تفسير سورة الكهف(1434) -19- من قوله تعالى:(وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ..(80))

تفسير سورة الكهف - الدرس التاسع عشر
للاستماع إلى الدرس

درس يلقيه الحبيب عمر بن حفيظ في تفسير سورة الكهف بعد الفجر ضمن دروس الدورة التعليمية التاسعة عشرة بدار المصطفى 1434هجرية.

نص الدرس مكتوب:

﷽ 

(وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا (82))

الحمد لله على تعريفه وعلى تعّرفه، وعلى ملاطفته وكريم لطفه، له الحمد: 

  • إذ خصّنا بخاتم الأنبياء و أصفى الأصفياء. 
  • وتلا لنا على لسانه أعظم النبأ، وما يوجب الفوز يوم اللقاء. 
  • وقصّ علينا في سورة الكهف من أخبار موسى والخضر عجبا. 

ويروى أن الخضر قال لموسى: لو صبرت لأريتك ألفي عجيبة، كلها مثل الذي رأيت، ليدلّك على عجائب التصريف في الأقدار، وحكمة الملك القادر الغفار -جل جلاله-، وأنه يدبر الأمور ويقضي في الأشياء بحِكمٍ لا تستطيع العقول أن تحيط بها ولا أن تحصرها. 

وإنما يُطلِع الله من يُطلِع على كثير من تلك الحِكم، كبعض الملائكة، وكسيدنا الخضر وبعض الأنبياء وبعض الأولياء، وفوق هذا كل ما سُتر عن الجميع أعظم؛ لأن الصَنعة صنعة الأعظم، صنعة الإله الأكرم جلّ جلاله: (.. فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ* ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ) [الملك:3-4]. 

(مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ ۖ) كل ذرة من ذرات الكون تحمل عجائب وغرائب كثيرة، وإنما يهتدي الناس إلى شيء منها على حسب ما أوتوا من العقل والوعي والفهم وما كشف الحق لهم -سبحانه وتعالى- وهيأ لبصائرهم أن تدركه، ولله في كل تحريكة وتسكينة أثرٌ شاهدُ.

وفي الإشارة إلى بديع هذا التدبير من العلي الكبير، قال سيدنا علي بن أبي طالب: "لو كُشف الغطاء ما اخترتم إلا الواقع"، لو انكشف الغطاء لكم عن فهمكم، عن قلوبكم، عن مدارككم، لا يمكن أن تختاروا في الوجود إلا هو هذا الواقع؛ لأن هذا تدبير الرحمن الذي أوجد -جلّ جلاله-، فهل يمكن أن غيره يدبر أحسن؟ كيف يعني؟ ما يمكن هذا. فلو انكشف الغطاء عن الحِكم للمجريات، لقلتم هذا هو أحكم شيء ولا يمكن أحكم منه ولا أعظم منه، سبحان الخالق الحكيم.

وصلنا إلى قوله -جلّ جلاله- فيما يحكي عن سيدنا الخضر أنه: 

  • قال لسيدنا موسى: (وَأَمَّا الْغُلَامُ)، بعد أن ذكر قصة السفينة وأنها كانت لمساكين، وأنه يمكن أن يسمى مسكين من يملك شيئا وعنده عمل ولكنه دون كفايته. 
  • قال: (وَأَمَّا الْغُلَامُ)، الذي رأيتني قتلته

من العجيب أن في كل الوقائع التي وقعت، شيء من الرابطة بأشياء حدثت لموسى من قبل، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام. 

  • فكان قد وكز واحداً من بني اسرائيل، معتدياً على واحد من جماعته، (فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ) [القصص:15]. 
  • واليوم يقول للخضر: (أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ..(74)). 

قال له: (وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ..(80))

  • وهو كافر مطبوع على الكفر لا يؤمن بالله قط. 
  • ولو كبر لكان فتنة على أبويه: 
    • إما أن يتعبهما ويخالفهما ويخرج عن أمرهما ويؤذيهما. 
    • وإما أن يفتتنان بحبه وعاطفة الأبوة والأمومة فيطيعانه في الكفر فيخسران.

(وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا)؛ إما بمعنى خِفنا، أو بمعنى علِمنا بما أوحى الله إلينا، (فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا) -يغشيهما- (طُغْيَانًا وَكُفْرًا): 

  • إما بطغيانه وكفره. 
  • أو يجرّهم ويقودهم هو إلى الطغيان والكفر بسبب رحمتهما بابنهما. 

في هذا إشارة إلى فلسفة الأولاد والحكمة أيضًا من وجودهم والفائدة فيهم.

  • (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا) [سبأ:37]. 
  • (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) [الفرقان:74].
  • (حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [الأحقاف:15].

إذاً، فمع ما جعل الله في الأولاد من زينة، ومن ميل في النفوس البشرية ورغبة أن يكون لها الأولاد، فإنه بعد ذلك المؤدَّى: 

  • إما أن يكون صلاحاً أو فساداً. 
  • إما أن يكون نجاةً أو هلاك. 
  • إما أن يكون رفعةً أو وضعًا. 
  • إما أن يكون قرة عين أو سُخنة عين -والعياذ بالله-. 

قال الله تعالى في شؤون الكفرة الذين ينشأ أولادهم معهم فيعاونونهم على الكفر: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا..) [التوبة:55]، يُعَذِّبَهُم بِهَا: 

  1. أولاً في الدنيا بأن يزداد السوء والشر عليهم. 
  2. وفي الآخرة بالعذاب الشديد.

إذاً فشأن الأموال والأولاد: 

  • من لم يحسن التعامل معهما بمنهج الله ويُغلِّب في قيامه بشأنهما وأحوالهما أمر الله وحبه وإرادة رضاه، وإلا تحوّلا نقمة عليه. 
  • فإن قام بحق الله فيهما صارتا نعمة؛ صار المال نعمة وصار الولد نعمة: 
    • "نِعمَ المالُ الصَّالحُ للرَّجلِ الصَّالحِ". 
    • (رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ..)، يعني كانوا أصحاب بيع وتجارة، كانوا بيّاعين وتجار. 
    • لكن (لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) [النور:37]؛ فهؤلاء نِعَمٌ عليهم.

وكما سمعتم قصة الشخص الذي كان يشتغل في السوق ومعه الدكان، ثم يأخذ كل ما فاض من ماله ويتقصّد أرباب الحضور مع الله والإقبال على الله فيواسيهم. وقالوا: لم لا تعمّم صدقتك؟ قال: هؤلاء مشغولو القلوب بربهم، فإذا عُرضت لهم الحاجة واحتاجوا واضطروا إلى أن يشتغلوا بها، فلأن أَرُدَّ قلب واحد منهم في الشغل بالله، أحب إلي من أن أنفق على ألف يشتغلون بغير الله -سبحانه وتعالى-. 

ولما بلغ كلامه الحسن البصري قال: هذا كلام عارف، هذا كلام ولي، ثم بلغه أنه تخلّى عنه بعض الذي يقومون بالعمل فأراد أن يترك الدكان ويرحل، فأرسل إليه -الحسن البصري- قال: لا لا، هذا مال وصل إليك، ضعه في مالك واثبتْ محلك في السوق، فإن مثلك لا تضره التجارة والبيع وأنت تنفع المسلمين، اجلس محلك في التجارة، فقوّاه بالمال الذي أعطاه، قال: استمر محلك في الدكان، أنت مثلك نطمئن عليك في السوق؛ لا تغش، لا تكذب، لا تخون، لا تخدع، لا تقوم بمعاملات فاسدة، وتُسخِّر كل فوائدك والمال لمواساة أهل طريق الله. محلك محلك! اجلس! مثلك يعرف كيف يكتسب المال وكيف ينفقه.

وفي الحديث أنه: "لا تزول القدم يوم القيامة حتى يأتي السؤال عن المال"، فكل صغير وكبير دخل إلى يدي من المال، "من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟"، سؤالان: من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟ 

  • بأي عُملة كان، بأي مبلغ كان، قليل أو كثير، فيه سؤالين؛ على أي شيء يدخل تحت يدك من المال.
  • أي نوع؛ نقد، متاع، أرض، جهاز، أي شيء دخل تحت يدك مال، فيه سؤالين: من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟ 

وإلا لا تمشي الرِّجْلُ من فوق الصراط، سواء بالمرور على الصراط إلى الجنة أو بالوقوع في النار -والعياذ بالله تعالى-، إلا بعد السؤال: 

  • عن عمره فيما أفناه. 
  • وعن شبابه فيما أبلاه. 
  • وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه. 
  • وعن علمه ماذا عمل فيه.

