(535)
(364)
(604)
درس يلقيه الحبيب عمر بن حفيظ في تفسير سورة الكهف بعد الفجر ضمن دروس الدورة التعليمية التاسعة عشرة بدار المصطفى 1434هجرية.
﷽
(وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ ۖ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا ۗ قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَىٰ ۖ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89))
الحمد لله العليم الخبير، العلي القدير، الذي يُنبِئُنا بأخبار المَبدأ والمَصير، والمَسلك الذي ينبغي ويَجب أن نمضي ونمشي عليه ونَسير، فأنعم به من إلٰه كريم بَسَطَ لنا بساط التعريف والتعليم، ولم يزل يُحَدِثُنا على لسان رسوله الكريم بأنباءَ وأخبار، وشؤون وآثار، عما يتعلق بهذه الدار وتلك الدار، (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ) [النور:44]، جعلنا الله وإياكم منهم.
وما أحسنَ الدخول في دوائر أولي الأبصار، وأربابُ الإستبصار، ممن نَوَّر الله لهم البصائر، وصفّى لهم السرائر في أيام العشر الأخيرة من رمضان، فإلى تِلك الرحاب يَدخُلُها كثير، ويجود الله سبحانه وتعالى بِمَنٍّ غَزير؛ يُقَرِبُ بِه بَعيداً، ويُسَدِدُ به غافلاً ومحجوباً، فيصبح ذاكِراً رشيداً؛ صارَ عَمَلُهُ وقولُه ورأيه سديداً، وهذا جود الجواد مع العِباد. ولا يتجدد رمضان إلا وتَجَدَّدَ الإحسان، من المَنان، يشمُل هذا وذاك بحسب قِسمَة المنان، جلَّ جلاله، له الحمد والمنة.
ونحن استَقبَلنا هذه الأيام الأخيرة من الشهر الكريم، ونحن في تواصلٍ مع وحي الله، ومع أخبارِ الله، ومع كلام الله، ومع تعليم الله، ومع دلالة الله، ومع تَبيين الله، ومع تَنَزُل الله لنا فيما بَيَّن وفيما عَلَّم وفيما أرشد، له الحمد، له الطَّول، له المنة.
وانتهينا إلى قول الله جلَّ جلاله مخاطباً نبيه: (وَيَسْأَلُونَكَ) جماعة من اليهود وجماعة من المشركين أخذوا من اليهود مسائل يسألون عنها رسول الله، ومنها عن رَجُلٍ طَوَّافٍ في الأرض، فسُئِل النبي ﷺ عن ذلك من قِبَل المشركين ومن قِبَل بعض اليهود أتوه يسألونه، فقال: "لا عِلمَ عندي به الآن"؛ ففرح اليهود وقالوا إنه لا يَعلَم هذا الخبر، فما وصلوا الى الباب إلا ونَزَل جبريل، ورُدُّوا، وتلا عليهم: (وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ ۖ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا (83)) حتى بلغ موضع السد، قالوا: جاءك الخبر يا محمد، حسبك هذا يكفيك.
(وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ) -صاحب القَرنين- (قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا (83)) سأقُص عليكم وأقرأ أخباراً؛ ذِكراً عن خَبَرِهِ وقِصَتِهِ. (وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ) من هو ذو القَرنين؟ قيل أنه نبي، والجمهور والأكثر على أنه ليس بنبي، وورد ذلك عن سيدنا علي في روايتين:
ذو القرنين مَذكورٌ في التاريخ، هذا الاسم لواحد أكبر، انتشر مُلكُهُ في الأقطار، ومَلَكَ في المشارق وفي المغارب؛ فهو الأشبه أن يكون هو هذا المُراد في القرآن؛ لأن دلالة القرآن تدل على اتساع مُلكِهِ وعلى اتساع عَمَلِهِ وجُهدِهِ، وذاكم في أشهَر ما روي أنه الإسكندر ابن فيلبوس اليوناني، وأنه كان مُسلماً مؤمناً، وكان داعياً إلى الله جلَّ جلاله وتعالى في علاه، ومَلَكَ شرق الأرض وغَربها، كما يَقُص الله علينا خَبَرُه.
