(535)
(364)
(604)
درس يلقيه الحبيب عمر بن حفيظ في تفسير سورة الكهف بعد الفجر ضمن دروس الدورة التعليمية التاسعة عشرة بدار المصطفى 1434هجرية.
﷽
(وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ۚ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ۚ فَارْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ۖ قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73))
الحمد لله، وهذا أحد خَميسات رمضان، ويوم الخميس يوم تُعرَض فيه الأعمال على الله، فنحن بالشهر الكريم في يوم عرضٍ على الملك الكريم، مستقبلين لليلة الفرقان:
الفريق المحاط بعناية الحق تعالى ورعايته الخاصة وتأييده الأعظم، محل النظر من الخلق، حيث اجتمع في ذاك الفريق خيرُ أهل الأرض مع خير أهل السماء، فكان خير من في الأرض ومن في السماء، التفّوا في صفوف سيد أهل الأرض وسيد أهل السماء صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
ففي الحديث قال جبريل لسيدنا المصطفى: "ما تعدُّون من حضر بدراً فيكم يا رسول الله؟ قال: هم خيرنا. قال: "كذاك من حضر بدراً من أهل السماء هم خير من في السماء"، خير الملائكة الذين في السماء الذين حضروا مع سيدنا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. والله يجعلنا معه أبداً.
نستقبل هذه الليلة بإقبال صادق إن شاء الله وتوجُّه خارق، ونصادف قبولاً من حضرة الرحمن:
مَدَدْتُ كفّيَ عسى دعوةٌ *** تُصادف قبول
-اللهم اقبلنا-
عسى مع الجمع يحصل *** للجميــع القبول
وتعمّنا رحمة المولى *** بحسن الشمول
والحمد لله على إنزاله وعلى بيانه على لسان سيد أهل عرفانه؛ حبيبه المصطفى محمد.
قد تأملنا بعض المعاني البديعة الرفيعة في سورة الكهف حتى انتهينا إلى قصة سيدنا موسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، يقول جلَّ جلاله: (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ..(60))، واذكر يا محمد:
وهذه قصة سيدنا موسى؛ اذكر لهم، إذ قال موسى ابن عمران رسول الله وكليمه -سبحانه وتعالى- لفتاه، فتاهُ يوشع ابن نون، من أحفاد سيدنا يوسف -على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام- تعلّق بسيدنا موسى فلازمه وصاحبه وخدمه، فسُمِّيَ "فتاهُ".
والفتى في لغة العرب الشاب، ثم لما كانت الخدمات وتقديم الخدمة من الشباب ومرحلة الشباب، سُمِّي الخادم فتىً وإن كان كبيراً، والتلميذ سُمِّي فتىً وإن كان كبيراً في السن كذلك.
ولمّا لزم يوشع ابن نون، من أحفاد سيدنا يوسف -عليه السلام-، لزم سيدنا موسى ولزم خدمته سُمِّيَ؛ فتاه: (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ):
ولا أشرف منها ولا أصفى أن يجعل الله لك علاقة قلب بمحبوب لديه، بأحد من أهل حضرته؛ فهذه نِسَب:
ما ارتبط بالجوهري تجوهر، فصار الأمر:
ولهذا صح في الحديث أن سيدنا عمر لمّا خطب أم كلثوم بنت سيدنا علي، قال له: ما بي حاجة إلى النكاح، ولا أقصد مجرد النكاح، لكن أحب أن أصاهركم، سمعت رسول الله يقول: "كلُّ سببٍ ونسبٍ وصهر مُنقطِعٌ يومَ القيامةِ إلَّا سببي ونسبي وصهري"، فأحب أن أكون صهركم، صهر بيت النبوة، من أجل بنت فاطمة تكون عندي. فأرسل إليه أم كلثوم وزوّجه إياها، فكانت تعيش مع سيدنا عمر، وكان سيدنا عمر إذا ناداها قال: "يا ابنة الأكرمين، يا ابنة الأكرمين، يا ابنة الأكرمين". يعرف، تَرَبَّتْ في بيت من؟ وتحت رعاية من؟
هذه النسبة لفتاه، وكفى يوشع ابن نون أن الرحمن ينسبه هذه النسبة إلى كليمه، ويُنزل تلك النسبة في القرآن الموحى إلى حبيبه.