فعندنا، عن كل مال نَتَمَوَّلهُ سؤالان: من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟ 

  • نظارةٌ يُسأل عنها، فيها سؤالان عنها: من أين اكتسبها وفيما أنفقها 
  • خاتمٌ فيه سؤالان: من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟
  • وكل مال يدخل إلى دائرتي، أُسأل عنه: من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟ الله الله الله. 

من كان يعرف قدر هذا السؤال، فكيف يكون؟ يحتاط لنفسه وينتبه لنفسه؛ ولهذا.. 

  • كان يقول بعض العارفين: رَدُّ دِرْهَمٍ مِن شُبْهَةٍ، خَيْرٌ مِن أَنْ تَتَصَدَّقَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ مِن شُبْهَة
  • وَمَنْ لَمْ يُبَالِ مِنْ أَيِّ بَابٍ دَخَلَ عَلَيْهِ الرِّزْقُ، لَمْ يُبَالِ اللَّهُ مِنْ أَيِّ وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ جَهَنَّمَ أَهْلَكَهُ.
  • وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: "لو صَلَّيْتُمْ حَتَّى تَكُونُوا كَالحَنَايَا، وَصُمْتُمْ حَتَّى تَكُونُوا كَالأَوْتَار، لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْكُمْ ذَلِكَ إِلَّا بِوَرَعٍ حَاجِزٍ".
  • وقال الشاعر:

لا يَغُرَّنَّكَ مِنَ المَرءِ قَمِيصٌ رُقِّعَ *** أوْ إِزَارٌ فَوْقَ نِصْفِ السَّاقِ مِنْهُ رُفِعَ

أَرِهِ الدِّرْهَمَ تَعْرِفْ غَيَّهُ أَوْ وَرَعَهْ

ولهذا لمّا شهِد شاهد في زمن سيدنا عمر على مسألة، فقالوا: هذا الشاهد غير معروف عند القاضي ولا عند أمير المؤمنين. قال -عمر-: من يزكيه؟ أن هذا عدلٌ ثقة؟ جاء واحد فقال: أنا أزكيه يا أمير المؤمنين. 

  • قال: هل أنت جاورته في منزل؟ قال: لا. 
  • قال: هل أنت صحبته في سفر؟ قال: لا. 
  • قال: هل أنت عاملته بالدينار والدرهم؟ قال: لا. 

قال: إنك لا تعرفه، لعلك رأيته يصلي في المسجد ويركع؟ قال الرجل: نعم. قال عمر: اذهب، اذهب فإنك لا تعرفه، لاتعرفه وتشهد له بالعدالة؟! 

  • هل جاورته في منزل فعرفتَ مدخله ومخرجه؟ قال: لا. 
  • هل صحبته في سفر؟ -تظهر أخلاق الإنسان في وسط السفر- قال: لا. 
  • قال: عاملته بالدينار والدرهم؟ قال: لا. 

قال: اذهب فإنك لا تعرفه. ائتني بمن يعرف الرجال وليس المعرفة بكثرة الصلاة والسجود. فما قبل تزكية هذا؛ لأنه ما يعرفه، وذكر الموازين للمعرفة: 

  1. جاورته في منزل؟ 
  2. صحبته في سفر؟ 
  3. عاملته بالدينار والدرهم؟

الكثير من الناس يعجبك ظاهره وكلامه، ثم عند المجاورة أو عند السفر أو عند الدينار والدرهم؛ يطلع لك لون ثاني، وعقل ثاني، وفهم ثاني، وكلام ثاني، وأسلوب ثاني، ليس هو ذاك الرجل، لا شيء راسخ في وسط القلب من الإيمان واليقين.

والأولاد كذلك، إما منةً ونعمة، وإما خسراناً ونقمة: 

  • (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ). 
  • (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) [التغابن:14-15]. 

