(535)
(364)
(604)
درس يلقيه الحبيب عمر بن حفيظ في تفسير سورة الكهف بعد الفجر ضمن دروس الدورة التعليمية التاسعة عشرة بدار المصطفى 1434هجرية.
﷽
(وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا (82))
الحمد لله على تعريفه وعلى تعّرفه، وعلى ملاطفته وكريم لطفه، له الحمد:
ويروى أن الخضر قال لموسى: لو صبرت لأريتك ألفي عجيبة، كلها مثل الذي رأيت، ليدلّك على عجائب التصريف في الأقدار، وحكمة الملك القادر الغفار -جل جلاله-، وأنه يدبر الأمور ويقضي في الأشياء بحِكمٍ لا تستطيع العقول أن تحيط بها ولا أن تحصرها.
وإنما يُطلِع الله من يُطلِع على كثير من تلك الحِكم، كبعض الملائكة، وكسيدنا الخضر وبعض الأنبياء وبعض الأولياء، وفوق هذا كل ما سُتر عن الجميع أعظم؛ لأن الصَنعة صنعة الأعظم، صنعة الإله الأكرم جلّ جلاله: (.. فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ* ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ) [الملك:3-4].
(مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ ۖ) كل ذرة من ذرات الكون تحمل عجائب وغرائب كثيرة، وإنما يهتدي الناس إلى شيء منها على حسب ما أوتوا من العقل والوعي والفهم وما كشف الحق لهم -سبحانه وتعالى- وهيأ لبصائرهم أن تدركه، ولله في كل تحريكة وتسكينة أثرٌ شاهدُ.
وفي الإشارة إلى بديع هذا التدبير من العلي الكبير، قال سيدنا علي بن أبي طالب: "لو كُشف الغطاء ما اخترتم إلا الواقع"، لو انكشف الغطاء لكم عن فهمكم، عن قلوبكم، عن مدارككم، لا يمكن أن تختاروا في الوجود إلا هو هذا الواقع؛ لأن هذا تدبير الرحمن الذي أوجد -جلّ جلاله-، فهل يمكن أن غيره يدبر أحسن؟ كيف يعني؟ ما يمكن هذا. فلو انكشف الغطاء عن الحِكم للمجريات، لقلتم هذا هو أحكم شيء ولا يمكن أحكم منه ولا أعظم منه، سبحان الخالق الحكيم.
وصلنا إلى قوله -جلّ جلاله- فيما يحكي عن سيدنا الخضر أنه:
من العجيب أن في كل الوقائع التي وقعت، شيء من الرابطة بأشياء حدثت لموسى من قبل، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام.
قال له: (وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ..(80)):
(وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا)؛ إما بمعنى خِفنا، أو بمعنى علِمنا بما أوحى الله إلينا، (فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا) -يغشيهما- (طُغْيَانًا وَكُفْرًا):
في هذا إشارة إلى فلسفة الأولاد والحكمة أيضًا من وجودهم والفائدة فيهم.
إذاً، فمع ما جعل الله في الأولاد من زينة، ومن ميل في النفوس البشرية ورغبة أن يكون لها الأولاد، فإنه بعد ذلك المؤدَّى:
قال الله تعالى في شؤون الكفرة الذين ينشأ أولادهم معهم فيعاونونهم على الكفر: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا..) [التوبة:55]، يُعَذِّبَهُم بِهَا:
إذاً فشأن الأموال والأولاد:
وكما سمعتم قصة الشخص الذي كان يشتغل في السوق ومعه الدكان، ثم يأخذ كل ما فاض من ماله ويتقصّد أرباب الحضور مع الله والإقبال على الله فيواسيهم. وقالوا: لم لا تعمّم صدقتك؟ قال: هؤلاء مشغولو القلوب بربهم، فإذا عُرضت لهم الحاجة واحتاجوا واضطروا إلى أن يشتغلوا بها، فلأن أَرُدَّ قلب واحد منهم في الشغل بالله، أحب إلي من أن أنفق على ألف يشتغلون بغير الله -سبحانه وتعالى-.
ولما بلغ كلامه الحسن البصري قال: هذا كلام عارف، هذا كلام ولي، ثم بلغه أنه تخلّى عنه بعض الذي يقومون بالعمل فأراد أن يترك الدكان ويرحل، فأرسل إليه -الحسن البصري- قال: لا لا، هذا مال وصل إليك، ضعه في مالك واثبتْ محلك في السوق، فإن مثلك لا تضره التجارة والبيع وأنت تنفع المسلمين، اجلس محلك في التجارة، فقوّاه بالمال الذي أعطاه، قال: استمر محلك في الدكان، أنت مثلك نطمئن عليك في السوق؛ لا تغش، لا تكذب، لا تخون، لا تخدع، لا تقوم بمعاملات فاسدة، وتُسخِّر كل فوائدك والمال لمواساة أهل طريق الله. محلك محلك! اجلس! مثلك يعرف كيف يكتسب المال وكيف ينفقه.