فها نحن نستجلي جمالاً في هذه العلاقة ما بين الفتى وموسى الذي مضى قبل آلاف السنين، ونرى جمالها متجدداً للعيون، نقرأها في الكتاب المكنون، ووحي الرحمن المنزل على الأمين المأمون، صلوات ربي وسلامه عليه. هذا الجمال الذي يُستجلى لها في هذه الحياة، فما تظن عن جمالها إذا قامت الأشهاد وجُمع العباد؟ فهناك جمال العلائق المعنوية والنسب الروحية، التي تكون، رزقنا الله أصفاها وأوفاها وأقواها، إنه أكرم الأكرمين.
(وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ):
ونال الصحبة في الرحلة لمقابلة من اشتاق قلب موسى إلى لقائه ومقابلته وهو الخضر، بعد أن أعلم الله موسى أن عند الخضر علماً ليس عند موسى.
تعامل الكليم موسى بأدب العبودية لله في:
فقل لمن يعيش في عصرنا، من كان من أهل الصدق: ها هي الكرة الأرضية قُرِّبت لكم، وعندكم الطائرات، وعندكم وسائل النقل المختلفات. هذا موسى الصادق في طلب عبدٍ واحد قريب من الخالق، قال: (لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60))؛ أقضي دهرًا طويلًا، لا أتراجع عن مقصدي في لقاء هذا العبد الذي أثنى عليه ربي حتى ألقاه. فما الحرص على اللقاء هذا من الكليم يقصه الله علينا في القرآن؟ إن للقاءات لشأن إذا كانت للرحمن وصفتْ عن الأدران، لا يبلغها غيرها من الشأن.
ولذا عدّ الله في نعيم الجنان لقاء الإخوان، وقال: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ) [الحجر:47]، وهم يتنعمون في الجنة بذاك التقابل؛ لما فيه من سر التداخل، وما فيه من سر التفضل من المولى الذي يختص به من عباده الأفاضل -جلّ جلاله-.
هذا شوق موسى للقاء الخضر، فأين يذهب منا الشوق للقاء الأكابر، للقاء الأخيار، للقاء الصالحين؟ كان في ترجمة الإمام العيدروس -عليه رضوان الله-:
فقد الناس هذا كثيراً، والنبي يحدثنا عن هذا الشأن، أن رجلاً كان يحب رجلاً في الله -تبارك وتعالى-، فزار أخاه في قرية أخرى، ذهب يزوره لله ومن أجل الله. رأيت العلائق والشوق للقاء؟ يقول رسول الله: "فأرصد الله على مدْرجته"؛ يعني مساره وطريقه الذي يمضي فيه إلى قرية صاحبه هذا "ملكاً". والمَلك يرصد المسار للقاء هذا، لأن للقاء شأن..
للذِّكرِ نشوةُ تهز السامعين *** إلى اللقاء، واللقاء أعلى مقام
غنيمةٌ مَن عَشِقَ لُقيا حبيبِه *** فمتى يَسمحُ المحبوبُ بالتلاقي؟
يتعللون بالذكر؛ من أجل أن فيه نفحة اللقاء، وفيه سببية ووسيلة اللقاء.
إذا فاتني قُربُ الأحبّةِ واللّقا ففي *** ذِكرِهِم أُنسٌ لوحشةِ خاطري
أنا الهائمُ المفتونُ في حبِّ سادةٍ *** تهتّكتُ فيهم بين بادٍ وحاضرِ
وخيّرتُ، فاخترتُ الغرامَ طريقةً *** أموتُ وأحيا هكذا يا معاشري
يقول الشيخ بامخرمة -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-:
على العِشقِ ربِّي بَراني *** وسَقى بمائِه عِظامي
وللحبِّ ربِّــي خَلقـنـي *** وفي الحُبِّ موتُ الكرامِ
(وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ) -هذا الكليم- (لَا أَبْرَحُ): لن أترك هذا الأمر الذي عزمت عليه، وهو الرحلة والسفر في طلب هذا العبد الذي يحبه ربي وخصه بعلم ليس عندي.