اختبار نختبركم به، نختبركم بالأموال، نختبركم بالأولاد، هل تقومون بالواجب، تؤدون الحق، أو تُخلِّون بذلك؟

قال: (وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ)، فهما على الإيمان، مهيآن للقرب من الرحمن والموت على الإيمان والخلود في الجنان، (فَخَشِينَا) -ان بقي حيا حتى يكبر- (أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80))؛ فكان أحسن لهم أن يفقدوا الولد: 

  • (فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا).  
  • وفي قراءة: (يُبّدِلَهُمَا رَبُّهُمَا). 

والمعنى واحد، (خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً) ولد آخر أطيب، ولد مؤمن صالح طيب، (خيراً منه زكاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا(81))، أوصلَ للرحم، أحسن في البر والصلة، يواسي أبويه ويبرهما ويقوم بحقهما. فيُقال إن الله تعالى رزقهما بعد ذلك بنتاً صالحة، ونشأت وقامت ببرهما، فتزوجها نبي فأولدت نبياً، هدى الله به أمة كبيرة. 

انظر،، فبدل ذاك الكافر الذي أعطاهم الله، عِوض،  ولكن مرجع المعرفة في هذا إلى الإلهام الخاص والوحي الذي تلقاه سيدنا الخضر: 

  • إما عبر المَلك على القول بنبوته. 
  • وإما عبر الإلهام على القول بولايته. 

فبهذا الوحي الإلهي عرف هذه الأشياء، وليست بمجال عقل ولا مجال فكر، وليس للعقل فيها دخل. 

  • يقول: (فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا(81)). 
  • قال تعالى: (آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا) [النساء:11]. 

وكم من إنسان يفرح بمولوده ثم يتجرع منه المرارات! وكم من إنسان يتضجر ويقول: ما هذه المشكلة؟ ما نريد الحمل في هذا الوقت، ويطلع قرة عين، ينفع نفعاً جليلاً: 

(عَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ) [البقرة:216]. 

لهذا كان يقول بعض العارفين: 

  • كم من فَرَحٍ بولادته، وحُزْنٍ على وفاته، وأبدلهم الله خيرًا منه.
  • فلا يستعجل أحدكم، ولا يكره ما قدَّره الله له؛ فإنما قدَّره ورتَّبه تعالى هو الخير لك.

فإن قضاء ربك فيما لا تحب، أبرك عليك وخير لك مما تحب، تجد الثمرة والنتيجة بعد ذلك فيه، سُبْحَانَ الحَكِيمِ.

وفي بعض الآثار يروى أن الله يقول: "يا ابن آدم، أطعني ثم لا تخبرني بما يصلحك، فأنا أعلم به"؛ قم على الطاعة عنده، ثم أنا أعرف الشيء الذي يصلح لك، أنا سأرتب لك وأدبر لك -جل جلاله. 

وكم يتمنى الإنسان شيئاً فيه هلاكه وهو لا يدري ، أو فيه فساده وهو لا يدري، مسكين فيحرص عليه؛ ولو وقع له لهلك. دعْ صاحب العلم وصاحب الأمر يختار لك ويدبر -جل جلاله وتعالى في علاه-، (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [غافر:44].

قال: (فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا(81))؛ فيه إشارة إلى أن خير الأُسر وجود التوادد بينها والتراحم والتعاطف. 

وهكذا تجد أُسر الصلاح يعيشون وبينهم من الألفة والمودة والأخوة والمحبة بين: 

  • الوالد والولد، والزوج والزوجة، والام والبنت.
  • والعم والابن، والابنة والوالد، والأخ والأخ.

معاني من الرحمة والرأفة والمودة تقوى. "فإنَّ اللهَ إذا أرادَ بأهلِ بيتٍ خيرًا أدخلَ عليهِمُ الرِّفقُ"، فقامت أمورهم على الرفق وعلى اليسر، وتحابوا وتوادوا، فيكون في هذا خير كثير، خير كثير. 

  • وقال: (وَأَقْرَبَ رُحْمًا)، يعني أحسن أداءً لحق الرحم من هذا، فإن هذا يركب غيَّه وطغيانه وراء الكفر، ولا يبالي بأب ولا أم؛ إلا أن يستجرّهم معه إلى الكفر أو يعقّهم ويؤذيهم. 
  • فيجيء واحد ثانٍ أحسن من هذا: (يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً) -طهارة ونقاء وخلقاً- (وَأَقْرَبَ رُحْمًا) أحسن لصلة الأرحام.

(وَأَمَّا الْجِدَارُ..(82)) -واحد ثالث- قد قدَّمنا أنه كان مما حصل لموسى أنه: 

قد رفع الحجر عن الماء وسقى لبنتي شعيب وعاد إلى الظل وما يطلب أجراً عليه.

(وَأَمَّا الْجِدَارُ) -الآن يقول الخضر- لماذا لم تأخذ الأجرَعلى ذلك: (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا(77))، (فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ(82))؛ وفيه رعاية اليتيم، وإكرام اليتيم، ومعرفة حق اليتيم. 

وإذا كانت مجتمعات الإيمان الصالحة يعيش فيها الأيتام خير في حالهم، وأحسن فيما يجدون من الرعاية من الذين ليسوا بأيتام:

  • يعطف عليهم المجتمع ويحنو عليهم. 
  • وينتبه هذا وهذا وهذا منهم، فيحصل لهم أحسن مما يحصل للناس الذين آباؤهم موجودون. 

هكذا كانت مجتمعات الإيمان، ينشأ اليتيم فيها مكرماً:

  • وإن من أحب البيوت إلى الله بيت فيه يتيم يُكرم. 
  • وإن من أبغض البيوت عند الله بيت فيه يتيم يُساء إليه. 

بيت فيه يتيم يُساء إليه، وينتقص من حقه؛ هذا من أبغض البيوت عند الله. إذا لم تُحسن رعاية اليتيم، فلا تدخله بيتك، و دعْ غيرك الذي يقوم بحقه ويحسن إليه ويعامله مثل أولاده وأحسن.. 

  • وهذا قال فيه ﷺ: "أنا وَكافلُ اليتيمِ في الجنَّةِ كَهاتين، وأشارَ بأصبُعَيْهِ؛ السَّبَّابةَ والوسطى"، يعني يكون قريباً مني، كافل اليتيم. 
  • وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ۖ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) [النساء:10].

قال: (فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ) -يعني طفلين لم يزالا- (يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ..(82))، فسميت قرية وسميت مدينة:

  •  (حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا..(77))، ثم قال: (فِي الْمَدِينَةِ)، هي نفسها القرية.
  • إن القرية الكبيرة تسمى مدينة، أي تسمى قرية وتسمى مدينة..
    • قال النبي في مكة؛ أم القرى: "أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ القُرَى -على المدينة- يَقُولُونَ: يَثْرِبُ، وَهِيَ المَدِينَةُ".

يقول: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا)، الأكثر أن معناه، شيء من المال: ذهب أوفضة. 

يقول: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا..(82)) مع كل هذه الأوصاف التي فيهم، أنا اعتنيت بهم وقمتُ بخدمتهم من هذه الحيثية: عندهم أب صالح. 

  • فإذا كان الخضر يخدم أبناء الصالحين، فما هو واجب المؤمنين نحو أبناء الصالحين وأبناء الأخيار؟ فإذا نحن نعرف ذلك، فكيف بأصلح الصالحين، وذريّته وعترته ﷺ؟
  • ولذا قال سيدنا الحسن بن علي، لواحد من الخوارج سأله: بم حفظ الله مال الغلامين؟ قال: بصلاح أبيهما. قال له: فأبي وجدي خير منه، فلم تقاتلنا؟ إذا كان الله حفظ كنز الغلامين بصلاح أبيهما، فأنا أبي علي وجدي محمد ﷺ، فأبي وجدي خير منه، خير من ابوهم الصالح ذاك. هذا الخارجي قال: قد قيل لنا أنكم (قَوْمٌ خَصِمُونَ) [الزخرف:58]؛ لم يقتنع بالإجابة.

(وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا)، لكن هذا جدّه أصلح الصالحين، جده محمد ﷺ، وهذا من بني إسرائيل رجل صالح.. 

