(535)
(363)
(339)
درس يلقيه الحبيب عمر بن حفيظ في تفسير سورة الكهف بعد الفجر ضمن دروس الدورة التعليمية التاسعة عشرة بدار المصطفى 1434هجرية.
﷽
(وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَىٰ وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ۚ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ۖ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ۚ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۖ وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِۖ..(58))
قَبِلَنا اللهُ أجمعين وأقبل بقلوبنا عليه وأقبل بوجهه الكريم علينا، وهي إقبالاتٍ وشريفَ مقابلاتٍ تحصل في هذه الليالي المباركات والأيام الزاهيات. اللهم وفّر حظنا من خيرها ونورها وبركاتها وسرها يا رب العالمين.
الحمد لله على نعمة القرآن ونعمة حِفظه، ونعمة القرآن وثيقة الاقتران بنعمة من أُنزل عليه القرآن، وحِفظ القرآن وثيقة الاقتران بالصدور من أولي العلم الذين ورثوا من أُنزل عليه القرآن:
فحُفظت ألفاظه الكريمة وكلماته العظيمة، وحُفِظت أسراره الفخيمة في صدور الرجال، في صدور الذين أوتوا العلم. فالحمد لله على نعمة القرآن.
وقد وصلنا في الاستضاءة بنور القرآن وأخذ توجيه وتعليم الرحمن إلى قوله جلّ جلاله: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَىٰ..(55)). جاءهم الهدى، أُنزل القرآن، وظهر وبرز وبُعِثَ فيهم حاملهُ المصطفى من عدنان. بعد تنزيل رب العالمين، وما أقام من حُججٍ كالشمس والقمر، يبقى لذي مرضٍ أو شبهةٍ مُشْكِلٌ
يبقى لذي مرضٍ أو ريبةٍ مُشْكِلٌ أو شٌبهةٌ *** لا ورب البيت والحجر
لكن شقاوة أقوام وحظهم*** المنحوس أوقعهم في الشر والشررِ.
(وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ)، الغفار -جل جلاله- ما منعهم من ذلك (إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ)، أي كحالة الذين غلبت عليهم الأهواء والشهوات والأغراض والعناد، فبقوا إلى أن فاجأهم العذاب. (إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) فيُهلكوا بعذاب، (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا):
فقد تنوعت أنواع العذاب الأدنى، وهو كل عذاب يحصل في هذه الدنيا، عذاب أدنى. فأنواع العذاب في الدنيا؛ دنيا، أي عذاب أدنى بالنسبة لما بعده، قال تعالى: (وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ) -دون النار الموقدة التي تطلع على الأفئدة- (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [السجدة:21].
(أَو يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قِبَلا(55)):
(أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قِبَلا)، يقول الله:
(وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَىٰ وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قِبَلًا):
قال أصحاب سيدنا رسول الله: إن كنا لنعدُّ لرسول الله في المجلس الواحد -يسمعون من كلماته، يتكلم يدعو الله بها ويتوجه بها إلى الله- مئة مرة من قول: "رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم".
وإن كنا لنعد في المجلس الواحد لرسول الله مئة مرة من قول: "رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم"؛ وطوبى لمن وجد في صحيفته استغفارًا كثيرًا.
والحمد لله، يكون لكم نصيب من ذكر رمضان ومُضَمَّنٌ فيه الاستغفار، وتكررون في خلال اليوم والليلة -مرات عديدة: "نشهد أن لا إله إلا الله، نستغفر الله نسألك الجنة ونعوذ بك من النار":
فالله يقبل منكم، كثير من المسلمين يأتي رمضان ويَصومون، الحمد لله. قليلٌ قولُهم: استغفر الله. قليلٌ استغفارُهم. وبعضهم في رمضان ما كأنه في رمضان، ما يشعر حتى بالحس.
وكنا نعهده أيام الصِّبا، حتى عند الصبيان، يشعرون برمضان، كأن الجو آخر واللون آخر والطعم آخر والحس آخر والشم آخر، من قبل دخول رمضان يقولون: رائحة رمضان، نشم رمضان. وكان هذا الإحساس عند الصغار عند الكبار، عند الرجال عند النساء، فداهموهم بشغل عقولهم بما لا طائل تحته، فما صاروا يشعرون بدخول رمضان ولا خروجه إلا القليل، والموفق منكم في مثل هذه المجالس والحضرات والترتيبات يبدأ عنده الحس، يحس بشهر الله المبارك، يحس بالصلة بالحق والعلاقة بأسرار جريان مِنِّنه ونفحاته في الشهر الكريم.
قال الله لنبيه: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ..(56))، أرسلنا رسل كثير من قبلك، وشغلهم يبشرون وينذرون. يبشرون المؤمنين والطائعين، وينذرون الكافرين والعاصين، أي:
(مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ)، الحق يسلِّي رسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ)؛ فيؤدون مهمتهم على وجهها.
وصنف من الكافرين يحبون الجدال ويكثرونه: (وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ):
يقول: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ). فيجب علينا -أتباع الرسل- وخصوصًا نحن أمة محمد أتباع سيد الأنبياء والمرسلين، أن نحمل لأنفسنا وأسرنا ومن حوالينا والعالم من حوالينا تبشيرًا وإنذارًا، هذا الذي علينا:
(مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ):
(وَمُنذِرِينَ):
(وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ)، فلنتقن هذه الوظيفة، نبشر ونتقن التبشير:
(مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ):
والكل مقرون بحكمة، بحسن بيان، بحجة، بمنطق حسن؛ هذه مهمتنا لابد أن نقوم بها على وجهها، وهي حِبال سرّ الخلافة: (مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ) حِبال سر الخلافة عن الله في أرضه:
والحق إذا رأى منا الصدق والإخلاص بارك في القليل وبارك في اليسير؛ حتى يحصل النفع وهكذا...
أول ما بنينا هذا المصلى، كانت الفكرة أننا ممكن نجعل شبه الستارة أو الستائر أو الحاجز، وأننا ما كنا بنحتاج إلا إلى الرواق الأخير والذي قبله؛ غايته، وأن هذا ما كنا بنحتاج إليه إلا فيما بعد.
مرَّت الأيام صارت ترونه بهذا الحال.
فلابد نحمل وظيفة ومهمة التبشير والإنذار على مسلك الرسل، لأنفسنا، لأهلينا، لأهل بلدنا، لأصدقائنا، لهذا العالم الذي نعيش فيه. وبكل اعتزاز نحمل هذه الأمانة الكبيرة ونبشر وننذر حيثما كنا وأينما كنا.
باللغات التي يعرفها كل من اتصل بهذا النور يبشرون وينذرون. لأنه كان الرسول من الرسل السابقين يُبعث بلسان قومه، فجاء سيدنا المصطفى والألسن كلها لسان قومه؛ لأنه مرسل إلى الجميع ﷺ، مرسل للعربي، للعجمي.
ولذا كانوا يتعجبون في حياته، يكلم العرب بلهجاتهم المختلفة حتى لا يفهم من عنده من أهل الحجاز. وبعد وفاته، يراه الذي لا يعرف إلا لغة غير العربية فيسمعه يكلمه بها، باللغة التي يعرفونها، فيرونه هذا يكلمه بالسواحلي، وهذا يكلمه بالإنجليزي، وهذا يكلمه بالفرنسي، وهذا يكلمه بالملاوي، ويتكلم بها كلها ﷺ؛ لأنه مرسل إلى الجميع، صلوات ربي وسلامه عليه.
وخص الله -سبحانه وتعالى- مكة والمدينة وقومه وعشيرته، فأنزل القرآن بلغتهم، وأمرهم أن يحملوا معانيه إلى جميع أهل اللغات:
قل: أنت الآن هنا في مكة والمدينة، أنت وقومك، أنا بواسطتك أُنزل للكل، للجميع
قد أدرك هذه المعاني الشعراء، ألا يرون الشخص الذي يجمع من الفضائل ما تجتمع عليه القلوب وتستقر به الأحوال؟ فواحد يصير كأنه جماعة أو كأنه الجماعة كلهم.
والناسُ ألفٌ منهمُ كواحدٍ *** وواحدٌ كالألفِ إنْ أمرٌ عَنا
ثم يقول شاعرهم:
وما الناسُ إلا أنتَ حيثُ أنتَ *** وما الناسُ بناسٍ في موضعٍ منك خالِ
(لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل:44]، (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ)؛ فلنتشرف بالتبشير على طريقة الأنبياء، والإنذار على طريقة الأنبياء لأنفسنا ولمن حوالينا.
قال الله لهذا الخاتم المرسل للجميع:
صلوات ربي وسلامه عليه؛ فكل الدوائر دخلت تحت سرادق رسالته الذي عمَّ الكل.
قال: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ۚ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ..(56))، يدحضوا به الحق يعني يبعدوه، يزيلوه، ينزعوه من بين الناس، حتى لا يُعظَّم، لا يُعمَل به، لا يُتَّبع، ومنه ما تسمعونه في العصر من مجادلات:
(بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ)، القصد إبعاد هدى ونور وحقائق، يُبعد بأي طريقة، وتُضفى عليها صورة العلم وصورة المنطق وصورة الحجة.
وإذا فتشت بالعقل السليم ووصفتها وجدته كلامًا فارغًا وكذب باطل، لا تقوم على حجة ولا على دليل ولا على منطق، إلا زخرف القول الذي أشار الحق إليه بقوله:
(وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ)، فنحتاج إلى شيء من البيان للعقليات من حوالينا حتى لا تنطوي عليهم الحيلة. (وَاتَّخَذُوا آيَاتِي)، (آيَاتِي):
(وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا)، وإنذار المرسلين وأتباعهم لهم، (هُزُوًا (56))، (وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا)، لا أحد يصف الخلق مثل رب الخلق، يعطيك الحقيقة التي تدور بين الناس.
(وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا(56)) قال الله، هذا حال شنيع: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ) -واضحة بينة جلية قوية- (فَأَعْرَضَ عَنْهَا..(57)) وتولى منها؛ (لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ):
(لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ)، (وَاتَّخَذُوا آيَاتِي) الواضحة البينة في الإنزال وفي التكوين (وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا(56)). فهذا الحال الشنيع يحكي الله فظاعته وشناعته بقوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا..(57))؛ وُجِّهَ الاستفهام إليك أيها العاقل أيها اللبيب، قَالَ لكَ: من أظلم من هذا؟
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ)، يا رب هذه شناعة كبيرة ولا أظلم من هذا! لماذا هم بهذه الصورة؟! والعقل معهم والبصر معهم؟
يقال أنه لما نزلت الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وإلا فالأنبياء يحبون هداية قومهم، وهذا معنى الآية الكريمة: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ)، يعني:
و(إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ)، يوسوس في قلوب الناس يقول لهم: هذا بشر مثلكم يأتي كلام غريب، كيف تطيعونه وتتركون دين آبائكم، وهذه آلهتكم عشتم عليها؟!
جلّ جلاله تعالى في علاه، اللهم اهدنا فيمن هديت، اللهم اهدنا فيمن هديت.
(وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ..(58))، (الْغَفُورُ) اسم مبالغة: غفور. غافر، غفّار، وغفور:
(الْغَفُورُ): كثير المغفرة سبحانه وتعالى: (إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ) [النجم:32]. (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ)، صاحب الرحمة، اللهم اغفر لنا وارحمنا يا خير الغافرين يا أرحم الراحمين.
رأس مال الإنسان قلبه.. فليحافظ عليه ويقيم عليه حاجز من المراقبة لله تمنع عنه الخواطر السيئة، فإذا داهمته فعمله معها أن:
اللهم نّور قلوبنا وصَفِّ سرائرنا ونوّر بصائرنا وأصلح شأننا، وسِرْ بنا مسار المحبوبين من عبادك، وارزقنا كمال محبتك وودادك، ولا تحرمنا خيرَ ما عندك لشرِّ ما عندنا، فأسعدنا في هذه الأيام والليالي، كن لنا بما أنت أهله يا كريم يا والي، وعاملنا بالفضل وأصلح لنا الشأنَ وامنحنا كريم الوصل، واختم لنا بالحسنى.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد ﷺ
20 رَمضان 1434