وفي الحديث أنه: "لا تزول القدم يوم القيامة حتى يأتي السؤال عن المال"، فكل صغير وكبير دخل إلى يدي من المال، "من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟"، سؤالان: من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟
وإلا لا تمشي الرِّجْلُ من فوق الصراط، سواء بالمرور على الصراط إلى الجنة أو بالوقوع في النار -والعياذ بالله تعالى-، إلا بعد السؤال:
فعندنا، عن كل مال نَتَمَوَّلهُ سؤالان: من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟
من كان يعرف قدر هذا السؤال، فكيف يكون؟ يحتاط لنفسه وينتبه لنفسه؛ ولهذا..
لا يَغُرَّنَّكَ مِنَ المَرءِ قَمِيصٌ رُقِّعَ *** أوْ إِزَارٌ فَوْقَ نِصْفِ السَّاقِ مِنْهُ رُفِعَ
أَرِهِ الدِّرْهَمَ تَعْرِفْ غَيَّهُ أَوْ وَرَعَهْ
ولهذا لمّا شهِد شاهد في زمن سيدنا عمر على مسألة، فقالوا: هذا الشاهد غير معروف عند القاضي ولا عند أمير المؤمنين. قال -عمر-: من يزكيه؟ أن هذا عدلٌ ثقة؟ جاء واحد فقال: أنا أزكيه يا أمير المؤمنين.
قال: إنك لا تعرفه، لعلك رأيته يصلي في المسجد ويركع؟ قال الرجل: نعم. قال عمر: اذهب، اذهب فإنك لا تعرفه، لاتعرفه وتشهد له بالعدالة؟!
قال: اذهب فإنك لا تعرفه. ائتني بمن يعرف الرجال وليس المعرفة بكثرة الصلاة والسجود. فما قبل تزكية هذا؛ لأنه ما يعرفه، وذكر الموازين للمعرفة:
الكثير من الناس يعجبك ظاهره وكلامه، ثم عند المجاورة أو عند السفر أو عند الدينار والدرهم؛ يطلع لك لون ثاني، وعقل ثاني، وفهم ثاني، وكلام ثاني، وأسلوب ثاني، ليس هو ذاك الرجل، لا شيء راسخ في وسط القلب من الإيمان واليقين.
والأولاد كذلك، إما منةً ونعمة، وإما خسراناً ونقمة:
اختبار نختبركم به، نختبركم بالأموال، نختبركم بالأولاد، هل تقومون بالواجب، تؤدون الحق، أو تُخلِّون بذلك؟
قال: (وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ)، فهما على الإيمان، مهيآن للقرب من الرحمن والموت على الإيمان والخلود في الجنان، (فَخَشِينَا) -ان بقي حيا حتى يكبر- (أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80))؛ فكان أحسن لهم أن يفقدوا الولد:
والمعنى واحد، (خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً) ولد آخر أطيب، ولد مؤمن صالح طيب، (خيراً منه زكاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا(81))، أوصلَ للرحم، أحسن في البر والصلة، يواسي أبويه ويبرهما ويقوم بحقهما. فيُقال إن الله تعالى رزقهما بعد ذلك بنتاً صالحة، ونشأت وقامت ببرهما، فتزوجها نبي فأولدت نبياً، هدى الله به أمة كبيرة.
انظر،، فبدل ذاك الكافر الذي أعطاهم الله، عِوض، ولكن مرجع المعرفة في هذا إلى الإلهام الخاص والوحي الذي تلقاه سيدنا الخضر:
فبهذا الوحي الإلهي عرف هذه الأشياء، وليست بمجال عقل ولا مجال فكر، وليس للعقل فيها دخل.
وكم من إنسان يفرح بمولوده ثم يتجرع منه المرارات! وكم من إنسان يتضجر ويقول: ما هذه المشكلة؟ ما نريد الحمل في هذا الوقت، ويطلع قرة عين، ينفع نفعاً جليلاً:
(عَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ) [البقرة:216].
لهذا كان يقول بعض العارفين:
فإن قضاء ربك فيما لا تحب، أبرك عليك وخير لك مما تحب، تجد الثمرة والنتيجة بعد ذلك فيه، سُبْحَانَ الحَكِيمِ.
وفي بعض الآثار يروى أن الله يقول: "يا ابن آدم، أطعني ثم لا تخبرني بما يصلحك، فأنا أعلم به"؛ قم على الطاعة عنده، ثم أنا أعرف الشيء الذي يصلح لك، أنا سأرتب لك وأدبر لك -جل جلاله.
