(535)
(364)
(604)
درس يلقيه الحبيب عمر بن حفيظ في تفسير سورة الكهف بعد الفجر ضمن دروس الدورة التعليمية التاسعة عشرة بدار المصطفى 1434هجرية.
﷽
(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىٰ قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَٰلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي ۖ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ۖ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) ۞ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ۖ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99))
الحمد لله الهادي سواء السبيل، والساقي قلوب أهل الإقبال عليه من أحلى سلسبيل، الذي أكرمنا بالقرآن والتنزيل والوحي الذي أوحاه إلى رسوله الجليل، فكان لنا نعم الهادي والدليل. صلى الله وسلم وبارك وكرم على ذلكم المصطفى ذي الخلق العظيم، المسمى بالرؤوف الرحيم، وعلى آله، أوعية أسراره ومعادِنها، وأصحابه أهل حمل الأمانة ومواطنها، وعلى من تبعهم بإحسان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الأعيان، وعلى آلهم وأصحابهم وملائكة الله المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وفي نعمة تدبر كلام ربنا، وتأمل ما ألقى إلينا بلسان حبيبه وصفوته الهادي المعلم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، انتهينا إلى قصة (ذِي الْقَرْنَيْنِ): وقد ذكرنا أنه ملِكٌ يونانيٌ مكّن الله له في الأرض، وكان تلقيبه بـ(ذِي الْقَرْنَيْنِ) لأسباب أو لأحد أسباب يذكرها المفسرون:
وذكرنا ما آتاه الله من الأسباب، وقيامه نشطاً باذلاً معطياً متبعاً للأسباب، فبلغ مغرب الشمس، ووجد عندها القوم.
قال الله -تبارك وتعالى-: (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89))، وفي قراءة: (ثُمَّ اتَّبَعَ سَبَبًا)، واصل قيامه بالأسباب، فإذا انتهى من مهمة وقام بواجب في مكان انتقل إلى المكان الآخر. وهذا يذكرنا معشر الأمة:
وقد يسر الله لنا الوسائل التي نتواصل بها اليوم مع أصناف الناس في مختلف بقاع العالم:
فهذا ما كانت تحمله القلوب والعقول والوعي عن هذا الدين العظيم الذي هو أمانة الله بين أيديكم، جعلكم الله ممن يحسن أداء الأمانة.
(حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ) ومن المغرب إلى المشرق، حتى انتهى إلى أقاصي ما يتمكن الوصول إليه من المشرق، ويذكر بعضهم نواحي الصين اوغيرها. فإلى من انتهى إليه من أقاصي الشرق، قال تعالى:
(وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىٰ قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا (90)):
(لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَٰلِكَ)، ما معنى كذلك؟
(كذلك) يعني: فَعلَ مع القوم في المطلع مثلما فعلَ مع القوم في المغرب، (قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَىٰ ۖ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)).
يقول الله: (كَذَٰلِكَ) في المطلع، خيّرناه، وقال (كَذَٰلِكَ)، يعني على موازين في العدل والقسط، ما تختلف، لا عند أهل المغرب ولا عند أهل المشرق، حكم واحد:
فهذا منهج عدل وقسط في أي بقعة؛
قال سبحانه وتعالى: (وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)) أحطنا بما لديه من قوة آتيناه وتمكين مكّناه، أحطنا به، ما المعنى؟
قال لنبيه: (فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْۘ)، الجماعة يأتون بكلام شنيع سيء لا يليق بمقامك، ويريدون أن يضلوا كثيرا من الناس، ويغيّروا به أفكارهم ويشوهوا به الحقائق.
وقد قرأنا في الصلاة قوله تعالى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا)، لا يظنوا أنفسهم سبقوا، انفلتوا وانتصروا. فأين ينفلتون؟ وأين يريدون؟
فلهذا قال: أنتم يا من أكرمناكم بالإيمان بنا وأخذِ منهاجنا:
فذاك يقول: أوليائي الذين على الأرض منظمين أحسن منك، عندهم قدرة، عندهم إمكانية، معهم مخابرات منتشرة في الأرض كلها:
فإن لم نستطع يا ربنا؟ أأَمركم أن تعدُّوا ما تستطيعون، فيكفيكم ما لا تستطيعون، وأنا أكفيكم ما لا تستطيعون: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) [الأنفال:60].هكذا يقول.
وسيأتينا في قصة (ذِي الْقَرْنَيْنِ): القوم الذين بين السدين، وما قال لهم، وعن طغيانهم وإيذائهم، ما في مشكلة أبدا، سنعمل ما في وسعنا الآن، وإن كفُّوا بإذن الله تعالى.
قال: (كَذَٰلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا(91)):
(وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا):
(أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا)، ينظر، ماذا تصنع بها؟ ماذا تعمل بها؟ (أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ)، من أين جاء بها؟ من مصنع من؟ من مخزن من؟ أي دولة؟ أي جماعة؟ أي طائفة؟ أي شركة لتصنع العيون، لتصنع الأسماع والأبصار، لخلق الله تعالى، والألسن والشفاه؟! من أين تأتي؟
(وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا(91)):إذا كان الأمر هكذا، فما آتاك أنت وجعله لديك من قوات وقدرات، فاتقّهِ فيها ولا تستعملها إلا في طاعته واطلب بها رضوانه، ولا تقصِّر حتى لا تتعرض لعقابه.