وفي هذا دلالة على أن دين الحق قد انتشر سابقاً في العهد القديم في مختلف الأقطار، ولذا ما يوجد من بقايا المُحافظة على القيم المتناسبة مع الفطرة، وبعض الأخبار عن الحق أو الدار الآخرة في الأمم والطوائف في المغارب أو في المشارق من غير المسلمين، معناها أنه آثارُ ما انتشر سابقاً من دين الله، وآثارُ الأنبياء الذين قد مضوا، والناس يُغيِّرون ويبدلون وينسون كما هي حالتهم في الفطرة التي فطرهم الله عليها، فتنشأ أجيال وقد تَحَرَّفَ الأمر وانتهى أصلًا، ولذا تجدُ حتى في كلام بعض فلاسفتهم وغيرهم، بعض الكلام المتطابق مع الدين أو المتصل بالدين، لِما وصل إليهم من آثار الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم-.
فهذا هو الأشبهُ بحال البشر على ظهر الأرض، فإن الله أخرج آدم إلى الأرض، وأخرج المنهاج معه، إذًا فالخير كله فيما قال الله لآدم: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ) [طه:124-123]:
أبوهم آدم مؤمن وخليفة للحق في الأرض، وتَجَدَّد هذا أيضا فيهم من بعد عهد آدم عليه، فَأُهلِكَ مَن طَغى وتَجَبَرَ وكَفَر وأشرَك مِن قَوم نوح، ولم يَبقَ مَعهُ في السفينة إلا المؤمنون المسلمون.
إذًا فيجب علينا أن نُخاطب أهل الأرض بالأصل: أصلكم مسلمين يا جماعة، كلكم، يهوديكم ونصرانيكم وملحدكم ومجوسيكم وأصحاب الأديان الأخرى. يا جماعة أصلكم على الإسلام، أصلكم على الإيمان، هذا الكفر طرأ عليكم طروء:
وهل أحدٌ من الذين غرقوا انجب لنا أولادًا بعد الغرق، ممكن؟! لا أحد موجود منهم، ثم الرجوع إلى الرأس وهو آدم، إذًا فهذا وإن قلَّ عدده هو الأصل، هو الأصل في الأرض، هو الأصل في البشر، هو الأصل في الناس، هو الأصل في بني آدم.
فمن العَجب أن يُضحَك على بعض المُنتَمين إلى هذا الأصل ويَشعُر كأنه الضعيف، وكأنه القليل، وكأنه المُستَثنى، يا أَبلَه! ما عرفت الدين! لو عَرَفت الدين؛ الأصل هو، والعظمة، والكفر كله الموجود على ظهر الأرض طارئ، طارئ وهو هاجِم هَجَم على بني آدم بغير حق؛ إنما اجتهاد إبليس، اجتهد حتى حَرَفَهُم:
(وَعِدْهُمْ) شاهدوا الآن رؤوس أكثر الكفار على الأرض، فيها مواعيد مَغرورة بمواعيد عندنا؛ مواعيد كذب: (وَعِدْهُمْ ۚ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا). هناك ناس الآن كفار، موجودين على ظهر الأرض يقولون بعد كم سنة؛ يُقَدِّرونها بخمسين، مئة سنة، كم سنة، وبعدها ما عاد نُبقي الكعبة، ما عاد نُبقي المسلمين في المحل الفلاني؛ من جملة الغرور يَعِدُهم به، (يَعِدُهُمُ) يقول لهم: منهجكم هو الصحيح، والناس عبيد لكم من ورائكم، وأنتم القادة وأنتم السادة؛ مواعيد إبليس (يَعِدُهُمُ) ورؤوسهم مغرورة بذلك: (وَعِدْهُمْ ۚ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا) [الإسراء:64]، (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ) [النساء:120] كما قال الله تبارك وتعالى.
لكن الصادق منا، المُخلص منا، معه وعد من الله، من الله على لسان الصادق خير الخلائق محمد، فأين هذه المواعيد من هذه المواعيد؟
هؤلاء في غرور، قال سبحانه وتعالى: (إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ)، (أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَٰنِ ۚ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ * أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ ۚ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ)
فما حال خَلقَك هؤلاء يا رب؟ قال: (أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الملك:20ـ22] الله، الله، فَيَسعَد الأنبياء وأتباع الأنبياء هم على الصراط المستقيم، اللهم اجعلنا منهم، واجعلنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
فإذا أمَّلنا آمال في مثل مجلسنا هذا، كل مُخلص منا وصادق، فآماله ومواعيده فوقية عُلوية حقّية ربانية محمدية أحمدية نبوية، وأين هي من الغرور عندك؟ يدخل معهم، يبيع دينه، يبيع مروءته، ويبيع أخلاقه، يبيع عشيرته، يبيع قومه، يبيع شيء من قِيَمه، مقابل أنهم يمنّونه بشيء، يعطونه أماني، وهم مثل الذي يُمَنيهم، إبليس يُمَنيهم وهم يُمَنون هؤلاء، وهؤلاء وكلاء لهولاء وهؤلاء وكلاء لهؤلاء، وكلهم: (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) [الحج:73].
لكن يا أحباب، هذه مواعيد معنا على مجالسنا، إنها:
مواعيد حق، من عند الحق، على لسان نبي الحق، خير الخلق، الناطق بالصدق، فأين المواعيد مِنَ المواعيد؟! وأين الأماني من الأماني؟! (إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) [الملك:20]
أما أصاحب الوهم والخيال: (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) [الأنعام:116] فحقُّهم أن نَرثاهُم في حالهم هذا.
ماهي هذه البلاهة؟! ماالذي قَلب الحقائق هذه؟ ماهذا الخروج عن النور الواضح المُبيّن الساطع البَيِّن الذي لا إشكال فيه؟!
"تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها" يقول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، عشتُ هذه السنوات القليلة فيكم:
وبَلَّغتُكُم كل هذا في هذا الوقت القصير، أيّ دليل تريد؟ هل عندك عقلية؟ فماذا تريد من دليل؟ أيّ حجة بعد هذا؟ ما هو؟!
أَبَعْدَ تَنْزِيلِ رَبِّ العَالَمِينَ وَمَا *** أَقَامَ مِنْ حُجَجٍ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ؟
يَبْقَى لِذِي مَرَضٍ أَوْ مِرْيَةٍ شُبَهٌ *** أَوْ مُشْكِلٌ؟ لا وَرَبِّ البَيْتِ وَالْحَجَرِ!
لَكِنَّ شَقَاوَةَ أَقْوَامٍ وَ حَظَّهُمُ *** مَنْحُوسٌ أَوْقَعَهُمْ فِي الشَّرِّ وَالشَّرَرِ
ومع ذلك:
والقرن الثالث والرابع والخامس والسادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر.
ونحن في الخامس عشر:
استَكشِفوا، استَكشِفوا، غوصوا في الأرض، اذهبوا في البحار، اطلَعوا في الجو، هاتوا حقيقة تخالف شيئاً من كلام خير الخليقة، أبداً، إذن أيّ دليل تريد أنت؟ أيّ دليل باقي بعد هذا؟
وتَحدُث في وقتنا أحداث نرجع إلى كلامه نجده تَحَدَث عنها، مَن أَنبَأهُ؟ مَن أخبره؟ مَن في العالَم سَبَق إلى شرح الأجِنة وكيفية تكوين الطفل في بطن أمه؟ مَن؟ مَن؟ ومَن يَعرِف هذا بهذه الدقة؟ يا أخي أنت تريد كم علامات؟ تريد كم أَدِلَة؟ أيّ عقل فيك؟ هل يوجد أدلة فوق هذه أو حِجج فوق هذه؟
(وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ ۖ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا (83)) الأخبار عندي، خبر السماء يأتيني، والحُجَج موجودة، خذوا دليل فوق دليل فوق دليل فوق دليل. (سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا (83)) -الله أكبر- (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) وهذا يَقول له قُل لهم، ثم هو يتكلم بنفسه الحق، ماذا يقول؟ يقول هذا الأمين في مَحَلِ خِطابي، هكذا تأتي عبائر القرآن: (قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا) أنا سأكلمهم، أنت قل لهم سأتلو، وخذ الكلام مني مباشرة: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ)، الله يقول:
(وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا) أي جعلنا له حبلاً يتوصل به إلى المقاصد، فالسبب هو الحبل، أي وصلة يتوصل بها إلى المقصود، يعني تحقيق المقاصد في المُلك الذي أردناه له، علمناه فيه كيف يُقيم السبب لِنُسَبِّبِ له نَحن.
(وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)) وفي قراءة: (فَاتَّبَعَ سَبَبًا)، اتبع: سار، أتبع: لَحِق، والمعنى يتقارب:
ما أخلد إلى الأرض ولا إلى النوم ولا إلى الكسل ولا إلى الراحة البدنية، (فَأَتْبَعَ سَبَبًا) استعمل الأسباب، بَذَلَ الوِسع، أدى ما في الطاقة مما أعطيناه، ليس معناه أننا مكّناه ويسرنا له الأسباب، وينام ويتكاسل ويلهو ويلعب ويعبث؟ لا، بل فَقِه مهمته وقام بِحَقِها.
وهكذا كم مَكَّن الله لنا أنواعاً من التمكين:
فهل اتبعنا السبب؟ اين اتبعنا السبب؟ فالمُسَبِّب يعطينا فوق ما تَسَبَّبنا له، وهذه سنته وعادته مع عِباده:
وهكذا معاملته إلى آخر واحد من بني آدم، آخر واحد، أقَلُهم إيماناً، آخر واحد يخرج من النار، يجيء يدخل الجنة، يقول: تريد مثل مُلك مَلِك؟ يقول: رضيت يارب. يقول: وكذا؟ يقول: وكذا، يُذَكِّرُهُ أشياء هو نسيها وما وصل أمله إليها، يقول: وكذا؟ يقول: وكذا؟ يقول: نعم يا رب وكذا. يقول: نعم يارب وكذا وكذا. يقول: ترضى أن يكون لك في الجنة مثل الدنيا عشر مرات؟ يقول: أتهزأ بي وأنت المَلِك يا رب؟ قال: لا، ادخل، فإن لك فيها مثل الدنيا عشر مرات. انظر كيف يُذَكِّرُه ؟ ثم يُمَنيه، بعد ذلك يُعطيه فوق الأماني والأشياء التي يُذَكره بها، هذا معاملته مع أضعف خلقه إيماناً، في آخر اللحظات. فكيف إذا صدقنا معه؟!
أيها المؤمنون، أيها الأحباب،،
هذا معاملة ربي مع أضعف واحد إيماناً، وأعطاه فوق ما يرجو وما لم يخطر على باله، فإذا صدقنا معه، ماذا ترى؟! يا الله، سيمَكّنا نحن، لكن سيدنا ذو القرنين:
(حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ) يعني انتهى إلى آخر الحدود التي يوصل إليها من الجهة الغربية في الكرة الأرضية.
(حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ..(86)):
الشمس غربت وسط البحر!، ما غربت وسط البحر، ولكن لِبُعد المسافة نَظَرَك وصل إلى هذه الحدود، والكرة الأرضية ارتفعت كذا، فظننت أن الشمس دخلت وسط البحر، سبحان الله.
فسيدنا ذو القرنين (وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا..(86)) عند العين الحمئة، قريب من ذاك المكان (قَوْمًا) دارَ من بلاد إلى بلاد إلى بلاد إلى بلاد حتى وصل إلى ذاك المكان؛ وجد هناك ناس.
وفي هذا أيضاً أن الله نشر سكان الأرض من هنا إلى هنا إلى هنا في فترات كثيرة، ولا تزال الاكتشافات الحديثة تُخرِج من تحت الأرض إشارات لآلات واستعمالات يشار إليها أنه:
(وَقُرُونًا بَيْنَ ذَٰلِكَ كَثِيرًا) [الفرقان:38]. كما قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ ۛ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ) [ابراهيم:9] جلَّ جلاله، خَلائق وطوائف كثير، "ما أنتم في الأمم قبلكم إلا كشعرة بيضاء في جِلد ثورٍ أسود"، كم؟ سبحان الله، (وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ ۖ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا) [الفرقان:39].
يقول سبحانه: (وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا ۗ قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ..(86))؛ هذا استدلال مَن استَدَل أنه نبي: (قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ) ولا يَكفي هذا الاستدلال على النبوة، أن الله يَذكُر بعض هذا الوحي والمُخاطبة، وإن كانت بواسطة أو بسبب أو بإلهام..
والطيب النافع لا يجيء إلا من مُتَذَلِل، كل من رفع رأسه وتكبر لا يجيء الطيب منه، لا يجيء النافع منه، لا يجيء الخير منه للأمة أبداً، الخير يجيء من المُتَذَلِلين،
يقول أنتِ نحلة فنخرِج منك "شراباً مختلفاً ألوانه فيه شفاء للناس"، تذللي، امشي بصورة الذّلة، لا تمشين بصورة متكبرة ولا مُتَرَفِعَة ولا متغطرسة، (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا)؛ لأنك مهيأة لنفع، مهيأة لخير، (يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ) [النحل:69] قال الله.
وكذلك أهل الذلة لله فيهم شفاء:
(ذُلُلًا) -يسلكون- (سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا) لا يهمهم أحد قال لهم ضعاف هؤلاء، هؤلاء جبناء، هؤلاء لا يعرفون الواقع؛ لايضرهم؛ لكن هم الذين يُداوون؛ عندهم الشفاء، فيهم الشفاء لخلق الله سبحانه وتعالى، ولذلك كان يشير بعض العارفين إلى أثر أرباب الصدق مع الله من الصالحين المتذللين لله، وأثرهم في أمراض قلوب الخَلق وعقولهم، كم يدفع الله بهم من عِلَل، وكم يَشفي، وكم يُقَرِب، يقول:
ما هُم إِلَّا خَبَايَا لِلْبَلَايَا يُزِيلُونَ *** وما هُم إِلَّا دَوَاءٌ مِنْ كُلِّ عِلَّةٍ يُدَاوُونَ
-بإذن الله سبحانه وتعالى-
قال: (وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا ۗ قُلْنَا) -وحي- (يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ) هؤلاء الجماعة:
وكان هذا الإلهام اختباراً له من الله، ماذا يختار؟
يقول: ربِّ مهما مَلَكتَني وقَوَيتني وأعطيتني، أنا أنظر أين موضع رضاك، ماذا تحب مني أن أفعل، أنا أفعل.
فلما قال: (إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا(86)) قال: ربي أنا تحت منهجك وأمرك، فكما علمتني أنا أسير
(أَمَّا مَن ظَلَمَ) تَعَدّى الحد، لم يقبل النصيحة، ولا كَفّ ضُررهُ وأذاه، وقام يَتَصَدى ويُعادي، (أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ)؛ إن احتاج سجناً، وإن احتاج قتلاً بأمرك، (ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ)؛ لأن مرجع الكل إليك: أنا مَلِك مُؤَقَت، صوري، مجازي في فترة قصيرة، لكن أنت المَلِك على الحقيقة (فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا (87)) النار هناك، معك العذاب، أنت الذي تُعَذِب.
(وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا..(88)) لا نقابل صاحب الإحسان بالسوء، نحن نعرف القَدر للمؤمنين ولأهل الأعمال الصالحة، فنتقرب إليك بإحساننا إليهم، ما يكون بعد ما ملكتني ومكنتني، أجي لواحد معه إيمان بك وعمل صالح على منهجك وأنا أؤذيه؟!
ولهذا نَقرأ في موروثاتنا وفي أُسُسِنا: (فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) [البقرة:193] ما يمكننا أن نعتدي على أحد أبداً، لا إنسان ولا حيوان، إلا على الظالمين.
كيف نعتدي على الظالمين؟
منهج، منهج الكمال، منهج العَظَمة، ما في وِسع البَشَر أن يَأتوا بِمَنهَج كَمِثل هذا.
قال: (أَمَّا مَن ظَلَمَ) المُراد:
(وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَىٰ ۖ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)) نَلين القول معه، ما هذه الآداب التي أنت أحببتها منا؟ كيف أنا أتركها؟! لما أنا الآن مَلِك وتمكنت أنا أنسى هذا؟ لا، أنا على قَدَم العبودية لك..
(وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا) -الله أكبر-، لِم قصّ الله علينا هذا؟ من أجل ننتهض، ننتهض في معاملاتنا، ننتهض في مواقفنا، ننتهض في مخاطباتنا، ننتهض في منطلقنا في الحياة، فنمشي على بصيرة ونتخلق بهذه الأخلاق.
(فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَىٰ)، (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءُ الْحُسْنَىٰ):
ما هو جزاؤه؟ قال: المثوبة الحسنى، فله جزاءُ المثوبة الحسنى، فحذف ذلك للدلالة عليه.
(فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَىٰ ۖ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا)، نُحسِن إليه ونُعطيه الكلام الطيب، وقد رأينا النبي لَما سُئل عن بر الحج قال: "إطعام الطعام، ولين الكلام"؛
هذا هو خُلُق المؤمن، هذا البِر.
(فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَىٰ ۖ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)) هذا الذي من عندنا، وسيرجع إليك أنت، وثوابك هو الكبير، الله أكبر، (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا(89)) ما توقف، قال الله لنبينا: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَارْغَب) [الشرح:7-8] تَنَقَّل من هذا إلى هذا.
وقد حَضَرَنا الوقت، وهو (أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ..(90)) وطلوع الشمس قد جاء إلينا الآن، قد طلعت وارتفعت، قدر رمح.
إلا أن لربكم شموساً يُطلعها في سماوات القلوب، إذا طلعت منها شموسً لم تغب أبداً، فالله ينظر إلينا، الله ينظر إلينا ويطلع في سماء قلوبنا شموس المعرفة به، وشموس الصدق معه، وشموس شهوده الأسنى بمرآة حبيبه المصطفى، اللهم آمين، اللهم آمين، اللهم آمين.
وكلما قلنا له مرة؛ اللهم آمين، أَدخَل مَن يدخل، لأنه من زاد زادوه، لا شيء يضيع عند ربكم، كل شيء بحسابه:
حتى ورد في الخبر أن الله يُطلِع بعض أهل الجنة على واحد في مستوى إيمانه وعمله الصالح، إلا أنه فوقه بدرجة يقول: يا رب هذا عمله يكافئ عملي وإيمانه مثل إيماني، لكن أعلى مني بدرجة! قال: أنظر في عمله، زيادة واحدة، وهي أنه دعاني الدرجة العالية وأنت ما دعوتني، فهذا هو، بسبب دعائه رفعناه، أما أنت ما دعوتني، ما طلبت ذلك "إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى"، نسألك الدرجات العلى من الجنة
ونسألك فيما مكنتنا فيه من سبب بلوغ رمضان والعشر الأواخر فيه، أن تجعلنا ممن اتبع سببا، وقام بالواجب، فاقتدى بالذي إذا دخل العشر الأواخر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله. اللهم ألحقنا به واجعلنا في دربه حتى تسقينا من شربه وتجعلنا في حزبه وتكرمنا بقربه، ولا تُفَرِق بيننا وبينه في الحياة وعند الوفاة وفي البرزخ وفي الآخرة، يا الله، يا الله، يا الله.
وما أسعدنا بقول يا الله! عبيد ضعاف مساكين يلتجئون لهذا العلي العظيم الكبير القوي القادر الله، ويأذن لهم: ينطقون باسمه وينادونه بوصفه ويسألونه من فضله، وإن عصوا وإن أذنبوا، ما أغلق الباب ولا منع ولا حرم، لا إله إلا الله، له الفضل، كيف لو قال من عصاني لا يدعوني؟ ماذا نعمل؟ وأين نذهب؟ قد عَلِم إنه ما لنا غيره، فتح الباب سبحانه وتعالى، له الحمد والمنة، وأذِن لنا بذكره وأذن لنا بدعائه، فنقول له: يا الله، يا الله، وما أسعدنا بسؤال مولانا جلّ جلاله وتعالى في علاه.
سؤال: يقول إنه نمرّ على آيات ما نفهم معناها، نراجع تفسيراً يوضح معناها فنتدبر، هل نقطع التلاوة والقراءة؟ لا، هذا من الجيد، وخصوصاً خارج الصلاة.
فقهنا الله وإياكم في كتابه وفي سنة رسوله، وعلمنا التأويل، وهدانا إلى سواء السبيل، وكشف عنا الغمة وعن أمة النبي.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي ﷺ
10 شوّال 1434