فإذا علمت أن أحداً خُصَّ من الله بخصوصية ليست عندك، فإن ذلك:
لكن هذا النبي لمّا أعلمه الله أن: هذا من عبادنا، أُعطيته علماً لم اعطَه لك، قال: "وأنا من أجلك أحبه، وأنا سأسافر إليه، وسأرحل، وسأقصده، وسأطلبه؛ حرصاً على لقائه"، هذه عبودية الأنبياء، هذه عبودية موسى للرحمن -جلّ جلاله وتعالى في علاه-.
وفي الحديث أنه خطب قومه خطبة ورقّت قلوبهم ودمعت عيونهم وكان ما كان، ثم سأله أحدهم: "هل على ظهر الأرض - يعني من البشر- أعلم منك؟" قال: "لا". فأوحى الله إليه، وهكذا يفعل بأحبابه إذا جاء شعرة من نقصان كمال العبودية نبههم؛ لأنه يحبهم. قال: "يا موسى، بلى، في الأرض عبدٌ لنا، واحد من البشر أعلم منك، عنده علم ليس عندك".
سيدنا موسى تنبّه لآداب العبودية وقال: من ذا تفضلت عليه؟ ومن هذا أعلم مني؟ قال: أين ألتمس عبدك هذا؟
أين عبدك هذا؟ أحببنا عبدك هذا، سنقصد عبدك هذا، سنجئ عند عبدك هذا". قال: "عبدنا الخضر".
أين ألقاه يا رب؟. قال: بـ(مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ).
كيف أعرف مكانه؟ خذ معك حوتاً في مكتل، فحيث أحييَته فاعلم أن عبدي هناك.
يأخذ حوتاً من السمك، وصادوا حوتاً، وجاب -أعطى- الحوتَ، فتاه يوشع، حط الحوت في المكتل، حوت ميت مشويّ؛ لكي يأكلوا منه، وبعدين يحيا ويقوم بإذن الله -جل جلاله الله- .
حمل الحوت في المكتل، سيدنا يوشع، هذا الفتى الذي اختار الصحبة لعليّ الرتبة فاعتلتْ رتبته، فما كان يوشع أن يغبط إلا من خدم محمداً، بعدما قام بالخدمة الكبيرة، لكن هذا الذي هو في زمانه:
وليس لأحد من العباد، ولو كليم الرحمن، أن يدّعي إحاطة في العلم ولا أنه أعلم من غيره؛ أدباً مع الله جلّ جلاله.
فإذا كان هكذا الأداب لأهل حضرة الله من أكابر الأنبياء، فما معنى الغرور بالعلم عند ذا أو ذاك؟ ما أقبحه في أمر الدين وفي أمر الشريعة!
وأما في أمر الدنيا، فمع هوان ذلك العلم بالنسبة لهذا، إذا لم يُحسِن استعماله بهذا العلم؛ فالشطط فيه والغرور فيه: والقول بأننا انتهينا فيه إلى الغاية؛ نوع من الغباوة والحماقة البشرية: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [الأحقاف:26].
فالنفع كله مطوي تحت أستار أدب العبد مع الرب وخضوعه لجلاله، والسلام، من دون هذا لا نفع ولا رفع، إنما يرفع الله من تواضع لجلاله. اللهم اجعلنا منهم وألحقنا بهم.
يقول: (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ)، يعني لا أترك عزمي هذا ومضيّي فيما أردت من قصدي لقاء هذا العبد المقرب الصالح، الخضر.
(لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ)، مجمع البحرين: حيث يلتقي بحر فارس وبحر الروم، حيث يلتقي البحران، هذا من جهة الغرب وهذا من جهة الشرق، هذا في قول الأكثرين.
(حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) حيث عيّن الله له أنه هناك يلقى عبده الخضر.
(أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا)، يعني زماناً طويلاً ودهراً:
وقال الله في أهل النار: (لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) [النبأ:23]، أي غير متناهية، أزمنة متطاولة أبدية، فالعياذ بالله، اللهم أجرنا من النار.
لا أحد منا يطيق نار الدنيا ولو بإصبع ولو لحظة، فكيف بنار الآخرة والجسد كله فيها؟ واليوم من لا يقوى على قرصة النمل ولا قرصة البعوض، كيف تقوى على النار؟
(وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ) [الأنعام:128]. اللهم وفقنا لذلك ببركة رمضان وسره وما فيه وخواص أهليه.
