُ رُعبًا من هذا المكانِ، يذهب ويبتعدُ بعيد، كلَّما يقرُبُ أحدٌ من هذا المكانِ، يمتلئُ رعبًا ويذهبُ -سبحانَ اللهِ-! تحت العنايةِ هؤلاءِ القومُ، تحت العنايةِ الربَّانيَّةِ.
يقولُ جلَّ جلالُه: (ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) فهناك فشِل في الحصولِ عليهم، ومضتِ المدةُ ومات ذاك الملِكُ وتحوَّلتْ أحوالُ البلدِ، فبَقِيَ بعضُ الذين كانوا يكتمون إيمانَهم، ومَن رجعَ إلى الإسلامِ والإيمانِ مع بقيةِ الكفارِ يقولون: كم لهؤلاءِ الذين ذهبوا -الجماعةِ- أيامِ الملِكِ دقيانوس؟ يقولون: لهم كذا، لا، بل لهم كذا بل لهم كذا، فكانوا حزبينِ؛ حزبٌ يقولُ لهم كذا من السنينَ، وحزبٌ يقولُ كذا من السنينَ، فاللهُ أيقظهم من نومهم، وقال لهم: اذهبوا، مباشرةً يتكلَّمون معكم ويعرفون؛ (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)) كم مدة جَلسَها هؤلاءِ القومُ في غارِهم وفي مكانِهم؟.
وانظرْ إلى كمالِ العنايةِ! يقولُ الرحمنُ لحبيبِه: (نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ..(13)) ، فهل رأيت عنايةٌ فوقَ هذا! ربِّ العرشِ قال: أنا أقصُّ؛ حبيبي، تعالَ، أنا سأقصُّ عليك (نَّحْنُ نَقُصُّ) اللهُ أكبرُ! ماذا وجد هؤلاءِ القومِ لمَّا أوَوْا إليه، لمَّا صَدَقوا معه وصبروا على المِحنةِ التي كانتْ في وقتِهم؟ كيف نحن الآنَ في كلِّ جمعةٍ نقرأُ خبرَهم هذا ونتقرَّبُ إلى اللهِ بذلك، والنورُ ينزلُ علينا! وحتى نذكرُ كلبَهم معهم! حتى كلبُهم نذكرُه معهم! ما هذا الشرف الذي حصل عليه هؤلاءِ القومِ؟! وماذا وجد دقيانوس؟ وماذا استفادَ؟ وإلى أين وَصلَ؟ وهو في عذابٍ من يومِ ماتَ إلى الآنَ، والعذابُ الأكبرُ مُنتظِرُه، مسكينٌ، مسكينٌ، لو كان يعقِلُ ما صلحَ لنفسِه هذه البليَّةَ، ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يعقلون.
يقولُ: (نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ) اللهُ أكبرُ! الحقُّ يقولُ: (نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم) خبرَهم وشأنَهم، والنبأُ: هو الخبرُ المهمُّ، الخبرُ ذا الشأنِ، والنبأٌ (نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ) بلا مِريةٍ، بلا كذبٍ، بلا افتراءٍ، بلا زيغ (نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ ۚ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ) شبابٌ، شبابٌ في قوةِ الشبابِ، كان المفترَضُ أنه في هذه المرحلةِ من العُمرِ هم يغترُّون بزينةِ الحياةِ الدنيا وهم يتَّبعون الملِكَ، قال: هؤلاءِ الشبابُ صَدَقوا معي وأَخلصوا لي وتركوا زينةَ الحياةِ الدنيا من أجلي (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ)؛ قال اللهُ: وهذا شأني مع مَن يؤمنُ بي (وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)) أيُّ واحدٍ يَصدُقُ يُخلِصُ معي، أنا أفتحُ له بابَ الزيادةِ من عندي (وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) اللهُ أكبرُ!.
(وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ) فتحابُّوا وتراوَحوا برُوحِ اللهِ تبارك وتعالى (إِذْ قَامُوا فَقَالُوا) أيُّ قومةٍ، اليقظة القلبيةَ، ليس قيام حسِّيّ، (قَامُوا) قومةَ اتخاذِ القرارِ الحازمِ في إيثارِ اللهِ على ما سواه (إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَٰهًا)، ولا نتَّبعُ هؤلاءِ في شِركِهم ولا كُفرِهم (لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَٰهًا ۖ لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَٰؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً ۖ لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ) ماالحُجَّةٍ التي معهم؟ ما الدليلٍ؟ ما هذا البرهانٍ؟ (لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ ۖ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)) كذَبَ على اللهِ تعالى وادَّعى أنَّ مع اللهِ شريكًا أو إلهًا غيرَه جلَّ جلالُه وتعالى في عُلاه.
(وإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ ..(16)) لجأوا إلى الكهف، وسيأتي الخبرُ بعد ذلك، ماذا عمل لهم خلال ثلاثَمئةٍ وتسعَ سنينَ؟! أكلُهم من عندِ مَن؟ شُربُهم من عندِ مَن؟ والإنسانُ يبقى مدة طويلةً على حالةٍ واحدةٍ، يتأثَّرُ؟!
قال لك: اصبِرْ، سأُعطيك عجائبَ في عنايةِ اللهِ بمن صدَقَ معه، اللهمَّ ارزُقْنا الصدق معك، اللهمَّ ارزُقْنا الإخلاصَ لك، اللهمَّ أعِدْ علينا عوائدَ أهلِ المحبةِ لك والمحبةِ منك، واجعلْنا في الصادقينَ معك يا ربَّ العالمينَ، واجعَلْ في شبابِنا وفتيانِنا مَن يقتدي بهؤلاءِ ويهتدي بهَدْيِهم، وتكونُ له كما كنتَ لهم وزيادةً من فضلِك، فإنَّ عنايتَك بأمةِ محمدٍ كبيرةٌ، اللهمَّ فبسرِّ عنايتِك بمحمدٍ وأمتِه كثِّرْ فينا أهلَ الهدى، واجعلْنا ممن آمَنُوا بِرَبِّهِمْ فَزِدْتهم هُدًى، واجعلْنا ممن آثروك على ما سواك، واجعلْنا ممن تُؤثِرُهم ولا تُؤثِرُ عليهم، برحمتِك وفضلِك وكرمِكَ وجودِك، يا ربَّ العالمينَ، يا مَلِكَ الأملاكِ.
بسرُّ الفاتحةِ
إلى حضرةِ النبيِّ محمدٍ
صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
08 رَمضان 1434