وكم يتمنى الإنسان شيئاً فيه هلاكه وهو لا يدري ، أو فيه فساده وهو لا يدري، مسكين فيحرص عليه؛ ولو وقع له لهلك. دعْ صاحب العلم وصاحب الأمر يختار لك ويدبر -جل جلاله وتعالى في علاه-، (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [غافر:44].
قال: (فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا(81))؛ فيه إشارة إلى أن خير الأُسر وجود التوادد بينها والتراحم والتعاطف.
وهكذا تجد أُسر الصلاح يعيشون وبينهم من الألفة والمودة والأخوة والمحبة بين:
معاني من الرحمة والرأفة والمودة تقوى. "فإنَّ اللهَ إذا أرادَ بأهلِ بيتٍ خيرًا أدخلَ عليهِمُ الرِّفقُ"، فقامت أمورهم على الرفق وعلى اليسر، وتحابوا وتوادوا، فيكون في هذا خير كثير، خير كثير.
(وَأَمَّا الْجِدَارُ..(82)) -واحد ثالث- قد قدَّمنا أنه كان مما حصل لموسى أنه:
قد رفع الحجر عن الماء وسقى لبنتي شعيب وعاد إلى الظل وما يطلب أجراً عليه.
(وَأَمَّا الْجِدَارُ) -الآن يقول الخضر- لماذا لم تأخذ الأجرَعلى ذلك: (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا(77))، (فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ(82))؛ وفيه رعاية اليتيم، وإكرام اليتيم، ومعرفة حق اليتيم.
وإذا كانت مجتمعات الإيمان الصالحة يعيش فيها الأيتام خير في حالهم، وأحسن فيما يجدون من الرعاية من الذين ليسوا بأيتام:
هكذا كانت مجتمعات الإيمان، ينشأ اليتيم فيها مكرماً:
بيت فيه يتيم يُساء إليه، وينتقص من حقه؛ هذا من أبغض البيوت عند الله. إذا لم تُحسن رعاية اليتيم، فلا تدخله بيتك، و دعْ غيرك الذي يقوم بحقه ويحسن إليه ويعامله مثل أولاده وأحسن..
قال: (فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ) -يعني طفلين لم يزالا- (يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ..(82))، فسميت قرية وسميت مدينة:
يقول: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا)، الأكثر أن معناه، شيء من المال: ذهب أوفضة.
يقول: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا..(82)) مع كل هذه الأوصاف التي فيهم، أنا اعتنيت بهم وقمتُ بخدمتهم من هذه الحيثية: عندهم أب صالح.
(وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا)، لكن هذا جدّه أصلح الصالحين، جده محمد ﷺ، وهذا من بني إسرائيل رجل صالح..
(وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا)، يكبرا ويدركا ويميزا ويعرفا الأمور وحقائق الامور، (وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ)، وهنا يقول بعض العارفين :
قال: (وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً) -ونعمة- (مِّن رَّبِّكَ)، الله الله الله، (فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا)، يقول لموسى: (رَبُّكَ)، هذا إلهك الذي رباك، يُربّي الأشياء كلها من حواليك. (فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي)، ليس بعقلي ولا بخطتي ولا بتفكيري اصلح هذه الأشياء، إنما هو أمرٌ منه. (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا(82))، فهمت أو ما فهمت؟
وقيل إن هذا الكنز كان لوحاً من ذهب، فيه مكتوب حِكم، فيه تعجبات:
(وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا)؛ قال له: (ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا(82))، ثم يحدثنا الحق في خاتمة السورة عن قصة ذي القرنين، ويختم لنا بالآيات المباركات التي:
نسأل الله أن يملأ قلوبنا إيماناً، وأن يرزقنا إحساناً، وأن يهبنا جوداً، وأن يسعدنا سعوداً، وأن ينظمنا في سلك من أحبَّ، وأن يقربنا فيمن قرَّب، وأن يوفر لنا الحظ والنصيب من العشر الأواخر وما فيها من جوده الغامر، ويجعل لنا في كل ليلة قرباً، وفي كل ليلة معرفة وحباً، وفي كل ليلة شوقاً ووجهه، وفي كل ليلة ارتقاءً واعتلاءً.
اللهم بارك لنا في هذه الليالي وأسعدنا فيها، فإنها محطة الفضل الذي لا يدخله حسابٌ، والجود الذي لا يزال منصّباً ينسابُ، على كل من تعرض لرحمة الكريم الوهاب.
اللهم اجعلنا من أسعد أمة نبيك بهذه الأيام وبهذه الليالي وما فيها من الجود والإكرام والفضل والإنعام، يا أرحم الراحمين.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي صلى الله عليه وسلم.
06 شوّال 1434