وما كان عند عدوك ومن يبغضك في الله -تبارك وتعالى- يعني بغير حق، فأنت من أجل الله قمتَ بطاعته فأبغضك ذاك وعاداك، ما كان عنده من كل القوى والإمكانيات، قد أحاط بها خُبْرًا هذا الذي أمرك، وسنَّ لك هذا المنهج:
يقول سبحانه وتعالى:
(فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا) -هداهم الله- (وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ)؛ هؤلاء مُشاقّين معاندين لا يريدون الحق! ما دورنا نحن يا رب مع أهل الشقاق؟ هل نقوم نحاربهم؟ ثم نجيء بكل ما عندنا؟ قال: لا لا، المنهج الذي أعطيتكم فقط الزموه: (فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ۖ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) - اتصل به- (صِبْغَةَ اللَّهِ ۖ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً) [البقرة:137-138]، صبغته -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه-.
قال في الآية الأخرى فيما شرع لنا من القتال على الوجه الذي ارتضاه: (وَقَاتِلُوهُمْ)، لأي غرض؟ هل من أجل أن تأخذوا أراضيهم؟ من أجل أن تأخذوا ثرواتهم؟ من أجل أن تملكوا ديارهم؟ لا لا لا؛ (حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ) تخلِّص الأمة من الفتن، (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) [الأنفال:39]؛ لهذا في بعض زمن الفتن، قال بعضهم لبعض الصحابة: ما لك تتقاعس وتتأخر وتنحجز عن القيام بواجب القتال؟
اذهب وابحث لك عن واحد آخر تلعب على عقله، أما واحد صاغه محمد ﷺ لن تضحك عليه بكلامك هذا، إذهب وسمِّنا ما تريد! يعني لو اعلم الخير في هذا ما نتقاعس عنه ولا نتأخر عنه، نحن قاتلنا (حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ)، ويكون الدين لله، وأنتم اليوم تقاتلون لتكون فتنة، فكيف؟
قال: (وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا): علماً، أحطنا خُبْرًا: علماً بكل ما لديه؛ فوجدناه:
(وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا(91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92))؛ هذا علامة صدقه معنا، وصل المشرق وصل المغرب وما وقف، لا زال شغّال، مواصل للأعمال ولأداء المهمة والواجب.
قال واحد لسيدنا الجنيد بن محمد وهو في أواخر رمقه في حياته، في النزع، يكلِّمُهُ وكان في ورده السابع. قال: تَعُدُّ الأورادَ وأنتَ في الحالِ هذه؟ قال: ومَنْ أحقُّ مني بها وها هي تُطوى صحيفتي أمامي الآن، أواصل الأوراد.
وهذا يواصل:
وما راحة الأرواح إلا في مواصلة النَصَب من أجل مولاه -جل جلاله وتعالى في عُلاه-.
قال: (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) جبلين عظيمين، بنى السد بينهما، فكان السّدين قَاطِعَين لمن وسطهُ.
(حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا) -قبلهما- (قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93))، أي يفهمون، وفي قراءة: (يُفْقُهُونَ قَوْلًا) يعني يُبَيِّنون لغيرهم، ما يقدرون يوضحون لغيرهم:
ولهذا حتى في مواطن التعب وعدم العمل:
وهو المشروع على بركة الله، بل كان ذلك آية من الآيات مذكورة في كتاب الله متعلقة بآخر نهاية البشر على ظهر الأرض:
عندئذ، يتلاحق خير الأرض ويرتفع شيئا فشيئا:
حتى قال -سبحانه وتعالى-: (۞ وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ) [النمل: 82].
هكذا:
ثم لا يبقى على وجه الأرض إلا كافر ابن كافر. ينتهي الجيل الأول، الجيل الثاني كلهم كفار أبناء كفار:
فلا خير في الأرض بعد سيدنا عيسى ينمو ولا يكثر ولا ينتشر، -سبحان الله-.
قال -سبحانه وتعالى-: (وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93)). فهل احتقرهم؟ لا، فهل ترّفع عن خطابهم؟ لا، فهل قصّر في القيام بما يحتاجون؟ لا، تَفَهَّمَ وتكلم وتخاطب وتَوَاضَح وفَهَّمَ اليّ -الذي- لا يفهم.
ولهذا لما سمع بعض سلفنا قول القائل:
عَلَيَّ نَحتُ القَوافي مِن مَعادِنِها *** وَما عَلَيَّ إذا لَم تَفهَمِ البَقَرُ؟
قال الإمام عبدالله بن حسين بن طاهر:
تَرَكتُ نَحتَ القَوافي مِن مَعادِنِها *** لِأنَّ لي مَقصِداً أَن تَفهَمَ البَقَرُ
أنا أريد أن أُفهِّم البقرَ هذه، فاجتهد عليها حتى تفهم؛ لأن لي مقصداً أن تفهم البقر، وهذا إلى قوله (قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا):
(قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ)، هذا ما وصل إليه من الفهم بعد المحاورات الطويلة والمحاولات الكثيرة؛، فهِم هذا الكلام منهم:
وسيغلبوننا، سنصبح هالكين؛
(مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ..(94)) وهذا الفساد موروث عند طوائف من بني آدم يتوارثونه: (وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) [البقرة:205]، ولكن يتوارث الفساد قوم بعد قوم، -سبحان الله-، الله يُجِيرنَا من الفساد والمفسدين.
(لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا)، اللهم اجعلنا منهم وألحقنا بهم.
جلس مع القوم هؤلاء، قالوا له:
حتى إذا دخلت فكرة القتل في رؤوسهم، يقتلون، يأكلون بني آدم، فإذا تكاثروا ما نصنع؟
(فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا) -أجرةً ومقابل وثمن نعطيك- (عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)):
يسببون مصائب بين الناس، قالوا له: الحل الوحيد أن تبني سدًا بيننا وبينهم. قال: (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا) -نعطيك أجرة وثمن- (عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا):
انظر، إنه يريد الصلاح، يريد الخير: فكل من كان في وظيفة، أول ما يخطُر على باله: كم سأحصّل، كم سيدخل في جيبي؟ هذا مُفسد، هذا ما يقوم صلاح على يده في الأرض.
لكن هذا عرضوا عليه الأجر، قال:
انظر الى مدى تفكيره وإتقانه وإحسانه:
(آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ)، جمعوا الحديد فوق الحديد، وجعلوا بينها حطب من النار.
حتى من عند الجبل هذا إلى الجبل هذا، في عرض أربعين ذراع وطول مائتين ذراع، بسم الله، جمعوا وجمعوا الحديد.
(حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي) -اعطوني، هاتوا- (أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)):
(حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصُّدَفَيْنِ)، وفي قراءة: (الصَّدَفَيْنِ) -هما الجبلان- (قَالَ انفُخُوا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ) -اصب- (عَلَيْهِ قِطْرًا (96)) نحاساً ورصاصاً، حتى كمل.
جاء القوم؛ (يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ)، وجدوا السد، قوي ومنيع:
(فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)) حفراً؛ هنا أكمل المهمة تماما.
وقال: (قَالَ هَٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي)، وسيبقى وعد الى أن تقرب الساعة، يندكّ هذا السد برصاصه وبحديده، وبما احتطنا من احتياطات، سيذهب (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ۖ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا)، وفي قراءة: (دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) ۞ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ..(99)):
ويشترك التفكير للإنسان هذا إذا لم يكن له نور ولا هداية!
موتة واحدة! واذا هم هؤلاء ماتوا ملايين، من سيقبرهم؟ لو كان في الوسع العادي البشري، سيدنا عيسى بيخرج سيقبرهم، لكن هؤلاء ملايين! أمطار وسيول تجر جميع جثثهم إلى البحار، قال: فيبقى المؤمنون؛ سيدنا عيسى ومن معه، سنة كاملة حطبهم من عصي هؤلاء، العصي المرمية، سنة كاملة وهم يوقدون في العصي وما تنتهي العصي، من كثرتهم.
فيوقدون بعصيهم سنة كاملة وحطبهم من عصي (يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ)، قوم (يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ)، ثم بعد ذلك:
وهم موجودون الآن وعلى ظهر الأرض، والناس بالأقمار الصناعية وبالطائرات؛ ولا يصلون إليهم، ولن يصلوا حتى يأتي موعدهم ويخرجوا؛ ليعلم أهل الشرق والغرب أنهم عَجَزَة، لا يستطيعون أن يحتووا ما على الكرة الأرضية، فضلا عن سواها.
ولن تنحتلّ إلا بهذا الكتاب، هو الذي سيصل إلى هناك وهو الذي سيحل بلايا الخلائق ويرفع عنهم البلاء؛ لأن المملكة ما خرجت من يد الملك، الملك قيومٌ على مملكته؛ ويطغى الطاغي ويبغي الباغي، والمرجع إليه:
وبعض الأشياء قد بدأت تظهر فيهم ولا يريدون أن يعترفوا!
ونحن ضَعَفَاء والناس ضَعَفَاء وخلق الله ضُعَفَاءُ، والقوي واحد: (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) [البقرة: 165].
اللَّهُمَّ أَجِرْنَا مِنْ عذابك واجعل اعتمادنا عليك، استنادنا إليك، إقبالنا عليك، واكتب قبولنا لديك، واجعلنا في الصادقين معك.
وباقي ليالي رمضان يُشَعْشِعُ لنا فيها النور وندخل دائرة بدر البدور، نحضر مع أهل الحضور، وندخل مع كل بر شكور مع أهل السعي المشكور، يا بر يا غفور. هبنا من غير حد ولا حصرٍ محصور، كما يليق بجودك في البطون والظهور، نسعد به في الدنيا والبرزخ ويوم البعث والنشور. واربطنا ببدر البدور ربطًا لا انحلالَ له أبدا، يا أكرم الأكرمين. اجعلنا به من أسعد الناس ظاهرا وباطنا.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
13 شوّال 1434