قال: (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ) -الكليم- (لِفَتَاهُ) -يوشع ابن نون- (لَا أَبْرَحُ) لا أتراجع ولا أترك عزمي هذا، (حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)).
فسَل عن أكثر الرحلات اليوم تدور بالنسبة للمسلمين من مكان إلى مكان:
لكن هذه الرحلة المباركة، وفتاه معه فيها (أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا) مضوا.
(فَلَمَّا بَلَغَا) -وصلا- (مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا) -مابين البحرين- (نَسِيَا حُوتَهُمَا..(61)):
هل تعرف سَرَب؟! سَرَب: الماء به محيط من الجوانب، و هذا المحل الذي مسه الحوت ومشى فيه؛ فاضي، هواء فيه، سبحان الله!
ولكي يبقى هذا المحل علامة لموسى..
وسيدنا يوشع يرى ويتعجب وينسى، ويتكلم مع موسى..
قال سيدنا محمد: "وما مسه شيء، ولَمْ يَجِدْ مُوسَى مَسًّا مِنَ النَّصَبِ حتَّى جَاوَزَ المَكانَ الذي أُمِرَ به"، أيام كان يسعى إلى المكان المأمور به لم يحس بالنصب، لم يحس بالتعب، يمشي يمشي يمشي.
لما جاوز المكان، (فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا)، سنأكل من الحوت هذا، (لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبًا(62))، قال له: حوت؟! الحوت خرج منذ مدة، كيف خرج؟! قال: حيث نمنا عند الصخرة هناك في مجمع البحرين، انت رقدت وأنا رقدت، وما انتبهت الا بالحوت قام ودخل، قال: كيف ما تخبرني؟
يقول: (فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا..(61)) استراحا وناما، نسيا حوتهما، والذي نسيه من؟ يوشع، لكن هذا التمازج والتداخل نُسِب فيه الأمر الى الاثنين معاً؛ لانه:
صار فعل الواحد ينسب إلى الثاني، قال: فـ(نَسِيَا). وسيدنا موسى مانسي، ولكنه لما مشى لم ينتبه إن كان هذا يحمل المكتل! وإلا ما هو حامل مكتل! هل مشى بالحوت هذا معنا! وإلا نسي الحوت! ماتنبه لهذا سيدنا موسى وهذا نسي ونسب الله حق النسيان للاثنين.
قال لفتاه: (آتِنَا غَدَاءَنَا) هات لنا غداء، وهو ما يُتناول في الغدوة، في الصباح:
ومع تغير عادات الناس:
(آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبًا(62))، وجدنا تعب من وراء هذا السفر، قال:"ولَمْ يَجِدْ مُوسَى النَّصَبَ حتَّى جَاوَزَ المَكانَ الذي أمَرَ اللَّهُ بهِ".
(قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ) -هناك- (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) نسيت ان اذكر لك أمر الحوت وخبره؛ (وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ۚوَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63)) أمر عجب! حُيِيَ بعد موته -يقصد الحوت-، وقام ويمشي، ويقفز من الأرض إلى البحر ويتخذ سبيل وسط البحر، عجب!. وهذا بقي محفوراً في الماء.
هل تعرف حفرة في الماء؟ عجيب! حفرة في الماء، ها ممكن؟ فيما جعله الله من أسباب البشر، لا، لا يمكن، لكن في قدرته ممكن، (قَالَ ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ) ونحن سافرنا ورحلنا من أجل هذا الموضع، لأجل هذا المكان، لنحصل صاحبنا فيه.
(ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ۚفَارْتَدَّا)، رجعا..
حتى وصلوا والسَّرَب لا زال موجود، انظر، انظر ياكليم الله، هنا الحوت خرج ودخل من هنا، هذا المكان.
فالتفت وإذا بسيدنا الخضر مسجىً بثوب مغطى. فسلّم؛ فكشف الثوب عن وجهه، قال: "أنّى بهذه الأرض هذه السلام؟" من أنت؟ قال: "موسى". قال: "موسى بني إسرائيل؟" قال: "نعم". "ما أتى بك؟" قال: "جئتُ لتعلمني، جئتُ لأتعلم منك". قال: "أنت ما يكفيك ما أنزل الله عليك من التوراة وأوحى إليك وهو يكلمك؟!". قال: "ولكني قصدتك لأتعلم منك". قال: "يا موسى، أنا على علم من علم الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله، لا أعلمه. وأنك لن تطيق العلم الذي معي".
قال: (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ) -اعطيناه-
حصل المقصود: (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا (65)):
أكثر العلماء على أن سيدنا الخضر كان:
(فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا (65)) والحق يذكر عند تحصيل موسى لمبتغاه من هذا اللقاء:
(قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ):
(هَلْ أَتَّبِعُكَ)، هكذا يُؤخذ العلم، هذا الكليم، لما أوحى الله إليه أن عبدنا الخضر أعلم منك، ما قال: "فيمَ أعلم مني؟ علّمنا هذا العلم، أعطنا هذا العلم. واكتفى بعبوديته لله، فقال:
يقول كليم الرحمن، ومن أين جاء الخضرُ بالعلم؟ ولا الخضرُ ولا غيره يعلم شيئاً إلا بأمر الله تعالى ومن عند الله: (سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا) [البقرة:32].
لكن أدب موسى، ما قال: "أعطنا هذا العلم"، بل قال: أين صاحبه لألتمس منه سُنّتك التي شرعتها في أن نقابل أهل العلم ونأخذ منهم؟ بسم الله، أنا عليها راحل.
وقابل صاحب العلم: (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)). وفي قراءة: (رَشَْدًا). (قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67))، لن تقدر أن تصبر معي، نبي صاحب شريعة، وتأتينا أوامر من الله غيبية تخالف شريعته في مظاهر شريعتك هذا. وما دام غائب عنك الأمر هذا وحكمته، لن تصبر، ستقوم وتنكر، والإنكار واجب عليك.
قال:(لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا) -لماذا؟- (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68))، ما انتهى إليه علمكم، وأدركت فيه الحقيقة.
وكم من عائبٍ قولًا صحيحًا *** وآفتهُ من الفهمِ السقيمِ
هو ما فهم.
فمصيبة الإنسان إذا كان لا يعلم شيئ ولا يسلّم لمن يعلم شيئاً؛ هذه مشكلة كبيرة:
إذا كنتَ بالمداركِ غِرًّا *** ثم أبصرتَ حاذقًا لا تُمارِ
وإذا لم ترَ الهلالَ فسلّم *** لأُناسٍ رأَوهُ بالأبصارِ
فهذا لا هو عالم ولا يسلّم لأهل العلم؛ هذه مصيبة من المصائب، مشكلة كبيرة في حد ذاتها.
(قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68))؛ وفي هذا اشتراطات وتأديبات ومقدمات وضوابط يضعها الشيوخ على الطلاب، إن كان الطالب صادق، مرحباً، يُقبل، ويقول كما قال موسى.
أما يقول هذا صعب، هذا تعب، لا يوجد حاجة. يقول: أفضل أن أذهب وأصنع لي شيئاً آخر تهواه نفسي، هذا بيقيدنا يتعبنا هذا عنده.
(قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا):
هكذا.. يأتون هؤلاء الذين لا يدركون حقائق المعرفة والرفعة للإنسان من هذا المسلك وهذا الأسلوب، يقولون: تقييد للحرية وكبت للنفس.
أنت إذا ما دخلت مضيق الرَّحِم، ما خرجت إلى العالم! لابد تدخل في المحل الضيق هذا، وتدع اختياراتك وتخرج بعد ذلك إلى العالم الفسيح. وإلا:
وَمَنْ لَمْ يَذُقْ مُرَّ التَّعَلُّمِ سَاعَةً *** تَجَرَّعَ ذُلَّ الْجَهْلِ طُولَ حَيَاتِهِ
فهُم في جهلهم يرتعون، ما أدركوا الحقيقة.
(قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا(69))، يعني: إن كان المسلك كذا، مرحباً بك. وإن كنت كليم الله ونعظمك بقلبي ولكن اعطِ المشيخة حقها..
وما قص الله قصته؛ إلا لنعرف الآداب، ولنعرف العلائق، وإلا لنخضع، وإلا لنخشى، وإلا لنسلك تحصيل العلم من هذه المسالك الكريمة المباركة، وبهذه الآداب النبوية.
حينئذ بدت الأخبار الغريبة: (فَانطَلَقَا..(71)):
وأول مرة صلّح واحدة غريبة، وسيدنا موسى نسي وسأل، (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ..(73)) سامحناك، نسيت.
ثاني مرة ما صبر، ما هذا؟! قتل نفس أمامي؟!. هل هذ كلام هذا! ثالث مرة تعمّدها؛
فتعمّد من أجل الفراق، تعمّد الثالثة، قال النبي: "وددت أنه صبر حتى يقص الله علينا من أخبارهم عجباً" أعاجيب كثيرة فوق الثلاثة هذه، لو صبر سيدنا موسى ستحصل أشياء أخرى؛ وفيه دليل من رسول الله أن الله طوى في هذه الوقائع علوماً ستنتفع بها الأمة، ولهذا حرص أن موسى لو زاد، سيزيد العطاء للأمة في ذكر هذه القصص والوقائع.
سيدنا الخضر أول ما مشى وانطلق مع سيدنا موسى على البحر يمشون، إذا بطائرٍ يقف فوق البحر ينقر بمنقاره في البحر.
هذه بحور متلاطمة من العلوم والمعارف عند موسى وعند الخضر، قال: "ما تساوي شئ إذا أضفناها إلى علم الله". خلاص انتهت، ما تساوي شيء، إن العلم لله جلّ جلاله، (وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) [الإسراء:85].
فالله يبارك لنا فيما آتانا من العلم، ويرزقنا فوقه الحلم، ويسيّر بنا مسار المحفوفين بالعناية، الذين لا يلوون على ظلم، ولا على موجب لوم.
اللهم ثبتنا على الحق فيما نقول، ثبتنا على الحق فيما نفعل، ثبتنا على الحق فيما نعتقد، يا أرحم الراحمين.
يحب الله من أنبيائه وأصفيائه أن يكونوا على كمال الأدب معه دائماً، وهذا الذي نقرأه في قصص القرآن الكريم، صلوات الله وسلامه عليهم:
وأذن الله يرجع إلى ولده، كبر وفرح به، فلما كبر قال: "اذبحه"؛ (إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ) [الصافات: 106]. (قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) -تربية نبوة- (سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) [الصافات:102-103]، ما يبقى في قلبه ميل لغير خليله جلّ جلاله؛ هكذا يعامل الله أصفياءه، صلوات الله وسلامه عليهم، وحشرنا الله معهم.
ذكرنا:
تلك مباحث من حيث العلم علم، ومن حيث النور لأهل النور في نورها، في مكانها، لا يترتب عليها شيء في أساسيات إسلامنا وديننا وإيماننا.
فيا ربّ ثبتنا على الحق والهدى، ويا ربّ اقبضنا على خير ملةِ.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد.
الليلة مقبلة بشذى فاخر، يشمه من سلم قلبه وروحه من الزكام؛ لأن المزكوم ما يشم. فالله يشفينا من جميع الأمراض والأسقام في القلوب والأرواح والأجساد. يا رب داونا وعافنا يا معافي، واشفنا يا شافي، واجعلنا من أهل الحظ الكبير برحمتك يا أرحم الراحمين.
نمشي في الموكب متصلين إن شاء الله بموكب بدر وأهل بدر وحبيبنا البدر الذي ما وقع أهل بدر إلا به، أهل بدر صلوات ربي وسلامه عليه، وحشرنا الله في زمرته. وبارك لنا ولكم وللأمة في هذه الليلة، وفتح بها أبواب الفرج للمسلمين، والغياث للمسلمين، والصلاح للمسلمين، ونشر الهدى والحق والنور المبين، ودفع جميع الظلمات والكفر والشر عنا وعن أهل الأرض في لطف وعافية. والحمد لله رب العالمين.
سبحانك اللهم وبحمدك، نستغفرك ونتوب إليك
22 رَمضان 1434