  • يقول سيدنا جعفر بن محمد: إنه كان الأب السابع، جدهم السابع صالح، فحُفِظ الخيرية في أولاده، وأن الله يرعى بالرجل الصالح أولاده وذريته، سبحان الله. 
  • كان يقول بعض العارفين في تابعي التابعين يقول لولده: يا ولدي، إني أراك فأزيد في العبادة بيني وبين ربي ليرعاني الله فيك، لكي يرعاني الله فيك ويحفظك. 
  • ولهذا كان يقول بعضهم: إذا رأيت في ولدك شيئ فاعلم أنك المراد به، فأحسن، أحسن فيما بينك وبين الله تعالى، فأنت مقصود بهذا. لما تُخِلُّ بالمعاملة معه يجيء الخلل في أولادك. قال: وإن كان الأمر ليس على إطلاقه، ولكن هكذا في الغالب.

(وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا)، يكبرا ويدركا ويميزا ويعرفا الأمور وحقائق الامور، (وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ)، وهنا يقول بعض العارفين : 

  • أن الله أودع في كل إنسان كنزاً من المعرفة والنور والبر. 
  • وأن مهمة الشيخ أن يحافظ على هذا الكنز.. 
    • ولكن لا يستخرجه حتى يعي هذا ويعقل ويفهم، ويستخرج الكنز هو بنفسه. 
    • فهو يحافظ عليه وينتبه منه ويوعيّه حتى يعقل ويدرك؛ "أمامك الكنز الآن، أخرج كنزك". 

قال: (وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً) -ونعمة- (مِّن رَّبِّكَ)، الله الله الله، (فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا)، يقول لموسى: (رَبُّكَ)، هذا إلهك الذي رباك، يُربّي الأشياء كلها من حواليك. (فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي)، ليس بعقلي ولا بخطتي ولا بتفكيري اصلح هذه الأشياء، إنما هو أمرٌ منه. (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا(82))، فهمت أو ما فهمت؟

وقيل إن هذا الكنز كان لوحاً من ذهب، فيه مكتوب حِكم، فيه تعجبات: 

  • ممن أيقن بالموت كيف يفرح؟ 
  • ممن أيقن بالحساب كيف يغفل؟ 
  • ممن أيقن بالقدر كيف يحزن؟ 
  • ممن أيقن بالرزق كيف يتعب؟ 
  • ممن أيقن بتقلب الدنيا بأهلها كيف يركن إليها؟ وهي متقلبةٌ بأهلها؟ كيف يركن إليها؟

(وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا)؛ قال له: (ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا(82))، ثم يحدثنا الحق في خاتمة السورة عن قصة ذي القرنين، ويختم لنا بالآيات المباركات التي:

  •  لها خصائص في حفظ الإنسان عند منامه، وتنشيطه للقيام في الوقت المبارك.
  •  وهي مما ورد في الحديث كما سمعنا أن المحافِظ  عليها لا تضره فتنة الدجال، أعظم فتنة؛ "من يقرأ عشر آيات من أول سورة الكهف" وفي رواية: "عشر آيات من آخر الكهف، لا يضره الدجال ولا فتنته" ذلك فضل الله علينا بواسطة نبينا.

نسأل الله أن يملأ قلوبنا إيماناً، وأن يرزقنا إحساناً، وأن يهبنا جوداً، وأن يسعدنا سعوداً، وأن ينظمنا في سلك من أحبَّ، وأن يقربنا فيمن قرَّب، وأن يوفر لنا الحظ والنصيب من العشر الأواخر وما فيها من جوده الغامر، ويجعل لنا في كل ليلة قرباً، وفي كل ليلة معرفة وحباً، وفي كل ليلة شوقاً ووجهه، وفي كل ليلة ارتقاءً واعتلاءً. 

اللهم بارك لنا في هذه الليالي وأسعدنا فيها، فإنها محطة الفضل الذي لا يدخله حسابٌ، والجود الذي لا يزال منصّباً ينسابُ، على كل من تعرض لرحمة الكريم الوهاب.

 اللهم اجعلنا من أسعد أمة نبيك بهذه الأيام وبهذه الليالي وما فيها من الجود والإكرام والفضل والإنعام، يا أرحم الراحمين.

 بسر الفاتحة 

إلى حضرة النبي صلى الله عليه وسلم.

تاريخ النشر الهجري

06 شوّال 1434

تاريخ النشر الميلادي

13 أغسطس 2013

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام