تفسير سورة الكهف(1434) -14- من قوله تعالى:(وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا..(55))

تفسير سورة الكهف - الدرس الرابع عشر
للاستماع إلى الدرس

درس يلقيه الحبيب عمر بن حفيظ في تفسير سورة الكهف بعد الفجر ضمن دروس الدورة التعليمية التاسعة عشرة بدار المصطفى 1434هجرية.

نص الدرس مكتوب:

﷽ 

(وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَىٰ وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ۚ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ۖ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ۚ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۖ وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِۖ..(58))

قَبِلَنا اللهُ أجمعين وأقبل بقلوبنا عليه وأقبل بوجهه الكريم علينا، وهي إقبالاتٍ وشريفَ مقابلاتٍ تحصل في هذه الليالي المباركات والأيام الزاهيات. اللهم وفّر حظنا من خيرها ونورها وبركاتها وسرها يا رب العالمين.

الحمد لله على نعمة القرآن ونعمة حِفظه، ونعمة القرآن وثيقة الاقتران بنعمة من أُنزل عليه القرآن، وحِفظ القرآن وثيقة الاقتران بالصدور من أولي العلم الذين ورثوا من أُنزل عليه القرآن: 

  • قال تعالى: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) [العنكبوت:49]. 
  • وقال: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9].

  فحُفظت ألفاظه الكريمة وكلماته العظيمة، وحُفِظت أسراره الفخيمة في صدور الرجال، في صدور الذين أوتوا العلم. فالحمد لله على نعمة القرآن.

وقد وصلنا في الاستضاءة بنور القرآن وأخذ توجيه وتعليم الرحمن إلى قوله جلّ جلاله: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَىٰ..(55)). جاءهم الهدى، أُنزل القرآن، وظهر وبرز وبُعِثَ فيهم حاملهُ المصطفى من عدنان. بعد تنزيل رب العالمين، وما أقام من حُججٍ كالشمس والقمر، يبقى لذي مرضٍ أو شبهةٍ مُشْكِلٌ

يبقى لذي مرضٍ أو ريبةٍ مُشْكِلٌ أو شٌبهةٌ *** لا ورب البيت والحجر

لكن شقاوة أقوام وحظهم*** المنحوس أوقعهم في الشر والشررِ.

  • (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَىٰ) أن يصدّقوا بإلههم وخالقهم ومنهاجه ورسله وملائكته واليوم الآخر والمرجع إليه، (وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ)
  • (إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَىٰ)، أُنزل عليهم الكتاب وبيّنه لهم سيد الأحباب. (جَاءَهُمُ الْهُدَىٰ وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ). يطلبون الغفران، لأن كل من اهتدى بنور هذا الهدى أدرك حاجته للمغفرة، فيعود إلى الغفور يقول: اغفر يا غفور، اغفر يا رب يا غفور. 

(وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ)، الغفار -جل جلاله- ما منعهم من ذلك (إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ)، أي كحالة الذين غلبت عليهم الأهواء والشهوات والأغراض والعناد، فبقوا إلى أن فاجأهم العذاب. (إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) فيُهلكوا بعذاب، (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا): 

  • أي مواجهة معاينة مباشرة. 
  • وفي قراءة: (قُبُلا) جمع قبيل، أي أنواع منوعة.

فقد تنوعت أنواع العذاب الأدنى، وهو كل عذاب يحصل في هذه الدنيا، عذاب أدنى. فأنواع العذاب في الدنيا؛ دنيا، أي عذاب أدنى بالنسبة لما بعده، قال تعالى: (وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ)  -دون النار الموقدة التي تطلع على الأفئدة- (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [السجدة:21]. 

(أَو يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قِبَلا(55))

  • (قِبَلا): معاينة مباشرة أو فجأة. 
  • (قُبُلًا): أي أنواعا منوعة. (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا).
  •  وفي قراءة بعضهم: (قَبَلًا)، أي مستقبلًا يستقبلهم، يأتيهم العذاب في مستقبل أمرهم. 

(أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قِبَلا)، يقول الله: 

  • يا حبيبي هذه حكمتنا في وجود هذا الخلق، نُكرمهم بالإيجاد ونمدهم بالسمع والأبصار والأفئدة ليعقلوا. 
  • ثم يغلب على الأكثر منهم محبة الفساد والعناد ورد الحُجج والآيات، خنوعًا للشهوات وخضوعًا للمرادات الساقطات. 

(وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَىٰ وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قِبَلًا):

  • فمن اهتدى، يقوى إيمانه ويكثر استغفاره. 
  • وكلما ازداد هدى كان ذا إيمان أقوى واستغفار أكثر. 

قال أصحاب سيدنا رسول الله: إن كنا لنعدُّ لرسول الله في المجلس الواحد -يسمعون من كلماته، يتكلم يدعو الله بها ويتوجه بها إلى الله- مئة مرة من قول: "رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم". 

  • في مجلس واحد يجلس معه، يسمع من النبي يقول: "رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم".
  • بعد وقت قليل، يسمع النبي يقول: "رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم". يتكلمون، يسأله سائل. 
  • ثم بعد وقت قليل، يسمع النبي يقول: "رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم". 
  • وبعد وقت قليل، يسمع النبي يقول: "رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم".

 وإن كنا لنعد في المجلس الواحد لرسول الله مئة مرة من قول: "رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم"؛ وطوبى لمن وجد في صحيفته استغفارًا كثيرًا.

والحمد لله، يكون لكم نصيب من ذكر رمضان ومُضَمَّنٌ فيه الاستغفار، وتكررون في خلال اليوم والليلة -مرات عديدة: "نشهد أن لا إله إلا الله، نستغفر الله نسألك الجنة ونعوذ بك من النار": 

  • خصلتان نُرضي بهما ربنا: شهادة أن لا إله إلا الله واستغفاره. 
  • وخصلتان لا غنى لنا عنهما: نسأله الجنة ونستعيذ به من النار، جلّ جلاله. 

فالله يقبل منكم، كثير من المسلمين يأتي رمضان ويَصومون، الحمد لله. قليلٌ قولُهم: استغفر الله. قليلٌ استغفارُهم. وبعضهم في رمضان ما كأنه في رمضان، ما يشعر حتى بالحس. 

وكنا نعهده أيام الصِّبا، حتى عند الصبيان، يشعرون برمضان، كأن الجو آخر واللون آخر والطعم آخر والحس آخر والشم آخر، من قبل دخول رمضان يقولون: رائحة رمضان، نشم رمضان. وكان هذا الإحساس عند الصغار عند الكبار، عند الرجال عند النساء، فداهموهم بشغل عقولهم بما لا طائل تحته، فما صاروا يشعرون بدخول رمضان ولا خروجه إلا القليل، والموفق منكم في مثل هذه المجالس والحضرات والترتيبات يبدأ عنده الحس، يحس بشهر الله المبارك، يحس بالصلة بالحق والعلاقة بأسرار جريان مِنِّنه ونفحاته في الشهر الكريم.

قال الله لنبيه: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ..(56))، أرسلنا رسل كثير من قبلك، وشغلهم يبشرون وينذرون. يبشرون المؤمنين والطائعين، وينذرون الكافرين والعاصين، أي: 

  • يحذرون عواقب ونتائج ومُعَدِّيات الكفر والمعصية. 
  • ويبشرون بنتائج الإيمان والعمل الصالح وثمرات ذلك وجزائه وعاقبته. 

(مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ)، الحق يسلِّي رسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ)؛ فيؤدون مهمتهم على وجهها. 

وصنف من الكافرين يحبون الجدال ويكثرونه: (وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ)

  • والأنبياء والمرسلون وأتباعهم بإحسان لا يحبون الجدال؛ إلا لإحقاق الحق وإبطال الباطل بالتي هي أحسن، هذا مسلك ودأب الأنبياء والمرسلين وتابعيهم بإحسان. 
  • أما دأب الكافرين، يحبون الجدال لإبطال الحق ولإحقاق الباطل، حينئذ يصحبه العناد ويصحبه الهوى:
    • (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) [الأنعام:121]. 
    • (۞ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [العنكبوت:46]. وتعدَّوا وتعدَّوا وقاتلوا وقاتلتموهم.

يقول: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ). فيجب علينا -أتباع الرسل- وخصوصًا نحن أمة محمد أتباع سيد الأنبياء والمرسلين، أن نحمل لأنفسنا وأسرنا ومن حوالينا والعالم من حوالينا تبشيرًا وإنذارًا، هذا الذي علينا: 

(مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ)

  • نبشر بالإيمان ونتائج الإيمان. 
  • نبشر بالعمل الصالح وثمراته وجزائه وفضله وثوابه. 

 (وَمُنذِرِينَ):

  • ننذر خطر الكفر ومَغَبَّته وعاقبته، وخطر الذنوب والمعاصي. 
  • وسوء عاقبتها وقبيح مآلها ونتيجتها وجزائها. 

(وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ)، فلنتقن هذه الوظيفة، نبشر ونتقن التبشير: 

  • نحسن البيان لفضائل الإيمان ونتائج الإيمان ومرتبة الإيمان ولثواب العمل الصالح. 
  • وندخل الرغبة فيه إلى قلوب أبنائنا وبناتنا وجُلسائنا وأصدقائنا. 
  • نُرَغِّبهم في الصالحات، ونذكر لهم مثوبتها وجزاءها وأجرها والدرجات التي تحصل بها. 

(مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ):

  • ننذر من انحرف من أصحابنا، مَن مالَ إلى الباطل من جماعاتنا. 
  • ننذره: 
    • خطر المعصية بالعين. 
    • خطر المعصية باليد. 
    • خطر المعصية بالأذن. 
    • خطر المعصية بالجوارح.
    • خطر المعصية بالقلب. 
  • وآثار ذلك في الدنيا والآخرة سيئةٌ قبيحةٌ؛ فنُحذِّر. 

والكل مقرون بحكمة، بحسن بيان، بحجة، بمنطق حسن؛ هذه مهمتنا لابد أن نقوم بها على وجهها، وهي حِبال سرّ الخلافة: (مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ) حِبال سر الخلافة عن الله في أرضه: 

  • إذا تمسكنا بها اتصلنا بالخلافة عن الله في أرضه: نبشر وننذر. 
  • هي مهمة الأنبياء والمرسلين، نحملها من بعدهم على قدرنا وعلى وسعنا.

والحق إذا رأى منا الصدق والإخلاص بارك في القليل وبارك في اليسير؛ حتى يحصل النفع وهكذا... 

أول ما بنينا هذا المصلى، كانت الفكرة أننا ممكن نجعل شبه الستارة أو الستائر أو الحاجز، وأننا ما كنا بنحتاج إلا إلى الرواق الأخير والذي قبله؛ غايته، وأن هذا ما كنا بنحتاج إليه إلا فيما بعد. 

مرَّت الأيام صارت ترونه بهذا الحال. 

  • فإذا بارك المولى في القليل صار كثير. 
  • بارك المولى في اليسير صار كبير. 

فلابد نحمل وظيفة ومهمة التبشير والإنذار على مسلك الرسل، لأنفسنا، لأهلينا، لأهل بلدنا، لأصدقائنا، لهذا العالم الذي نعيش فيه. وبكل اعتزاز نحمل هذه الأمانة الكبيرة ونبشر وننذر حيثما كنا وأينما كنا. 

باللغات التي يعرفها كل من اتصل بهذا النور يبشرون وينذرون. لأنه كان الرسول من الرسل السابقين يُبعث بلسان قومه، فجاء سيدنا المصطفى والألسن كلها لسان قومه؛ لأنه مرسل إلى الجميع ﷺ، مرسل للعربي، للعجمي. 

ولذا كانوا يتعجبون في حياته، يكلم العرب بلهجاتهم المختلفة حتى لا يفهم من عنده من أهل الحجاز. وبعد وفاته، يراه الذي لا يعرف إلا لغة غير العربية فيسمعه يكلمه بها، باللغة التي يعرفونها، فيرونه هذا يكلمه بالسواحلي، وهذا يكلمه بالإنجليزي، وهذا يكلمه بالفرنسي، وهذا يكلمه بالملاوي، ويتكلم بها كلها ﷺ؛ لأنه مرسل إلى الجميع، صلوات ربي وسلامه عليه.

وخص الله -سبحانه وتعالى- مكة والمدينة وقومه وعشيرته، فأنزل القرآن بلغتهم، وأمرهم أن يحملوا معانيه إلى جميع أهل اللغات: 

  • (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، للعرب أو للناس؟! (لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ). 
  • (لِتُبَيِّنَ) لقومك أو للعرب أو للناس، (لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ). 

قل: أنت الآن هنا في مكة والمدينة، أنت وقومك، أنا بواسطتك أُنزل للكل، للجميع

  • (مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ). (تُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) للناس كلهم: نُزِّل للناس كلهم، هذا سيد الناس، مَجْلَى جميع الناس. إذا توجه إليه فقد توجه لـ(تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ) [الفرقان:1]. 
  • قال: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل:44]، نزِّل إليهم كلهم عبْرك؛ أنت سيد الناس، وما دام عبرك قُصِدوا به وخُوطِبوا فقد نُزّل إليهم أجمعين، صلوات ربي وسلامه عليه.

 قد أدرك هذه المعاني الشعراء، ألا يرون الشخص الذي يجمع من الفضائل ما تجتمع عليه القلوب وتستقر به الأحوال؟ فواحد يصير كأنه جماعة أو كأنه الجماعة كلهم. 

والناسُ ألفٌ منهمُ كواحدٍ *** وواحدٌ كالألفِ إنْ أمرٌ عَنا

ثم يقول  شاعرهم: 

وما الناسُ إلا أنتَ حيثُ أنتَ *** وما الناسُ بناسٍ في موضعٍ منك خالِ

(لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل:44]، (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ)؛ فلنتشرف بالتبشير على طريقة الأنبياء، والإنذار على طريقة الأنبياء لأنفسنا ولمن حوالينا.

قال الله لهذا الخاتم المرسل للجميع: 

  • (لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا) [الشورى:7] إلى نهاية العالم. 
  • (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء:214]. 
  • وقال: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) [سبأ:28]. 
  • وقال:(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107]. 

صلوات ربي وسلامه عليه؛ فكل الدوائر دخلت تحت سرادق رسالته الذي عمَّ الكل.

قال: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ۚ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ..(56))، يدحضوا به الحق يعني يبعدوه، يزيلوه، ينزعوه من بين الناس، حتى لا يُعظَّم، لا يُعمَل به، لا يُتَّبع، ومنه ما تسمعونه في العصر من مجادلات:

  •  ساعة باسم العولمة.
  • وساعة حقوق المرأة. 
  • وساعة الحرية.

 (بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ)، القصد إبعاد هدى ونور وحقائق، يُبعد بأي طريقة، وتُضفى عليها صورة العلم وصورة المنطق وصورة الحجة. 

وإذا فتشت بالعقل السليم ووصفتها وجدته كلامًا فارغًا وكذب باطل، لا تقوم على حجة ولا على دليل ولا على منطق، إلا زخرف القول الذي أشار الحق إليه بقوله: 

  • (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُون * وَلِتَصْغَىٰ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ). 
  • أما أنتم أهل الحجة والمحجة والأصل الراسخ الثابت القوي، قال: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا)، (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا) [الأنعام:112-114]. 

(وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ)، فنحتاج إلى شيء من البيان للعقليات من حوالينا حتى لا تنطوي عليهم الحيلة. (وَاتَّخَذُوا آيَاتِي)، (آيَاتِي)

  • آياتي المنزلة على الرسل المقروءة. 
  • وآياتي التكوينية الإبداعية في الوجود. 

(وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا)، وإنذار المرسلين وأتباعهم لهم، (هُزُوًا (56))، (وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا)، لا أحد يصف الخلق مثل رب الخلق، يعطيك الحقيقة التي تدور بين الناس. 

(وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا(56)) قال الله، هذا حال شنيع: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ) -واضحة بينة جلية قوية- (فَأَعْرَضَ عَنْهَا..(57)) وتولى منها؛ (لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ): 

  • يعني يُزيلوه، الدَّحْضُ: الزَّلَقُ، يقولون الدَّحْضُ للبعير اذا زَّلَق. 
  • والمقصود إبعاد الحق أو إمالة الناس عنه أو إمالته من واقع الناس. 
    • يبعدون الحق، يبعدون تعظيمه. 
    • يبعدون العمل به، يبعدون الاحتكام إليه. 

(لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ)، (وَاتَّخَذُوا آيَاتِي) الواضحة البينة في الإنزال وفي التكوين (وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا(56)). فهذا الحال الشنيع يحكي الله فظاعته وشناعته بقوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا..(57))؛ وُجِّهَ الاستفهام إليك أيها العاقل أيها اللبيب، قَالَ لكَ: من أظلم من هذا؟ 

  • واحد آيات الله واضحة بين يديه؛ ربه الذي خلقه وأرسل إليه الرسل، يعرض عنها! (وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ)
  • ينسى عصيانه و ذنوبه وسيئاته وكفره وتعرُّضه للغضب وللنار، ما كأنه ارتكب شيء! (وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ)
  • فالعاقل يجيب: لا أظلم من هذا يا رب، لا أحد أظلم من هذا، (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا)
  • في الآيات الأخرى يقول: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا ۚ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ) [السجدة:22]. 

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ)، يا رب هذه شناعة كبيرة ولا أظلم من هذا!  لماذا هم بهذه الصورة؟! والعقل معهم والبصر معهم؟ 

  • قال: (إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) -أغطية- (أَن يَفْقَهُوهُ) ولا يهتدوا إليه. (عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً)، تُعرض لهم الحق بيِّنًا جليًّا، كأنك لم تقُل شيئًا، ولا كأنك عرضت شيئًا ولا كأنك ذكرت حجة. 
  • (إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا) -ساتر حاجب يحجز عن أن يسمعوا. (وإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا(57)). لا إله إلا الله.

 يقال أنه لما نزلت الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم: 

  • (إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ)، فجمع همته للتوجه إلى الله في إبعاد الأكنة. 
  • (وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا)، فعزم أن يتوجه إلى الله في رفع هذا الوقر. 
  • فقال الله: إن أصناف سبقت عليهم الكلمة ولن يطيعوا أبدًا؛ فأتبعها بقوله: (وإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا)
  • فعلم أنه قضاء مبرم في قوم العناد، (مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) [آل عمران:197].

وإلا فالأنبياء يحبون هداية قومهم، وهذا معنى الآية الكريمة: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ)، يعني: 

  • تمنى هداية المرسَل إليهم أجمعين. 
  • ولما يتمنَّى هدايتهم، يُحسِّن التبشير والإنذار فيبين لهم. 

و(إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ)، يوسوس في قلوب الناس يقول لهم: هذا بشر مثلكم يأتي كلام غريب، كيف تطيعونه وتتركون دين آبائكم، وهذه آلهتكم عشتم عليها؟! 

  • ويأتي لكم كلامًا غريب؛ يوسوس لهم، حتى (إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ)، (إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ) من قلوب أهل الهداية ومن أراد لهم هداية. (ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ). 
  • (لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ۗ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ۗ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ). 
  • أما الآخرين فقال: (وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ)، والدلائل أمامهم واضحة، لكنْ (حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) [الحج:52-56].

جلّ جلاله تعالى في علاه، اللهم اهدنا فيمن هديت، اللهم اهدنا فيمن هديت.

(وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ..(58))، (الْغَفُورُ) اسم مبالغة: غفور. غافر، غفّار، وغفور: 

  • غافر: الذي يغفر ولو مرة. 
  • لكن غفار كثير المغفرة. 
  • غفور مبالغة أكثر. 

 (الْغَفُورُ): كثير المغفرة سبحانه وتعالى: (إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ) [النجم:32]. (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ)، صاحب الرحمة، اللهم اغفر لنا وارحمنا يا خير الغافرين يا أرحم الراحمين.

رأس مال الإنسان قلبه.. فليحافظ عليه ويقيم عليه حاجز من المراقبة لله تمنع عنه الخواطر السيئة، فإذا داهمته فعمله معها أن: 

  • يُعرض عنها وأن يلجأ إلى حصن ذكر الله، ويذكر الله بقوة حتى يزيح عنه ذلك. 
  • فلا يركن إليها ولا يُعوَل عليها ولا ينقطع بسببها. 
  • بل لا يعجز عن صدق الرجوع إلى ربه والولع بذكره حتى يزيحها عنه -سبحانه وتعالى-.

اللهم نّور قلوبنا وصَفِّ سرائرنا ونوّر بصائرنا وأصلح شأننا، وسِرْ بنا مسار المحبوبين من عبادك، وارزقنا كمال محبتك وودادك، ولا تحرمنا خيرَ ما عندك لشرِّ ما عندنا، فأسعدنا في هذه الأيام والليالي، كن لنا بما أنت أهله يا كريم يا والي، وعاملنا بالفضل وأصلح لنا الشأنَ وامنحنا كريم الوصل، واختم لنا بالحسنى.

 بسر الفاتحة

 إلى حضرة النبي محمد ﷺ

تاريخ النشر الهجري

20 رَمضان 1434

تاريخ النشر الميلادي

28 يوليو 2013

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام